فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لسان جماعة بقاعدة الشكّ الساري.

ومقتضى التعبير بلفظ «كان» والعطف بالفاء في الرواية هو اختلاف زمان اليقين والشكّ ، وظاهر اعتبار اختلاف زمانهما هو اعتبار اتّحاد متعلّقهما ، فيكون مورد الرواية من قبيل الأوّل ، لعدم اعتبار ذلك في مورد قاعدة الاستصحاب كما عرفت. ويؤيّده أنّ هذا النقض على المعنى الأوّل مستعمل في أقرب مجازاته ، بخلافه على المعنى الثاني ، لأنّ حقيقة النقض ـ كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله بعد الفراغ من بيان الأخبار ، هو رفع الهيئة الاتصاليّة كما في نقض الحبل ، والأقرب إليه بعد تعذّره رفع اليد عن آثار المتيقّن السابق التي رتّبها عليه في زمان اليقين كما هو مقتضى المعنى الأوّل ، لا رفع اليد عن ترتيبها عليه في زمان الشكّ ، كما هو مقتضى المعنى الثاني.

ومن هنا يظهر أنّ في كلام المصنّف رحمه‌الله نوع مسامحة ، لأنّ ما ذكره من المعنى الأوّل أقرب المجازين لا المعنى الحقيقي. اللهم إلّا أن يدّعي كونه معنى حقيقيّا عرفيّا ، ولكنّه ينافيه ما سيأتي من تسليمه لقائه على معناه اللغوي.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه لا ريب أنّ الرواية على تقدير أن يقال : إنّ من كان على يقين من شيء فشكّ فيه. والضمير المجرور على المعنى الأوّل راجع إلى نفس الشيء ، وعلى المعنى الثاني إلى بقائه ، إذ الاستصحاب ـ على ما يستفاد من تعاريفهم ـ هو الشكّ في بقاء المتيقّن السابق لا فيه نفسه. وحينئذ لا بدّ فيه إمّا من الالتزام بالاستخدام أو الالتزام بنوع مسامحة عرفيّة ، بدعوى كون الشكّ في نفس الشيء وفي بقائه أمرا واحدا في نظر أهل العرف ، نظرا إلى عدم اختلاف الشيء الواحد باختلاف أكوانه عندهم.

وممّا ذكرناه من اختلاف نفس المعنيين واختلاف أحكام لفظ الرواية عليهما ، يظهر عدم إمكان إرادة الجامع بينهما من الرواية من باب عموم المجاز أو العمل بإطلاقها ، نظرا إلى عدم اعتبار تعلّق الشكّ فيها بنفس ما تعلّق به اليقين أو بقائه. مضافا إلى أنّ ظاهر الرواية اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ ، والمراد المضيّ

١٤١

اللهم إلّا أن يقال (٢١٤١) ـ بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين ـ : إنّ الظاهر تجريد متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان ؛ فإنّ قول القائل : " كنت متيقّنا أمس بعدالة زيد" ظاهر في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المقيّدة بالزمان الماضي ، وإن كان ظرفه في الواقع ظرف اليقين ، لكن لم يلاحظه على وجه التقييد ، فيكون الشكّ فيما بعد هذا الزمان ، متعلّقا بنفس ذلك المتيقّن مجرّدا عن ذلك التقييد ظاهرا في تحقّق أصل العدالة في زمان الشك ، فينطبق على الاستصحاب ، فافهم.

______________________________________________________

على هذا اليقين المتعلّق بما تعلّق به الشكّ ، وليس هنا فردان من الشكّ يتعلّق أحدهما بحدوث المتيقّن السابق والآخر ببقائه. نعم ، عموم اليقين والشكّ إنّما هو باعتبار الامور الخارجة ، كعدالة زيد وفسق عمرو ، لا باعتبار تعدّد لحاظهما ، بأن يلاحظ تارة تعلّق اليقين بشيء والشكّ بحدوثه ، واخرى تعلّقه به والشكّ ببقائه.

وقد تحقّق من جميع ما ذكرناه أنّ الرواية بحسب ظاهرها إنّما تفيد قاعدة كلّية في باب الاعتقادات ، من حملها على الصحّة عند الشكّ في مطابقتها للواقع ، كما حكي عن بعضهم حيث قسّم أصالة الصحّة إلى أقسام أربعة : أصالة الصحّة في الاعتقادات ، وفي الأفعال ، وفي الأقوال ، وفي جميع الموجودات. وهي في الأخير أعمّ من سوابقه ، وهو واضح.

٢١٤١. يؤيّده قوّة احتمال ورود التعبير بلفظ «كان» والعطف بالفاء مورد الغالب ، إذ الغالب في مورد الاستصحاب أيضا تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ.

ثمّ إنّ حاصل ما ذكره بيان الفرق بين ما كان الزمان الماضي قيدا للمتيقّن ، مثل قولنا : عدالة زيد في يوم الجمعة إذا كانت متيقّنة كان كذا ، وبين ما كان قيدا لنفس اليقين ، مثل قولنا : إذا تيقّنت يوم الجمعة بعدالة زيد كان كذا. وأنّ الرواية إن كانت من قبيل الأوّل ، بأن كان متعلّق اليقين فيها مقيدا بالزمان الماضي ، كان حاصلها : من تيقّن بشيء حاصل في الزمان الماضي ، فشكّ في وجود هذا

١٤٢

ثمّ لو سلّم (٢١٤٢) أنّ هذه القاعدة بإطلاقها مخالفة للإجماع ، أمكن

______________________________________________________

الشيء الكائن في الزمان الماضي ، فليمض على يقينه. فتكون حينئذ صريحة في اختلاف زمان اليقين والشكّ مع اتّحاد زمان متعلّقهما ، وهو ليس بمورد للاستصحاب كما تقدّم سابقا. وإن كانت من قبيل الثاني ، بأن كان متعلّق اليقين فيها مجرّدا عن الزمان الماضي ، وكان الزمان ظرفا لنفس اليقين ، كان حاصلها : من تيقّن في الماضي بشيء فشكّ فيه. ولا شكّ أنّ الشكّ في هذا الشيء حينئذ أعمّ من أن يتعلّق بتحقّقه ، فيرجع إلى المعنى الأوّل ، ومن أن يتعلّق ببقائه مع العلم بوجوده في السابق ، إذ مع تجريد متعلّق اليقين عن الزمان الماضي يصحّ تعلّق الشكّ ببقائه. والرواية مع تجريد متعلّق اليقين عن الزمان الماضي ظاهرة ـ ولو بملاحظة نظائرها ـ في تعلّق الشكّ بالبقاء ، فتنطبق على قاعدة الاستصحاب.

٢١٤٢. فيه نظر. وتوضيحه : أنّ الشكّ في المتيقّن السابق إمّا من جهة تبيّن فساد مدرك الاعتقاد السابق ، إذ تبيّن فساد المدرك لا يستلزم تبيّن فساد المدرك ، أو من جهة اخرى كنسيان المدرك. وعلى الأوّل إمّا أن يعمل في زمان اليقين على طبق اعتقاده ، كالاقتداء بمن اعتقد عدالته أو العمل بفتواه أو شهادته أو نحو ذلك ، أو لا. وحينئذ إن اريد بتأسيس هذا الأصل إثبات وجوب البناء على صحّة الاعتقاد السابق ، وإمضاء ما عمل به في زمان الاعتقاد ، وترتيب آثار المعتقد في زمان الشكّ ، فهو خلاف الإجماع ، لإجماعهم على عدم الاعتداد بالاعتقاد السابق في زمان الشكّ مع تبيّن فساد مدرك اعتقاده.

وإن اريد به البناء عليها مع تخصيص ما أخرجه الدليل ، بأن يقيّد إطلاق هذا الأصل بأحد الوجهين الذين أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله فهو موجب لتخصيص الأكثر ، إذ الغالب تبيّن فساد مدرك الاعتقاد عند زواله ، فإخراج مورد الإجماع موجب للمحذور المذكور. بل يمكن دعوى مخالفة هذه القاعدة للإجماع من رأس ، ومخالفة كاشف الغطاء غير قادحة فيها كما لا يخفى.

١٤٣

تقييدها بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة إلى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به كالاقتداء بذلك الشخص في مثال العدالة ، أو العمل بفتواه أو شهادته أو تقييد الحكم بصورة عدم التذكّر لمستند القطع السابق ، وإخراج صورة تذكّره والتفطّن لفساده وعدم قابليّته لإفادة القطع

فالإنصاف أنّ الرواية ـ سيّما بملاحظة قوله عليه‌السلام : " فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين" ، وبملاحظة ما سبق (٢١٤٣) في الصحاح من قوله : " لا ينقض اليقين بالشك" حيث إنّ ظاهره مساوقته لها ـ ظاهرة في الاستصحاب ، ويبعد حملها على المعنى الذي ذكرنا.

هذا ، لكن سند الرواية (٢١٤٤) ضعيف ب" القاسم بن يحيى" ؛ لتضعيف العلّامة له في الخلاصة ، وإن ضعف ذلك بعض باستناده إلى تضعيف ابن الغضائري ـ

______________________________________________________

وأمّا حكم العلماء بصحّة الأعمال الواقعة على طبق الاعتقاد السابق ، فلعلّه لأجل قاعدة الشكّ بعد الفراغ لا للقاعدة المذكورة ، فإنّهما قاعدتان مختلفتا المؤدّى ، فإنّ مؤدّى هذه القاعدة هو تصحيح الاعتقاد السابق بالبناء على مطابقته للواقع وإن لم يرتّب عليه عملا بعد ، ومؤدّى قاعدة الفراغ تصحيح العمل بالبناء على مطابقته للواقع وإن لم يقع عن اعتقاد أو شكّ في وقوعه كذلك ، كما إذا صلّى من دون التفات إلى استجماعه للشرائط ثمّ شكّ فيه ، أو شكّ فيه ، بعد الفراغ من دون تذكّر لاعتقاده به حين الصلاة. ومن هنا يظهر أنّ الرواية إن صحّت سندا ودلالة لا تصلح لتأسيس هذه القاعدة.

٢١٤٣. هذا بناء على ما اشتهر من أنّ الأخبار بملاحظة اتّحاد مأخذها ـ وإن اختلفت مصادرها ـ بمنزلة كلام متكلّم واحد يكشف بعضها عن بعض.

٢١٤٤. قد تقدّم السند. وقال في منتهى المقال : «وفي التعليقات : تضعيف الخلاصة من الغضائري كما في النقد ، فلا يعبأ به. ورواية الأجلّة عنه ـ سيّما مثل أحمد بن محمّد بن عيسى ـ أمارة الاعتماد بل الوثاقة. ويؤيّده كثرة رواياته ، والإفتاء بمضمونها. ويؤيّد فساد كلام الغضائري في المقام عدم تضعيف شيخ من

١٤٤

المعروف عدم قدحه (٢١٤٥) ـ

______________________________________________________

المشايخ العظام الماهرين بأحوال الرجال إيّاه ، وعدم طعن من أحد ممّن ذكره في مقام ذكره في ترجمته وترجمة جدّه وغيرهما. والعلّامة تبع الغضائري بناء على جواز عثوره على ما لم يعثروا عليه ، وفيه ما فيه» انتهى.

٢١٤٥. ذكر الوجه فيه في مقدّمات منتهى المقال ، قال : «لا يخفى أنّ كثيرا من القدماء ـ سيّما القميّين والغضائري ـ كانت لهم اعتقادات خاصّة في الأئمّة عليهم‌السلام بحسب اجتهادهم ، لا يجوّزون التعدّي عنها ، ويسمّون التعدّي غلوّا وارتفاعا ، حتّى إنّهم جعلوا مثل نفي السهو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غلوّا ، بل ربّما جعلوا التفويض المختلف إليهم عليهم‌السلام ، أو نقل خوارق العادات عنهم ، أو الإغراق في جلالتهم ، وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ، ارتفاعا أو مورثا للتهمة. وذلك لأنّ الغلاة كانوا مختلفين في الشيعة ومخلوطين بهم ، مدلّسين أنفسهم عليهم ، فبأدنى شبهة كانوا يتّهمون الرجل بالغلوّ والارتفاع وربّما كان منشأ رميهم بذلك وجدان رواية ظاهرة فيه منهم ، أو ادّعاء أرباب ذلك القول كونه منهم ، أو روايتهم عنه ، وربّما كان المنشأ روايتهم المناكير إلى غير ذلك. وبالجملة ، الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الاصوليّة ، فربّما كان شيء عند بعضهم فاسدا أو كفرا أو غلوّا ، وعند آخرين عدمه ، بل ممّا يجب الاعتقاد به ، فينبغي التأمّل في جرحهم بأمثال الامور المذكورة. وممّا ينبّه على ما ذكرناه ملاحظة ما سيذكر في تراجم كثيرة ، ويأتي في إبراهيم بن عمر وغيره ضعف تضعيفات الغضائري ، وفي إبراهيم بن إسحاق وسهل بن زياد ضعف تضعيف أحمد بن محمّد بن عيسى. مضافا إلى غيرهما من التراجم ، فتأمّل» انتهى. وغير خفيّ على ذوي الأفهام المستقيمة أنّ ضعف التضعيف إذا كان مبنيّا على ما ذكر ، فلا بدّ أن يكون توثيق الغضائري وأمثاله في غاية الاعتماد ، وهو واضح.

١٤٥

فتأمّل (٢١٤٦).

ومنها : مكاتبة علي بن محمد القاساني : " قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتبت عليه‌السلام : اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وافطر للرؤية" (٢٥). فإنّ تفريع تحديد (٢١٤٧) كلّ من الصوم و

______________________________________________________

٢١٤٦. لعلّه إشارة إمّا إلى منع استناد العلّامة في التضعيف إلى تضعيف الغضائري ، لعدم الدليل عليه ، إذ لعلّه قد وصل إليه ما يوجب القدح في القاسم مع قطع النظر عن تضعيف الغضائري. وفيه : أنّ عدم تضعيف أحد للقاسم سوى الغضائري القدّاح للرواة كثيرا كما تقدّم عن التعليقات ، مع اعتماد العلّامة عليه كما في ترجمة إبراهيم بن عمر اليماني الصنعاني ، يوجب الظنّ القويّ باستناده إليه.

وإمّا إلى منع عدم قدح تضعيف الغضائري ، بعد اعتماد العلّامة والنجاشي ـ الذي هو من مهرة الفنّ ـ وكذا الطوسي في الجرح والتعديل عليه ، كما ذكر في ترجمة إبراهيم بن عمر. وفيه : ما يظهر من ملاحظة الحاشية السابقة.

وإمّا إلى أنّ تضعيف الغضائري وإن لم يوجب الضعف ، إلّا أنّه يوجب جهالة حال الراوي. وفيه : أنّه إنّما يتمّ إن لم يثبت اعتماد الأجلّة ـ سيّما أحمد بن محمّد بن عيسى ـ على القاسم بن يحيى وروايتهم عنه ، كما تقدّم عن التعليقات ، فإنّ ذلك إن لم يفد التوثيق فلا أقلّ من كونه سببا لقبول الرواية من جهته على المختار في باب الأخبار. مضافا إلى ما أسلفناه سابقا عن غوّاص بحار أنوار علوم الأئمّة عليهم‌السلام من تصريحه بكون هذه الرواية في غاية الوثاقة والاعتبار على طريقة القدماء ، فراجع.

٢١٤٧. حكي عن المصنّف رحمه‌الله استشكاله في دلالة الرواية على المقصود بما حاصله : أنّه يحتمل أن يكون المراد بقوله «اليقين لا يدخله الشكّ» بيان قاعدة الاشتغال ، وكان قوله عليه‌السلام : «صم للرؤية» مذكورا بالتبع ، لعدم انطباقه عليها ، إذ المقصود منه عدم وجوب الصوم في اليوم المردّد بين شعبان وشهر رمضان ،

١٤٦

الإفطار ـ برؤية هلالي رمضان وشوّال ـ على قوله عليه‌السلام : " اليقين لا يدخله الشكّ" لا يستقيم إلّا بإرادة عدم جعل (٢١٤٨) اليقين السابق مدخولا بالشّك ، أي مزاحما

______________________________________________________

فالمقصود الأصلي بالبيان هو قوله عليه‌السلام «وأفطر للرؤية» دون الفقرة المذكورة.

لا يقال : لا يمكن حمل هذه الفقرة أيضا على بيان وجوب الاحتياط في اليوم المردّد بين شهر رمضان وشوّال ، لدوران الصوم فيه بين الوجوب والحرمة الذاتيّة ، لحرمته في أوّل شهر شوّال.

لأنّا نقول : إنّ احتمال وجوبه وإن كان من قبيل الشكّ في المكلّف به مع تبيّن متعلّق التكليف مفهوما ، إلّا أنّ احتمال حرمته من قبيل الشكّ في التكليف الابتدائي الذي يرجع فيه إلى أصالة البراءة.

لا يقال : قول الراوي «عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان» عامّ شامل لليومين ، فما وجه تخصيصه باليوم الآخر منه؟ فلا بدّ أن يكون المراد بالجواب أيضا عامّا لينطبق على السؤال ، وهو لا يتمّ إلّا بإرادة قاعدة الاستصحاب.

لأنّا نقول : إنّ يوم الشكّ وإن كان عامّا إلّا أنّ الظاهر إرادة المعهود منه لا إرادة مطلق ما صدق عليه هذا المفهوم ، والمعهود منه هو اليوم الأخير ، لركوز حكم الأوّل في الأذهان.

هذا محصّل كلامه. وأنت خبير بأنّ هذا الإشكال ـ مع مخالفته لظاهر الرواية ـ إنّما يتّجه على تقدير كون صوم تمام الشهر تكليفا واحدا ، وهو خلاف التحقيق ، لكون كلّ يوم منه مورد تكليف مستقلّ ، ولذا اختار المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته الآتية كون يوم الشكّ مطلقا موردا لأصالة البراءة ، مع الغضّ عن حكومة قاعدة الاستصحاب عليها ، وكون المقام من مواردها.

٢١٤٨. يعني بقوله «اليقين لا يدخله الشكّ». وحاصله : أنّ بيان هذه الكلّية ثمّ تفريع الصوم والإفطار عليها لا يتمّ إلّا بإرادة قاعدة الاستصحاب منها ، لما عرفت في الحاشية السابقة من عدم كون يوم الشكّ من أوّل شهر رمضان موردا

١٤٧

به. والإنصاف : أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب (٢١٤٩) من أخبار الاستصحاب ، إلّا أنّ سندها غير سليم (٢١٥٠). هذه جملة ما وقفت (٢١٥١) عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها ، وعدم صحّة الظاهر منها ؛ فلعلّ الاستدلال بالمجموع (٢١٥٢) باعتبار التجابر والتعاضد.

وربّما يؤيّد ذلك بالأخبار الواردة في الموارد الخاصّة : مثل : رواية عبد الله (٢١٥٣) بن سنان ـ الواردة فيمن يعير ثوبه الذميّ وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ـ : " قال : فهل عليّ أن أغسله؟ فقال عليه‌السلام : لا ، لأنّك أعرته إيّاه و

______________________________________________________

لقاعدة الاشتغال ، ولو مع قطع النظر عن جريان الاستصحاب في المقام.

٢١٤٩. لعدم جريان وجوه الإشكال الواردة على سائر الأخبار ـ من قضيّة العهديّة وغيرها ـ فيها. مضافا إلى ما عرفته في الحاشية السابقة من قضيّة التفريع هنا ، فتدبّر.

٢١٥٠. لأنّ علي بن محمّد قد غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى ، وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة ، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك ، النجاشي. وفي الخلاصة : هو ضعيف. واضطرب فيه كلام الشيخ ، فراجع إلى ما ذكروه في ترجمته.

٢١٥١. ومنها الرضوي : «إذا شككت في الحدث ، وكنت على يقين من الوضوء ، لا تنقض اليقين بالشكّ» ثمّ قال فيه أيضا : «وإن توضّأت وضوءا صلّيت صلاتك أو لم تصلّ ، ثمّ شككت فلم تدر أحدثت أم لم تحدث فليس عليك وضوء ، لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ». ومنها ما عن مصباح الشريعة عن الصادق عليه‌السلام :«لا يدفع اليقين بالشكّ».

٢١٥٢. لأنّ الظنّ الحاصل من مجموع جملة من الأخبار كالحاصل من خبر واحد ، في الاندراج في معقد إجماعهم على اعتبار الظنون الحاصلة من دلالة الألفاظ.

٢١٥٣. قيل : هي صحيحة.

١٤٨

هو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه" (٢٦). وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها ، ولو كان المستند قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة ؛ إذ الحكم في القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة. نعم ، الرواية مختصّة (٢١٥٤) باستصحاب الطهارة دون غيرها ، ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها ممّا يشكّ في ارتفاعها بالرافع. ومثل : قوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار : " كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر" (٢٧). بناء على أنّه مسوق (٢١٥٥) لبيان استمرار طهارة كلّ شيء إلى أن يعلم حدوث قذارته ، لا ثبوتها له ظاهرا واستمرار هذا الثبوت إلى أن يعلم عدمها.

______________________________________________________

٢١٥٤. ربّما يمنع الاختصاص ، لأنّ ظاهر العلّة في الرواية هي الإعادة مع سبق العلم بالطهارة ، ولكن لا مدخليّة للإعادة والطهارة في العلّية. أمّا الأوّل فإجماعا. وأمّا الثاني فإنّ الطهارة من قبيل خصوصيّة المحلّ ، فلا بدّ من إهمال خصوصيّته ، نظير ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في اليقين بالوضوء في الصحيحة. ومن هنا يظهر أنّه كان للمصنّف ذكر هذه الرواية من الأخبار العامّة.

وأقول : هذا وإن كان متّجها بالقياس على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في الصحيحة ، إلّا أنّك قد عرفت هناك ضعف ما ذكره ، وأنّ العلّة هو اليقين بالوضوء لا وصف اليقين من حيث هو.

٢١٥٥. حاصله : أنّ المراد بالشيء إن كان هو الشيء المفروض الطهارة واقعا ، كان المراد بقوله «طاهر» إنشاء لبقاء طهارة هذا الشيء المفروض الطهارة عند الشكّ في ارتفاعها ، فتكون الغاية حينئذ غاية للحكم باستمرار الطهارة الثابتة إلى حصول هذه الغاية ، وهي العلم بالقذارة ، لا لأصل ثبوت الطهارة. وإن كان هو الشيء المشكوك الطهارة ، كان قوله «طاهر» إنشاء لثبوت الطهارة الظاهريّة لهذا الشيء مع قطع النظر عن حالته السابقة ، وتكون الغاية غاية لأصل ثبوت الطهارة الظاهريّة. ومن هنا يظهر أنّ المراد بالحكم في قوله «فغاية الحكم غير

١٤٩

فالغاية ـ وهي العلم بالقذارة ـ على الأوّل غاية للطهارة رافعة لاستمرارها ، فكلّ شيء محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة ، فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة. وعلى الثاني ، غاية للحكم بثبوتها ، والغاية ـ وهي العلم بعدم الطهارة ـ رافعة للحكم ، فكلّ شيء يستمرّ الحكم بطهارته إلى كذا ، فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته ، لانفسها.

والأصل في ذلك : أنّ القضيّة المغيّاة ـ سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول كما في قولنا : الثوب طاهر إلى أن يلاقي نجسا ، أم كانت ظاهريّة مغيّاة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه ـ قد يقصد المتكلّم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا ، من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلّم به مجرّد الاستمرار ، لا أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والأوّل أعمّ من الثاني من حيث المورد.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ معنى الرواية إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد إلى بيان الاستمرار بعد الفراغ عن ثبوت أصل الطهارة ، فيكون دليلا على استصحاب الطهارة ، لكنّه خلاف الظاهر. وإمّا خصوص المعنى الأوّل الأعمّ منه ، وحينئذ لم يكن فيه دلالة على استصحاب الطهارة وإن شمل مورده ؛ لأن الحكم فيما علم طهارته ولم يعلم طروّ القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ، بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة ، فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتّى في مسبوق لطهارة ، لا استصحابها ، بل تجري في مسبوق (٢١٥٦) النجاسة على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة.

______________________________________________________

مذكورة» هي الطهارة الواقعيّة الثابتة للشيء من حيث هو ، إذ الغاية على الأوّل غاية لاستمرار الطهارة المجعولة في زمان الشكّ ، لا لأصل الطهارة الثابتة للشيء من حيث هو.

٢١٥٦. بمعنى كون مسبوق النجاسة موردا لقاعدة الطهارة ، لا جريانها فيه فعلا ، كيف لا واستصحاب النجاسة حاكم عليها ، نظير ما ذكره في تعارض الاصول

١٥٠

ثمّ لا فرق في مفاد (٢١٥٧) الرواية بين الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي.

فعلم ممّا ذكرنا : أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من امتناع إرادة (٢١٥٨) المعاني الثلاثة من الرواية ـ أعني قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة ،

______________________________________________________

من حكومة استصحاب الحرمة على قاعدة البراءة. وهذا أحد الوجهين. والآخر خروج مورد قاعدة الطهارة في مورد استصحاب النجاسة من كونه موردا لها. وهذان الوجهان وإن لم يذكرهما المصنّف في تعارض قاعدة الطهارة مع استصحاب النجاسة ، إلّا أنّه قد ذكرهما في تعارض الاستصحاب مع قاعدة البراءة ، حاكيا للوجه الثاني قولا لبعضهم ، وهو صاحب الرياض على ما حكي عنه. وسيجيء استيفاء الكلام في ذلك في تعارض الاصول.

٢١٥٧. توضيحه : أنّ الشكّ في الطهارة إمّا أن يتعلّق بالحكم الكلّي ، أو موضوعه الخارجي. وعلى التقديرين : إمّا أن تتحقّق هنا حالة سابقة أو لا. فهذه أقسام أربعة. وفي اختصاص مورد الرواية ببعضها أو عمومه لجميعها وجوه بل أقوال. أحدها : أن يكون موردها أعمّ من الشبهة الحكميّة والموضوعيّة مع عدم الحالة السابقة. وهذا محكيّ عن ظاهر الأكثر وثانيها : أن يكون مختصّا بالشبهة الموضوعيّة مع عدم الحالة السابقة. واختاره المحقّق القمّي رحمه‌الله. وثالثها : أن يكون مختصّا بالشبهة الموضوعيّة مع تحقّق الحالة السابقة. وهو محكيّ عن جماعة. ورابعها : أن يكون أعمّ من الجميع. واختاره المصنّف رحمه‌الله. وهنا وجوه أخر أيضا ، إلّا أنّه لا يكاد يوجد قول بها ، والنافع للمستدلّ أحد الوجهين الأخيرين.

٢١٥٨. قال بعد ذكر المعاني الثلاثة : «إذا عرفت هذا وظهر لك الفرق بين المعاني عرفت أنّ المعاني متغايرة متباينة ، لا يجوز إرادتها جميعا من إطلاق واحد ، كما حقّقناه في أوائل الكتاب. والقول بأنّ كلّ شيء عامّ قابل لإرادة الكلّي والجزئي ،

١٥١

وفي الشبهة الموضوعيّة ، واستصحاب الطهارة ـ ؛ إذ لا مانع عن إرادة الجامع (٢١٥٩) بين الأوّلين ، أعني قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعية.

______________________________________________________

وكذلك العلم يشمل العلم بالكلّي والجزئي ، فيصحّ إرادة معنى عامّ يندرج الكلّ فيه ، لا يصحّ مع تفاوت إضافة الطهارة والقذارة إلى الأشياء ، وكذلك سبب العلم.

ولا ريب أنّ كلام المعصوم عليه‌السلام منزّل على موارد حاجات المكلّفين ، وقد تختلف موارد الحاجات ، فقد يمكن أن يراد بسبب موضع الحاجة أنّ كلّ شيء طاهر طاهر باليقين السابق حتّى يعلم من الخارج ملاقاته للنجاسة ، أو أنّ كلّ شيء مشتبه بين امور طاهرة أو نجسة ، فيحكم بأنّه من الأشياء الطاهرة حتّى يعلم من الخارج أنّه من الأشياء النجسة ، أو أنّ كلّ شيء يحتمل أن يكون حكمه الشرعيّ الطهارة أو النجاسة ، فيحكم أنّه طاهر حتّى يعلم من جانب الشارع أنّ حكمه النجاسة» انتهى موضع الحاجة. وقد ذكر نظير هذا في مباحث البراءة عند بيان قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» فراجع.

٢١٥٩. حاصله : أنّ ظاهر كلام صاحب القوانين بل صريحه تعيّن إرادة أحد المعاني الثلاثة ، وعدم إمكان إرادة الجميع ولا معنيين من الرواية ، نظرا إلى تباين كلّ واحد منها للآخر. وحينئذ يرد عليه أنّ معنى قاعدة الطهارة وإن كان مباينا لمعنى الاستصحاب ، إذ الملحوظ والمناط في الأوّل كون الشيء مشكوك الطهارة مع قطع النظر عن حالته السابقة ، وفي الثاني كونه مسبوقا بالطهارة وجدانا أو شرعا. وبعبارة اخرى : أنّ المعيار في الأوّل هو الحكم بطهارة مشكوك الطهارة ابتداء ، وفي الثاني هو الحكم ببقاء الطهارة السابقة. والغاية ـ أعني : قوله عليه‌السلام «حتّى تعلم أنّه قذر» ـ على الأوّل تكون غاية للحكم بالطهارة ، والمعنى : كلّ شيء مشكوك الطهارة محكوم بالطهارة إلى زمان العلم بعروض القذارة له. وعلى الثاني غاية لاستمرار الطهارة السابقة ، والمعنى : كلّ شيء طاهر سابقا شرعا أو وجدانا محكوم باستمرار طهارته إلى زمان العلم بعروض القذارة له. ولا جامع بين

١٥٢

نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين ؛ لما عرفت أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ، والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا.

والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها ، ولا جامع بينهما.

وقد خفي ذلك على بعض المعاصرين ، فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ، وأنكر ذلك على صاحب القوانين فقال : إنّ الرواية تدلّ على أصلين : أحدهما أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب. الثاني أنّ هذا الحكم مستمرّ إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئيّاته (٢٨) ، انتهى.

أقول : ليت شعري (٢١٦٠)

______________________________________________________

المعنيين ، إلّا أنّه لا مانع من إرادة معنى عامّ شامل لجريان قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، إذ لا مانع منه سوى اختلاف إضافة الطهارة إلى الأشياء من حيث الحكم والموضوع ، أو اختلاف العلم بسبب اختلاف أسبابه ، نظرا إلى كون العلم بالقذارة في الشبهة الحكميّة حاصلا من الأدلّة ، وفي الشبهة الموضوعيّة حاصلا من البيّنة وغيرها من الأمارات ، كما تقدّم في الحاشية السابقة ، لكن ذلك بمجرّده لا يمنع من إرادة معنى عامّ من لفظ الطهارة والعلم شامل للشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، إذ المفروض عدم إرادة خصوصيّات الموارد.

٢١٦٠. توضيحه : أنّه مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله آنفا ، وأسلفنا توضيحه في الحاشية السابقة ، من عدم إمكان إرادة الأصلين من الرواية ، أنّه إن أراد بالمشار إليه في قوله «إنّ هذا الحكم المستمرّ ...» الحكم المستفاد من الأصل الأوّلي ، أعني : قاعدة الطهارة ، ففيه : أنّ الحكم المستفاد منها هي الطهارة الظاهريّة المغياة بزمان العلم بالنجاسة ، وليس استمرار هذا الحكم ظاهرا ولا واقعا مغيّا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو حكم كلّي مستمرّ إلى زمان ورود النسخ عليه ، إذ ليست غاية الأحكام الكلّية إلّا ذلك ، فلا معنى لقوله «مستمرّ إلى زمان العلم بالنجاسة».

١٥٣

ما المشار إليه بقوله : " هذا الحكم مستمرّ إلى زمن العلم بالنجاسة"؟ فإن كان هو الحكم المستفاد من الأصل الأوّلي ، فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مغيّا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو مستمرّ إلى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة ، مع أنّ قوله : " حتّى تعلم" إذا جعل من توابع الحكم الأوّل الذي هو الموضوع للحكم الثاني ، فمن أين يصير الثاني مغيّا به؟! إذ لا يعقل كون شيء في استعمال واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له. وإن كان هو الحكم الواقعيّ المعلوم ـ يعني أنّ الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمرّ في الظاهر إلى زمن العلم بالنجاسة ـ فيكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوت الطهارة له واقعا في زمان ، فأين هذا من بيان قاعدة الطهارة من حيث هي للشيء المشكوك من حيث هو مشكوك؟!

ومنشأ الاشتباه في هذا المقام : ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ، فيتخيّل أنّ الرواية تدلّ على الاستصحاب ، وقد عرفت أنّ دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ، وإلّا فقد أشرنا إلى أنّ القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجيء. ونظير ذلك ما صنعه صاحب الوافية ؛ حيث ذكر روايات" أصالة الحلّ" الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع في هذا المقام.

ثمّ على هذا ، كان ينبغي ذكر أدلّة أصالة البراءة ؛ لأنّها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد. فالتحقيق : أنّ الاستصحاب من حيث هو مخالف للقواعد الثلاث : البراءة ، والحلّ ، والطهارة ، وإن تصادقت مواردها.

فثبت من جميع ما ذكرنا : أنّ المتعيّن حمل الرواية المذكورة على أحد المعنيين ، والظاهر إرادة القاعدة ـ نظير قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء لك حلال" ـ ؛ لأنّ حمله على الاستصحاب وحمل الكلام على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا خلاف الظاهر ؛ إذ ظاهر الجملة الخبريّة إثبات أصل المحمول للموضوع ، لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله. نعم ، قوله : " حتّى تعلم" يدلّ على استمرار المغيّا ، لكن المغيّا به الحكم المنشأ للطهارة ، يعني :

١٥٤

هذا الحكم الظاهري مستمرّ له إلى كذا ، لا أنّ الطهارة الواقعيّة المفروغ عنها مستمرّة ظاهرا إلى زمن العلم.

ومنها : قوله عليه‌السلام : " الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس" (٢٩). وهو وإن كان متّحدا (٢١٦١) مع الخبر السابق من حيث الحكم والغاية إلّا أنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقّق غالبا ، فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب ، والمعنى : أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتّى تعلم ... ، أي : مستمرّ طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له ، سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم كالقليل الملاقي للنجس والبئر ، أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي كالشكّ في ملاقاته للنجاسة أو نجاسة ملاقيه.

______________________________________________________

مع أنّه إذا اريد إثبات استمرار الحكم المستفاد من قاعدة الطهارة ـ أعني : الطهارة الظاهريّة المغيّاة بالعلم بالنجاسة ـ يكون مجموع الغاية والمغيّا موضوعا للحكم المستفاد من الأصل الثانوي ، أعني : قاعدة الاستصحاب. وبعبارة اخرى : يكون المستصحب حينئذ مجموع الغاية والمغيّا. وحينئذ لا يمكن أن تكون الطهارة الثابتة بالاستصحاب مغيّاة بقوله «حتّى تعلم أنّه قذر» إذ لا يعقل أن يكون شيء واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له ، وإلّا لزم تقدّم الشّيء على نفسه ، لتقدّم الموضوع وتوابعه على محموله ولو طبعا. فإذا فرض كون شيء واحد قيدا لكلّ واحد من الموضوع والمحمول لزم ما ذكرناه ، فلا وجه حينئذ لقوله «إنّ هذا الحكم مستمرّ إلى زمان العلم بالنجاسة».

وإن أراد به الحكم الواقعي المعلوم ، بمعنى أنّ الطهارة إذا ثبتت في زمان فهي مستمرّة في الظاهر إلى زمان العلم بالنجاسة ، ليكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوت الطهارة الواقعيّة له في زمان ، فأين هذا من بيان قاعدة الطهارة في الأشياء المشكوكة الطهارة ، المبنيّة على عدم ملاحظة الحالة السابقة ، والحكم باستمرارها في الظاهر؟

٢١٦١. فيجري فيه ما تقدّم في سابقه ، إلّا أنّ غلبة اختصاص مورد هذه الرواية

١٥٥

ومنها : قوله عليه‌السلام : " إذا استيقنت أنّك توضّأت فإيّاك أن تحدث (٢١٦٢) وضوءا ، حتّى تستيقن أنك أحدثت" (٣٠). ودلالته على استصحاب الطهارة ظاهرة.

ثمّ إنّ اختصاص ما عدا الأخبار العامّة بالقول المختار واضح. وأمّا الأخبار العامّة ، فالمعروف بين المتأخّرين الاستدلال بها على حجّية الاستصحاب

______________________________________________________

بالشكّ في عروض النجاسة ـ إذ من البعيد خفاء حكم المياه بحسب خلقتها الأصليّة على أحد ـ تقتضي كون المراد بها بيان قاعدة الاستصحاب دون الطهارة ، بخلاف الرواية السابقة كما تقدّم. وبعبارة اخرى : إنّ هذه الرواية من حيث اتحادها مع سابقتها في الحكم والغاية ، وإن كانت ظاهرة في إرادة بيان قاعدة الطهارة ، إلّا أنّ الغلبة المذكورة صارفة عن ظهورها. وربّما يتنظّر في صلاحيّتها لصرفها عن الظهور اللفظي. ولكنّه ضعيف لأنّ استصحاب الطهارة حاكم على قاعدتها ، كما يرشد إليه ما تقدّم من رواية ابن سنان ، لأنّ إسناد الحكم بطهارة الثوب فيها إلى الاستصحاب دون القاعدة ـ مع كون المورد محلّا لكلّ منهما ـ ظاهر في ما ذكرناه. وحينئذ نقول : إنّ الحكم بالطهارة في هذه الرواية مع غلبة تحقّق الحالة السابقة في موردها ، لا يحسن أن يستند إلى القاعدة دون الاستصحاب مع حكومته عليها.

٢١٦٢. التهديد عن تجديد الوضوء مع ما ثبت من استحبابه وحسن الاحتياط ، لعلّه مبنيّ على اعتقاد عدم جواز الدخول في المشروط بالطهارة المستصحبة ، أو على كون تجديد الوضوء مؤدّيا إلى الوسواس.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على اعتبار الاستصحاب أيضا بمفهوم الأخبار الدالّة على عدم الاعتناء بالشكّ في شيء بعد التجاوز عن محلّه ، لدلالتها على الاعتناء بالشكّ ، بمعنى البناء على عدم وقوع العمل المشكوك فيه قبل التجاوز عن محلّه : نعم ، يختصّ مؤدّاها باستصحاب العدم ، فلا يشمل الاستصحابات الوجوديّة ، ولذا ذكرناها في ذيل الأخبار الخاصّة.

١٥٦

في جميع الموارد (٢١٦٣).

وفيه تأمّل ، قد فتح بابه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس. توضيحه : أنّ حقيقة النقض (٢١٦٤) هو رفع الهيئة الاتّصاليّة كما في نقض الحبل. والأقرب إليه على تقدير مجازيّته هو رفع الأمر الثابت. وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ـ ولو لعدم المقتضي له ـ بعد أن كان آخذا به ، فالمراد من" النقض" عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده.

______________________________________________________

٢١٦٣. سواء كانت ممّا كان الشكّ فيه في الرافع أم المقتضي.

٢١٦٤. حاصله : أنّ لفظ النقض بحسب اللغة حقيقة في رفع الهيئة الاتصاليّة الحسّية الحاصلة في الأشياء وإبانة أجزائها ، كما في قوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ...). وهذا المعنى غير مراد في الأخبار جزما ، فيتعيّن حمله على إرادة معنى مجازي منه ، وهو إمّا رفع اليد عن الشيء الثابت مع وجود المقتضي لبقائه لو لا المانع منه ، كالطهارة وعلاقة الزوجيّة الباقيتين لو لا المزيل. وإمّا مطلق رفع اليد عن الشيء الثابت ولو لعدم المقتضي له ، كرفع اليد عن الواجب الموقّت بعد خروج وقته. والأوّل أقرب إلى المعنى الحقيقي اعتبارا وعرفا ، فيتعيّن حمل اللفظ عليه بعد تعذّر إرادة حقيقته.

نعم ، يرد عليه : أنّه يلزم حينئذ ارتكاب مجازين ، أحدهما في لفظ النقض ، بحمله على ما عرفت. وثانيهما في المنقوض ، بتخصيصه بما من شأنه البقاء لو لا المانع ، بخلاف ما لو حمل على المعنى الثاني ، لبقاء المنقوض حينئذ على إطلاقه.

والجواب عنه أنّ ظهور الفعل في معنى حاكم عرفا على إطلاق متعلّقه عند دوران الأمر بين ارتكاب خلاف الظاهر في أحدهما ، كما في مثال : لا تضرب أحدا ، لأنّ ظهور الضرب في الإيلام حقيقة أو انصرافا حاكم على إطلاق لفظ أحد ـ بل عمومه ـ بالنسبة إلى الأحياء والأموات. ومنه يظهر ضعف ما يتوهّم من منع اختصاص الضرب بالوقوع على الأحياء. مضافا إلى شيوع التخصيص وأرجحيّته

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بالنسبة إلى سائر أنواع المجاز. فعموم المتعلّق لا يصلح قرينة لصرف الفعل عن ظاهره.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف قدس‌سره. وهو لا يخلو من نظر :

أمّا أوّلا ، فإنّه إن أراد باليقين في قوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ» ظاهر معناه ، وكان المراد بنقضه رفع اليد عن الآثار المرتّبة على المستصحب في حال اليقين ، ومرجعه إلى التزام كون المجازيّة في النسبة ، ففيه : مع مخالفته لظاهر كلامه بل صريحه ، أنّ الأولى حينئذ نسبة النقض إليه باعتبار وجود ما يقتضيه من الدّليل لو لا ما يشكّ في مانعيّته ، كما فهمه المحقّق الخونساري على ما سيجيء من كلامه ، بأن كان المراد عدم جواز رفع اليد عن مقتضى موجب اليقين لو لا الشكّ ، لا باعتبار وجود المقتضي ، لبقاء المتيقّن.

وإن أراد به معنى المفعول كما هو صريحه ، لتكون المجازيّة في الكلمة ، وكان المراد بنقضه رفع اليد عن آثار المتيقّن ، ففيه : مع ما فيه من المخالفة لظاهر اللفظ ، أنّه مخالف لما قبل الفقرة المذكورة في الصحيحة الاولى التي اعتمد عليها المصنّف رحمه‌الله ، أعني : قوله عليه‌السلام «فإنّه على يقين من وضوئه» إذ لا ريب في كون المراد باليقين فيه ما هو الظاهر منه ، وكذا ما بعده ، أعني : قوله عليه‌السلام «ولكنّه ينقضه بيقين» آخر.

لا يقال : إنّ هذا المحذور لازم على كلّ تقدير ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله. لأنّا نمنع اللزوم ، لجواز إرادة المعنى الظاهر من لفظ اليقين ، بأن كانت المجازيّة في النسبة ، كما عرفته في الشقّ الأوّل من الترديد.

وأمّا ثانيا : فإنّا نمنع كون ظهور الفعل قرينة لارتكاب التجوّز في متعلّقه ، كما يشهد به العرف وفهم العلماء ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) حيث حملوا الأكل فيه على مطلق التصرّف ، لا تخصيص الأموال بالمأكولات.

وأمّا ثالثا : فإنّ محل الاستدلال بالأخبار لا ينحصر فيما اشتمل على لفظ

١٥٨

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ الأمر يدور بين أن يراد ب" النقض" مطلق ترك العمل وترتيب الأثر ـ وهو المعنى الثالث ـ ويبقى المنقوض عامّا لكلّ يقين ، وبين أن يراد من النقض ظاهره ـ وهو المعنى الثاني ـ فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار والاتّصال المختصّ بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى.

ولا يخفى رجحان هذا على الأوّل ؛ لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصا لمتعلّقه العامّ ، كما في قول القائل : لا تضرب أحدا ؛ فإنّ الضرب قرينة على اختصاص العامّ بالأحياء ، ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات.

ثمّ لا يتوهّم الاحتياج حينئذ إلى تصرّف في اليقين بإرادة المتيقن منه ؛ لأنّ التصرّف لازم على كلّ حال ؛ فإنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق

______________________________________________________

النقض ، لأنّ فيها فقرات أخر أيضا خالية منه يصحّ الاستدلال بها على المقام. هكذا قيل. وفيه نظر ، لما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله من ضعف دلالة ما يمكن أن يستدلّ به على ذلك.

وأمّا رابعا : فلمنع كون الضرب حقيقة في الإيلام أو منصرفا إليه. ولعلّ انسباقه منه إلى الذهن في المثال ـ على تقدير تسليمه ـ إنّما هو لانصراف لفظ أحد إلى الأحياء ، كانصرافه إليهم في مثل قولنا : ما رأيت أحدا أو نحوه ، إذ لا يرتاب أحد في كون قوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) واردا على سبيل الحقيقة ، وليس فيه ارتكاب خلاف الظاهر من جهة الانصراف كما هو واضح. وسيجيء توضيح ما يتعلّق بالمقام عند شرح ما يتعلّق بمذهب الخونساري.

وأمّا خامسا : فإنّ المدار في مباحث الألفاظ على فهم العرف ، ولا ريب أنّهم إنّما يفهمون من لفظ النقض ـ بعد تعذّر حقيقته ـ المعنى المجازي الثاني دون الأوّل ، ولذا اخترنا القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، كما سيجيء بيانه. وبالجملة ، إنّ الأوّل وإن كان أقرب اعتبارا ، إلّا أنّ الثاني أقرب عرفا. ومرادهم بتعيّن حمل اللفظ على أقرب مجازاته هو الأقرب عرفا لا اعتبارا ، كما هو واضح.

١٥٩

بنفس اليقين على كلّ تقدير ، بل المراد : نقض ما كان (٢١٦٥) على يقين منه وهو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين (٢١٦٦).

والمراد ب" أحكام اليقين" ليس أحكام نفس وصف اليقين ؛ إذ لو فرضنا حكما شرعيّا محمولا على نفس صفة اليقين ارتفع بالشكّ قطعا ، كمن نذر فعلا في مدّة اليقين بحياة زيد. بل المراد : أحكام المتيقّن المثبتة له من جهة اليقين ، وهذه الأحكام كنفس المتيقّن أيضا لها استمرار شأنيّ لا يرتفع إلّا بالرافع ؛ فإنّ جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمر مستمرّ إلى أن يحدث ناقضها.

وكيف كان ، فالمراد إمّا نقض المتيقّن ، والمراد به رفع اليد عن مقتضاه ، وإمّا نقض أحكام اليقين أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين به ، والمراد حينئذ رفع اليد عنها.

ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات إرادة المعنى الثالث ، مثل قوله عليه‌السلام : " بل ينقض الشكّ (٢١٦٧) باليقين" وقوله عليه‌السلام : " ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات". وقوله عليه‌السلام في رواية الأربعمائة : " من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشك". وقوله : " إذا شككت فابن على اليقين".

______________________________________________________

٢١٦٥. إن كان المستصحب من الأحكام الشرعيّة.

٢١٦٦. إن كان المستصحب من الموضوعات الخارجة.

٢١٦٧. كما في الصحيحة الثالثة ، لكن كان فيما سبق لفظ «لكنّه» بدل «بل». وكيف كان ، فوجه الاستفادة أنّ الشكّ ليس ممّا له مقتضي البقاء وفرض الشكّ في رافعه ، حتّى يصدق جواز نقضه باليقين السابق بالمعنى الثاني ، بل لا معنى للشكّ في رافعه ، لفرض القطع بوجوده. وأمّا سائر الفقرات ممّا وقع التعبير فيه بعدم الاعتداد وعدم الدخول والمضيّ والدّفع والبناء فواضح ، لعدم الأخذ في مفاهيم هذه الألفاظ ما هو مأخوذ في مفهوم النقض ، فالمراد بها مجرّد رفع اليد عن اليقين السابق ، كان الشكّ في الرافع أم المقتضي.

١٦٠