فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

إلى غير ذلك مما لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لإثبات الموضوعات الخارجيّة التي يترتّب عليها الأحكام الشرعيّة. وكيف كان ، فالمتّبع هو الدليل.

وقد عرفت أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعيّ كما هو ظاهر أكثر القدماء ، فهو كإحدى الأمارات الاجتهاديّة يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابيّ. وأمّا على المختار من اعتباره من باب الأخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب.

نعم هنا شيء (٢٤٧٢) وهو أنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعيّ من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاما لنفس المستصحب ، وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاء باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف. منها : ما إذا استصحب رطوبة (٢٤٧٣) النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ،

______________________________________________________

٢٤٧٢. حاصله : أنّ ما تقدّم من عدم الاعتداد بالاصول المثبتة إنّما هو فيما كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعيّ من الامور العقليّة والعادّية واضحة جليّة ، بحيث يعدّ الأثر الشرعيّ من آثار هذه الواسطة دون المستصحب ، وإلّا ففيما كانت الواسطة خفيّة بحيث يعدّ الأثر من آثار المستصحب بالمسامحة العرفيّة دون الواسطة ، كان الاستصحاب حجّة في إثبات الأثر الشرعيّ.

والوجه فيه : أنّ الوجه في عدم حجّيته على الأوّل هو عدم صدق نقض اليقين بالشكّ مع عدم ترتّب الأثر على ذيه ، لفرض كونه مرتّبا على الواسطة غير الثابتة بالأصل ، بعد فرض عدم كونها بنفسها موردا لتنزيل الشارع حتّى يترتّب عليها أثرها بهذا التنزيل. وهذا الوجه غير جار مع خفاء الواسطة ، وعدّ الأثر من آثار المستصحب بالمسامحة العرفيّة ، لوضوح صدق النقض حينئذ عرفا ، لكونه بمنزلة ما كان الأثر من آثار نفس المستصحب في الواقع.

٢٤٧٣. كما في الثوب النجس المنشور على الأرض الطاهرة.

٤٤١

مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها ، بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة ، ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه بها ، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض المثبت لانغسال الثوب به.

وحكى في الذكرى عن المحقّق تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه. فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض كما يظهر من المحقّق ، حيث عارض استصحاب طهارة الشاكّ في الحدث باستصحاب اشتغال ذمّته (*).

ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشكّ ، المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل وغيرهما. فإنّ مجرّد عدم الهلال (٢٤٧٤) في يوم لا يثبت آخريّته (**) ، ولا أوليّة غده للشهر اللاحق ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلّا ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوليّة غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يسبق بمثله والآخر ما اتّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر.

وكيف كان ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادّي والعقليّ بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب.

______________________________________________________

٢٤٧٤. حاصله : أنّ المستصحب في المقام إمّا هو عدم انقضاء شهر رمضان ، أو عدم دخول هلال شوّال ، ويلزمه كون يوم الشكّ من آخر شهر رمضان آخرا له ، وغده أوّلا لشهر شوّال ، لأجل العلم الإجمالي بأنّ آخر شهر رمضان إمّا هذا اليوم أو اليوم الذي قبله ، إلّا أنّ أهل العرف يزعمون ترتب أحكام أوّل شوّال على

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : بالعبادة.

(**) في بعض النسخ زيادة : حتّى يترتّب عليه أحكام آخريّة رمضان.

٤٤٢

وربّما يتمسّك في بعض (٢٤٧٥) موارد الاصول المثبتة بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك ، مثل إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشكّ في وجوده على محلّ الغسل أو المسح ، لإثبات غسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغسل. وفيه نظر.

______________________________________________________

زمان لم يسبق مثله ، وأحكام آخر شهر رمضان على زمان متّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر ، وبأصالة عدم الانقضاء أو الدخول يصدق أنّ غد هذا اليوم ممّا لم يسبق مثله ، وأنّ هذا اليوم متّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر ، فتأمّل فيه ، فإنّ الأصل على هذا التقدير أيضا لا يخرج من كونه مثبتا.

٢٤٧٥. ظنّي أنّ المتمسّك هو الفاضل الأصبهاني ، قال في محكيّ كلامه بعد كلام له في عدم اعتبار الاصول المثبتة : «وأمّا التعويل على أصالة عدم حدوث الحائل على البشرة في الحكم بوصول الماء إليها في الوضوء والغسل ، وعلى أصالة عدم خروج رطوبة توجد كالوذي بعد البول في إزالة عينه بالصبّ ، مع كون الأصل في المقامين مثبتا لأمر عادي ، فليس لأدلة الاستصحاب ، بل لقضاء السيرة والحرج به. مضافا في الأخير إلى إطلاق الأخبار الدالّة على كفاية الصبّ مطلقا» انتهى.

وأقول : تحقيق المقام : أنّ الشكّ قد يقع في وجود الحائل على البشرة ، واخرى في حيلولة الموجود ، كالخاتم على الإصبع في الوضوء والغسل. وعلى التقديرين : إمّا أن يقع الشكّ في أثناء العمل ، أو بعد الفراغ منه. فالصور أربع.

والمستدلّ بالسيرة إن أراد التمسّك بها مع الشكّ في الوصف ، فإن أراد صورة وقوع الشكّ في أثناء العمل ، ففيه : منع تحقّق السيرة فيها على إعمال أصالة عدم الحيلولة ، بل الظاهر استمرارها حينئذ على الفحص وتحصيل اليقين بوصول الماء إلى البشرة.

وإن أراد صورة الشكّ بعد الفراغ من العمل ، فالسيرة فيها وإن كانت

٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مستمرّة على عدم الاحتياط ، إلّا أنّ ذلك ليس لأجل الأصل المذكور ، بل لقاعدة الشكّ بعد الفراغ المعتبرة عند المشهور ، وإن نوقش في جريانها عند تذكّر صورة العمل كما سيجيء في محلّه ، إلّا أنّه لا يسلّم السيرة أيضا في صورة التذكّر ، وكذا في غيره من الموارد التي وقع الخلاف في جريانها فيها ، كما سيجيء في محلّه.

وممّا ذكرناه يظهر ضعف التمسّك بها في صورة الشكّ في وجود الحائل ، لأنّه إن أراد به صورة وقوع الشكّ في أثناء العمل ، يرد عليه : منع بنائهم فيها على أصالة عدم الحائل مع الشكّ فيه ، بل المعلوم من حالهم الاحتياط والتفتيش فيها. ولو سلّم فلعلّه في موارد حصول العلم العادّي بعدم وجود الحائل ، كما هو الغالب ، وهذا العلم معتبر عندهم.

وإن أراد صورة الشكّ بعد الفراغ ، يرد عليه : ما عرفت من كون ذلك للشكّ بعد الفراغ ، لا لأصالة عدم الحائل. هذا كلّه هو الوجه في تنظّر المصنّف رحمه‌الله في المقام.

ثمّ إنّه مع تسليم تحقّق السيرة في المقام كان اعتبار الاستصحاب في خصوص هذا المورد من باب بناء العقلاء. وتسليم اعتبار الأصل المثبت هنا لا يرد نقضا على القول بعدم اعتباره ، لابتنائه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، وهذا مبنيّ على اعتباره من باب الظنّ النوعي ، وقد تقدّم عدم الإشكال فيه على هذا التقدير.

وأمّا ما تقدّم من التمسّك بإطلاقات الصبّ ، ففيه : أنّ هذه الإطلاقات واردة في مقام حكم آخر لا في مقام بيان الإطلاق ، فلا يجدي التمسّك بها في المقام :

وقد يبقى في المقام شيء لا بدّ أن ينبّه عليه ، وهو أنّه قد قيل : إنّه اشتهر عدم اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى اللوازم ، بل قد عزي ذلك إلى المشهور.

وقال الفاضل التوني في شرائط العمل بأصالة البراءة : «الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعيّ من جهة اخرى ، مثل أن يقال في أحد

٤٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الإنائين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فإنّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ، وعدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ، أو عدم تقدّم الكرّية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة ، فإنّ إعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء» انتهى.

وأقول : إنّه على تقدير تسليم النسبة المذكورة لا بدّ من بيان مرادهم من الكلام المذكور ، فيحتمل أن يكون مرادهم عدم اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى إثبات اللوازم العقليّة والعادّية للمستصحب ، كما تقدّم تحقيق القول فيه.

ويحتمل أن يكون مرادهم عدم جريان الاستصحاب في نفس اللوازم مطلقا وإن كانت شرعيّة ، نظرا إلى أنّه مع إجرائه في اللوازم إمّا أن يراد إجرائه في الملزوم أيضا أم لا.

فعلى الأوّل ، لا معنى لإجرائه في اللوازم. أمّا بالنسبة إلى اللوازم الشرعيّة فلحكومة الأصل في الملزوم عليه في لازمه. وكذا بالنسبة إلى اللوازم العقليّة والعادّية التي تترتّب عليها أحكام شرعيّة إن قلنا باعتبار الاصول المثبتة ، وإلّا فلا وجه للمنع بعد فرض كون اللوازم موردا للأصل ، فلا بدّ أن يراد من المنع غير هذه الصورة.

وعلى الثاني ، الأمر أوضح ، لاشتراط العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، فمع عدم إجرائه في الملزوم لا يتحقّق شرط جريانه في اللوازم ، ومع جريانه فيه لا يبقى مورد لإجرائه في اللوازم على ما عرفت.

ويحتمل أن يكون مرادهم أنّ شيئا إذا كان لازما لملزومين ، وعلم قيامه بأحد ملزوميه ، فإذا شكّ في ارتفاعه بسبب ارتفاع ملزومه الذي قام به ، فباستصحابه لا يحكم بقيامه مع ملزومه الآخر ، كعدم التذكية الملازمة للحياة والموت بحتف الأنف ، فعند الشكّ فيها كما في الجلد أو اللحم المطروح المحتمل كونه مذكّى ، فاستصحاب عدمها لا يثبت قيامه بالموت بحتف الأنف.

٤٤٥

الأمر السابع : لا فرق في المستصحب (٢٤٧٦) بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق رأسا ، وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء ، فإذا شكّ في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق ، فلا يقدح في جريان استصحاب حياته علمنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان

______________________________________________________

قال في الوافية ردّا على المشهور في تمسّكهم في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية : «إنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين : الحياة والموت حتف الأنف ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني ، أعني : الموت حتف الأنف ، فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة. فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف الأنف ، والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهر أنّه غير باق في الزمان الثاني. ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة عن الاستصحاب ، إذ شرطه بقاء الموضوع ، وعدمه هنا معلوم». وقال : «ليس مثل التمسّك بهذا الاستصحاب إلّا مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك ، المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل ، وفساده غنيّ عن البيان» انتهى. ويظهر الكلام في ذلك ممّا علّقناه على التنبيه الأوّل ، فراجع ولاحظ.

٢٤٧٦. لا يخفى أنّ عمدة أقسام هذا الاستصحاب ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وأمّا سائر الأقسام المتصوّرة فيه ، مثل اتّحاد زمان الشكّ والمشكوك فيه ، وتقدّم زمان الشكّ عليه ، وتأخّره عنه. وعلى التقادير : كونه حكميّا ، كما لو شكّ بعد ذهاب ثلث الليل أو في أوّل المغرب أو بعد الفجر في أنّ وقت العشاء إلى ثلث الليل أو إلى نصفه أو إلى الفجر ، وموضوعيّا ، كما لو شكّ قبل الظهر أو في حينه أو بعده في حدوث موت زيد في أوّل الظهر أو تقدّمه عليه. وعلى الثاني : كونه صرفا ، أو مستنبطا. وعلى التقادير : كون المستصحب وجوديّا ، أو عدميّا. وعلى التقادير : أصليّا أو فرعيّا ، إلى غير ذلك ، فلا يؤثّر اختلاف هذه الأقسام في اختلاف

٤٤٦

وعدمه ، وهذا هو الذي يعبّر عنه (٢٤٧٧) بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان ، فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك ، ويلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث ، فإذا شكّ في مبدأ موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ، فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب مستلزمة عقلا لكون مبدأ موته يوم الجمعة.

وحيث تقدّم في الأمر السابق أنّه لا يثبت بالاستصحاب بناء على العمل به من باب الأخبار ، لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ـ لا على مجرّد حياته قبل الجمعة ـ حكم شرعيّ لم يترتّب على ذلك. نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أو كان اللازم العقليّ من اللوازم الخفيّة ، جرى فيه ما تقدّم ذكره آنفا.

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ (٢٤٧٨) بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان كالمثال المتقدّم ، فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ،

______________________________________________________

حكم المسألة ، وهو واضح.

٢٤٧٧. لأنّ هذا الأصل وإن تركّب من عقدي إيجاب وسلب ، وهما : عدم حدوث الحادث إلى زمان العلم بوجوده المطلق ، وتأخّر حدوثه إلى هذا الزمان ، فيما لوحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ، وعدم حدوث أحد الحادثين قبل حدوث الآخر ، وتأخّر حدوث أحدهما عن حدوث الآخر ، فيما لوحظ تأخّر حدوث الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، إلّا أنّ المقصود الأصلي من إعمال هذا الأصل لمّا كان إثبات صفة التأخّر سمّوه بأصالة تأخّر الحادث.

٢٤٧٨. توضيحه : أنّه قد يعلم وجود حادث في زمان معيّن كموت زيد يوم الجمعة ، ويشكّ في مبدأ زمان حدوثه وأنّه يوم الجمعة أو الخميس ، ولكن حصل القطع بأنّه على تقدير حدوثه يوم الخميس فهو مستمرّ إلى يوم الجمعة. وقد يعلم حدوثه في أحد الزمانين وانعدامه بعد حدوثه ، فيساوق حدوثه وجوده ، كمثال

٤٤٧

فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم ، لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ؛ إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه ، إلّا أن يقال : إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل عدم الشيء سابقا وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل ، تحقّق مفهوم الحدوث ، وقد عرفت حال الموضوع الخارجيّ الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل.

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لو كان الحادث ممّا نعلم بارتفاعه بعد حدوثه فلا يترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ؛ لأنّ وجوده مساو لحدوثه. نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان من الزمانين ، كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كرّا قبل الخميس ، فعلم أنّه صار كرّا بعده وارتفع كريّته بعد ذلك ، فنقول : الأصل عدم كريّته في يوم الخميس ولا يثبت بذلك كريّته يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ؛ لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه. نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين حكم بطهارته من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين.

______________________________________________________

الكرّ الذي مثّل به المصنّف رحمه‌الله.

وعلى الأوّل ، إمّا يراد ترتيب آثار الحدوث المطلق ، أعني : الحدوث في أحد الزمانين في الجملة ، أو آثار عدم الحدوث إلى زمان اليقين بوجوده المطلق ، أو آثار الحدوث الخاصّ ، أعني : الحدوث في زمان اليقين.

والأوّل يقينيّ ، فلا مسرح للأصل فيه. والثاني ممّا لا إشكال في ثبوته. والثالث هو محلّ الخلاف في ثبوت صفة التأخّر بالأصل وعدمه. والحقّ ـ وفاقا للمصنّف رحمه‌الله ـ هو الثاني ، لأنّ صفة التأخّر ممّا لا يعقل تقدّمها على زمان اليقين بالوجوب المطلق حتّى يستصحب بقائها ، فلا مسرح له في إثباتها إلّا على التوجيه الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله ، من أنّ حدوث الشيء عبارة عن وجوده المطلق في زمان منضمّا إلى عدمه فيما قبل ذلك ، فإذا ثبت عدمه قبله بالأصل ، وانضمّ ذلك إلى وجوده المطلق في زمان اليقين ، تحقّق مفهوم الحدوث ، كما تقدّم في الأمر السابق من استصحاب حياة المورّث في حال إسلام الوارث ، بناء على كون ذلك سببا للإرث لا موت المورّث عن وارث مسلم.

٤٤٨

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فإمّا أن يجهل تأريخهما أو يعلم تأريخ أحدهما : فإن جهل تأريخهما (٢٤٧٩) فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ؛ لأنّ التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ؛ لعدم مسبوقيّته باليقين. وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن ؛ لأصالة عدم كلّ منهما قبل

______________________________________________________

وعلى الثاني ، إمّا يراد ترتيب آثار الحدوث المطلق المساوق للوجود المطلق في محلّ الفرض ، وإمّا آثار عدم حدوثه إلى الزمان الثاني ، وإمّا آثار الوجود الخاصّ المساوق للحدوث الخاصّ ، أعني : الوجود في خصوص الزمان الثاني.

والأوّل لا مسرح للأصل فيه ، للقطع به بالفرض. وكذا الثالث ، لفرض تساوق الوجود الخاصّ للحدوث الخاصّ الذي لا مسرح للأصل في إثباته ، لتوقّفه على إثبات صفة التأخّر التي لا يثبتها الأصل إلّا على القول بالاصول المثبتة. وأمّا الثاني فلا إشكال في ثبوته بالأصل ، وهو واضح.

٢٤٧٩. لا يخفى أنّه مع الجهل بالتاريخ : إمّا أن يراد استصحاب عدم كلّ منهما إلى زمان العلم بوجوده ، وإمّا استصحاب عدم كلّ منهما في زمان حدوث الآخر. وعلى الأوّل : إمّا أن يراد إثبات مجرّد عدم كل منهما إلى زمان العلم بوجوده ، أو إثبات تقارن وجودهما. وعلى الثاني أيضا : إمّا أن يراد مجرّد إثبات عدم كلّ منهما في زمان حدوث الآخر ، أو إثبات تأخره عنه.

أمّا الأوّل ، فلا إشكال في جريان أصالة عدم كلّ منهما إلى زمان العلم بوجوده ، وترتيب آثار العدم عليه ، إلّا أن يكون أثرهما متضادّين أو متناقضين ، فيحكم بالتساقط حينئذ ، كما إذا علم بحصول الطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما ، فلا يمكن ترتيب أثر عدم كلّ منهما في زمان الشكّ.

٤٤٩

وجود الآخر؟ وجهان : من كون التقارن أمرا وجوديّا لازما لعدم (*) كلّ منهما قبل الآخر ، ومن كونه من اللوازم الخفيّة حتّى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود.

وإن كان أحدهما معلوم التأريخ فلا يحكم على مجهول التأريخ إلّا بأصالة عدم وجوده في تأريخ ذلك ، لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده. نعم ، يثبت ذلك على

______________________________________________________

وأمّا الثاني ، ففيه وجهان كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

فإن قلت : إنّ ما ذكر في وجه ثبوت آثار التقارن بالأصل من خفاء الواسطة ، حتّى يتوهّم أنّ المقارنة عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر ، ضعيف ، لأنّه بعد تعارض أصالة عدم تقدّم هذا وعدم تقدّم ذاك وتساقطهما لا يمكن إثبات آثار التقارن بهما.

قلت : إنّ تساقطهما إنّما هو بالنسبة إلى إثبات آثار خصوص عدم تقدّم كلّ منهما على الآخر ، لا بالنسبة إلى آثار التقارن ، لسلامتهما بالنسبة إليها عن المعارض. نعم ، إنّ الحكم بالتقارن إنّما هو في مقام يتصوّر فيه التقارن ، وإلّا يحكم بتساقطهما ، كما عرفته من مثال الطهارة والحدث.

وأمّا الثالث ، فحكمه ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ هو التساقط ، إلّا أن لا يترتّب على خصوص أحد المستصحبين أثر شرعيّ ، لما تقرّر في محلّه من عدم جريان الأصل فيما لا أثر شرعيّ له ، لأنّ دليله حرمة النقض ، ولا يتحقّق النقض فيما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ.

وأمّا الرابع ، فالأصل فيه غير جار إلّا على القول بالاصول المثبتة. ومع تسليمه فهو معارض بمثله. وهذا إن اريد إثبات صفة التأخّر باستصحاب عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر. وإن اريد استصحاب صفة المتأخّر فهو غير

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : كون.

٤٥٠

القول بالأصل المثبت. فإذا علم تأريخ ملاقاة (٢٤٨٠) الثوب للحوض وجهل تأريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته وعدم كريّته في زمان الملاقاة. وإذا علم تأريخ الكرّية حكم أيضا بأصالة عدم تقدّم الملاقاة في زمان الكرّيّة ، وهكذا.

______________________________________________________

معقول ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

وممّا قرّرناه قد ظهر أنّ صفة التقارن من لوازم أصالة عدم كلّ منهما إلى زمان العلم بوجودهما كما ذكرناه. وإن شئت قلت : إنّها من لوازم أصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله. ومرجعهما إلى أمر واحد. وصفة التأخّر من آثار عدم كلّ منهما في زمان حدوث الآخر على ما عرفت.

٢٤٨٠. تحقيق الحال في هذا المثال ـ أعني : كرّا تدريجي الحصول ، وغسل فيها ثوب ، وشكّ في تقدّم الكريّة أو ملاقاة الثوب ـ أن يقال : إنّ تاريخ كلّ من الكرّية والملاقاة تارة يكون مجهولا ، واخرى يكون تاريخ أحدهما معلوما والآخر مجهولا.

فإن جهل تاريخهما فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز الحكم بتأخّر أحدهما عن الآخر ، لعدم ثبوت وصف التأخّر بالأصل ، مضافا إلى معارضته بالمثل. وأمّا أصالة التأخّر بمعنى : عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر ، فهي أيضا معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط. نعم ، على القول بالاصول المثبتة أمكن إثبات التقارن بأصالة عدم كلّ منهما قبل الآخر ، فتثبت نجاسة الماء. وأمّا على المختار من عدم اعتبارها ، فالثوب المغسول بالماء المفروض لا إشكال في بقائه على النجاسة ، للأصل من دون معارضته بمثله أو حاكم عليه.

وأمّا الماء ، فالحكم بنجاسته وعدمها مبنيّان على كون الكرّية عاصمة ومانعة من الانفعال ، أو القلّة شرطا في الانفعال. فعلى الأوّل يحكم بالنجاسة ، لثبوت المقتضي للانفعال ، وهي الملاقاة ، والشكّ في المانع المدفوع بالأصل حين تحقّق المقتضي ، كما هو مختار جماعة. وعلى الثاني يحكم بالطهارة ، لأصالة عدم شرط

٤٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الانفعال حين وجود المقتضي ، كما اختاره غير واحد.

والحقّ أنّ الكرّية وإن كانت عاصمة ، ومقتضى أصالة عدمها هو الحكم بالنجاسة ، إلّا أنّ الحكم بها هنا مشكل.

أمّا كونها عاصمة لا أن تكون القلّة شرطا كما زعمه بعضهم ، فلأنّ العنوان في الأخبار هي الكرّية دون القلّة ، مثل قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» أو «لم يحمل خبثا».

وأمّا وجه الإشكال ، فلأنّه إن اريد بأصالة عدم الكرّية عدم كرّية هذا الماء الموجود المفروض كونه في الحال كرّا ، فلا ريب أنّ هذا الماء لم يكن في السابق غير كرّ حتّى يستصحب عدمها. وإن اريد بها عدم تحقّق الكرّية في هذا المحلّ حين الملاقاة ، فلا شكّ أنّ أصالة عدم الكرّية المطلقة لا يثبت عدم كرّية الموجود إلّا على القول بالاصول المثبتة ، من باب تطبيق الكلّي على أفراده باستصحاب بقائه. فالأولى هو الحكم بالطهارة لقاعدتها. اللهمّ إلّا أن يختار الشقّ الأوّل ، ويتسامح في موضوع الاستصحاب ، كما في موارد الشكّ في البقاء على الكرّية ، كما إذا أخذ من الكرّ مقدار يشكّ معه في بقائه على الكرّية ، ولكنّه فيما نحن فيه يختصّ بموارد يتسامح فيها عرفا ، فتدبّر.

وإن علم تاريخ الملاقاة دون الكرّية يحكم فيه بنجاسة الماء ، لأصالة عدم تحقّق الكرّية حين الملاقاة ، وكذا بنجاسة الثوب النجس المغسول به ، لاستصحاب نجاسته. ولكنّك قد عرفت حال استصحاب عدم الكرّية ، فالحقّ هنا أيضا الحكم بالطهارة في موارد عدم التسامح في موضوع الاستصحاب.

وإن علم تاريخ الكرّية دون الملاقاة ، فإن قلنا باعتبار الاصول المثبتة يتّجه الحكم بطهارة كلّ من الماء والثوب ، لثبوت تأخّر الملاقاة عن الكرّية بأصالة عدمها حين حدوث الكرّية. وإن لم نقل باعتبارها فالمتّجه هو الحكم بطهارة الماء ، لأصالة

٤٥٢

وربّما يتوهّم جريان (٢٤٨١) الأصل في طرف المعلوم أيضا ، بأن يقال : الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعيّ للآخر. ويندفع : بأنّ نفس وجوده غير مشكوك في زمان ، وأمّا وجوده في زمان الآخر فليس مسبوقا بالعدم.

ثمّ إنّه يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران : أحدهما : جريان هذا الأصل في طرف مجهول التأريخ ، وإثبات تأخّره عن معلوم التأريخ بذلك. وهو ظاهر المشهور (٢٤٨٢) ، وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقّق والعلّامة والشهيدان وغيرهم في بعض الموارد ، منها : مسألة اتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، فإنّهم حكموا بأنّ القول قول مدّعي تأخّر الموت.

نعم ، ربّما يظهر من إطلاقهم التوقّف في بعض المقامات من غير تفصيل بين العلم بتأريخ أحد الحادثين وبين الجهل بهما ، عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم

______________________________________________________

عدم الملاقاة إلى زمان حدوث الكرّية. اللهمّ إلّا أن يقال بجريان الإشكال الوارد على أصالة عدم الكرّية ، كما عرفته في الصورة الاولى هنا أيضا ، فالمتعيّن حينئذ هو التمسّك بقاعدة الطهارة. وأمّا الثوب المغسول فيه فيحكم بنجاسته ، لأصالة بقاء نجاسته.

وقد تحقّق ممّا ذكرناه أنّ الأقرب هو الحكم بطهارة الماء ونجاسة الثوب مطلقا ، سواء جهل تاريخهما أو تاريخ أحدهما ، إلّا في موارد ثبوت التسامح في موضوع أصالة عدم الكرّية ، فيحكم بنجاسة الماء أيضا حينئذ في صورة الجهل بتاريخهما أو تاريخ الكرّية.

٢٤٨١. فيكون صورة العلم بتاريخ أحدهما في حكم صورة الجهل بتاريخهما ، في تعارض الأصل من الجانبين.

٢٤٨٢. عذرهم في ذلك واضح ، لما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في غير موضع من كلامه من كون اعتبار الاستصحاب عندهم من باب الظنّ وبناء العقلاء ، ولذا

٤٥٣

تأريخ الآخر ، كمسألة اشتباه تقدم الطهارة أو الحدث ، ومسألة اشتباه الجمعتين واشتباه موت المتوارثين ومسألة اشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع أو تأخّره عنه ، وغير ذلك. لكنّ الإنصاف : عدم الوثوق بهذا الإطلاق ، بل هو إما محمول على صورة الجهل بتأريخهما ـ وأحالوا صورة العلم (٢٤٨٣) بتأريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر ـ أو على محامل أخر.

وكيف كان ، فحكمهم في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الإسلام وتأخّره مع إطلاقهم في تلك الموارد من قبيل النصّ والظاهر. مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الإطلاق في موارد ، كالشهيدين في الدروس والمسالك في مسألة الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الإذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلّامة الطباطبائي (٢٤٨٤) في مسألة اشتباه السابق من الحدث والطهارة. هذا ، مع أنّه لا يخفى على متتبّع موارد هذه المسائل وشبهها ممّا يرجع في حكمها إلى الاصول : أنّ غفلة بعضهم بل أكثرهم عن مجاري الاصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة.

______________________________________________________

لم يتمسّك أحد منهم فيه بالأخبار إلى زمان والد شيخنا البهائي قدس‌سرهما ، وقد صرّح في التنبيه السابق بأنّ المتّجه على هذا القول هو القول بالاصول المثبتة.

٢٤٨٣. فيه ما لا يخفى من البعد ، لأنّ جعل المقام من قبيل الأظهر والظاهر إنّما يتمّ في كلام متكلّم واحد ، أو متكلّمين فصاعدا في حكم متكلّم واحد ، مع الالتفات حين بيان كلامه المطلق إلى كلامه الآخر المقيّد ، والتزامه في المقام بعيد. فحمل كلماتهم على الاضطراب ـ كما صنعه في آخر كلامه ـ أولى من هذا الجمع.

٢٤٨٤. قال في المنظومة :

فإن يكن يعلم كلّا منهما

مشتبها عليه ما تقدّما

فهو على الأظهر مثل المحدث

إلّا إذا عيّن وقت الحدث

ومن التفصيل بين الجهل بتاريخهما والعلم بتاريخ أحدهما يظهر معنى بيت آخر له قبل البيتين ، وإن كان هو في صورة الإلغاز والتعمية ، وهو قوله :

٤٥٤

الثاني : عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تأريخ أحدهما بصورة جهل تأريخهما. وقد صرّح به بعض المعاصرين تبعا لبعض الأساطين (٢٧) (٢٤٨٥) مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين والطهارة والحدث وموت المتوارثين ، مستدلا على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل.

______________________________________________________

والشكّ في جفاف مجموع الندى

يلغى إذا ما الوقت في الفعل بدا

وقد أوضحنا الكلام فيه فيما علّقناه على شرائط العمل بأصالة البراءة ، فراجع.

٢٤٨٥. المراد ببعض الأساطين هو السيّد السند صاحب مفتاح الكرامة ، قال في ذيل كلام محكيّ عنه في باب الرهن ما لفظه : «نعم ، بقي شيء أشار إليه في الدروس والحواشي ، وتبعه عليه غيره ، وهو أنّ كلام الأصحاب يتمّ ، فيما أطلق الدعويان ، ولم يعيّنا وقتا للبيع أو الرجوع. وأمّا إذا عيّنا وقتا واختلفا في الآخر فلا يتمّ ، لأنّهما إذا اتّفقا على وقوع البيع يوم الجمعة مثلا ، واختلفا في تقدّم الرجوع عليه وعدمه فالأصل التأخّر وعدم التقدّم ، فيكون القول قول الراهن. وينعكس الحكم لو اتّفقا على تعيين وقت الرجوع ، واختلفا في تقدّم البيع عليه وعدمه. وهذه مسألة تأخّر مجهول التاريخ عن معلومه ، وقد حقّقنا الكلام فيها في مقام آخر. ولعلّ إطلاق الأصحاب هنا ، وفي مسألة الجمعتين ، ومسألة من اشتبه موتهم في التقدّم والتأخّر ، ومسألة تيقّن الطهارة والحدث وغيرها ، شاهد على أنّ أصالة التأخّر إنّما تقضي بالتأخّر على الإطلاق ، لا التأخّر عن الآخر ومسبوقيّته به ، إذ وصف السبق حادث والأصل عدمه ، فيرجع ذلك إلى الاصول المثبتة ، وهي منتفية ، فأصالة الرهن هنا حينئذ بحالها ، إلّا أنّ الإنصاف عدم خلوّ ذلك عن البحث والنظر ، خصوصا في المقام» انتهى.

والإنصاف أنّ ظاهر كلامه دعوى عدم إثبات الأصل لوصف التأخّر ، لا أنّه لا يترتّب عليه أثر أصلا ، واستشهاده بإطلاق كلمات العلماء أيضا لذلك. و

٤٥٥

وظاهر استدلاله إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب (٢٤٨٦) أحكام صفة التأخّر وكون المجهول متحقّقا بعد المعلوم (*).

لكنّ ظاهر استشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتأريخ أحدهما أصلا ، فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده ، فيحكم له بإرث أبيه ، وظاهر هذا القائل عدم الحكم بذلك ، وكون حكمه حكم الجهل بتأريخ موت زيد ايضا في عدم التوارث بينهما.

وكيف كان ، فإن أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخّر ذلك الحادث ـ كما هو ظاهر المشهور ـ فإنكاره في محلّه ، وإن أراد عدم جواز التمسّك باستصحاب عدم ذلك الحادث (٢٤٨٧) ووجود ضدّه وترتيب جميع آثاره الشرعيّة في زمان الشكّ ، فلا وجه لإنكاره ؛ إذ لا يعقل الفرق بين مستصحب علم بارتفاعه في زمان وما لم يعلم. وأمّا ما ذكره : من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها ، فقد عرفت ما فيه. فالحاصل : أنّ المعتبر في مورد الشكّ في تأخّر حادث عن آخر استصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر.

______________________________________________________

حاصله : أنّهم قد أطلقوا القول في الموارد المذكورة بعدم إثبات الأصل لوصف التأخّر ، من دون تفصيل بين الجهل بتاريخهما والجهل بتاريخ أحدهما ، فهو شاهد لعدم إثبات الأصل ذلك عندهم حتّى عند العلم بتاريخ أحدهما ، كيف لا وهو قد سلّم إثبات الأصل للتأخّر على الإطلاق. وحاصله : تسليم إثبات الأصل لعدم مجهول التاريخ إلى زمان اليقين بالآخر ، وإن لم يثبت تأخّره عنه ، وهذا بعينه هو التفصيل المختار عند المصنّف رحمه‌الله.

٢٤٨٦. لا منع الجريان رأسا.

٢٤٨٧. كموت الولد في المثال ، وضدّه حياته.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : تحقيق.

٤٥٦

فإن كان زمان حدوثه معلوما فيجري أحكام بقاء المستصحب في زمان الحادث المعلوم لا غيرها ، فإذا علم بتطهّره في الساعة الاولى من النهار وشكّ في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة ، لكن لا يلزم من ذلك ارتفاع الطهارة المتحقّقة في الساعة الاولى ، كما تخيّله بعض الفحول. وإن كان مجهولا كان حكمه (٢٤٨٨) حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالا ، وسيجيء توضيحه.

واعلم : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه ، ويحكم بتقدّمه ؛ لأنّ تأخّره لازم لحدوث حادث آخر قبله والأصل عدمه ، وقد يسمّى ذلك (٢٤٨٩) بالاستصحاب القهقرى. مثاله : أنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشكّ في كونها كذلك قبل ذلك حتّى تحمل خطابات الشارع على ذلك ، فيقال : مقتضى الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك الزمان بل قبله ؛ إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه.

______________________________________________________

٢٤٨٨. يعني : كان حكم الحادثين اللذين علم بحدوثهما وشكّ في المتأخّر منهما حكم أحد حادثين علم إجمالا بحدوث أحدهما ، كما إذا علم إجمالا بحدوث أحدهما ، كما إذا علم بموت أحد ولم يعلم أنّه زيد أو عمرو ، فكما أنّ أصالة عدم موت زيد هنا معارضة بأصالة عدم موت عمرو ، كذلك فيما نحن فيه أصالة عدم أحدهما في زمان الآخر معارضة بمثلها ، فلا يترتّب عليها أثر شرعيّ أصلا.

٢٤٨٩. في لسان الوحيد البهبهاني. وقد يسمّى أيضا بالاستصحاب المعكوس ، وأصالة التقدّم. ولا دليل على اعتبار هذا الأصل بأحد عناوينه الخاصّة ، لكونه في جانب العكس من الاستصحاب ، سيّما بعنوانه الأخير ، لعدم سبق وصف التقدّم في موارد هذا الأصل حتّى يستصحب ، كيف لا والأصل عدم الحادث المشكوك الوجود في السابق.

نعم ، يعتبر هذا الأصل بمعنى آخر ، بأن يراد به الظاهر وتشابه الأزمان فيما يعتبر فيه ذلك ، كما في صورة تعارض العرف واللغة على ما يظهر من محكيّ جماعة ،

٤٥٧

وهذا إنّما يصحّ بناء على الأصل المثبت ، وقد استظهرنا سابقا أنّه متّفق عليه في الاصول اللفظيّة ، ومورده : صورة الشكّ في وحدة المعنى وتعدّده. أمّا إذا علم التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في زماننا ، فمقتضى الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم ؛ ولذا اتّفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة على أنّ الأصل فيها عدم الثبوت.

______________________________________________________

مثل ما لو ثبت للفظ في اللغة معنى وفي العرف العامّ معنى آخر ، وحصل الشكّ في مبدأ النقل وأنّه في زمان الشارع أو بعده ، فأصالة التقدّم بالمعنى المذكور تقتضي حصوله في زمانه ، لغلبة مشابهة زماننا لزمانه. ولكن هذا يتمّ على القول بالظنون المطلقة في مباحث الألفاظ ، وإلّا فمقتضى أصالة العدم عدم حصوله إلى زمان العلم بحصول النقل ، ولذا اتّفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة على أنّ الأصل فيها عدم الثبوت ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه.

نعم ، لا إشكال في اعتباره بمعنى أصالة عدم النقل وتعدّد الوضع فيما لو حصل الشكّ في تعدّد الموضوع له واتّحاده ، فيما إذا ثبت في العرف للفظ معنى وشكّ في كونه كذلك قبل ذلك أيضا ، حتّى يحمل خطابات الشارع عليه ، أو كان قبل ذلك حقيقة في معنى آخر قد نقل عنه إلى ما ثبت في عرفنا. وذلك مثل صيغة الأمر إذا ثبت كونها حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشكّ في كونها كذلك في عرف الشارع بل اللغة أيضا ، فيقال : مقتضى الأصل كون الصيغة حقيقة في هذا المعنى العرفي في زمان الشارع بل اللغة أيضا ، وإلّا لزم تعدّد الوضع له والنقل ، والأصل عدمهما. وهو إن كان مثبتا إلّا أنّه لا بأس به في مباحث الألفاظ ، لكون مبنى اعتباره بناء العقلاء دون الأخبار ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

ومن هذا القبيل أيضا ما لو ثبت في عرفنا للفظ معنى ، وثبت هذا المعنى في اللغة أيضا ، لكن شكّ في الموضوع لهذا المعنى في اللغة وأنّه كان هذا اللفظ ، أو كان الموضوع له لفظا آخر حتّى يكون هذا اللفظ من المستحدثات ، فبأصالة عدم تعدّد

٤٥٨

الأمر الثامن : قد يستصحب صحّة العبادة (٢٤٩٠) عند الشك في طروّ مفسد ، كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة أو وجود ما يشكّ في اعتبار عدمه. وقد اشتهر التمسّك بها بين الأصحاب كالشيخ والحلّي والمحقّق والعلّامة وغيرهم. وتحقيقه وتوضيح مورد جريانه : أنّه لا شكّ ولا ريب في أنّ المراد بالصحّة المستصحبة ليس صحّة مجموع العمل ؛ لأنّ الفرض التمسّك به عند الشكّ في الأثناء.

______________________________________________________

الوضع يثبت أنّ الموضوع للمعنى المذكور في اللغة كان هذا اللفظ دون آخر ، ولا يقدح فيه كونه مثبتا على ما عرفت.

٢٤٩٠. اعلم أنّ الشكّ في صحّة العبادة ينشأ تارة من الشكّ في المانع وجودا أو منعا ، واخرى في القاطع كذلك ، وثالثة في الجزئيّة ، ورابعة في الشرطيّة ، وخامسة في الركنيّة بعد إحراز الجزئيّة. والاصول التي يتمسّك بها في هذه الموارد هي أصالة البراءة ، وعدم المانعيّة والقاطعيّة والجزئيّة والشرطيّة ، وعدم الوجوب والإطلاق ، واستصحاب الصحّة. وقد تقدّم الكلام في الجميع في مبحث أصالة البراءة ، إلّا أنّه أعاد الكلام في الأخير هنا لمناسبة المقام ، وكثرة دورانها بين أجلّة علمائنا الأعلام ، بل فيما بين المشهور منهم.

ثمّ إنّ الشكّ في الصحّة تارة يحصل قبل الشروع في العمل ، واخرى في أثنائه ، وثالثة بعد الفراغ. ولا مسرح للتمسّك بأدلّة الصحّة في الأوّل إلّا تعليقا.

وأمّا الثاني ، فجريانها فيه إنّما هو فيما أتى بما يشكّ في مانعيّته أو قاطعيّته غفلة وذهولا ، أو ترك ما يشكّ في جزئيّته أو شرطيّته كذلك ، ثمّ التفت بعد الدخول في الأجزاء اللاحقة إلى ما أتى به أو تركه ، وإلّا فمع الالتفات ابتداء لو أتى بالأوّل أو ترك الثاني حصل القطع بفساد عمله ، لعدم علمه بكونه مأمورا به. وإذا قلنا بالصحّة في الأوّل يلحق به الثاني أيضا ، لعدم الفاصل بينهما.

والكلام في كلا القسمين إنّما هو فيما كانت الشبهة حكميّة ، وإلّا فمع كونها موضوعيّة ، بأن يشكّ في الإتيان ببعض الموانع أو القواطع أو في ترك بعض

٤٥٩

وأمّا صحّة الأجزاء السابقة فالمراد بها (٢٤٩١) : إمّا موافقتها للأمر المتعلّق

______________________________________________________

الأجزاء أو الشرائط ، فأصالة العدم في هذه الصور حاكمة على أصالة الصحّة.

فما يظهر من المصنّف رحمه‌الله من دخول الشكّ في وجود القاطع في محلّ النزاع ، كما يشير إليه قوله : «فإذا شكّ في شيء من ذلك وجودا أو صفة ...» ، ليس كما ينبغي ، أو مبنيّ على الإغماض عن قضيّة الحكومة.

وأمّا الثالث ، فإن كانت الشبهة فيه حكميّة ، وهي إنّما تفرض فيما لو غفل فأتى أو ترك ما يحتمل قدح فعله أو تركه ولم يلتفت إلّا بعد الفراغ ، فالحكم بالصحّة هنا وسابقيه مبنيّ على جواز العمل بأصالة الصحّة وإن كانت موضوعيّة ، بأن يشكّ بعد الفراغ في الإتيان ببعض الموانع أو ترك بعض الأجزاء والشرائط ، فالمتعيّن فيه الحكم بصحّة العمل لقاعدة الفراغ.

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا ذكرناه عدم اختصاص محلّ النزاع بما كان الشكّ فيه في أثناء العمل كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله ، لما عرفت من تأتّيه فيما حصل الشكّ فيه قبل العمل وبعده ، غاية الأمر أن يكون الاستصحاب على الأوّل تعليقيّا لا تنجيزيّا على ما عرفت. نعم ، على جميع التقادير المتقدّمة يختصّ مورد الاستصحاب بصحّة الأجزاء المتقدّمة ، ولا يمكن استصحاب صحّة مجموع الأجزاء ، لفرض الشكّ في صحّة الأجزاء اللاحقة بعد الإتيان بما يحتمل قدح فعله أو ترك ما يحتمل قدح تركه في صحّة العمل.

٢٤٩١. فإن قلت : إنّ من معاني الصحّة في العبادات إسقاط الإعادة والقضاء ، وإنّما لم يذكره من معانيها هنا.

قلت : إمّا للإجماع على عدم وجوب إعادة الأجزاء وقضائها من حيث أنفسها ، وإمّا لأنّ عدم وجوبها لازم عقلي للصحّة بمعنى موافقة الأمر ، فإذا فرض العلم بتحقّق الصحّة بهذا المعنى حصل العلم بها بالمعنى الأوّل أيضا.

٤٦٠