فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام الأوّل : في بيان امور.

الأوّل : أنّه لا إشكال في اعتبارها في الجملة. ويدلّ عليه ـ بعد نقل الاتّفاق تارة ، والإجماع اخرى ، والضرورة ثالثة ـ الأخبار المتكاثرة ، بل المتواترة معنى على ما ادّعاه الفاضل النراقي. منها : خبر حفص بن غياث المروي في الكتب الثلاثة ، وفيه : «رأيت إذا رأيت في يد رجل شيئا أيجوز أن أشهد أنّه له؟ قال : نعم. قلت : فلعلّه لغيره. قال عليه‌السلام : ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثمّ تقول بعد ذلك : هو لي ، وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسب إلى من صار ملكه إليك من قبله». ثمّ قال عليه‌السلام : «ولو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق». وفيه دلالة على اعتبار كلّ أمارة لولاها لزم اختلال نظم امورهم ، سواء كانت يدا أم غيرها.

ومنها : المرويّ في الوسائل عن تفسير عليّ بن إبراهيم صحيحا ، وعن الاحتجاج مرسلا ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام في حديث فدك : «أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر : تحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه. قال عليه‌السلام : فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون ، تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده؟ ولم تسأل المؤمنين على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟ الحديث.

ومنها : موثّقة يونس بن يعقوب في المرأة يموت قبل الرجل والرجل قبل المرأة ، قال عليه‌السلام : «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجل فهو بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له». ولا ريب أنّ الاستيلاء على شيء إنّما يتحقّق بإثبات اليد عليه ، فلا فرق بين متاع البيت وغيره ، مع عدم الفاصل بينهما.

٦٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة ، وفيها : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل ثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة». بناء على كون قوله «هو لك» صفة للشيء ، وقوله «حلال» خبر المبتدإ. وأمّا لو جعل ضمير «هو» للفصل ، والجارّ مع مجروره متعلّقا بقوله «حلال» وهو خبر المبتدإ ، فلا تكون الرواية حينئذ دالّة على اعتبار اليد أصلا وهو واضح. إلى غير ذلك من الأخبار.

الثاني : أنّه لا إشكال في جريان القاعدة في الأموال. وأمّا الأعراض ، كالمرأة إذا تنازع في زوجيّتها رجلان مع كونها تحت يد أحدهما ، فقد انعقد الإجماع على اعتبار اليد فيها. وأمّا الأنساب فلم أر مصرّحا باعتبار اليد فيها سوى العلّامة في قضاء القواعد على إشكال ، قال : «ولو تداعيا صبيّا وهو في يد أحدهما ، لحق بصاحب اليد على إشكال».

نعم ، نقل ولده فخر الدّين في شرح كلام والده قولا بذلك ، قال : «اليد إمّا أن يكون عن التقاط أو لا. والأوّل لا يقدّم. والثاني إمّا أن يتقدّم استلحاق صاحب اليد فيقدم ، أو لا يتقدّم ، فهل يقدّم؟ قيل : نعم ، لأنّها أمارة دالّة عليه ، ولأنّه مدّعى عليه ، وغيره مدّع. وقيل : لا ، لأنّ اليد لا تأثير لها في النسب في ترجيحه. والأصحّ الثاني» انتهى.

ولعلّ مراد والده العلّامة أيضا الترجيح باليد لا استقلاله بإثبات النسب ، لأنّ الإقرار بالبنوّة لمّا كان معتبرا شرعا في ترتيب آثار الأبوّة فيرجّح إقرار ذي اليد بيده. وهذا أيضا ظاهر كلام ولده كما لا يخفى.

٦٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ، فلا دليل على اليد في إثبات النسّب ، لأنّ الأخبار منساقة لبيان إفادة الملك في الأموال خاصّة ، فلا يشمل غيرها ، فلو فرض فيها إطلاق لا يشمل غيرها بقرينة السياق.

نعم ، لإثبات الملك بها مراتب ، أحدها : أن يراد بها إثبات الملكيّة في مقابل عدم القابليّة لها ، كما لو دار الأمر في صبيّ بين كونه حرّا أو عبدا ، فاريد نفي حرّيته بثبوت يد أحد عليه. وثانيها : أن يراد بها إثبات الملكيّة الفعليّة بعد إحراز القابليّة ، كما لو حاز أحد من المباحات شيئا ، وشكّ في قصده للتملّك بناء على اشتراطه في تحقّق الملكيّة ، فاريد بها إثبات الملكيّة الفعليّة لمالك معيّن بعد إحراز الفعليّة أيضا ، كما إذا احتمل مال في يد أحد كونه سرقة أو مغصوبا. وهذا هو المتيقّن من إفادة اليد للملكيّة ، لكن كلمات الأصحاب كالأخبار عامّة ، كيف لا وحكاية الشكّ في حريّة الصبيّ إجماعيّة ، بمعنى حكمهم بكونه عبدا بمجرّد اليد ، وعموم من استولى على شيء في الأخبار شامل للجميع ، فلا إشكال بحمد الله تعالى.

الثالث : أنّه لا إشكال في إفادة اليد للملكيّة في الأعيان. وفي إفادتها لها في المنافع وعدمها قولان ، اختار ثانيهما النراقي. والحقّ هو الأوّل ، لصدق اليد في المنافع أيضا مع إثبات اليد على العين ، فبإثبات اليد على الدابّة أو الدار مثلا يصدق عرفا إثباتها على منافعها أيضا ، وإن كانت المنافع متجدّدة كلّا أو بعضا بعد ذلك ، ولذا أجمعوا على وجوب دفع وجه الإجارة بمجرّد تسليم العين من الموجر ، وإن كان استيفاء منافعها متأخّرا عنه ، وكذا على ضمان المشتري لمنافع المبيع بالبيع الفاسد بمجرّد إثبات اليد منه عليه وإن لم يستوف المنافع ، بأن فاتت وهو في يده. فالمناقشة تارة بأنّ المنافع غير موجودة حتّى يمكن إثبات اليد عليها ، واخرى بأنّها متجدّدة آناً فآنا ، فمع تسليم صدق إثبات اليد عليها إنّما يصدق بالنسبة إلى المنافع المستوفاة الماضية دون المستقبلة ، كما صدر عن بعض المتأخّرين ، ممّا لا يصغى إليه.

٦٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد أغرب النراقي حيث نفي وجود مصرّح بالمسألة نفيا وإثباتا ، مع ما عرفت من الإجماع في بعض مواردها.

الرّابع : أنّ مقتضى عموم من استولى على شيء في الأخبار المتقدّمة جريان قاعدة اليد في الحقوق الماليّة أيضا ، وإفادتها لاختصاص ذي اليد بها ، كالوقف والتحجير ونحوهما. فلو كان شيء في يد أحد مدّعيا توليته عليه بإذن الواقف أو حاكم الشرع كما في الأوقاف العامّة ، فبمجرّد ثبوت يده عليه يحكم باختصاصه به ، فيقدّم قوله على قول من نازعه في ذلك عند عدم البيّنة للمنازع ، مضافا إلى الإجماع المدّعى فيه. وكذا في ثبوت حقّ التحجير ونحوه.

الخامس : أنّ اليد هل تفيد استقلال ذي اليد بكون جميع ما في يده ملكا له ، أو أنّ استقلال يده يفيد ذلك؟ وثمرة الخلاف تظهر فيما لو تشاركت اليدان في شيء ، فعلى الأوّل تعارضت اليدان ، لإفادة كلّ واحدة منهما لاستقلال صاحبها بتمام ما في يده. وعلى الثاني يحكم بالتشريك ، لفرض عدم استقلال كلّ منهما بما في يده ولو كانت العين مغصوبة في يدهما ، فعلى الأوّل تخيّر المالك في تضمين كلّ منهما وكليهما بالمناصفة في المنافع الفائتة ، لإفادة اليد لاستقلال كلّ منهما ، كما حكي عن صاحب الجواهر ، وعلى الثاني يضمنان له بالمناصفة.

والحقّ هو الأوّل ، لكن لا مطلقا ، بل مع انفراد ذي اليد بما فيها. فهي إنّما تفيد الاستقلال مع انفراد ذيها بما فيها لا مطلقا ، فإفادتها لذلك مقيّدة بما ذكرناه ، نظير تقيّد إفادة الأمر للوجوب العيني مثلا بعدم القرينة على إرادة الوجوب الكفائي.

السادس : أنّه لا إشكال في إفادة اليد للملك بالنسبة إلى من عدا ذي اليد ، بمعنى جواز ترتيب الغير لآثار الملك على ما في يد غيره من جواز شرائه منه وتصرّفه فيه بإذنه ونحوهما.

وأمّا إفادتها لذلك بالنسبة إلى ذي اليد إذا شكّ في كون ما في يده ملكا له ، فربّما يستدلّ عليها بوجوه :

٦٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : رواية مسعدة المتقدّمة ، لعموم قوله عليه‌السلام فيها : «كلّ شيء لك حلال» بل هي بقرينة ما ذكر فيها من الأمثلة صريحة في ذلك.

وثانيها : عموم قوله عليه‌السلام في موثّقة يونس المتقدّمة : «من استولى على شيء منه فهو له».

وثالثها : صحيحة جميل بن صالح ، وفيها : «رجل وجد في بيته دينارا. قال : يدخل منزله غيره قلت نعم كثيرا قال هذه لقطة قلت فرجل وجد في صندوقه دينارا قال فيدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا. قال : فهو له».

هذا ، ويرد على الأوّل أوّلا : منع دلالة رواية مسعدة على اعتبار اليد ، كما أشرنا إليه آنفا. وثانيا : أنّ ما ذكر فيها من الأمثلة لا دلالة فيها على عروض الشكّ لذي اليد من حيث كون ما في يده ملكا له ، بل ظاهرها حصول الشكّ له في تملّك المالك الأوّل الذي انتقل ما في يده منه إليه. بل من جملة الأمثلة المذكورة ما لا دخل لليد فيها ، كالمرأة تحتك لعلّها أختك أو رضيعتك ، لأنّ الحكم بالزوجيّة فيه لأجل أصالة عدم كونها أختا أو رضيعة لا لليد. بل الظاهر بقرينة قوله : «والأشياء كلّها على هذا» بيان جواز العمل بالاصول والقواعد في الأشياء بحسب الموارد ما لم يثبت خلافها ، كما يشهد به اختلاف الأمثلة في ذلك. ولعلّ الحكم بكون الثوب للبائع الذي اشتراه منه لأجل كونه متاعا من سوق المسلمين ، وفي مثال المرأة للاستصحاب ، وفي غيرهما لليد ونحوها.

وبالجملة ، إنّه لم يظهر ورود الرواية لبيان قاعدة اليد. ومع التسليم لم يظهر كون ذي اليد في الأمثلة المذكورة شاكّا في تملّك نفسه ابتداء ، إن لم نقل بظهورها في خلافه على ما عرفت.

وعلى الثاني : أنّ الظاهر أنّ المراد منه بيان أنّه إذ استولى الرجل في حياته على شيء ، وكذا المرأة في حياتها على شيء ، أو هما في حياتهما على شيء ، فإذا شكّ

٦٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الوارث بعد موت أحدهما أو كليهما في تملّك المستولي لما في يده ، يحكم بتملّك المستولي منفردا في الأوّلين وبالاشتراك في الثالث ، ولا دلالة فيه لعروض الشكّ للمستولي في تملّك نفسه كما هو المدّعى. ويرشد إليه رجوع ضمير «منه» إلى متاع البيت الذي تستولي عليه المرأة أو الرجل أو هما معا.

وعلى الثالث : أنّه على تقدير تسليم دلالة ذيل الرواية على المدّعى ، فلا ريب أنّ صدرها مناف له ، لأنّ مقتضى صدرها عدم اعتبار اليد فيما شكّ ذو اليد في كون ما في يده ملكا له أو لغيره ، حيث حكم بكون ما وجده في بيته لقطة لا ملكا لصاحب البيت مع دخول غيره في منزله. ولا ريب أنّ دخول غيره في منزله ولو كثيرا لا يصدم في كونه ذا يد على ما في بيته ، مع أنّه قد حكم في ذيلها أيضا بكون ما في الصندوق لصاحبه مع الشرط لا مطلقا. ويمكن حمل ذيلها على بيان كون اليد في خصوص الصندوق في البيت ونحوه ـ ممّا لا يصل إليه أيدي الأغيار ـ من الأسباب الشرعيّة المفيدة للملك كالبيع ، لا أمارة كاشفة عنه ، حتّى إنّه قد أفرط صاحب الرياض فحكم بكون الموجود في الصندوق ملكا لصاحبه ولو مع العلم بخلافه وبكونه ملكا لغيره ، قال : «فقد يكون شيئا بعثه الله تعالى ورزقه إيّاه» انتهى. ولكنّ الالتزام به مشكل. وعلى كلّ تقدير ، تخرج الرواية من محلّ النزاع. ويمكن حمله على إرادة كون اليد أمارة الملك في مثل الصندوق في البيت الذي لا يصل إليه أيدي الأغيار غالبا ، أو فيه وفي نحوه ممّا يكون بمنزلته في عدم وصول الغير إليه غالبا.

وبالجملة ، فقد ظهر ممّا قدّمناه عدم الدليل على كون اليد أمارة للملك بالنسبة إلى نفس ذي اليد ، وعدم الدليل كاف في عدم اعتبارها بالنسبة إليه. ويدلّ عليه أنّ موثّقة عمّار : «عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة ، فوجد فيها نحوا من سبعين دينارا مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : يسأل أهل المنزل لعلّهم يعرفونها. قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال : يتصدّق» لأنّ

٦٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أمره بالسؤال يدلّ على عدم جواز الرفع من دونه ، فلو كانت اليد معتبرة لم يكن وجه لوجوب السؤال ولا ريب في كون يد أهل البيت يدا على ما فيه ظاهرا وباطنا.

السابع : أنّه لا فرق في إفادة اليد للملك بين اليد الصحيحة والباطلة ، لعموم الأدلّة السابقة. فيحكم بكون الجلّ والسرج واللجام لغاصب الدابّة دون مالكها ، ولذا يحكم بكون لباس العبد المغصوب ونحوه للغاصب دون مالكه ، لأنّ إثبات اليد على الأصل إثبات لها على توابعه ، فيقدّم قول الغاصب فيما ذكر عند المنازعة مع المالك بلا إشكال ، مع عدم تصديق العبد لمولاه ، ومعه أيضا على إشكال كما حكي عن العلّامة ، ممّا عرفت من كون اليد على الأصل يدا على توابعه ، ومن عدم كون العبد كالدابّة ، لكون تصديقه لمولاه مزيلا لظهور اليد في تملّكه لتوابعه ، فيشكل تقديم قول الغاصب حينئذ. والله العالم.

الثامن : أنّ اليد أمارة الملك ابتداء لا استدامة ، بمعنى أنّه إذا كان شيء في يد زيد ، ولم نعلم بكونه ملكا له أو مغصوبا عنده ، يحكم بكونه ملكا له. وأمّا إذا علمنا بكون يده يد عدوان ، ثمّ شككنا بعد مدّة في عروض التملّك له بسبب من الأسباب ، فلا يحكم عليه بذلك. وكذا إذا علمنا أوّلا بكون يده يد أمانة أو وكالة أو نحوهما ، ثمّ إذا شكّ في حصول الملك له بأحد أسبابه ، فلا ظهور لمثل هذه اليد في حصوله ، إمّا لعدم شمول الأخبار المتقدّمة لها ، وإمّا لأنّ اليد السابقة يخرجها من الظهور في الملك.

التاسع : أنّه يترتّب على اعتبار اليد ـ سوى إفادة الملك ـ سواء كانت صحيحة أم باطلة أمران : أحدهما : جواز إقرار ذي اليد بما فيها لكلّ من أراد. فإذا تنازع شخصان في عين مغصوبة في يد ثالث ، فيقدّم قول من صدّقه الغاصب. والآخر : اعتبار قول ذي اليد في باب الطهارة والنجاسة ، وإن كانت يده يد عدوان ، فيتبع إخباره بالنجاسة وإن علمنا بطهارته سابقا ، وكذا بالعكس. والحكم في المقامين ثابت بالإجماع.

٦٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

العاشر : أنّ اليد لغة عضو مخصوص ، وقد عدل عن معناها اللغوي في أغلب استعمالاتها الشرعيّة والعرفيّة ، فيقال : رأيت الدابّة في يد فلان أو الدار كانت في يد فلان أو نحو ذلك ، لعدم إرادة العضو المخصوص في هذه الاستعمالات يقينا. وهل هذه الجملات حقائق عرفيّة؟ كما يظهر من النراقي ، نظير ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله في مثل قولهم : ضربت زيدا وقد ضرب بعض أعضائه ، وكتبت بيدي وقد كتب بأصابعه ، وسرت اليوم وقد سار معظمه. أو لفظ اليد فيها مجاز مرسل باستعمالها في معنى التصرّف والسّلطنة؟ لحصولهما بها غالبا ، من باب استعمال الملزوم في لازمه العرفي. أو التجوّز إنّما هو في النسبة دون طرفيها؟ فإضافة المال إلى اليد ونسبته إليها في قولك : رأيت الدابّة في يد زيد من قبيل إضافة الشيء إلى ملزوم المضاف إليه الحقيقي ، لأنّ المضاف إليه الحقيقي هو التصرّف والسلطنة ، لكن أضيف المال إلى ملزومه الذي هو اليد ـ بمعنى العضو الخاصّ ـ توسّعا ومجازا في النسبة. وجوه أوجهها أوسطها.

الحادي عشر : أنّه قد حكى بعض مشايخنا عن صاحب الجواهر سماعا منه في مجلس بحثه كون قاعدة اليد من جزئيّات قاعدة حمل فعل المسلم على الصحّة ، وحينئذ يستغنى بأدلّتها عن تجشّم الاستدلال عليها بما تقدّم. نعم ، تبقى ما تقدّم من أدلّتها معاضدة لها. ولكنّه خلاف ظاهر الفقهاء ، ولذا تمسّكوا بها في موارد لا مسرح لقاعدة الحمل على الصحّة فيها ، مثل حكم المشهور في اللقيط الميّت ولو كان صبيّا بكون ما عليه من الثياب وما في حواليه من ثوب أو عصا أو نحوهما ملكا له ، لقاعدة اليد. فالأظهر كونها بنفسها أمارة للملك منشأها الغلبة ، إذ الغالب فيما في أيدي الناس كونه ملكا لهم ، وقد أمضاها الشارع. ويؤيّده قوله عليه‌السلام في رواية حفص : «لو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق» لأنّ منشأ اختلال سوقهم لو لا اعتبارها ما أشرنا إليه من كون الغالب فيما في أيديهم ملكا لهم.

٦٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام الثاني : في بيان حكم تعارضها مع الاستصحاب. والحقّ تقدّمها عليه. ويدلّ عليه بعد الإجماع أمران :

أحدهما : أنّ الأقرب كون اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد في مورد الشكّ ، واعتبارها من باب الظنّ النّوعي ، لما عرفت أنّ منشأها الغلبة ، وقد أمضاها الشّارع ، فتكون حاكمة عليه ، نظير حكومة الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول.

وثانيهما : أنّه لو لا ما ذكرنا لزم إلغائها ، لوجود الاستصحاب على خلافها في موردها غالبا ، إذ الأصل عدم انتقال ما في يده إليه. وإنّما قلنا غالبا إذ قد يتعارض الاستصحاب في موردها مع مثله ، فتبقى القاعدة سليمة من المعارض ، كما إذا علم إجمالا بحيازة أحد شخصين شيئا من المباحات ، وكان في يد أحدهما ، فبعد تعارض أصالة عدم حصول الملك لذي اليد بأصالة عدم حصوله لصاحبه تبقى القاعدة سليمة من المعارض ويبعد حمل الأخبار المتكاثرة المتقدّمة على بيان حكم مثل هذه الصورة النادرة.

فإن قلت : إنّ غاية ما ذكرت من قضيّة لغويّة القاعدة لو لا تقدّمها على الاستصحاب ، هو تقدّمها على استصحاب العدم خاصّة ، وقد يعارضها الاستصحاب الوجودي الموافق لاستصحاب العدم ، كما إذا علمنا بكون شيء ملكا لزيد ، ثمّ رأيناه في يد عمرو ، ولم نعلم بكون يده صحيحة أو باطلة ، لأنّ استصحاب بقاء ملك زيد الموافق لاستصحاب عدم انتقاله إلى عمرو يعارض القاعدة.

قلت : دليل اللغويّة لا يفرّق فيه بين الاستصحاب الوجودي والعدمي ، إذ مرجعه إلى دعوى أنّ اعتبار اليد وترتيب آثار الملك عليها على خلاف الأصل ، فلولا تقدّمها عليه لزم كونها لغوا ، سواء كان هذا الأصل هو الاستصحاب الوجودي أو العدمي مع أنّ تقدّمها على العدمي في المثال يستلزم تقدّمها على

٦٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجودي أيضا ، لفرض توافق مؤدّاهما. مضافا إلى ما في الدليل الأوّل من الكفاية ، لحكومة الأمارات الاجتهاديّة على الاصول مطلقا ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة.

فإن قلت : إن كانت القاعدة من الأمارات الاجتهاديّة ، فما وجه تقديم البيّنة عليها؟

قلت أوّلا : إنّك قد عرفت أنّ اعتبار اليد من باب الغلبة وإمضاء الشارع لها ، والغلبة إنّما تفيد الظنّ بإلحاق المشكوك فيه بالغالب ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته ـ حيث لا أمارة على خلافها ، فإفادتها للظنّ مقيّدة بذلك.

وثانيا : أنّ اليد وإن قلنا باعتبارها من باب الظنّ النّوعي ، إلّا أنّها معتبرة في مورد الشكّ ، نظير الاستصحاب على القول باعتباره كذلك. والبيّنة وإن كانت معتبرة في مقام الجهل بالواقع أيضا ، إلّا أنّ الجهل ليس مأخوذا في موضوعها ، بل هي معتبرة في مقام الجهل من حيث تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، لا من حيث ترتيب آثار الواقع على الموضوع المجهول الذي قامت عليه البيّنة من حيث كونه مجهولا. فالجهل مأخوذ في موضوع اليد من حيث كونه جزءا منه وإن آل أمرها إلى الظنّ بالواقع ، وفي البيّنة من باب المقارنة الاتّفاقية. فالبيّنة من حيث هي ناظرة إلى الواقع وكاشفة عنه ، واليد كاشفة عن الواقع في مورد الجهل ، فتكون حاكمة عليها ، نظير حكومتها على الاستصحاب على القول باعتباره من باب الظنّ النّوعي.

فإن قلت : فما وجه تقديم جماعة ـ كالشيخ والفاضلين ـ اليد القديمة على الحادثة ، كما لو ادّعى زيد ما في يد عمرو ، وعلمنا بكونه لزيد سابقا ، وليس ذلك إلّا لتقديم الاستصحاب على اليد الحادثة.

قلت أوّلا : نمنع ذلك ، لما عرفت من إفادة اليد للملك ، وحكومتها على الاستصحاب. ولا يضرّ في ذلك مخالفة جماعة بعد ما ساعدنا الدليل.

نعم ، لو علمنا باليد القديمة بإقرار ذي اليد الحادثة بذلك تقدّم فيه اليد القديمة ، وذلك لأنّ العلم باليد القديمة تارة يحصل بإقراره ، واخرى بقيام البيّنة

٦١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه ، وثالثة بكون الحاكم عالما بالواقعة ، ففي الأوّل يقدّم قول ذي اليد القديمة ، لأنّ ذي اليد الحادثة بإقراره بكون ما في يده ملكا لذي اليد القديمة في السابق يصير مدّعيا لانتقال ما في يده منه إليه بسبب شرعيّ ، فهو بذلك يصير مدّعيا ، وذو اليد القديمة منكرا ، فتقديم قوله حينئذ لقاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، لا لتقديم الاستصحاب على اليد. وفي الأخيرين تقديم قول ذي اليد الحادثة ، لأنّ قيام البيّنة على ما ذكر أو علم الحاكم به لا يستلزم دعوى ذي اليد الحادثة لانتقال ما في يده منه إليه ، حتّى يصير بذلك مدّعيا وهو منكرا ، فتبقى اليد على حالها من إفادة الملك ، فيقدّم قوله حينئذ لذلك.

وثانيا : أنّ المقصود في المقام بيان حكم تعارضهما في غير باب القضاء وقطع الخصوصات ، فإذا كان شيء في يد زيد ، وعلمنا بكونه في يد عمرو في السابق من دون منازع لزيد في ذلك ، يحكم بكونه له بلا خلاف ، وخلاف الجماعة فيه مع وجود المنازع لا ينافي نفي الخلاف عمّا ذكرناه. ومن هنا يظهر أنّ خلافهم في المقام لا يصدم فيما ادّعيناه من الإجماع في أوّل المسألة.

فإن قلت : إنّهم قد أجمعوا على جواز كون الاستصحاب مستندا لشهادة البيّنة ، بخلاف اليد ، فإذا علمنا بكون شيء ملكا لزيد في السابق جاز لنا أن نشهد بكونه له الآن ، بخلاف ما لو علمنا بكونه في يده في السابق ، من دون علم بكونه ملكا له ، فلا يجوز لنا حينئذ أن نشهد به له كما سنشير إليه ، فلو كان الاستصحاب ضعيفا بالنسبة إليها ـ على ما ذكرت من تقدمها عليه عند المعارضة ـ فكيف صحّ كون الضعيف مستندا للشهادة دون القويّ؟ وأيضا قد حكموا بتقديم البيّنة على اليد ، سواء شهدت بالملك السابق أو بالملك الفعلي ، استنادا إلى الاستصحاب ، سواء علم الحاكم بذلك أم لا.

قلت : إنّ الوجه في تجويزهم لكون الاستصحاب مستندا للشهادة هو لزوم إبطال الحقوق لولاه ، إذ لا سبيل إلى الشهادة الفعليّة غالبا إلّا الاستصحاب ، فإذا

٦١١

.................................................................................................

______________________________________________________

علم بدين لزيد على عمرو ، أو بأمانة له عنده ، أو بكون هذا الملك له دونه ، إلى غير ذلك ، يحتمل الإبراء في الأوّل ، والأداء من دون اطلاع الشاهد في الثاني ، والنقل بأحد الأسباب الناقلة في الثالث ، فلا سبيل إلى الشهادة الفعليّة إلّا الاستصحاب. ولا دليل على كون اليد السابقة مستندا للشهادة الفعليّة. ولا غرو في تجويز كون الضعيف مستندا لها ، لوجود حكمة داعية إليه دون القويّ. بل يصير الضعيف بذلك قويّا والقويّ ضعيفا.

وأمّا ما ذكرته من تقديم البيّنة المستندة إلى الاستصحاب على نفس اليد الموجودة ، ففيه أوّلا : أنّ ذلك قد ثبت بالإجماع تعبّدا. وثانيا : أنّ هذا ليس من باب تقديم إحدى الأمارتين على الاخرى عند التعارض ، حتّى يستلزم كون الاستصحاب أقوى من اليد ، بل ذلك لأجل عدم الاعتبار باليد هنا أصلا.

وتوضيحه : أنّ الأيدي على أقسام :

منها : يد الإنكار ، بمعنى أن يكون شيء في يد زيد مثلا وادّعاه عمرو ، وأنكر زيد عليه ذلك ، ولم تعلم اليد السابقة على يد زيد ، أو علمت وكان ذو اليد السّابقة غير عمرو ، وهو ساكت عن الدعوى ، ولا إشكال ـ بل لا خلاف ـ في الحكم به لزيد بمقتضى يده ما لم يقم عمرو بيّنة على دعواه.

ومنها : يد من لا منازع له فيما في يده وإن علمت اليد السّابقة. وهذه أيضا كالسابقة في نفي الإشكال والخلاف في الحكم بما في يده له ، بل لا دخل في ذلك لليد ، لأنّ الحكم به له لأجل أنّ الدعوى التي لا معارض لها مسموعة اتّفاقا. وهذا باب واسع في الفقه ، يأتي في باب الوكالة والأنكحة وغيرهما ، فإذا ادّعى أحد كونه وكيلا في البيع أو الشراء ، أو المرأة خلّوها من الزوج وهكذا ، تسمع دعواه اتّفاقا.

ومنها : اليد المسبوقة بالعلم بكون ما في يده للمدّعي ، كما إذا كان شيء في يد زيد ، وعلمنا بكونه في السابق لعمرو ، وادّعاه عمرو وأنكره عليه زيد ، بأن

٦١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ادّعى كونه له فعلا دون عمرو ، من دون تعرّض لكونه في السابق لعمرو ، حتّى يكون بذلك مدّعيا للانتقال منه إليه وعمرو منكرا للانتقال ، كي ينتزع المال من يده ويدفع إلى عمرو ، ويلزم بإقامة البيّنة على دعواه ، نظرا إلى أنّ مقتضى الأصل عدم الانتقال ، كما عرفت من عدم الاعتداد باليد في مثله.

ومحلّ الكلام في المقام هذا القسم الأخير. وتقديم البيّنة المستندة إلى الاستصحاب على اليد الموجودة إنّما هو لعدم الدليل على اعتبار مثل اليد المذكورة ، لا لتقديم الاستصحاب عليها. وذلك لأنّك قد عرفت أنّ اعتبار اليد في إفادة الملك إنّما هو من باب الغلبة وإمضاء الشارع لها ، تنزيلا للأخبار عليه ، لا على بيان اعتبار اليد تعبّدا ولا غلبة ، مع دعوى المالك السابق في كونه لذي اليد الموجودة ، فينتفي مناط اعتبارها.

وإن أبيت عن تحقّق الغلبة ، أو ادّعيت أنّ الغلبة حكمة في الحكم لا علّة له فلا يجب اطّرادها ، أو منعت هذا أيضا وادّعيت كون اعتبارها من باب التعبّد المحض جمودا على ظاهر الأخبار ، نمنع شمول الروايات حينئذ للمقام ، لأنّ العمدة منها رواية حفص بن غياث المتقدّمة ، وتقريب دلالتها أنّ الإمام عليه‌السلام قد جوّز أن يشهد الرجل بكون ما في يد آخر ملكا له بمجرّد رؤيته في يده مع احتمال كونه لغيره. قال : «قلت : فلعلّه لغيره. قال : ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ، ثمّ تقول بعد الملك : هو لي ، وتحلف عليه ...». وهو بإطلاقه يشمل اليد الموجودة ولو مع دعوى المالك لبقاء ملكه ، فيصحّ لنا الحكم بكون ما في يده له ولو مع دعوى ذي اليد السابقة.

وفيه أوّلا : أنّ ظاهر الرواية أو المتيقّن منها حكم الإمام عليه‌السلام بكون اليد أمارة للملك مع احتمال كونه لغير ذي اليد فيما لم يتعيّن الغير ، فلا يشمل صورة تعيّنه ، خصوصا مع كونه مدّعيا له ، ولعلّ لعدم التعيّن مدخلا في الحكم.

٦١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : مع التسليم نمنع صحّة الرواية ، لأنّ في سندها محمّد بن قاسم الأصبهاني وسليمان بن داود المنقري وحفص بن غياث. أمّا الأوّل فعن النجاشي أنّه قال فيه إنّه غير مرضيّ وأمّا الثاني فعن النجاشي أنّه ليس بمتحقّق بنا ، وعن ابن غضائري أنّه ضعيف جدّا لا يلتفت إليه ، يضع كثيرا في المهمّات. وأمّا الثالث ففي الخلاصة : حفص بن غياث القاضي ولي القضاء لهارون ، وروى عن الصادق عليه‌السلام ، وكان عاميّا.

وثالثا : مع التسليم ـ بناء على ما هو الحقّ من أنّ المعتمد كون الرواية موثوقا بها وإن لم تصحّ على اصطلاح المتأخّرين ، ويكفي في وثاقتها وجودها في أحد الكتب الأربعة ، وهي مرويّة في الكافي والفقيه والتهذيب ـ أنّ قوله : «أرأيت إذا رأيت في يد رجل شيئا ...» يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون ذلك تقريرا من الإمام عليه‌السلام للسائل على جواز الشهادة بكون ما في يدي ذي اليد ملكا له ، من دون أن يكون ذلك في مقام التنازع والخصومة والدعوة إلى أداء الشهادة.

وفيه : أنّه مخالف للاصول والقواعد ، لعدم الاعتداد بالشهادة في غير باب التنازع ، فتكون الرواية حينئذ مطروحة من هذه الجهة.

وثانيها : أن يكون تقريرا منه على جواز الشهادة وفي مقام التسهيل وتسجيل الأمر ، بأن أشهد ذو اليد بما في يده لإثبات يده عند الحاكم ليحكم الحاكم بكونه ملكا له ، تسهيلا للأمر عند ظهور مدّع له ، لعدم جواز نقض حكم الحاكم وإن أقام المدّعي بعده بيّنة على دعواه.

وفيه : مع كونه خلاف ظاهر الرواية ، ومع عدم نهوض دليل على عدم جواز النقض للحكم الصادر في غير مقام الدّعوى ، أنّ المشهور عدم صحّة مثل هذا الحكم ، وإن حكيت صحّته عن العلّامة وبعض من تأخّر عنه ، فتكون الرواية حينئذ مطروحة أيضا عند المشهور.

٦١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثها : أن يكون المقصود بيان جواز الشهادة بالملك لبيّنة الداخل بمجرّد اليد في صورة تعارض البيّنتين ، فلا يكون للرواية حينئذ مدخل فيما نحن فيه من تقديم البيّنة المستندة إلى الاستصحاب على اليد الموجودة.

ورابعها : أن يكون المقصود بيان جواز الشهادة بالملك لذي اليد السابقة بمجرّد اليد مع إنكار اللاحقة. وفيه : أنّ الرواية حينئذ أيضا لا تدلّ على اعتبار اليد اللاحقة.

وخامسها : أن يكون المقصود جواز إقامة الشهادة لذي اليد الموجودة بما في يده له مع العلم بكونه ملكا لمدّعيه في السابق.

وفيه : أنّ الرواية حينئذ تكون مخالفة للإجماع ، إذ مع اعتبار اليد يكون ذو اليد منكرا ، فلا تسمع منه إقامة البيّنة. وبالجملة ، إنّه ليست في الرواية على جميع الوجوه المذكورة دلالة على المدّعى.

ورابعا : أنّ قوله عليه‌السلام ولو لا هذا لما قام للمسلمين سوق في موضع التعليل للحكم السابق ، ويستفاد منه كليّة كبرى مطويّة ، وهي : أنّ كلّ ما كان موجبا لاختلال امور المسلمين لو لا اعتباره فهو حجّة. فيدلّ التعليل بعمومه المستفاد منه على اعتبار الاستصحاب الذي هو مستند الشهادة في مقابل اليد الموجودة في محلّ الفرض ، بمعنى عدم الاعتداد باليد الموجودة في مقابله ، لما عرفت من لزوم بطلان حقوق الناس غالبا على تقدير عدم اعتباره.

وأمّا موثّقة يونس فغاية ما يمكن أن يستدلّ بها على المقام من فقراتها هو عموم قوله عليه‌السلام : «من استولى على شيء منه فهو له». وفيه : أنّ ضمير «منه» عائد إلى متاع البيت. وحاصله : أنّ من استولى من الرجل أو المرأة على شيء من أمتعة البيت فهو له ، ولا عموم فيه لصورة المنازعة على الوجه المفروض في المقام.

وأمّا قضيّة فدك فموردها وإن ناسب المقام ، لأنّ أبا بكر حيث طلب البيّنة من عليّ عليه‌السلام على تمليك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لفدك فاطمة عليها‌السلام ، مع كونها ذات يد ، زعما منه

٦١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كون فدك صدقة للمسلمين ، لرواية رواها عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» فأنكر عليه‌السلام عليه ذلك بكونها ذات يد لا يطالب منها البيّنة ، وأظهر عليه‌السلام عليه أنّ الطريقة الموظّفة من الشارع أن يطالب البيّنة من المدّعي دون المنكر ، لأنّ إنكاره عليه‌السلام يدلّ على كون اليد مقدّمة على الاستصحاب ، لمخالفة دعوى فاطمة لتمليك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للأصل.

إلّا أنّك خبير بأنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن في مقام إثبات الحقّ على الوجه الموظّف شرعا لقطع المنازعة للمدّعي والمنكر ، بل كان غرضه التوصّل إلى حقّه بأيّ وجه اتّفق ، وإن كان على خلاف الطريقة المقرّرة من الشارع لقطع الخصومة ، حيث كان أبو بكر وأصحابه في مقام التعصّب واللجاج ، وكان قصدهم انتزاع يده من فدك عنادا ، ولم يكونوا عارفين بأسلوب الشرع في قطع الخصومة ، فهو عليه‌السلام قد ألزم عليهم الحجّة تسجيلا للحقّ عليهم ، وإن لم يكن على الطريق المقرّر لرفع الخصومة. ولذا أنكر على أبي بكر مطالبته منه البيّنة مع إقراره بتملّكه لفدك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في قوله : «تسألني البيّنة على ما في يدي وقد تملّكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ...» ، إذ مقتضى قانون الشرع أن يطالب البيّنة من عليّ عليه‌السلام ، لصيرورته مدّعيا بعد إقراره بالتملّك ، لأصالة عدمه ، فليس الوجه فيه إلّا ما ذكرناه من كون المقصود هو التوصّل إلى الحقّ بأيّ وجه اتّفق. وأمّا رواية مسعدة فقد تقدّم الإشكال في عدّها في عداد أدلّة القاعدة.

وقد ظهر من جميع ما قدّمناه عدم قيام دليل على اعتبار اليد في مقابل البيّنة المستندة إلى الاستصحاب. ولكنّ الإنصاف أنّ الالتزام به بعيد ، لأنّ مقتضاه أن يكون المنكر مطالبا بالبيّنة ، لأنّه إذا ادّعى عمرو شيئا في يد زيد ، وكان ذلك ملكا لعمرو في السابق ، فمطالبة الحاكم البيّنة من عمرو إن كان لعدم اعتبار يد زيد من حيث هي في هذا المورد ، لا لكونه منكرا ووظيفته اليمين دون البيّنة ، لزم مطالبة المنكر بالبيّنة ، لموافقة قول عمرو للاستصحاب بالفرض ، فيكون هو منكرا وزيد

٦١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مدّعيا ، وهو خلاف طريقة الفقهاء ، حيث يطالبون البيّنة من المدّعي واليمين من المنكر.

وتحقيق المقام أن يقال : إنّا قد أثبتنا بالإجماع والأخبار اعتبار اليد وإفادتها للملك مطلقا ، وكذا حكومتها على الاستصحاب كذلك ، ولكن قد خرج من ذلك بالإجماع ما لو ادّعى أحد شيئا في يد حرّ مع العلم بسبق ملك المدّعي ، فإنّ مقتضى القاعدة حينئذ وإن كان عدم جواز شهادة البيّنة بالملك الفعلي للمدّعي استنادا إلى الاستصحاب ، لما عرفت من حكومة اليد عليه ، وكذا مقتضاها جواز ترتيب آثار الملك على ما في اليد من الحاكم والشاهد وغيرهما قبل إقامة المدّعي بيّنة على دعواه ، إلّا أنّ جواز الشهادة وعدم جواز ترتيب آثار الملك بعد إبراز المدّعي لدعواه ـ ولو قبل إقامة البيّنة ـ خارجان من مقتضى القاعدة بالإجماع. ولكن لا بدّ أن يقتصر فيه على مورد الإجماع ، وهو ما ذكرناه. ولذا لا يجوز للشاهد والحاكم وغيرهما قبل إبراز المدّعي لدعواه أن يتصرّف في المال بدون إذن ذي اليد وإن أذن له المدّعي ولا أن يكون وكيلا في بيعه أو شرائه أو نحو ذلك ، ويجوز ذلك بإذنه. وأمّا بعد إبرازها فلا بدّ أن يبني على مقتضى الاستصحاب من علم بملك المدّعي سابقا.

ولكن للتأمّل في هذا الإجماع مجال ، لمنع أبي الصلاح من جواز الشهادة استنادا إلى الاستصحاب. وفصّل العلّامة بين إفادة الاستصحاب للظنّ وعدمها ، فيجوز على الأوّل دون الثاني. وفصّل الشيخ الحرّ بوجه آخر.

ففي المختلف : «قال أبو الصلاح : وإذا كان الشاهد عالما بتملّك غيره دارا أو أرضا أو غير ذلك ، ثمّ رأى غيره متصرّفا فيها ، من غير منازعة من الأوّل ، ولا علم بإذن ، ولا مقتضى إباحة التصرّف من إجارة أو غير ذلك ، لم يجز له أن يشهد بتملّكها لواحد منهما حتّى يعلم ما يقتضي ذلك في المستقبل. وليس بجيّد ، لأنّ العلم السابق يستصحب حكمه إلى أن يعلم المزيل. والتصرّف مع السكوت لا يدلّ

٦١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على الخروج عن الملكيّة ، بخلاف ما لو شاهد غيره متصرّفا في ملك بغير منازع ، ولم يعرف سبق ملك لأحد فيه ، فإنّ جماعة من أصحابنا جوّزوا أن يشهد بالملك المطلق. وأمّا مع سبق يد الغير فلا». وقال : «وإذا غاب العبد أو الأمة عن مالك لم يجز له أن يشهد ما كان يعلمه من الملك لهما ، إلّا أن يعلم أنّ غيبته لإباق أو إذن المالك. وليس بجيّد كالأوّل. نعم ، إن اعترضه شكّ في بقاء الملك لم يجز له أن يشهد بأنّ الآن ملكه ، بل أنّه كان ملكه في الماضي ، وكأنّ مقصوده ذلك ، وحينئذ يصحّ ما قاله رحمه‌الله» انتهى.

وقال في الوسائل بعد ذكر رواية حفص : «ولا ينافي هذا ما سيأتي في الشهادات من جواز الشهادة بالاستصحاب ، لأنّ المفروض هنا عدم دعوى المتصرّف الملكيّة ، على أنّه لا منافاة في جواز الشهادة وعدم قبولها ، لمعارضة ما هو أقوى ، ولا في جوازها وعدم وجوب القضاء عليها» انتهى.

وحاصل ما ذكره في الجمع بين الأخبار وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّ ما دلّ على جواز الشهادة استنادا إلى الاستصحاب مفروض إمّا فيما لم يكن هناك يد أصلا ، كما إذا كان المال في يد ثالث ينكر كونه ملكا للمتنازعين ، ولا ينسب الملك إلى نفسه ولا إلى غيره ، بأن يدّعي الجهل ونفي كونه لهما ، أو فيما لم يدّع ذو اليد ملكيّة ما في يده ، بل كان ساكتا عنه مع نفيه لتملّك المدّعي. وما دلّ على إفادة اليد للملك مفروض فيما كان ذو اليد مدّعيا للملكيّة ، فتختلف الأخبار حينئذ بحسب المورد.

وثانيها : أن يحمل ما دلّ على جواز الشهادة على إطلاقه ، إلّا أنّه لا يجوز للحاكم قبولها ، لمعارضتها مع اليد التي هي أقوى منها.

وثالثها : أن يجوز للحاكم قبولها ، إلّا أنّه لا يجب على الحاكم القضاء بها. وهذه الوجوه ـ كقول العلّامة وأبي الصلاح ـ وإن كانت ضعيفة جدّا ، إلّا أنّها توهن دعوى الإجماع المذكور.

٦١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن التفصيل بوجه آخر ، بأن يحمل ما دلّ على اعتبار اليد على غير صورة المنازعة مطلقا ، ويخصّ ما دلّ على جواز الشهادة بالاستصحاب بصورة وقوع المنازعة ، بمعنى جواز بناء الشاهد في شهادته على الاستصحاب بعد وقوع المنازعة لا قبله. والمسألة بعد لم تصف عن شوب إشكال ، لما عرفت من إمكان منع الإجماع. نعم ، المتيقّن كون ما ذكرنا مشهورا لا مجمعا عليه.

تتميم يشتمل على أمرين :

أحدهما : أنّهم قد ذكروا أنّ الاستفاضة تثبت بها امور ، منها الملك المطلق ، فإذا عارضها اليد ـ كما إذا شاع واستفاض كون ما في يد زيد ملكا لعمرو ـ فهل تقدّم اليد أو الاستفاضة؟ فيه احتمالان. مقتضى القاعدة هو الأوّل ، لكن لا من حيث قوّة دلالتها وأظهريّتها ، وإلّا فالاستفاضة قد تفيد ظنّا أقوى منها ، بل من حيث إنّ الدليل على اعتبار الاستفاضة هو الإجماع على اعتبارها في الامور المذكورة. وهو ممنوع في المقام ، لأنّ المتيقّن منه مورد عدم معارضتها باليد. والمراد بالامور الباقية هو النسب والموت والوقف والنكاح والعتق وولاية القاضي.

وثانيهما : أنّ بمجرّد اليد هل تجوز الشهادة بالملك المطلق ، أم لا بدّ من العلم به؟ والأقوى هو الأوّل وفاقا لجماعة ، خلافا للمشهور على ما حكي عنهم وتدلّ عليه رواية حفص بن غياث المتقدّمة. وضعفها منجبر بعمل جماعة ، ووجودها في الكافي والفقيه والتهذيب.

ثمّ اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار إلى بيان تعارض الاستصحاب مع جملة من القواعد ومن جملة القواعد التي أهمل المصنف رحمه‌الله بيان حكمها هي قاعدتا الطهارة والحليّة. والحقّ حكومة الاستصحاب عليهما ، لأنّ الشارع إنّما حكم بطهارة ما لم تعلم نجاسته وبحلّية ما لم تعلم حرمته ، واستصحاب النجاسة والحرمة علم شرعيّ ، فيكون رافعا لموضوعهما ، سيّما إذا قلنا بأنّ مرجع الطهارة والحلّية إلى

٦١٩

الاستصحاب ، بل هي حاكمة عليه. بيان ذلك : أنّ اليد ، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه ، وأنّ اليد المستقلّة الغير المالكيّة قليلة بالنسبة إليها ، وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلا على العباد ، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب على ما عرفت من حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب.

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة أو أنّها كاشفة لكن اعتبار الشارع لها ليس من هذه الحيثيّة ، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّدا ، لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ـ نظير أصالة الطهارة ـ كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما في يد المسلمين : " ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق" (١٣) ، فالأظهر أيضا تقديمها على الاستصحاب ، إذ لو لا هذا لم يجز التمسّك بها في أكثر المقامات ، فيلزم المحذور المنصوص وهو اختلال السوق وبطلان الحقوق ، إذ الغالب العلم بكون ما في اليد مسبوقا بكونه ملكا للغير ، كما لا يخفى. وأمّا حكم المشهور (٢٦٠٦) بأنّه : " لو اعترف ذو اليد بكونه سابقا ملكا للمدّعي ، انتزع منه العين ، إلّا أن يقيم البيّنة على انتقالها إليه" فليس من تقديم الاستصحاب ، بل لأجل أنّ دعواه الملكيّة في الحال إذا انضمّت إلى إقراره بكونه قبل ذلك للمدّعي ، ترجع إلى دعوى انتقالها إليه ، فينقلب مدّعيا والمدّعي منكرا ، ولذا لو لم يكن في مقابله مدّع ، لم تقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيّته ، أو كان في مقابله مدّع لكن أسند الملك السابق إلى غيره ، كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريته من عمرو. بل يظهر ممّا ورد في محاجّة عليّ عليه‌السلام مع أبي بكر في أمر

______________________________________________________

أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب ، كما يقتضيه الاستدلال بالأخبار الواردة فيها في مسألة البراءة ، لورود الاستصحاب عليها إن قلنا باعتبارها من باب العقل ، وحكومته عليها إن قلنا باعتباره من باب الأخبار ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

٢٦٠٦. دفع لتوهّم تقديم المشهور هنا الاستصحاب على اليد. وحاصل الدفع : أنّ التقديم هنا للإقرار لا الاستصحاب.

٦٢٠