فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

هذا كلّه على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار. وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم أنّه لا يقدح فيه أيضا وجود الأمارة الغير المعتبرة ، فيكون العبرة فيه عندهم بالظنّ النوعيّ وإن كان الظنّ الشخصيّ على خلافه ؛ ولذا تمسّكوا به في مقامات غير محصورة على الوجه الكلّي ، من غير التفات إلى وجود الأمارات الغير المعتبرة في خصوصيّات الموارد.

واعلم : أنّ الشهيد قدس‌سره في الذكرى ـ بعد ما ذكر مسألة الشكّ في تقدّم الحدث على الطهارة ـ قال : تنبيه : قولنا : " اليقين لا يرفعه الشكّ" ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ؛ لامتناع ذلك ، ضرورة أنّ الشكّ في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر ، بل المعنيّ به : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات ، انتهى. ومراده من الشكّ معناه اللغويّ ، وهو مجرّد الاحتمال المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ (٢٢٦٧) الحاصل من أصالة بقاء ما كان ، فلا يرد ما اورد عليه من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ.

نعم ، يرد على ما ذكرنا (٢٢٦٨) من التوجيه : أنّ الشهيد قدس‌سره في مقام دفع ما

______________________________________________________

اليقين السابق بالظنّ المشكوك الاعتبار إلى رفع اليد عنه بالشكّ ، إنّما تتّجه إن ثبت اعتبار الاستصحاب مطلقا حتّى في مقابل الظنّ المشكوك الاعتبار ، وإلّا فمع الشكّ والتردّد في كون المراد بالشكّ في قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو تساوي الطرفين أو الأعمّ منه ومن الظنّ المشكوك الاعتبار ، فالدعوى المذكورة مصادرة محضة.

٢٥٦٧. يحتمل أن يكون مراد الشهيد بالظنّ هو الظنّ النوعي المجامع للشكّ ، بمعنى ما تساوى فيه الطرفان ، فلا يرد عليه الإيراد المذكور.

٢٥٦٨. لا يذهب عليك عدم ورود هذا الإيراد ، لأنّ الشهيد إنّما دفع توهّم

٥٢١

يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : " اليقين لا يرفعه الشك" ، ولا ريب أنّ الشكّ الذي حكم بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه الاحتمال الموهوم ؛ لأنّه إنّما يصير موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان ، نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب ، فإنّه يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة. وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ـ كما ذكره المدقّق الخوانساري ـ فلا يندفع به توهّم اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل للثاني وإرادة اليقين السابق ، والشكّ اللاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشكّ.

وكيف كان ، فما ذكره المورد ـ من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ مطلقا (٢٥٦٩) ـ في محلّه. فالأولى أن يقال : إنّ قولهم : " اليقين لا يرفعه

______________________________________________________

اجتماع اليقين والشكّ بقوله : «بل المعنيّ به» إلى آخر ما ذكره. وحاصله : منع لزوم اجتماعهما ، لأجل اختلاف زمانهما. وقوله : «فيئول إلى اجتماع الظنّ والشكّ» بيان لحال المورد بعد إجراء الاستصحاب ، وليس من تتمّة دفع توهّم اجتماع اليقين والشكّ ، وحينئذ فالتوجيه في محلّه.

٢٥٦٩. الإطلاق قيد للشك ، لأنّ الظنّ وإن اجتمع مع الشكّ بمعنى الوهم ، إلّا أنّه لا يجتمع مع الشك بمعنى ما تساوى فيه الطرفان.

واعلم أنّه قد بقي في المقام امور قد أهمل المصنّف رحمه‌الله ذكرها ، ولا بأس بأن نشير إلى جملة من الكلام فيها.

الأمر الأوّل : أنّه قد يشتبه الفرق بين استصحاب الاشتغال وقاعدته ، واستصحاب البراءة وقاعدتها ، وقد استوفينا الكلام فيه وفيما يترتّب عليه في بعض الحواشي السابقة ، فليراجع.

الأمر الثاني : أنّه إذا علم بحدوث حادث وشكّ في تعيينه ، كما إذا علم بموت شخص وتردّد بين كونه زيدا وعمرا ، أو علم بوقوع عقد وتردّد بين كونه إجارة وعارية ، ونحو ذلك ، ففي جريان الاستصحاب هنا تفصيل ستقف عليه. و

٥٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ليعلم أنّ المحكيّ عن المشهور عدم جريانه هنا مطلقا.

وربّما يشكل الفرق بينه وبين اختلافهم في تعارض الاصول على أقوال مختلفة ، كالحكم بالتعارض والتساقط ، والجمع بين المتعارضين في مقام العمل ، والتفصيل بتقديم الحاكم منهما إن كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر وإلّا فكالأوّل ، كما ستقف عليه في محلّه ، لاندراج ما نحن فيه في تعارض الاصول لا محالة. ولعلّه لذا لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله هنا للشكّ في الحادث بعنوان مستقلّ ، اقتصارا على ما ذكره في تعارض الاصول.

وربّما يفرّق بين المقامين تارة بأنّ الحكم بالتعارض والتساقط هنا مبنيّ على اعتبار الاصول المثبتة ، والاختلاف في صورة تعارض الاصول مبنيّ على عدمه ، ووقوع التعارض من حيث ترتيب آثارهما الشرعيّة. واخرى بأنّ محلّ الكلام في تعارض الاصول إنّما هو تعارضها بالذات ، كتعارض أصالة بقاء حياة العبد الغائب وبراءة ذمّة المولى ، وهنا في تعارضها بالعرض ، وبواسطة العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين. وثالثة بأنّ موضوع كلامهم هناك وإن كان عامّا لما نحن فيه ، أعني : ما كان التعارض فيه ناشئا من العلم الإجمالي ، إلّا أنّ اختلافهم هناك إنّما هو في بعض أفراد الموضوع ، وهو ما كان التعارض ذاتيّا. والكلّ كما ترى لا شاهد له.

وكيف كان ، فقد يراد بالتمسّك بالأصل هنا تعيين الحادث المجهول ، واخرى ترتيب الآثار الشرعيّة المرتّبة على مورد الأصل في المحتملين مطلقا على القول بالاصول المثبتة ، أو إذا كان بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ، بناء على ما هو الحقّ من عدم الاعتداد بها.

أمّا الأوّل فلا إشكال ـ بل لا خلاف ـ في عدم صحّة تعيين الحادث بالأصل ، إمّا لعدم الحالة السابقة لما يراد تعيين كونه حادثا حتّى تستصحب ، بأن يقال : إنّ الأصل عدم موت زيد فيما لو علم بموت أحد وتردّد بينه وبين عمرو ، وأصالة عدم موت أحدهما معارضة بمثلها. وإمّا لاستلزامه لتعيين الفصل بالأصل ، وهو

٥٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

باطل ، كما اشتهر من عدم صحّة إثبات الفصول بالاصول. والوجه فيه : أنّ قيام الأجناس إنّما هو بالوجود الواقعي لفصولها ، والأصل إنّما يثبت الوجود الظاهري للفصل ، بمعنى ترتيب آثار الواقع في مقام الشكّ. فإذا علم برجحان فعل وتردّد بين كونه واجبا وكونه مستحبّا ، فأصالة البراءة عن وجوبه في مقام الظاهر ، وعدم ترتّب العقاب على تركه عقلا أو شرعا ، لا تثبت كون الفعل في الواقع جائز الترك حتّى على القول بالاصول المثبتة ليحكم بكونه مستحبّا ، نظرا إلى العلم بتحقّق جنسه ـ وهو مطلق الرجحان ـ في الواقع ، وثبوت فصله ـ وهو جواز الترك ـ بالأصل. وكذلك فيما نحن فيه ، لأنّ أصالة عدم موت زيد ـ بمعنى ترتيب آثار الحياة عليه ـ لا تثبت قيام مطلق الموت المعلوم إجمالا بخصوص موت عمرو. مضافا إلى معارضتها بمثلها ، وإلى كونها مثبتة.

ثمّ المراد بعدم جريان الأصل هنا هل هو خروجه من الحجّية وسقوطه عن مرتبة الاعتبار ، أو عدم جواز العمل به لأجل المعارضة والتزاحم وعدم المرجّح لأحدهما؟ وتظهر ثمرة الوجهين في جواز الترجيح بمرجّح خارجي وعدمه ، فيجوز على الثاني ، لفرض بقائهما في أنفسهما على صفة الحجّية ، غاية الأمر أنّ تزاحمهما قد منع من العمل بهما ، فإذا تقوّى أحدهما ببعض المرجّحات ـ كتعاضده بأصل آخر ـ تعيّن العمل به ، وإلّا يحكم بتساقطهما ، بخلافه على الأوّل ، لفرض خروجهما من صفة الحجّية ، وليس وجود مرجّح لأحدهما إلّا كالحجر في جنب الإنسان.

نعم ، جواز الترجيح يختصّ بما لو قلنا باعتبار الاصول من باب الظنّ ، وإلّا فلا أثر لوجود المرجّح على القول باعتبارها من باب التعبّد ، كما سيجيء عند بيان تعارض الاصول من عدم صحّة ترجيح أمر تعبّدي بآخر مثله ولا بأمارة ظنيّة.

هذا ، ويمكن التفصيل فيما كان الشكّ في تعيين الحادث بين الاصول العمليّة واللفظيّة ، فيعمل بالأصلين على الأوّل ، بناء على عدم قدح مخالفة العلم في جريان

٥٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاصول كما يراه بعضهم ، بخلافه على الثاني ، لأنّ اعتبار أصالة الحقيقة إنّما هو من باب الظهور النوعي المعتبر عند العقلاء في مباحث الألفاظ. فمع العلم بمخالفة أحد الظاهرين للواقع ، وإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، خرج كلّ منهما من الظهور في إفادة مراد المتكلّم ولو نوعا ، فتخرج أصالة الحقيقة في كلّ منهما من الحجّية ، لانتفاء مناط اعتبارها. ولذا قد ذكرنا في محلّه عدم الاعتداد بالظواهر في مثل المقام ، من دون فرق بين كون كلّ من طرفي العلم الإجمالي محلّ ابتلاء للمجتهد ، وعدم كون كلّ منهما محلّ ابتلاء له ، وكون أحدهما كذلك دون الآخر. نعم ، يمكن أن يقال بابتلاء المجتهد بجميع المسائل لأجل الإفتاء للمقلّدين ، وإن لم يكن كذلك لأجل عمل نفسه.

فإذا عرفت هذا فاعلم أنّا إن قلنا باعتبار الاصول المثبتة فلا وجه للتمسّك بها في المقام ، لما عرفت من معارضتها بمثلها. وإن لم نقل بذلك ـ كما هو الحقّ ـ فلا مانع من العمل بكلّ من الأصلين في مورده إن لم يستلزم مخالفة عمليّة ، كما إذا علم بنجاسة ثوبه أو موت موكّله ، فيحكم بطهارة الثوب وحياة الموكّل عملا بالأصلين ، وإلّا يحكم بالتساقط.

وتوضيحه : أنّ موارد العلم الإجمالي ممّا كان الشكّ فيه في الحادث يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن لا يتولّد من العلم الإجمالي بوقوع الحادث خطاب تفصيلي يلزم من طرحه طرحه ، مع ترتّب أثر شرعيّ على مقتضى الأصلين من دون توسّط أمر عقلي أو عادي ، كمثال الثوب والموكّل ، فيعمل فيه بكلّ من الأصلين ، إذ لا يلزم عليه سوى المخالفة الالتزاميّة للعلم الإجمالي ، وهي غير قادحة فيه ، كما قرّر في محلّه.

وثانيها : كسابقه إلّا أنّه يفرض ترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما إذا علم بكون الحادث نجاسة ثوبه أو ثوب شخص آخر لا يبتلى هو به عادة ، وحينئذ

٥٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يعمل بالأصل في محلّ الابتلاء دون غيره ، كما قرّر في الشبهة المحصورة ، وثالثها : أن يتولّد من العلم الإجمالي خطاب تفصيلي كما في الشبهة المحصورة ، وحينئذ لا يجوز العمل بهما تعيينا ولا بأحدهما تخييرا ، كما قرّر في تلك المسألة.

هذا كلّه إذا كانت الشبهة موضوعيّة. وإن كانت حكميّة فالظاهر جريان الوجوه المذكورة فيها أيضا. فما لا يجوز العمل فيه بالأصلين منها ما لو دار الأمر فيه بين المتباينين ، كاشتباه الظهر بالجمعة ، واستوفينا الكلام فيه في مسألة البراءة. وما يجوز العمل فيه بهما مثل ما لو تعلّق حكم بعنوان المولى وتردّد بين العبد ومولاه ، إذ يجوز لكلّ منهما مع فرض اجتهادهما العمل بأصالة البراءة ، نظير واجدي المنيّ في الثوب المشترك. نعم ، جواز الإفتاء لمجتهد آخر مع فرض عدم اجتهادهما بعدم شيء عليهما عملا بالأصلين مبنيّ على جواز المخالفة الالتزاميّة وعدمه. وأمّا ما يجوز فيه العمل بأحد الأصلين خاصّة ، فمثل ما لو علم إجمالا بوجوب شيء عليه من مسائل الطهارة مثلا مع ابتلائه به ، أو شيء آخر من مسائل الحجّ على تقدير استطاعته وابتلائه به ، لجريان أصالة البراءة في محلّ الابتلاء من دون معارضتها بشيء أصلا.

الأمر الثالث : أنّ من أقسام الاستصحاب ما يسمّى عرضيّا. والمراد به أن يعلم تعلّق حكم بموضوع بسبب أمر عرضي ، ثمّ ارتفع هذا الأمر العرضي فشكّ في بقاء الحكم. وهذا تعريفه إجمالا. وأمّا معرفة حقيقته تفصيلا فهو عبارة عن أن يعلم بثبوت حكم في موضوع ، وكانت لهذا الحكم جهتان ، سواء كانتا خارجتين من حقيقة الموضوع ، أو كانت إحداهما داخلة والاخرى خارجة ، وكان هذا الحكم من إحدى الجهتين معلوم التحقّق ومن الاخرى مشكوك التحقّق ، سواء كان ما هو معلوم الحال من إحدى الجهتين هو الذاتي أو الخارجي ، فشكّ في بقاء ما ثبت سابقا بعد القطع بارتفاعه من الجهة التي علم تحقّقه من هذه الجهة ، كالحيوان المتولّد من الغنم والكلب ، مع عدم اندراجه تحت أحد الاسمين ، مع تلطّخه بالدم حين

٥٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تولّده ، ثمّ غسل بالماء الجاري بحيث يقطع بزوال النجاسة المتعارضة بالدم ، فتستصحب النجاسة حينئذ ، وكذا الحرمة بعد التذكية الشرعيّة.

والمشهور عدم حجّية هذا الاستصحاب. واحتجّ له بأنّ المستصحب إن كان هي النجاسة العارضة فقد زالت بالفرض ، وإن كانت النجاسة الذاتيّة فهي مشكوكة الثبوت سابقا.

وأقول : هذا الوجه متّجه إن كانت الجهة المعلوم حالها تقييديّة لا تعليليّة. وتوضيحه : أنّ الجهة التي تعلّق الحكم بسببها بموضوع قد تكون تقييديّة ، بمعنى كون الجهة التي يعرض الحكم لموضوع بسببها هي الموضوع أو جزءا منه في الواقع ، مثل قولك : أكرم زيدا عالما أو هاشميّا ، لأنّ الموضوع هو زيد العالم أو الهاشمي بوصف كونه عالما أو هاشميّا. وقد تكون تعليليّة ، بمعنى كون هذه الجهة علّة لعروض الحكم لموضوعه ، بأن كان موضوع وجوب الإكرام في المثال هو ذات زيد من حيث هي ، وكان العلم أو كونه هاشميّا علّة لعروض الحكم. وعدم جريان الاستصحاب في المثال إنّما هو بناء على كونه من قبيل الأوّل ، وإلّا فلو فرض كون الجهة من قبيل الثاني فلا مانع من التمسّك به حينئذ في الجملة. وذلك لأنّ الجهة التعليليّة قد يعلم بكونها علّة موجدة ومبقية ، كما إذا علم كون التغيّر محدثا للنجاسة ومبقيا لها أيضا. وقد يعلم كونها موجدة ، ويشكّ في كونها مبقية ، كمثال التغيّر إذا فرض كونه كذلك. وقد يعلم بكونها موجدة وبعدم كونها مبقية.

أمّا الأوّل فلا مسرح للأصل فيه ، للعلم ببقاء الحكم فيه بعد زوال العلّة.

وأمّا الثاني ، فلا مانع من التمسّك به فيه ، لفرض تحقّق موضوعه فيه ، وهو اليقين السابق والشكّ اللاحق. ومن هنا حكي عن العامّة ـ بل وعن غيرهم أيضا ـ الحكم بنجاسة الخنزير الواقع في المملحة فصار ملحا ، تمسّكا بالأصل.

وأمّا الثالث ، فالظاهر عدم جريان استصحاب النجاسة فيه ، إمّا لعدم العلم بعلّة البقاء فيه ، والأصل عدمها ، فيرتّب عليه عدم معلولها. وهذا إنّما يتمّ إذا كان

٥٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المعلول من الامور الشرعيّة ، وإن كان من الامور العقليّة أو العادّية فهو إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة. وإمّا لأنّ الوجود الأوّل كان متحقّق الثبوت بسبب تحقّق علّته ، وأمّا الوجود الثاني فهو مشكوك التحقّق ، والأصل عدمه.

الأمر الرابع : أنّ في اختصاص قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ ، بل تنقضه بيقين آخر مثله» ـ من حيث عدم ذكر متعلّق اليقين والشكّ في الفقرتين ـ بالأحكام الواقعيّة وموضوعاتها ، أو كونه أعمّ منهما ومن الأحكام الظاهريّة وموضوعاتها ، وجهان أقواهما الثاني ، لعموم اللفظ. وتظهر ثمرة الوجهين في أمرين :

أحدهما : جواز استصحاب الأحكام الظاهريّة وموضوعاتها وعدمه ، كاستصحاب الأحكام التي استنبطها المجتهد عند عروض ما يشكّ معه في جواز العمل بها ، وكذا استصحاب العدالة الثابتة بالبيّنة عند الشكّ في زوالها.

وثانيهما : جواز نقض اليقين السابق باليقين الشرعيّ وعدمه ، كما إذا علمت عدالة زيد في السابق بالوجدان أو البيّنة ، ثمّ قامت بيّنة اخرى في الزمان الثاني على عروض الفسق له.

وما يظهر من المحكيّ عن بعضهم من التأمّل في شمول الرواية للأحكام الظاهريّة وموضوعاتها لا وجه له بعد عمومها أو إطلاقها. نعم ، كثيرا ما يمنع جريان الاستصحاب في الأحكام الظاهريّة ، لكن لا لأجل منع عمومها ، بل لأجل الشبهة في بقاء الموضوع الذي هو شرط جريانه ، كما في جواز العمل بالاجتهاد السابق عند عروض الشكّ في زوال قوّة الاستنباط عنه ، وعدم وجوب تجديد النظر في الاجتهاد السابق إذا غاب تفاصيل الأدلّة عن نظره ، وجواز البقاء على تقليد من قلّده ثمّ وجد أعلم منه ، إلى غير ذلك ، لأنّ عدم جريان الاستصحاب في هذه المسائل إنّما هو لاحتمال تقيّد جواز العمل في الأولى بعدم الشكّ في اجتهاده ثانيا ، وتقيّد عدم وجوب تجديد النظر في الثانية بعدم غيبة تفاصيل الأدلّة عن النظر ، وتقيّد جواز البقاء في الثالثة بعدم وجود أعلم من الأوّل ، ومع ارتفاع هذه القيود

٥٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المحتملة لا يبقى العلم ببقاء الموضوع الذي هو شرط جريان الاستصحاب.

بل التحقيق أنّ مرجع الشكّ في جميع الأحكام الظاهريّة ـ سوى الشكّ من جهة احتمال طروّ الناسخ ـ إلى الشكّ في بقاء الموضوع ، فيرجع الشكّ فيها دائما إلى الشكّ في المقتضي دون المانع. نعم ، إنّ العرف قد يتسامح في أمر الموضوع كما سيجيء ، فحيثما ثبت ذلك وإلّا يمنع فيه جريان الاستصحاب. وأمّا الموضوعات الظاهريّة الثابتة بالأمارات الشرعيّة كالبيّنة واليد والسوق ونحوها ، فالعلم فيها غالبا حاصل ببقاء الموضوع كما لا يخفى.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت من جواز نقض اليقين السابق بالأدلّة الشرعيّة ، فهل هو من باب تخصيص عموم «لا تنقض اليقين بالشكّ» بها ، أو من باب الورود ، أو الحكومة؟ فقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى ذلك في أوّل مسألة البراءة. وسنشير إليه أيضا عند بيان شرائط العمل بالاستصحاب.

ونقول هنا توضيحا : إنّ الذي يظهر من صاحب الرياض ومحكيّ الشهيد الثاني في المسالك وروض الجنان هو الأوّل ، كما يشير إليه قولهما في موارد كثيرة : الأصل يخصّص بالدليل. وكلمات آخرين مجملة من هذه الجهة ، لأنّ المعلوم من جهتهم أنّهم قدّموا الأدلّة على الاصول ، وأمّا كون ذلك عندهم من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة فغير معلوم ، ولعلّهم لم يلتفتوا إلى جهة الفرق بين هذه العناوين ، وإنّما بحث عنها أواخر المتأخّرين.

وربّما يظهر من بعضهم بناء المسألة على أنّ المراد بالشكّ في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك ، بل تنقضه بيقين آخر» إن كان هو الشكّ في الحكم الواقعي أو موضوعه ، كان نقض اليقين السابق بالدليل الشرعيّ من باب التخصيص ، لعدم ارتفاع الشكّ حقيقة بالدليل الشرعيّ ، كالبيّنة القائمة على الطهارة في مقابل النجاسة المستصحبة. وإن كان أعمّ من الشكّ في الحكم الواقعي والظاهري ، كان نقضه به من باب الورود لا التخصيص ، لأنّه مع اليقين بالحكم

٥٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الظاهري يرتفع الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب حقيقة ، فيكون الدليل الشرعيّ واردا عليه.

ويرد عليه أوّلا : أنّه على الشقّ الأوّل من الترديد وإن لم يرفع الدليل الشرعيّ الشكّ حقيقة ، إلّا أنّه يرفعه شرعا ، فيكون حاكما على عموم «لا تنقض اليقين بالشكّ».

وثانيا : على الشقّ الثاني ـ أعني : كون متعلّق اليقين والشكّ أعمّ من الحكم الواقعي والظاهري ـ هو اتّحاد متعلّق اليقينين ، والشكّ في الفقرتين. وبتقرير آخر : أنّ ظاهر الرواية على تقدير عمومها اعتبار تعلّق الشكّ بعين ما تعلّق به اليقين ، وكذا تعلّق اليقين الناقض بنقض عين ما تعلّق به اليقين الأوّل. فاليقين الأوّل إن تعلّق بالحكم الواقعي ، فلا بدّ أن يتعلّق الشكّ واليقين الثاني به أيضا ، وإن تعلّق بالحكم الظاهري فكذلك الشكّ واليقين الثاني. فإذا علمنا بالطهارة واقعا ثمّ شككنا في زوالها ، ثمّ قامت البيّنة على عروض النجاسة ، فالرواية لا تدلّ على جواز نقض اليقين الأوّل بمثل هذا اليقين ، إلّا من حيث تنزيل الشارع هذا اليقين بمنزلة اليقين الوجداني ، فيكون نقضه به من باب حكومة دليله على قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ».

وقد تحقّق من جميع ما ذكرناه في المقام امور :

أحدها : تقدّم الأدلّة الظاهريّة على الاستصحاب ، ولا خلاف فيه.

وثانيها : أنّ المراد باليقينين والشكّ أمر واحد ، سواء كان هذا الأمر الواحد حكما واقعيّا أم ظاهريّا أم موضوعا لأحدهما.

وثالثها : كون الدليل المحصّل لليقين واردا عليه.

ولا إشكال في الأخيرين ، بل الأوّل أيضا ، إلّا في وجه تقديم الأدلّة الظاهريّة على الاستصحاب ، وأنّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة. والحقّ أنّ الموارد مختلفة ، وعلى حسبها يختلف وجه تقديمها عليه.

٥٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فنقول : إنّ الدليل إن كان رافعا للشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، فتقديمه عليه من باب الورود ، كخبر الواحد بالنسبة إلى استصحاب البراءة ، بناء على أنّ المأخوذ في موضوعه الشكّ في التكليف ، سواء كان واقعيّا أم ظاهريّا. ومن هنا تمكن دعوى ورود قاعدة الاشتغال عليه أيضا فضلا عن خبر الواحد.

وإن كان الحكم الثابت بالدليل المخالف للاستصحاب مأخوذا في موضوعه الشكّ أيضا ، بأن كان الحكمان المتخالفان الثابتان بالأصل والدليل متّحدين في الموضوع من حيث ترتّب كلّ منهما على عنوان الشكّ ، فيقع التعارض بينهما ، ويحكم بمقتضى تعارضهما. فإن كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا ، يخصّص العامّ بالخاصّ منهما. وإن كانت عموما من وجه ، يحكم بالإجمال في مادّة الاجتماع ، والرجوع إلى سائر الاصول إن لم نقل باعتبار المرجّحات السنديّة في المتعارضين كذلك ، وإلّا فالحكم بالإجمال إنّما هو بعد فقد المرجّحات السنديّة.

ومن جملة أمثلة المقام حكم الشارع بالبناء على الأكثر عند الشكّ في عدد ركعات الصلاة ، بقوله عليه‌السلام : «ألا أجمع لك السهو في كلمتين ، كلّما سهوت فابن علي الأكثر». والمراد بالسهو هو الشكّ ، فإذا شكّ بين الثلاث والأربع فمقتضى الرواية هو البناء على الأكثر ، ومقتضى الاستصحاب هو البناء على الأقلّ ، وليس رفع اليد عن أحدهما بأولى من رفع اليد عن الآخر ، لكون كلّ منهما حكما في مورد الشكّ. نعم ، إنّ الرواية لمّا كانت أخصّ من عمومات الاستصحاب فتخصّص بها.

وإن لم يكن الدليل المخالف مزيلا للشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، ولم يكن الشكّ أيضا مأخوذا في موضوع الحكم المستفاد منه ، وهو الأغلب في مخالفة الكتاب والسنة للاستصحاب ، فتقديمه عليه من باب الحكومة ، لأنّا وإن أسلفنا دعوى ظهور قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ ، ولكن تنقضه بيقين آخر مثله» في اتّحاد متعلّق اليقينين والشكّ ، ومقتضاه أن تكون صورة حصول اليقين الوجداني بحكم واقعي ، ثمّ قيام دليل شرعيّ على ارتفاع هذا الحكم ، خارجا من

٥٣١

الشكّ" لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ، إلّا من حيث الحكم في تلك القضيّة بعدم الرفع. ولا ريب أنّ هذا ليس إخبارا عن الواقع ؛ لأنّه كذب ، وليس حكما شرعيّا بإبقاء نفس اليقين أيضا ؛ لأنّه غير معقول ، وإنّما هو حكم شرعيّ بعدم رفع آثار اليقين السابق بالشكّ اللاحق ، سواء كان احتمالا مساويا أو مرجوحا.

______________________________________________________

مدلول الرواية ، إلّا أنّا قد أسلفنا اندراج هذه الصورة في مدلولها بحكم الشرع ومن باب الحكومة ، فإن كان اليقين السابق شرعيّا كان الدليل الشرعيّ المخالف واردا على استصحابه ، وإن كان وجدانيّا كان الدليل المخالف حاكما على استصحابه.

وعلى قياس ما ذكرناه الكلام في الموضوعات ، مثل العدالة والفسق ونحوهما. والله الهادي إلى الصواب.

٥٣٢

المصادر

(١) القوانين ج ٢ : ص ٦٩ ـ ٧٣.

(٢) الوافية : ص ٢١٠.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) الأنعام : ١٢١.

(٥) الأنعام ١١٨.

(٦) الوسائل ج ٣ : ص ٢٥٠ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ١.

(٧) الأنعام : ١٤٥.

(٨) مناهج الأحكام : ص ٢٣٧.

(٩) مناهج الأحكام : ص ٢٣٨.

(١٠) الفصول الغرويّة : ص ٣٦٦.

(١١) المناهل : ص ٦٥٢ (كتاب الأطعمة والأشربة).

(١٢) الفصول الغرويّة ص : ٣١٥.

(١٣) الفصول الغرويّة ص : ٣١٥.

(١٤) القوانين ج ١ : ص ٤٩٥.

(١٥) القوانين ج ١ : ص ٤٩٥.

(١٦) تمهيد القواعد : ص ٢٣٩ ـ ٢٤١.

(١٧) البيّنة : ٥.

(١٨) يوسف : ٧٢.

(١٩) آل عمران : ٣٩.

(٢٠) المائدة : ٤٥.

(٢١) القصص : ٢٧.

(٢٢) الفصول الغرويّة : ص ٣٧٨.

(٢٣) الشرائع ج ٤ : ص ١٢٠.

(٢٤) التحرير ج ١ : ص ٦.

(٢٥) التحرير ج ٢ : ص ٢٦١.

(٢٦) مسالك الأفهام ج ٢ : ص ٣٨٥.

(٢٧) كشف الغطاء : ص ١٠٢.

(٢٨) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣٣.

(٢٩) القوانين ج ٢ ، ص ٧٠.

(٣٠) القوانين ج ٢ ، ص ٧٣.

(٣١) الفصول الغرويّة : ص ٢١٣.

(٣٢) المعتبر : ص ٣٩.

٥٣٣
٥٣٤

خاتمة في شرائط

العمل بالاستصحاب

٥٣٥
٥٣٦

خاتمة :

ذكر بعضهم للعمل بالاستصحاب شروطا ، كبقاء الموضوع وعدم المعارض ووجوب الفحص. والتحقيق رجوع الكلّ (٢٥٧٠) إلى شروط جريان الاستصحاب.

______________________________________________________

٢٥٧٠. أمّا اشتراط بقاء الموضوع فواضح. وأمّا اشتراط عدم المعارض ، فإنّ المعارض إن كان حاكما عليه فواضح أيضا. وإن كان في مرتبته بأن كان الشكّ في المتعارضين مسبّبا عن ثالث ، فهو مبنيّ على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله من خروج موارد العلم الإجمالي الذي لا تجوز مخالفته من عموم دليل المتعارضين. وأمّا اشتراط الفحص فهو أيضا مبنيّ على كون الموجب له هو العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات للواقع ، لا مثل الإجماع كما ستعرفه.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله قد استوفي الكلام في الأوّلين ، ولم يتعرّض من الثالث إلّا لجهة الإشكال في عدم إيجابهم للفحص في الشبهات الموضوعيّة ، كما سيجيء في آخر كلامه ، فنقول تتميما للمقام ، وتوضيحا لوجوب الفحص في الشبهات الحكميّة وعدمه في الشبهات الموضوعيّة : إنّ المستصحب إمّا أن يكون من الأحكام الكلّية أو الموضوعات.

والأوّل على أقسام : أحدها : أن يكون من قبيل نفس الأحكام الكلّية. وثانيها : أن يكون من قبيل الموضوعات المستنبطة التي تترتّب عليها أحكام كلّية. وثالثها : أن يكون من قبيل الموضوعات الصرفة التي تتعلّق بها أحكام كلّية ، كالظنون

٥٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الرجاليّة ، مثل قولهم : فلان ثقة أو ضعيف أو نحو ذلك ، لاختلاف الأحكام بذلك أيضا.

والثاني على قسمين : أحدهما : أن يكون المستصحب نفس الحكم الجزئي ، مثل طهارة هذا الثوب ونجاسة ذاك ، ووجوب هذا الفعل وحرمة ذاك ، أو نحو ذلك. وثانيهما : أن يكون المستصحب نفس الموضوع ، كحياة زيد وممات عمرو ، ورطوبة هذا الشيء ويبوسة ذاك.

وعلى التقادير : إمّا أن يكون الاستصحاب موافقا للبراءة أو لا ، كما إذا كان مثبتا لحكم إلزاميّ.

وربّما يتوهّم عدم الحاجة إلى الفحص في الموافق للاحتياط ، نظرا إلى كون الاحتياط محرزا للواقع. وفيه : أنّ مقتضى الاستصحاب هو الحكم بوجوب الفعل أو حرمته ولو في الظاهر ، والحكم بذلك موقوف على عدم الدليل المثبت للإباحة ، وهو لا يتمّ من دون فحص ، وإلّا كان الحكم بأحدهما تشريعا محرّما. ومجرّد الموافقة للواقع في مقام العمل على تقدير ثبوت الحكم في الواقع ـ كما هو مقتضى الاحتياط ـ لا يجدي في دفع حرمة نسبة الحكم إلى الشارع ولو في الظاهر.

وكيف كان ، فالحقّ فيما كان المستصحب من الأحكام الكلّية على أقسامها الثلاثة هو وجوب الفحص لوجوه :

أحدها : الإجماع المحقّق.

الثاني : حصول العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات للأدلّة الشرعيّة ، وهو مانع من جريان الاستصحاب أو من اعتباره ، على اختلاف المسلكين فيه للمصنّف رحمه‌الله ، ولا يعرف تفصيلها إلّا بالفحص فالبناء على فساد العقود مثلا لا يجامع علمنا بصحّة بعضها أو أكثرها شرعا.

٥٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثالث : أنّه مقتضى أدلّة الاستصحاب ، لأنّ الأدلّة الدالّة على اعتبار الكتاب والسنّة قد أثبتت وجوب الرجوع إليهما ، والفحص عن مقتضاهما في كلّ واقعة يبتلي بها المكلّف ، والخروج من عهدة هذا التكليف لا يحصل إلّا بعد الفحص عن الكتاب والسنّة وغيرهما من الأدلّة في موارد العمل بالاصول ، لأصالة بقاء التكليف قبل الفحص عنها. ومرجع هذا الدليل إلى أنّ التكليف إنّما هو بالعمل بمقتضى ما يستفاد من مجموع الأدلّة من الاصول اللفظيّة والعمليّة وغيرها ، فالعمل بالاصول من دون فحص عن سائر الأدلّة ترجيح بلا مرجّح ، وعمل بما لا يعلم معه الخروج من العهدة.

ثمّ إنّ ما يتفرّع على المقام على تقدير العجز عن الفحص ، من وجوب التقليد أو الاحتياط أو نحو ذلك ، يستفاد ممّا قرّرناه في أواخر مسألة البراءة ، فراجع. وما كان من قبيل الموضوعات على قسميها فظاهر الأصحاب بل المدّعى عليه الإجماع هو عدم وجوب الفحص فيه ، فيبقى إطلاق أدلّة الاستصحاب شاهدا له ، لعدم جريان الأدلّة المتقدّمة على وجوب الفحص هنا. أمّا الإجماع فلعدم ثبوته هنا كما ستعرفه ، كيف لا وقد عرفت دعوى بعضهم الإجماع على خلافه. وأمّا العلم الإجمالي فهو غير معتبر فيما كانت أطراف الشبهة فيه غير محصورة كما في المقام.

نعم ، لو كانت محصورة وجب فيه الاحتياط ولذا قلنا به في الشبهة المحصورة.

فإن قلت : إنّ أطراف الشبهة في الأحكام أيضا غير محصورة.

قلت أوّلا : إنّ الإجماع هو الفارق. ولو لم يكن هناك إجماع على الفحص قلنا بعدم الوجوب ثمّة أيضا.

وثانيا : إنّ العلم الإجمالي إنّما يوجب الاحتياط مع كون أطراف الشبهة جميعا محلّ ابتلاء للمكلّف ، وهو كذلك في الشبهات الحكميّة ، لابتلاء الفقيه بها ولو لأجل الإفتاء للمقلّدين ، بخلاف الشبهات الموضوعيّة ، ولذا لا يجب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.

٥٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ الوجه في عدم اعتبار العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ليس منحصرا في ذلك ، بل له وجه آخر أيضا ، وهو الإجماع عليه ، فلم لا تقول بعدم اعتباره هنا أيضا وإن كانت الشبهة حكميّة؟

قلت : إنّ الإجماع هناك إنّما هو فيما كانت الشبهة موضوعيّة ، والفرض هنا كونها حكميّة ، فلا إجماع ، كيف لا وقد عرفت الإجماع على وجوب الفحص هنا ، وهو دليل على اعتبار العلم الإجمالي فيه.

وأمّا كون مقتضى الأصل عدم اعتباره قبل الفحص ، ففيه : أنّ وجوب الرجوع إلى مقتضى الكتاب والسنّة وغيرهما من الأدلّة إنّما هو لاستفادة الأحكام الكلّية منها ، ولا ريب أنّ موضوعاتها الخارجة لا تتعيّن بها ، بل تعيينها بالوجدان أو الاصول والأمارات ، وبعد تشخيص الموضوعات الخارجة بها يتنجّز التكليف بالأحكام المتعلّقة بها. فإذا شكّ في بلوغ المال حدّ النصاب أو الاستطاعة ، وأثبتنا عدم بلوغه إليهما بالاستصحاب ، لا يعقل تعلّق الحكم بمثل هذا الموضوع.

وبالجملة ، إنّ الفحص عن الأدلّة إنّما هو لاستعلام الأحكام الكلّية المستفادة منها ، والعمل بالاستصحاب في متعلّقات هذه الأحكام وموضوعاتها الخارجة إنّما هو لتعيين هذه الموضوعات ، فالفحص عن الأدلّة لا دخل له في إجراء الاستصحاب في موضوعات الأحكام المستفادة منها.

فما يظهر من صاحب الرياض من إيجاب الفحص على من شكّ في بلوغ ماله حدّ النصاب ، محتجّا بوضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بالخروج من عهدة التكليف الواقعي إلّا بالفحص عن بلوغه حدّ النصاب ، يظهر ضعفه ممّا قدّمناه ، لأنّا وإن سلّمنا أنّ وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة يقتضي وجوب الاحتياط في الموضوعات المشتبهة ، إلّا أنّ هذا إنّما هو فيما لم تكن أمارة على تعيين الموضوع ، والاستصحاب كالبيّنة أمارة على عدم بلوغ المال حدّ النصاب.

٥٤٠