فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

فإنّ المستفاد من هذه وأمثالها : أنّ المراد بعدم النقض عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لليقين السابق ، نظير قوله عليه‌السلام : " إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء". وقوله عليه‌السلام : " اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية" ، فإنّ مورده استصحاب بقاء رمضان ، والشكّ فيه ليس شكّا في الرافع (٢١٦٨) ، كما لا يخفى. هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لصرف لفظ" النقض" عن ظاهره ، لأنّ قوله : " بل ينقض الشكّ باليقين" معناه رفع الشكّ (٢١٦٩) ؛ لأنّ الشكّ ممّا إذا حصل لا يرتفع إلّا برافع.

______________________________________________________

٢١٦٨. لكون الزمان من الامور المتجدّدة آناً فآنا.

٢١٦٩. لا عدم الاعتداد به حتّى ينطبق على المعنى الثالث. هذا ، وقد حكى عن المصنّف رحمه‌الله ـ مضافا إلى ما ذكره هنا ـ دعوى وقوع التعبير بنقض الشكّ باليقين في الصحيحة الثالثة ، لمناسبة قوله «ولا ينقض اليقين بالشكّ» وبتبعيّته ، لا من جهة إرادة المعنى المجازي الأوّل ، فلا يصلح التعبير به عن صرف النقض في الفقرة الثانية عن ظاهره. مضافا إلى ما يقال : من عدم صحّة المعنى المجازي الثاني هنا أيضا ، لأنّه عبارة عن رفع اليد عن الشيء بعد الأخذ به ، سواء كان له مقتضي الثبوت أم لا. والشكّ هنا ليس مأخوذا في زمان حتّى يصدق النقض بالنسبة إليه ، فلا بدّ أن يكون المراد بالنقض هنا مطلق عدم الاعتداد به.

ثمّ إنّ المراد بنقض الشكّ باليقين نقضه باليقين السابق ، لا اليقين اللاحق كما ربّما يوهمه قوله : «لأنّ الشكّ إذا حصل لا يرتفع إلّا برافع» لأنّ المراد بالفقرات الستّ أو السبع في الصحيحة الثالثة ـ كما أسلفناه سابقا ـ إمّا بيان قاعدة الاستصحاب أو الاحتياط. وعلى الأوّل ـ كما هو الفرض في المقام ـ فالمراد بهذه الفقرات بيان عدم الاعتداد بالشكّ مع وجود اليقين السابق. ومن تأمّل في هذه الفقرات جزم بما ذكرناه ، فالمراد بنقض الشكّ باليقين رفع اليد عن الآثار المرتّبة

١٦١

وأمّا قوله عليه‌السلام : " من كان على يقين فشكّ" فقد عرفت (٢١٧٠) أنّه كقوله : " إذا شككت (٢١٧١) فابن على اليقين" غير ظاهر في الاستصحاب ، مع إمكان أن يجعل قوله عليه‌السلام (٢١٧٢): " فإنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، أو لا يدفع به" قرينة على اختصاص صدر الرواية (٢١٧٣) بموارد النقض ، مع أنّ الظاهر من المضيّ : الجري على مقتضى الداعي السابق وعدم التوقّف إلّا لصارف ، نظير قوله عليه‌السلام : " إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك" ونحوه ، فهو أيضا مختصّ بما ذكرنا.

______________________________________________________

على الشكّ بمقتضى الاصول لو لا اعتبار قاعدة الاستصحاب ، وهذا ينطبق على المعنى المجازي الأوّل ، لأنّه بعد فرض كون الشكّ ممّا له البقاء لو لا الرّافع كانت آثاره أيضا كذلك.

نعم ، ربّما يمكن أن يفرّق بين معنى النقض هنا ومعناه في قوله «ولا ينقض اليقين بالشكّ» بأنّ المراد بالنقض هنا رفع آثار الشكّ من رأس ، وهناك رفع آثار المتيقّن بعد ثبوتها ، مع ثبوت المقتضي للبقاء في المقامين. ولكن هذا المقدار من الفرق غير قادح في المقام ، لأنّ المراد بأقرب المجازين إلى حقيقة النقض هو رفع ما له مقتضي الثبوت مطلقا ، سواء كان الرفع بعد الثبوت أم من رأس. وإن أبيت إلّا عن دعوى كون هذا المعنى ـ أعني : الرفع ـ من رأس معنى مجازيّا آخر مقابل المعنيين المذكورين ، فلا ريب أنّ هذا المعنى أقرب إلى معنى رفع اليد عن الشيء بعد ثبوته مع ثبوت المقتضي له ، من معنى رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، فلا يصلح حينئذ أن يكون قوله «بل ينقض الشكّ باليقين» قرينة لحمل قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشكّ» على إرادة المعنى الثالث ، فتدبّر.

٢١٧٠. من حيث ظهوره في اعتبار الشكّ الساري دون الاستصحاب.

٢١٧١. من حيث احتماله للتقيّة أو الاحتياط بالبناء على الأكثر.

٢١٧٢. في حديث الأربعمائة.

٢١٧٣. أعني : قوله «من كان على يقين» الحديث.

١٦٢

وأمّا قوله عليه‌السلام : " اليقين لا يدخله الشكّ" (٢١٧٤) فتفرّع الإفطار للرؤية عليه من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان إلى أن يحصل الرافع. وبالجملة : فالمتأمّل المنصف يجد أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على أزيد من اعتبار اليقين السابق عند الشكّ في الارتفاع برافع.

______________________________________________________

٢١٧٤. حاصله : أنّ تقريب الاستدلال ـ بناء على ما تقدّم ـ إنّما هو من جهة كون الاستصحاب الجاري في مورد الرواية ـ المتفرّع على بيان القاعدة ـ من قبيل استصحاب الأزمان التي هي من قبيل الشكّ في المقتضي ، لتجدّد الزّمان آناً فآنا.

والجواب عنه أنّ تفرّع الإفطار للرؤية على قاعدة الاستصحاب لا ينحصر وجهه في استصحاب بقاء شهر رمضان ، إذ لعلّه من جهة استصحاب الشغل غير المرتفع بعد الثبوت إلّا برافع.

وتوضيح المقام : أنّ يوم الشكّ المسئول عن حكمه في الرواية عامّ لليوم المشكوك من أوّل شهر رمضان وآخره ، وقد بيّن حكمه الإمام عليه‌السلام بتفريع كلّ من وجوب الصوم وجواز الإفطار على قاعدة الاستصحاب. وحينئذ إن كان مبنى التفريع على استصحاب بقاء شهر شعبان ورمضان ، كانت الرواية نصّا في الشمول للشكّ في المقتضي ، لعدم جواز تخصيص المورد. ولكنّه غير متعيّن ، لجواز كون تفريع وجوب الصوم على رؤية هلال شهر رمضان مبنيّا على استصحاب عدم الوجوب ، أو استصحاب عدم انقضاء شهر شعبان ، أو عدم دخول شهر رمضان. وكذا تفريع جواز الإفطار على رؤية هلال شوّال على استصحاب الشغل بصوم شهر رمضان الذي هو غير مرتفع إلّا برافع ، أو عدم انقضاء شهر رمضان ، أو عدم دخول شهر شوّال ، واستصحاب العدل من قبيل الشكّ في الرافع عند المصنّف رحمه‌الله ، كما يظهر منه في غير موضع.

هذا غاية توضيح ما ذكره. وهو بعد لا يخلو من نظر :

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا أوّلا : فإنّ استصحاب الشغل كاستصحاب عدم الوجوب الراجع إلى استصحاب البراءة غير جار عند المصنّف رحمه‌الله ، نظرا إلى حكومة قاعدتي الشغل والبراءة على استصحابهما لكون مجرّد الشكّ في الخروج من عهدة التكليف الثابت يقينا في آن علّة تامّة لحكم العقل بتحصيل اليقين بالبراءة ، فلا يبقى شكّ في الحالة الثانية حتّى ينسحب حكم الحالة الاولى إليها. وكذا مجرّد الشكّ في التكليف علّة تامّة لحكم العقل بعدمه في الظاهر ، من دون حاجة إلى استصحاب البراءة السابقة. وقد صرّح المصنّف رحمه‌الله بهذه الجملة في غير موضع من كلماته.

وأمّا ثانيا : فإنّ استصحاب الشغل مبنيّ على القول بكون التكليف بصوم شهر رمضان تكليفا واحدا وهو خلاف المرضيّ عند المصنّف رحمه‌الله كما أشرنا إليه سابقا ، لأنّ تكليف كلّ يوم تكليف مستقلّ ، والشكّ فيه شكّ في التكليف ، فهو مورد لأصالة البراءة دون الاشتغال.

وأمّا ثالثا : فإنّ استصحاب الشغل في اليوم المردّد بين شهر رمضان وشوّال إن كان مع استصحاب شهر رمضان ، فهو ـ مع كونه تسليما لجريان الاستصحاب مع الشكّ في المقتضي ـ غير جار ، نظير عدم جريان استصحاب الحكم مع استصحاب موضوعه المشكوك فيه ، بل هو من جزئيّاته ، كما سيجيء بيانه عند بيان اشتراط العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب. وإن كان بدونه فهو غير جار ، لعدم العلم ببقاء موضوعه.

وأمّا رابعا : فإنّا نمنع كون استصحاب العدم من قبيل الشكّ في الرافع ، لكون العدم مستندا إلى عدم علّة الوجود ، وغير مستغن عن العلّة في البقاء كما أشرنا إليه سابقا.

١٦٤

المصادر

(١) زبدة الاصول : ص ٧٢.

(٢) مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٧٦.

(٣) معالم الدين : ص ٢٣١.

(٤) القوانين ، ج ٢ ، ص ١٣.

(٥) عدّة الاصول : ص ٣٠٤.

(٦) الفصول الغرويّة : ص ١١.

(٧) القوانين : ص ٣.

(٨) فوائد السيد بحر العلوم ، الفائدة ٣٥ ، ص ١١٦.

(٩) الحبل المتين ، ص ٣٧.

(١٠) مشارق الشموس في شرح الدروس ، ص ١٤٢.

(١١) ذكرى الشيعة : ص ٩٨.

(١٢) تعليقة شرح مختصر الاصول ، ص ٢٨٤.

(١٣) القوانين ، ص ٢٨٣.

(١٤) الفوائد المدنيّة : ص ١٤١.

(١٥) مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٧٦.

(١٦) الفوائد المدنيّة ، ص ١٤٣.

(١٧) شرح مختصر الاصول ، ج ٢ ، ص ٢٨٤.

(١٨) معارج الاصول : ص ٢٠٦.

(١٩) مبادى الاصول إلى علم الاصول ، ص ٢٥٠.

(٢٠) تهذيب الأحكام ، ج ١ ، ص ٨.

(٢١) الكافى ج ٣ ، ص ٣٥٢ ؛ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٨١.

(٢٢) تهذيب الأحكام ، ج ٢ ، ص ٣٤٩.

(٢٣) الخصال ، ص ٦١٩.

(٢٤) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٢.

(٢٥) تهذيب الأحكام ، ج ٤ ، ص ١٥٩.

(٢٦) تهذيب الأحكام ، ج ٢ ، ص ٣٦١.

(٢٧) مستدرك الوسائل ، ج ١ ، ص ١٦٤.

(٢٨) الفصول الغرويّة : ص ٣٦١.

(٢٩) الكافى ، ج ٣ ، ص ١.

(٣٠) الكافى ، ج ٣ ، ص ٣٣.

١٦٥
١٦٦

الأقوال في حجّية الاستصحاب

١٦٧
١٦٨

احتجّ للقول الأوّل (٢١٧٥) بوجوه : منها : أنّه لو لم يكن الاستصحاب حجّة لم يستقم استفادة الأحكام من الأدلّة اللفظيّة (٢١٧٦) ؛ لتوقّفها على أصالة عدم القرينة والمعارض والمخصّص والمقيّد والناسخ وغير ذلك. وفيه : أنّ تلك الاصول قواعد لفظيّة مجمع عليها بين العلماء وجميع أهل اللسان في باب الاستفادة ، مع أنّها اصول عدميّة لا يستلزم القول بها (٢١٧٧) القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، إمّا لكونها

______________________________________________________

٢١٧٥. لا يخفى أنّ أدلّة هذا القول من حيث الدلالة على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ شخصا أو نوعا أو من باب التعبّد مختلفة المؤدّى ، سنشير إلى مقتضى كلّ واحد منها عند شرح ما يتعلّق بكلّ واحد منها. ثمّ سنشير بعد الفراغ من شرح ما يتعلّق بالأدلّة المذكورة إلى المتحصّل منها وما هو المختار في المسألة.

ثمّ إنّ الدليل الأوّل قد ذكره في المنية ، قال : «إنّ أكثر الأحكام الشرعيّة مبنيّة على الاستصحاب ، فيكون حجّة. أمّا الأوّل فإنّ الدليل إنّما يجب العمل به إذا لم يظهر عليه ما يزيل حكمه مطلقا كالناسخ ، أو بعض مدلولاته كالتخصيص للعامّ والتقييد للمطلق ، أو معارضة دليل راجح عليه. ولا وسيلة إلى العلم بانتفاء ذلك الأمر إلّا الاستصحاب. وأمّا الثاني فبيّن» انتهى. ومقتضى هذا الدليل اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النّوعي ، وهو واضح.

٢١٧٦. لا دخل لها في الاستصحاب ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله عند بيان محلّ النزاع.

٢١٧٧. بل لا يستلزم القول بها القول باعتبار الاصول العدميّة مطلقا ، لأنّ

١٦٩

مجمعا عليها بالخصوص ، وإمّا لرجوعها إلى الشكّ في الرافع.

ومنها : ما ذكره المحقّق (٢١٧٨) في المعارج ، وهو : أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ، والعارض لا يصلح رافعا ، فيجب الحكم بثبوته في الآن الثاني ، أمّا أنّ المقتضي ثابت ، فلأنّا نتكلّم على هذا التقدير. وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا ؛ فلأنّ العارض احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ، لكنّ احتمال ذلك معارض باحتمال عدمه (٢١٧٩) ، فيكون كلّ منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن الرافع ، انتهى.

وفيه : أنّ المراد بالمقتضي ؛ إمّا العلّة التامّة للحكم أو للعلم به أعني الدليل ، أو المقتضي بالمعنى الأخص (٢١٨٠). وعلى التقدير الأوّل ، فلا بدّ من أن يراد من ثبوته ثبوته في الزمان الأوّل ، ومن المعلوم عدم اقتضاء ذلك لثبوت المعلول أو المدلول في الزمان الثاني أصلا.

______________________________________________________

غاية ما ذكره اعتبار الاصول العدميّة في مباحث الألفاظ لا مطلقا. ودعوى عدم القول بالفصل في المقام مشكلة أيضا كما لا يخفى.

٢١٧٨. إليه يرجع ما تمسّك به غير واحد من العامّة والخاصّة ، من قولهم : ما ثبت دام. قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «فهو كلام خال عن التحصيل ، وغاية توجيهه ما ذكره المحقّق ، قال : المقتضي للحكم الأوّل ثابت ...». ومقتضى هذا الدليل على تقدير تسليمه اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ شخصا أو نوعا. وأمّا احتمال إرادة اعتباره من باب التعبّد العقلائي فبعيد كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله.

٢١٧٩. لا يخفى أنّ إطلاق التعارض والتدافع هنا من باب المسامحة ، لأنّ المزاحمة إنّما هي بين المحتملين دون الاحتمالين.

٢١٨٠. يعني : بمعنى السبب الناقص. والمراد بالأخصيّة ليس مقابل إطلاق المقتضي بمعنى العلّة التامّة ، لعدم كونه أخصّ منه ، لوضوح تباينهما ، بل مقابل إطلاقه بالمعنى الأعمّ الشامل لهما. وإنّما لم يحتمل المصنّف رحمه‌الله إرادة هذا المعنى أيضا في المقام ، لعدم ترتّب ثمرة عليه ، لعدم خلّوه في الواقع من كونه علّة تامّة أو ناقصة.

١٧٠

وعلى الثاني ، فلا بدّ من أن يراد ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا للحكم. وفيه ـ مع أنّه أخصّ من المدّعى ـ (٢١٨١) : أنّ مجرّد احتمال عدم الرافع لا يثبت العلم ولا الظنّ بثبوت المقتضى بالفتح. والمراد من معارضة احتمال الرافع باحتمال عدمه الموجبة للتساقط : إن كان سقوط الاحتمالين فلا معنى له ، وإن كان سقوط المحتملين عن الاعتبار حتّى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه ، فمعنى ذلك التوقّف عن الحكم بثبوت المقتضى بالفتح ، لا ثبوته.

وربّما يحكى إبدال قوله : «فيجب الحكم بثبوته» بقوله : «فيظنّ ثبوته» ، ويتخيّل أنّ هذا أبعد عن الإيراد ، ومرجعه إلى دليل آخر ذكره العضدي وغيره ، وهو : أنّ ما ثبت في وقت ولم يظنّ عدمه فهو مظنون البقاء. وسيجيء ما فيه.

______________________________________________________

وتوضيح المقام : أنّ المقتضي تارة يطلق بمعنى العلّة التامّة ، واخرى بمعنى السبب الناقص ، وثالثة بالمعنى الأعمّ منهما. وقد عرفت أنّ الواقع في الخارج لا يخلو من أحد الأوّلين. والعلّة التامّة إمّا أن تكون علّة للحكم أو للعلم به. وبعبارة اخرى : إمّا أن تكون علّة للثبوت ، أو للإثبات من دون مدخليّة لها في الثبوت. والأدلّة الشرعيّة من هذا القبيل ، لكونها واسطة في الإثبات دون الثبوت.

والمستدلّ إن أراد بالمقتضي علّة الثبوت أو الإثبات ، فلا بدّ أن يريد بثبوت المقتضي ثبوته في الزمان الأوّل ، لأنّه مع العلم بثبوته في الزمان الثاني يحصل العلم بثبوت الحكم فيه ، فيخرج المورد من موارد الاستصحاب المأخوذ في موضوعه الشكّ في بقاء الحكم الأوّل. وإن أراد به السبب الناقص ، فلا بدّ أن يريد بثبوته ثبوته في الزمان الثاني ، لأنّ القطع بثبوت الحكم في الزمان الأوّل ـ كما هو المعتبر في موارد الاستصحاب ـ لا ينفك عن القطع بثبوت علّته التامّة تفصيلا أو إجمالا.

وأمّا ضعف هذا الدليل فواضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله. ثمّ إنّ طريق العلم بثبوت المقتضي في الأحكام الشرعيّة منحصر في الأدلّة ، وهو واضح.

٢١٨١. لعدم شموله للشكّ في المقتضي.

١٧١

ثمّ إنّ ظاهر هذا الدليل دعوى القطع (٢١٨٢) ببقاء الحالة السابقة واقعا ، ولم يعرف هذه الدعوى من أحد ، واعترف بعدمه في المعارج في أجوبة النافين ، وصرّح بدعوى رجحان البقاء. ويمكن أن يريد به : إثبات البناء (*) على الحالة السابقة ولو مع عدم رجحانه ، وهو في غاية البعد عن عمل العقلاء بالاستصحاب في امورهم. والظاهر أنّ مرجع هذا الدليل إلى أنّه إذا احرز المقتضي وشكّ في المانع ـ بعد تحقّق المقتضي وعدم المانع في السابق ـ بني على عدمه ووجود المقتضي.

ويمكن أن يستفاد من كلامه السابق في قوله : «والذي نختاره» ، أنّ مراده بالمقتضي للحكم دليله ، وأنّ المراد بالعارض احتمال طروّ المخصّص لذلك الدليل ، فمرجعه إلى أنّ الشكّ في تخصيص العامّ أو تقييد المطلق لا عبرة به ، كما يظهر من تمثيله بالنكاح والشكّ في حصول الطلاق ببعض الألفاظ ، فإنّه إذا دلّ الدليل على أنّ عقد النكاح يحدث علاقة الزوجيّة ، وعلم من الدليل دوامها ، ووجد في الشرع

______________________________________________________

٢١٨٢. تظهر هذه الدعوى من قوله : «فيجب الحكم بثبوته». والذي يظهر من كلامه في توجيه هذه العبارة وجوه : أحدها : الحكم بالثبوت على سبيل الظنّ ، كما يظهر ممّا حكاه عن المعارج. وثانيها : الحكم به على سبيل التعبّد العقلائي. وثالثها : الحكم به على سبيل الظنّ النوعي ، كما يظهر ممّا استظهره بقوله : «والظاهر أنّ مرجع هذا الدليل ...». ورابعها : الحكم به بالعموم اللفظي للدليل المثبت للحكم الأوّل ، أو إطلاقه كذلك الشامل للحالة الثانية.

وسيأتي ضعف الأوّل مستوفى. والثاني بعيد في الغاية ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ مدار عمل العقلاء على الظنّ دون التعبّد. والثالث : مع منع حصول الظنّ ولو نوعا أنّه لا دليل على اعتباره في المقام. والرابع غير مستقيم ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير إلى توضيحه.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «البناء» ، البقاء.

١٧٢

ما ثبت كونه رافعا لها ، وشكّ في شيء آخر أنّه رافع مستقلّ أو فرد من ذلك الرافع أم لا ، وجب العمل بدوام الزوجيّة ، عملا بالعموم إلى أن يثبت المخصّص. وهذا حقّ ، وعليه عمل العلماء كافّة.

نعم ، لو شكّ في صدق الرافع على موجود خارجيّ لشبهة ـ كظلمة أو عدم الخبرة ـ ففي العمل بالعموم حينئذ وعدمه ـ كما إذا قيل : «أكرم العلماء إلّا زيدا» فشكّ في إنسان أنّه زيد أو عمرو ـ قولان في باب العامّ المخصّص ، أصحّهما عدم الاعتبار بذلك العامّ.

لكن كلام المحقّق قدس‌سره (٢١٨٣) في الشبهة الحكميّة ، بل مفروض كلام القوم (٢١٨٤) أيضا اعتبار الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام فيها ، دون مطلق الشبهة الشاملة للشبهة الخارجيّة. هذا غاية ما أمكننا من توجيه الدليل المذكور.

لكنّ الذي يظهر بالتأمّل عدم استقامته في نفسه (٢١٨٥) وعدم انطباقه على

______________________________________________________

٢١٨٣. كما يشهد به تمثيله بالنكاح.

٢١٨٤. لأنّ الدليل الشرعيّ هو المثبت لحكم شرعيّ كلّي ، والمثبت للأحكام الجزئيّة في الموضوعات الخارجة المشتبهة إنّما هي الأمارات دون الأدلّة.

٢١٨٥. لأخذ عدم المخصّص والمقيّد والقرينة في ظهور العامّ والمطلق وسائر الظواهر شرطا أو شطرا ، فلا يكون العامّ بنفسه مقتضيا للعموم والشمول من دون ضميمة عدم المخصّص ولو بالأصل. وحينئذ لا يكون الشكّ في المخصّص من قبيل الشكّ في المانع مع إحراز المقتضي ، كما هو ظاهر الدليل.

ولكن يدفعه تصريح المصنّف رحمه‌الله في خاتمة الكتاب ـ عند بيان الفرق بين التخصيص والحكومة ـ من كون تقديم الخاصّ على العامّ من باب ترجيح ظهور الخاصّ على ظهور العامّ ، لأنّ مقتضاه كون تقديمه عليه من باب المزاحمة وقوّة ظهور الخاصّ. ولو كان ظهور العامّ في العموم مقيّدا بعدم وجود المخصّص ، كان ظهوره حاكما على ظهور العامّ لا مزاحما ومدافعا له.

ويحتمل أن يكون وجه عدم الاستقامة عدم استقامة إدراج العمل بالعموم

١٧٣

قوله المتقدّم (٢١٨٦) : «والذي نختاره» ، وإخراجه للمدّعى عن عنوان الاستصحاب ، كما نبّه عليه في المعالم وتبعه غيره ، فتأمّل.

ومنها : أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني ـ وإلّا لم يحتمل البقاء ـ فيثبت بقائه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ؛ لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه بلا مؤثّر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثّر فالراجح بقائه ، فيجب العمل عليه.

وفيه : منع استلزام عدم العلم بالمؤثّر رجحان عدمه المستلزم لرجحان البقاء ، مع أنّ مرجع هذا الوجه إلى ما ذكره العضدي وغيره : من أنّ ما تحقّق وجوده ولم يظنّ عدمه أو لم يعلم عدمه ، فهو مظنون البقاء.

ومحصّل الجواب (٢١٨٧) ـ عن هذا وأمثاله من أدلّتهم الراجعة إلى دعوى حصول ظنّ البقاء ـ : منع كون مجرّد وجود الشيء سابقا مقتضيا لظنّ بقائه ؛ كما يشهد له تتّبع موارد الاستصحاب ، مع أنّه إن اريد اعتبار الاستصحاب من باب

______________________________________________________

عند الشكّ في المخصّص تحت قاعدة إحراز المقتضي والشكّ في المانع ، لأنّ هذه القاعدة إن كانت مبنيّة على استصحاب عدم المانع فالكلام بعد في اعتبار الاستصحاب ، وإن كانت مبنيّة على أمر آخر فلا بدّ من بيانه. وأصالة عدم المخصّص والقرينة قاعدة مجمع عليها لا دخل لها في قاعدة الاستصحاب.

٢١٨٦. لأنّ تمثيله لدليل الحكم في قوله : «والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ...» بعقد النكاح ظاهر في كون مراده بالدليل هو مقتضى الحكم دون دليله ، كما هو مبنى التوجيه المذكور ، كما نبّه عليه في المعالم ، حيث فهم من كلامه كونه مفصّلا في مسألة الاستصحاب ، ولذا حكم بكون ما اختاره أخيرا عدولا عمّا ذكره أوّلا. وما ذكر في التوجيه لا دخل له في مسألة الاستصحاب ، لأنّ حاصله جواز العمل بالظواهر مع الشكّ في القرينة ، ولا ربط له بهذه المسألة كما هو واضح.

٢١٨٧. حاصله : منع الصغرى تارة ، ومنع الكبرى اخرى. وتوضيح المقام :

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّ الأدلّة التي تمسّكوا بها للقول الأوّل من باب إفادة الظنّ ترجع مع زيادة توضيح منيّ إلى أنّ الاستصحاب مفيد للظنّ بالبقاء ، وكلّ ظنّ أو خصوص هذا الظنّ حجّة.

أمّا الكبرى فإثباتها إمّا بدليل الانسداد ، كما هو مذهب العامّة وبعض متأخّري المتأخّرين. أو ببناء العقلاء على اعتباره ـ كما يظهر من بعضهم ـ فيكون من الظنون الخاصّة. وإمّا بالأخبار بناء على تنزيلها على بيان إمضاء حكم العقل ، كما يظهر من شيخنا البهائي والشهيد في الذكرى ، وقد تقدّم كلامهما سابقا. وإمّا بأنّ الأصل في كلّ ظنّ جواز العمل به ، كما حكي عن المحقّق الكاظمي في شرح الوافية.

وأمّا الصغرى فإثباتها إمّا بالوجدان كما ربّما يدّعى ، لأنّا لو خلّينا وأنفسنا وجدنا من أنفسنا الظنّ ببقاء ما كان ، لكونه كائنا في الزمان السابق ، مع قطع النظر عن عروض ما يمنع من إفادته الظنّ بالبقاء ، فهو مفيد للظنّ بالنوع وإن عرض ما يمنعه من ذلك في بعض الموارد. وإمّا بالعقل ، كما قرّره المحقّق رحمه‌الله بما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله آنفا. وإمّا بالغلبة ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله عن السيد الصدر ، وتبعه المحقّق القمّي رحمه‌الله. وحاصلها : أنّ الغالب في كلّ ممكن هو البقاء بحسب استعدادات أفراد نوعه أو جنسه ، والظنّ يلحق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب.

والجواب عن الصغرى من وجوه :

أحدها : قلب الدليل الأوّل على المستدلّ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، لأنّا نرى بالعيان والوجدان أنّ بعض أفراد الاستصحاب مفيد للظنّ دون بعض. ودعوى أنّ عدم الإفادة في بعض الأفراد لبعض العوارض الخارجة ، لا من حيث ملاحظة الاستصحاب من حيث هو ومع قطع النظر عن العوارض ، ليست بأولى من أن يدّعى أنّ الإفادة في بعض الأفراد لبعض العوارض الخارجة من ملاحظة استمرار أفراد نوعه أو صنفه بحسب استعداده بحسب العادة أو غيرها من القرائن الخارجة ،

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّا لو غبنا عن زيد مثلا عشر سنين ، وقطعنا النظر عن الامور الخارجة المنبعث عنها الظنّ بالبقاء ، لما وجدنا من أنفسنا الظنّ ببقائه. وإليه أشار المرتضى رضى الله عنه بقوله : «وقد ثبت في العقول أنّ من شاهد زيدا في الدار ثمّ غاب عنه ، لا يحسن أن يعتقد استمرار كونه في الدار إلّا بدليل متجدّد ، ولا يجوز استصحاب الحال الأولى ، وصار كونه في الدار في الثاني وقد زالت الرؤية بمنزلة كون عمرو فيها مع فقد الرؤية» انتهى. والظنّ المستند إلى القرائن الخارجة لا يفيد اعتبار الاستصحاب ، لأنّه إثبات شيء لكونه ثابتا في الزمان الأوّل ، لا للقرائن الخارجة. والإنصاف أنّ تسليم الدعوى المذكورة ومنعها موقوف على الإنصاف وتخلية النفس ، فإنّ من يدّعي إفادة الاستصحاب للظنّ من حيث هو لا يمكن إلزامه بالدليل.

وثانيها : أنّ الاستصحاب لو كان مفيدا للظنّ لم يجز التمسّك به مع العلم الإجمالي بخلافه ، وقد استقرّت سيرة الأصحاب ـ بل طريقة العقلاء ـ على خلافه ، لأنّهم يرسلون المكاتب والهدايا والودائع إلى البلاد النائية مع علمهم بموت جماعة كلّ يوم من أهلها ، مع احتمال كون المرسل إليه من جملتهم ، فلو كان اعتبار الاستصحاب مبنيّا على إفادة الظنّ لم يجز ذلك ، لأنّ من أرسل كتابا إلى أبيه أو أحد أصدقائه من بلد ناء ، مع علمه بموت أشخاص في بلد أبيه ، واحتمل كون أبيه أو أحد أصدقائه الذي أرسل إليه الكتاب من جملتهم ، فهذا العلم الإجمالي متساوي النسبة إلى جميع أشخاص بلد أبيه. ولو كان إرسال الكتاب مبنيّا على ظنّ بقاء المرسل إليه ، فلا بدّ لهذا الظنّ والترجيح من منشأ ، إذ لا يمكن حصول الظنّ ببقاء الجميع ، لأجل انتقاض مقتضاه بالعلم الإجمالي بموت بعضهم. فإن كان المنشأ هو القدر الجامع بين الجميع ، أعني : العلم بالوجود السابق ، فهو لا يصلح للترجيح بالبديهة ، لتساوي الجميع بالنسبة إليه. وإن كان غيره ، فليبيّن حتّى ينظر فيه.

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يقال : لعلّ ذلك مبنيّ على عدم اعتبار العلم الإجمالي في موارد الاستصحاب ، كما في الشبهة غير المحصورة.

لأنّا نقول : إنّا نتكلّم على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب وصف الظنّ ، وقد عرفت عدم اجتماعه مع العلم الإجمالي ، بخلاف الحالة السابقة. نعم ، لو كان اعتباره من باب التعبّد كان لما ذكر وجه ، ولكنّه خلاف الفرض.

والفرق بين الجوابين : أنّ الأوّل مبنيّ على إنكار إفادته للظنّ مطلقا ولو نوعا ، وهذا على إنكار إفادته للظنّ الشخصي ، فيكون ردّا على من تمسّك لاعتباره بدليل الانسداد.

ولكن يمكن دفعه بأنّ العلم الإجمالي إنّما يقدح في اعتبار الاستصحاب فيما لو اريد إجرائه في امور محصورة علم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع كالإناءين المشتبهين ، لعدم إمكان اجتماع الظنّ ببقائهما على الطهارة مع العلم إجمالا بنجاسة أحدهما في الواقع ، ولم يظهر من القائل باعتباره من باب الظنّ إجرائه في مثل المقام.

وأمّا الشبهات غير المحصورة ، فدعوى عدم اجتماع الظنّ بالبقاء بالاستصحاب فيها مع العلم إجمالا بانتقاض مقتضاه في الجملة ممنوعة. والسرّ فيه أنّ دائرة العلم الإجمالي إذا كانت متّسعة ، وكان ذهن المكلّف مشغولا عن الالتفات إلى اكثر أطرافها ، لسعتها وعدم ابتلائه بأكثرها ، فعند إجرائه في بعضها يحصل الذهول عن الأطراف الأخر. والعلم بانتقاض مقتضاه في الجملة لا يمنع من حصول الظنّ بمقتضاه في مورده. وما تقدّم من إرسال المكاتب والهدايا والودائع من هذا القبيل. هذا إن قلنا باعتباره من باب الظنّ الشخصي. وإن قلنا باعتباره من باب الظنّ النوعي ، فلا إشكال في اجتماعه مع العلم الإجمالي بالخلاف حتّى في الشبهات المحصورة.

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثها : أنّ الاستصحاب لو كان معتبرا من باب الظنّ شخصا أو نوعا لم يكن وجه لتقديم سائر الأدلّة والأمارات الظنّية عليه عند التعارض ، كما استقرّت عليه طريقتهم في الفقه ، لكونه حينئذ من جملة الأدلّة والأمارات الظنّية.

وأمّا ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله في ردّ من اشترط في العمل بالاستصحاب عدم وجود دليل شرعيّ آخر يوجب انتفاء الحكم الثابت أوّلا في الوقت الثاني ، وإلّا تعيّن العمل بذلك الدليل إجماعا ، من أنّ الإجماع على ذلك إن سلّم في أصل البراءة وأصل العدم فهو في الاستصحاب ممنوع. إلّا ترى أنّ جمهور المتأخّرين قالوا : إنّ مال المفقود في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته استصحابا للحال السابق ، مع ما ورد من الأخبار المعتبرة في الفحص أربع سنين ثمّ التقسيم بين الورثة. وعمل عليها جماعة من المحقّقين ، فكيف يدّعى الإجماع على ذلك.

ففيه : ما ستعرفه عند بيان شرائط العمل بالاستصحاب. ويمكن دفعه بأنّ تقديم سائر الأمارات الاجتهاديّة الظنّية على الاستصحاب ، إنّما هو من جهة خصوصيّة فيه مفقودة في غيره ، وهو كون الشكّ في بقاء المتيقّن السابق مأخوذا في موضوعه حتّى عند القائل باعتباره من باب الظنّ أيضا ولو شخصا ، والأمارات الأخر القائمة على خلافه مزيلة لهذا الشكّ ، فتكون مقدّمة عليه من جهة حكومتها عليه ورفعها لموضوعه. وإليه أشار العضدي في تعريفه «بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء» حيث اعتبر في إفادته الظنّ بالبقاء عدم قيام ظنّ آخر على خلافه ، ولم توجد أمارة توجد فيها هذه الخصوصيّة سوى الغلبة ، كما نبّه عليه المصنّف قدس‌سره.

وهذه الأمارات كما أنّها حاكمة على الاستصحاب ورافعة لموضوعه ، كذلك هو بالنسبة إلى الأدلّة الفقاهتيّة كالبراءة وغيرها ، لحكومته عليها ، فله مرتبة وسطى بين الأدلّة الاجتهاديّة والفقاهتيّة نظير المطلقات من الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى سائر الأدلّة والاصول.

١٧٨

الظنّ النوعي ـ يعني لمجرّد كونه لو خلّي وطبعه يفيد الظنّ بالبقاء وإن لم يفده فعلا لمانع ـ ففيه : أنّه لا دليل على اعتباره أصلا.

وإن اريد اعتباره عند حصول الظنّ فعلا منه ، فهو وإن استقام على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا (١) من أصالة حجّية الظنّ ، إلّا أنّ القول باعتبار الاستصحاب

______________________________________________________

وأمّا ما تقدّم عن المحقّق رحمه‌الله فقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله ما يضعّفه. وأمّا ما تقدّم من السيّد الصدر والمحقّق القمّي رحمه‌الله من الغلبة فستعرف الكلام فيه.

وأمّا الجواب عن الكبرى فقد عرفت أنّ إثباتها إمّا بدليل الانسداد ، أو بالأصل ، أو ببناء العقلاء ، أو الأخبار. ولا سبيل إلى الأخير بعد الاستناد في إفادة الاستصحاب للظنّ إلى الغلبة وغيرها ممّا تقدّم ، لأنّه لو تمّ لأثبت اعتباره مطلقا من دون حاجة إلى إحراز صغراه بالوجدان أو الغلبة مثلا.

وأمّا الثالث فإنّه إنّما يتمّ في موارد حصول الظنّ ببقاء الحالة السابقة لا مطلقا ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله. وأمّا الأصل فقد مرّ تضعيفه في المقصد الأوّل عند بيان تأسيس الأصل في العمل بالظنّ.

وأمّا دليل الانسداد كما تمسّك به المحقّق القمّي رحمه‌الله :

ففيه أوّلا : أنّ الظاهر أنّ الأدلّة التي أوردها في المقام ـ ومن جملتها إثبات الصغرى بالغلبة ، والكبرى بدليل الانسداد ـ قد تخيّلها أدلّة على اعتباره عند المشهور بين المتأخّرين ، حيث قال : «الأظهر هو القول بالحجّية مطلقا كما هو ظاهر أكثر المتأخّرين ، لنا وجوه». ثمّ أخذ في بيان الأدلّة. وهو كما ترى ، إذ المشهور عندهم عدم اعتبار مطلق الظنّ ، بل لم يقل به من أصحابنا إلّا هو وبعض من قارب عصره ، سيّما أنّ الظنّ الحاصل من الغلبة موهوم الاعتبار ، والحاصل من الاستصحاب مظنون الاعتبار ، لاعتباره عند المشهور ، فكيف يكون المستند في إفادته للظنّ هي الغلبة؟

١٧٩

بشرط حصول الظنّ الشخصي منه ـ حتّى أنّه في المورد الواحد يختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان وغيرها ـ لم يقل به أحد فيما أعلم ، عدا ما يظهر من شيخنا البهائي قدس‌سره في عبارته المتقدّمة ، وما ذكره قدس‌سره مخالف للإجماع ظاهرا ، لأنّ بناء العلماء في العمل بالاستصحاب في الأحكام الجزئيّة والكلّية والموضوعات خصوصا العدميّات على عدم مراعاة الظنّ الفعلي.

ثمّ إنّ ظاهر كلام العضدي ـ حيث أخذ في إفادته الظنّ بالبقاء عدم الظنّ بالارتفاع ـ أنّ الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة ، وليس في الأمارات ما يكون كذلك. نعم ، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك. وكيف كان ، فقد عرفت منع إفادة مجرّد اليقين بوجود الشيء للظنّ ببقائه. وقد استظهر بعض تبعا لبعض ـ بعد الاعتراف بذلك ـ أنّ المنشأ في حصول الظنّ غلبة البقاء في الامور القارّة.

قال السيّد الشارح للوافية ـ بعد دعوى رجحان البقاء ـ : إنّ الرجحان لا بدّ له من موجب ؛ لأنّ وجود كلّ معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالا ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ؛ لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ أن يستمرّ وجوده بعد التحقّق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاصّ للإلحاق بالأعم الأغلب. هذا إذا لم يكن رجحان الدوام مؤيّدا بعادة أو أمارة ، وإلّا فيقوى بهما. وقس على الوجود حال العدم إذا

______________________________________________________

وثانيا : أنّ دليل الانسداد على تقدير تسليم مقدّماته إنّما يفيد الظنّ بنفس الأحكام الكلّية دون الموضوعات الخارجة ، لانفتاح باب العلم فيها ولو شرعا ، لكون أغلبها معلومة بالأمارات الشرعيّة من اليد والسوق والبيّنة ونحوها ، بل لا تبعد دعوى الإجماع على عدم اعتبار مطلق الظنّ فيها ، والمقصود إثبات اعتبار الاستصحاب مطلقا.

وثالثا : أنّ الظنّ الحاصل من الغلبة ـ سيّما في الموضوعات ـ من الظنون الموهومة الاعتبار. ودليل الانسداد ـ على تقدير تسليم مقدّماته ، كما قرّر في محلّه ـ إنّما يفيد اعتبار الظنون المشكوكة الاعتبار ، دون الموهومة منها.

١٨٠