فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستصحاب لمعارضته. ولأنّه لا كلام في أنّ ظاهر الأمر والنهي لا يعارضان باستصحاب براءة الذمة ، وإلّا لم يثبت بمجرّدهما إيجاب وتحريم أصلا ، فكذلك ظاهر العامّ ، لمشاركة الجميع في كونه دليلا لفظيّا مقدّما على الاصول الظاهريّة. ولأنّه لو صلح الاستصحاب دليلا على تخصيص العامّ لبطل الاحتجاج بالعمومات المخالفة له ، لوجوب قصر حكمها حينئذ على بعض لا يجوز تطرّق التخصيص إليه ، لأنّ القدر الثابت بها ارتفاع حكم الاستصحاب بالنسبة إلى ذلك البعض ، وأمّا بالنسبة إلى غيره فليس هناك ما يدلّ على رفعه إلّا العموم ، وقد فرض عدم صلوحه له. والفرق في ذلك بين الاستصحاب الموافق للأصل والمخالف له ممّا لا وجه له ، بعد اشتراك المستند وعموم أدلّة حجيّته. نعم ، يستثنى من ذلك استصحاب عدم النسخ عند سبق المخصّص الغير المستوعب ، فإنّه ينهض دليلا على التخصيص بضميمة مورده ، لقرب التخصيص وبعد النسخ كما سيأتي.

وأمّا المقام الثاني ، فلا ريب في حجّية الاستصحاب فيه إذا اشتمل على شرائط الحجّية ، من غير فرق بين الموافق منه للأصل والمخالف له. وهو ممّا لا خلاف فيه بين القائلين بحجّيته ، لكنّه ليس من باب تخصيص العامّ بالاستصحاب في شيء. ومن هذا الباب ما ذكره من الأمثلة ، فإنّ عمومات البراءة إنّما دلّت على البراءة عند عدم دليل على الاشتغال ، فإذا دلّ الاستصحاب على بقاء الاشتغال أو على بقاء موضوع يتفرّع عليه الاشتغال ثبت الاشتغال ، وليس شأن الاستصحاب حينئذ تخصيص تلك العمومات ، بل تحقيق عنوان اختصّت تلك العمومات بغيره. وكذلك الكلام في عمومات الطهارة.

وقد يتخيّل أنّ حكمنا بنجاسة الكرّ الملتئم من قليلين متنجّسين مبنيّ على تخصيص عمومات طهارة الماء بالاستصحاب. وضعفه يعرف ممّا قرّرناه ، فإنّ أدلّة طهارة الماء منها ما يفيد طهارته الابتدائيّة ، واستدامتها تعرف بالاستصحاب. فإذا دلّ دليل على عروض النجاسة عليه بالملاقاة أو التغيّر لم يكن مخصّصا لذلك العموم ،

٥٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

بل رافعا لاستمرار الطهارة المستفادة من الاستصحاب. ومنها ما يفيد طهارة الماء إلى أن تعلم نجاسته ولو بدليل شرعيّ ، وهذا العام لا مخصّص له أصلا. وحيث يقوم دليل على الانفعال كان ذلك محقّقا لعنوان الغاية لا مخصّصا لعموم المعنى.

نعم ، لو تمسّكنا في الفرض المذكور بالاستصحاب في مقابلة قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ كرّا لم يحمل خبثا» بناء على عمومه للخبث السابق واللاحق كما هو الظاهر ، كان تخصيصا للعموم بالاستصحاب ، لكنّ الرواية ضعيفة غير معمولة. والاستدلال بالاستصحاب هنا لضعف الدليل وقصوره عن الحجّية ، لا أنّ الاستصحاب مخصّص لعمومه.

فاتّضح ممّا حقّقناه أنّ الفاضل المذكور قد خلط بين المقامين ، حيث إنّ صدر كلامه يدلّ على مصيره إلى الجواز في المقام الأوّل ، وذيله يدلّ على إثبات الجواز في المقام الثاني. واتّضح أيضا ضعف دليله ، وعدم مساعدة ما استشهد به من كلام الأصحاب على دعواه ، فتثبّت ولا تغفل» انتهى.

ومثّل في الحاشية للقسم الأوّل من عموم الطهارة بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً). وللثاني بقوله عليه‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر».

أقول : ولنعم ما أفاد وأجاد ، إلّا أنّ الظاهر اشتباه الأمر عليه فيما تخيّله من كون قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً). وقوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ونحوهما مثبتا للطهارة ابتداء لا استدامة ، إذ هو فاسد ، لأنّ الأدلّة الدالّة على قاعدة الطهارة على أقسام ، منها ما دلّ على الطهارة في مقام الظاهر وعروض الشكّ فيها ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه نجس» وقوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». ومنها ما دلّ على استمرار الطهارة في الواقع ، مثل قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ كرّا لم يحمل خبثا» لأنّ ظاهره كون وصف الكرّية عاصمة عن طريان النجاسة عليه ابتداء واستدامة. ومنها ما دلّ على طهارة الماء في الواقع بحسب أفراده وجميع حالاته

٥٠٢

من أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعيّ مخصّص للعمومات ، ولا ينافيه عموم (٢٥٣٨) أدلّة حجّيته من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ؛ إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلّا لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ؛ لانتهاء كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل.

______________________________________________________

كالآيتين ، لورودهما في مقام الامتنان على العباد المفيد للطهارة لجميع أفراد المياه وفي جميع حالاتها ، مثل حال تغيّرها طعما ولونا ورائحة وحال خلوّها منها ، أو نحو ذلك.

وإن شئت قلت : إنّ الله تعالى قد لاحظ جميع أفراد المياه المختلفة ذاتا أو صفة ، فحكم عليها بالطهارة ، فكلّ فرد منها باعتبار حالاته المختلفة بمنزلة أفراد متعدّدة مندرجة تحت العموم. وبعبارة اخرى : أنّ المراد بأفراد هذا العامّ أعمّ من الأفراد الواقعيّة والاعتباريّة ، وهذه الكلّية مستفادة من ورود المطلق في مقام الامتنان. فهما كما تدلّان على الطهارة ابتداء ، كذلك تدلّان عليها استدامة وعند عروض بعض العوارض. فالحكم بالطهارة في الزمان الثاني ـ أعني : زمان عروض بعض العوارض ـ ليس بالاستصحاب ، بل بنفس الآيتين على ما عرفت.

نعم ، يتمّ ما ذكره لو كانتا من قبيل ما ورد من قوله عليه‌السلام : خلق الله الغنم طاهرا ، لوروده في مقام بيان طهارة الغنم من حيث هو ، مع قطع النظر عن عروض ما يزيل طهارته ثانيا وبالعرض. فإذا شكّ في طهارة الغنم الجلّال مثلا في بعض الموارد لا يمكن إثباتها به ، بل لا بدّ حينئذ من استصحاب طهارته الذاتيّة.

ويشهد لما ذكرناه الاستثناء الواقع في النبويّ المشهور : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته» لأنّ استثناء المتغيّر بأحد الأوصاف الثلاثة يدلّ على كون كلّ واحد من هذه المتغيّرات فردا مستقلّا في الاندراج تحت المستثنى منه. ومساق الرواية مساق الآيتين ، فتكشف عن المراد بهما ، فتدبّر.

٢٥٣٨. لأنّ النسبة بين عمومات الاستصحاب وسائر العمومات ـ كعمومات

٥٠٣

ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ به لا يتعدّاه إلى غيره ، فيقدّم على العامّ ، كما يقدّم على غيره من الأدلّة ؛ ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيتها. ومن ذلك استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير ، وفي كون التحديد (٢٥٣٩) تحقيقيّا أو تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب (٢٥٤٠) الثلثين دبسا إلى غير ذلك (٣١). انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين.

ولا يخفى ما في ظاهره ؛ لما عرفت من أنّ (٢٥٤١) مورد جريان العموم لا يجري الاستصحاب حتّى لو لم يكن عموم ، ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب.

ثمّ ما ذكره من الأمثلة خارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ؛ لأنّ الاصول المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب ليست من قبيل العامّ بالنسبة إلى الخاصّ (٢٥٤٢) ، كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول. نعم ، لو

______________________________________________________

الحلّ والطهارة ـ وإن كانت عموما من وجه ، ومقتضاه التوقّف في مادّة الاجتماع لا تخصيصها به ، إلّا أنّ العبرة بملاحظة النسبة بين نفس الدليلين لا بين دليليهما ، وإلّا لم يتحقّق العامّ والخاصّ بين الأدلّة.

٢٥٣٩. بالثلثين في العصير.

٢٥٤٠. بأن علم حصول الحلّية والطهارة بذهاب الثلثين ، ولكن شكّ في حصولهما بصدق اسم الدبس قبل ذهابهما ، فتصير الشبهة حينئذ حكميّة كما في المثال الثاني.

٢٥٤١. هذا بناء على كون مراده بالعمومات هي العمومات الاجتهاديّة.

٢٥٤٢. بل من باب الورود أو الحكومة. ولكنّك خبير بأنّ تقديم الخاصّ على العامّ أيضا قد يكون من باب الورود أو الحكومة ، كما فيما لو كان الخاصّ مخصّصا لموضوع العامّ حقيقة أو حكما. نعم ، قد يكون تقديمه عليه من باب تقديم

٥٠٤

فرض الاستناد (٢٥٤٣) في أصالة الحليّة إلى عموم" حلّ الطيّبات" و" حلّ الانتفاع بما في الأرض" ، كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الأخيرين (٢٥٤٤) مثالا لمطلبه ، دون المثال الأوّل ؛ لأنّه من قبيل الشكّ في موضوع الحكم الشرعيّ ، لا في نفسه. ففي الأوّل يستصحب عنوان الخاصّ ، وفي الثاني يستصحب حكمه ، وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الأوّل.

ويمكن توجيه كلامه قدس‌سره : بأنّ مراده من العمومات بقرينة تخصيصه (٢٥٤٥) الكلام بالاستصحاب المخالف هي عمومات الاصول ، ومراده بالتخصيص للعمومات ما يعمّ الحكومة ـ كما ذكرنا في أول أصالة البراءة ـ وغرضه : أنّ مؤدّى

______________________________________________________

أقوى المتعارضين. ولعلّ مراده هنا هو القسم الأخير. وسيجيء توضيح الفرق بين الأقسام في باب التعادل والترجيح.

٢٥٤٣. بأن كان مستند الحلّ والطهارة العمومات الاجتهاديّة. وفي التعبير بالإمكان إيماء إلى ضعف هذا الوجه أيضا. ويظهر وجهه ممّا أشار إليه من عدم جريان العموم في مورد جريان الاستصحاب ، فلا يكون هذا أيضا من باب تخصيص العامّ به.

٢٥٤٤. أي : مثال التحديد ومثال الدبس. والمراد بالمثال الأوّل مثال الشكّ في ذهاب الثلثين ، لكون الشكّ في الأوّلين حكميّا ، فيستصحب فيهما حكم العصير ، فيخصّص به عموم الحلّ والطهارة ، وفي الثالث عنوان الموضوع ، وهو عدم ذهاب الثلثين ، فيتحقّق به موضوع الحرمة والنجاسة ، ولا دخل له في تخصيص عموم الحلّ والطهارة.

٢٥٤٥. إذ لو كان مراده بالعمومات أعمّ من العمومات الاجتهاديّة والفقاهيّة لم يبق وجه لتخصيص الاستصحاب بالمخالف للأصل ، أعني : أصالة البراءة والاحتياط والتخيير ، إذ الاستصحاب الموافق للأصل قد يكون مخالفا للعمومات الاجتهاديّة ، فلا وجه لإخراجه من محلّ الكلام. فلا بدّ أن يكون المراد بالعمومات

٥٠٥

الاستصحاب (٢٥٤٦) في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشكّ ، فلمّا كان دليل المستصحب أخصّ من الاصول سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللاحق. وكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهاديّة ؛ فإنّه إذا خرج المستصحب من العموم بدليله والمفروض أنّ الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللاحق ـ فكأنّه ايضا مخصّص ، يعني موجب للخروج عن حكم العامّ ، فافهم.

الأمر الحادي عشر : قد أجرى بعضهم الاستصحاب فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فيستصحب وجوب الباقي الممكن. وهو بظاهره كما صرّح به بعض المحقّقين (٢٥٤٧) غير صحيح ، لأنّ الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء وجوب هذه الأجزاء الباقية ، تبعا لوجوب الكلّ ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا ، والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ ، وهو معلوم الانتفاء سابقا.

______________________________________________________

المذكورة هي الفقاهيّة خاصّة ، إذ الاستصحاب الموافق للأصل يكون موافقا لها أيضا ، فلا معنى لتخصيصها به حينئذ ، فلا بدّ أن يخصّ الكلام بالمخالف لا محالة.

٢٥٤٦. توضيحه : أنّ الدليل الحاكم قد يكون معمّما لموضوع الدليل المحكوم ، كما إذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم ، فإذا شكّ في عدالة عالم وفسقه فاستصحاب عدالته معمّم لموضوع قوله : أكرم العلماء لمثل هذا العالم أيضا. وقد يكون مخصّصا له ، كأدلّة نفي الحرج بالنسبة إلى عمومات التكاليف ، لأنّها مخصّصة لها بغير موارد الحرج. واستصحاب الشغل والنجاسة من قبيل الأوّل ، من حيث كونه معمّما لدليل الشغل والنجاسة بالنسبة إلى زمان الشكّ ، ومن قبيل الثاني من حيث كونه متمّما لدليل الشغل والنجاسة ، وبمنزلة المخصّص لعمومات البراءة والطهارة.

ثمّ إنّ تحقيق كون تقديم هذا الاستصحاب على عمومات البراءة والطهارة من باب الحكومة أو الورود يتّضح ممّا ذكره في تعارض الاصول ، فانتظره.

٢٥٤٧. هو المحقّق الخوانساري على ما حكي عنه.

٥٠٦

ويمكن توجيهه ـ بناء (٢٥٤٨) على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا ـ : بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحقّقة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ، إلّا أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه.

ويمكن توجيهه بوجه آخر ـ يستصحب معه الوجوب النفسيّ ـ بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار إليه بقولنا : " هذا الفعل كان واجبا" هو الباقي ، إلّا أنّه يشكّ في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسيّ مطلقا أو في اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ، فيكون محلّ الوجوب النفسيّ هو الباقي ، ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها. وهذا نظير استصحاب الكرّية في ماء نقص منه مقدار فشكّ في بقائه على الكرّية ، فيقال : " هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كريّته" مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكريّته. وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدار.

وهنا توجيه ثالث ، وهو استصحاب الوجوب النفسيّ المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه بالمركب على الوجه الثاني. وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الإناء لإثبات كريّة الباقي فيه.

______________________________________________________

٢٥٤٨. توضيح الفرق بين التوجيهات : أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، ومبنى الإشكال في المقام على تغاير القضيّتين في المحمول ، حيث كان المحمول في الاولى هو الوجوب الغيري التبعي ، وفي الثانية هو الوجوب النفسي. ولا بدّ في تصحيح دعوى اتّحادهما من ارتكاب المسامحة ، إمّا في المحمول كما في التوجيه الأوّل ، أو في الموضوع كما في الثاني ، أو يقال : إنّ المستصحب هو الحكم المتعلّق بالموضوع المجمل كما في الثالث.

٥٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وذلك لأنّ الأوّل مبنيّ على صحّة استصحاب القدر المشترك ، ودعوى اتّحاده مع الفرد الذي اريد إثباته بالمسامحة العرفيّة ، ليخرج الأصل بذلك من كونه مثبتا ، لأنّ المقصود من استصحاب مطلق المطلوبيّة إثبات الوجوب العيني للأجزاء الباقية ، لعدم ترتّب الآثار ـ من الثواب والعقاب وبراءة الذمّة ونحوها ـ على مطلقها ، فالمستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتّحدة مع المطلوبيّة النفسيّة بالمسامحة العرفيّة.

والثاني مبنيّ على المسامحة في موضوع المستصحب ، بأن كان المستصحب هو الوجوب النفسي ، بدعوى كون الأجزاء الباقية هو عين الأجزاء المتيسّرة سابقا ، لأنّ الوجوب النفسي في السابق وإن كان قائما بتمام المركّب ، إلّا أنّ فقد بعض أجزائه لا يوجب تغيّرا فيه ، بل هو من قبيل تبدّل حالات الموضوع في نظر العرف ، فيقال : إنّ هذه الأجزاء الباقية كانت واجبة في السابق بالوجوب النفسي ، والأصل بقاء وجوبها ، نظير ما يقال في الكرّ بعد أخذ مقدار منه يشكّ معه في بقائه على الكرّية : إنّ هذا الموجود كان كرّا ، والأصل بقائه على صفة الكرّية ، وإن لم تعلم كرّية هذا الموجود في السابق بالمداقّة العقليّة. وكذا في القليل إذا زيد عليه مقدار يشكّ معه في بلوغه إلى حدّ الكرّ ، فيقال : هذا كان قليلا ، فالأصل بقائه على صفة القلّة. وكذلك في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه ، فيقال : إنّ هذا كان متنجّسا ، والأصل بقائه على النجاسة ، وهكذا. فالمستصحب فيما نحن فيه على هذا الوجه هو الوجوب النفسي الذي ارتكب التسامح في موضوعه.

والثالث مبنيّ على أنّ المستصحب هو الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع المجمل ، لأنّ الوجوب النفسي في السابق كان قائما بتمام المركّب ، إلّا أنّ الشكّ في أنّ تعلّقه بالمركّب كان على وجه كان الجزء المفقود جزءا له مطلقا حتّى يسقط الوجوب في حال فقده ، أو كان المفقود جزءا له في حال التمكّن منه حتّى يبقى التكليف بعد تعذّره ، ويكون المفقود جزءا اختياريّا له لا واقعيّا ، فيقال حينئذ : إنّ الوجوب النفسي في السابق كان قائما بهذا الموضوع المردّد وشكّ في ارتفاعه ، و

٥٠٨

ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما إذا لم يبق إلّا قليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث (٢٥٤٩) دون الثاني ؛ لأنّ العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحة ؛ لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم والحكم له وفيما لو كان المفقود شرطا ، فإنّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل (٢٥٥٠)

______________________________________________________

الأصل بقاء الوجوب المذكور ، فيثبت به تعلّقه بالمركّب في السابق على الوجه الثاني. والأصل على هذا وإن كان مثبتا إلّا أنّه لا بأس به في مقام توجيه كلمات القوم ، لأنّ بطلان القول بالاصول المثبتة إنّما هو على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار لا الظنّ كما هو ظاهر المشهور.

وكيف كان ، فما نحن فيه نظير استصحاب بقاء وجود الكرّ في المثال المتقدّم لإثبات كون الموجود في المحلّ الآن كرّا ، لا استصحاب صفة الكرّية للموجود كما كان هذا مقصودا من المثال هناك.

٢٥٤٩. إذ لا مدخل لفقد معظم الأجزاء في استصحاب القدر المشترك أو حكم الموضوع المردّد ، كما تقدّم في الحاشية السابقة.

٢٥٥٠. لأنّ معروض الوجوب في حال التمكّن من الشرط هو نفس الأجزاء لا هي مع الشرائط ، لأنّ الشرائط شرائط لوقوع الأجزاء صحيحة في الخارج ، فلا معنى لاستصحاب القدر المشترك ، لأنّ وجوب الأجزاء حين التمكّن من الشرط لم يكن تبعيّا غيريّا حتّى يستصحب المشترك بينه وبين الوجوب النفسي. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ نفس الشرائط وإن لم تدخل في المأمور به ، إلّا أنّ تقيّده بها داخل فيه ، فالمتّصف بالوجوب النفسي حينئذ هو المقيّد بوصف كونه مقيّدا ، لا ذات الأجزاء من حيث هي ، بل الأجزاء من حيث هي حينئذ متّصفة بالوجوب الغيري لا محالة ، ولذا ذكروا في مسألة الصحيح والأعمّ أنّ متعلّق الأوامر ومراد الشارع هي الماهيّة الصحيحة ، لا الفاسدة ولا الأعمّ منها.

٥٠٩

ويجري على الأخيرين (٢٥٥١).

وحيث إنّ بناء العرف (٢٥٥٢) على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء وإجرائه في فاقد الشرط ، كشف عن فساد التوجيه الأوّل. وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية (٢٥٥٣) دون الذات المتّصف بها (٢٥٥٤) ، كشف عن صحّة الأوّل من الأخيرين. وقد عرفت أنّه لو لا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه ، لم يتمّ شيء من الوجهين ، وأمّا الوجه الثالث فهو مبنيّ على الاصل المثبت وستعرف بطلانه ، فتعيّن الوجه الثاني. لكنّ الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، إلّا أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّية من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق.

______________________________________________________

ثمّ إنّ ذكر فقد الشرط هنا يدلّ على كون المراد بالمركّب هنا أعمّ من المركّب الخارجي والعقلي ، لوضوح كون تركّب المشروط مع التقيّد بشرطه عقليّا لا خارجيّا.

٢٥٥١. ربّما يتأمّل في الجريان على الثاني أيضا ، إذ لعلّ العرف يختلفون بحسب اختلاف الشروط بالأهميّة في نظرهم ، فيتسامحون في إطلاق الاسم على الفاقد بالنسبة إلى بعض دون بعض ، بل بالنسبة إلى فاقد شرط أو شرطين وفاقد شروط كثيرة نظير الأجزاء ، فليلاحظ ذلك.

٢٥٥٢. حاصله : أنّك قد عرفت أنّ مقتضى التوجيه الأوّل جريان الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء ، وعدم جريانه في فاقد الشرط ، مع بناء العرف على جريانه في الثاني دون الأوّل ، فهو يكشف عن فساد استصحاب القدر المشترك الذي هو مبنى التوجيه الأوّل. والسرّ فيه عدم مسامحتهم في دعوى اتّحاد الوجوب الغيري مع النفسي. ولكن دعوى فساد التوجيه الأوّل ربما ينافي تمسّكه باستصحاب القدر المشترك في مسألة أصالة البراءة ، فراجع.

٢٥٥٣. كما في التوجيه الثاني.

٢٥٥٤. كما في التوجيه الثالث.

٥١٠

ثمّ إنّه لا فرق ـ بناء على جريان الاستصحاب ـ بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف كما إذا زالت الشمس متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما إذا فقده قبل الزوال ؛ لأنّ المستصحب هو الوجوب النوعيّ المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ، لا الشخصيّ المتوقّف على تحقّق الشرائط فعلا. نعم ، هنا أوضح (٢٥٥٥). وكذا لا فرق ـ بناء على عدم الجريان (٢٥٥٦) ـ بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال.

وربّما يتخيّل أنّه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني ؛ لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء لم يكن إلّا لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا بعينه مقتض لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء.

______________________________________________________

٢٥٥٥. لكون الاستصحاب على الأوّل معلّقا وعلى الثاني منجّزا.

٢٥٥٦. لأنّ دليل عدم الجريان أنّ الثابت في السابق للأجزاء السابقة هو الوجوب الغيري ، وهو مرتفع يقينا ، وما اريد إثباته في الزمان الثاني هو الوجوب النفسي ، وهو لم يكن ثابتا في السابق. ولا فرق فيه بين ثبوت وجوب الأجزاء المتعذّرة بالدليل الاجتهادي وقاعدة الاشتغال. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني ، فإنّه لا يخلو : إمّا أن يراد استصحاب الوجوب الظاهري الثابت للأجزاء الباقية في السابق ، وإمّا أن يراد استصحاب الوجوب الواقعي لها.

أمّا الأوّل ، فلا ريب أنّه مع ثبوت وجوب بعض أجزاء المركّب بالقاعدة يثبت لتمام المركّب وجوب نفسي في الظاهر ، فيكون وجوب الأجزاء الباقية حينئذ في الظاهر غيريّا لا محالة ، فلا يثبت باستصحاب الوجوب النفسي لها.

وأمّا الثاني ، فلعدم العلم باتّصاف الأجزاء الباقية في السابق بالوجوب النفسي حتّى يستصحب. واستصحاب المردّد بينه وبين الوجوب الغيري لا يثبت الوجوب النفسي لها إلّا على القول بالاصول المثبتة. اللهمّ إلّا أن يقال بما أشار إليه في التوجيه الأوّل من مسامحة العرف ، وزعمهم عدم المغايرة بين الوجوب الغيري والنفسي ، لأنّ مسامحتهم بزعم اتّحاد الوجوب المردّد والوجوب النفسي أولى منه بالإذعان.

٥١١

وفيه : ما تقدّم من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل لا بالاستصحاب ، والاستصحاب لا ينفع (٢٥٥٧) إلّا بناء على الأصل المثبت. ولو قلنا به لم يفرّق بين ثبوت الجزء بالدليل أو بالأصل ؛ لما عرفت من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف وإن كان بينهما فرق ؛ من حيث إنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق سابقا في ضمن فرد معيّن بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ، وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، إلّا في بعض مواردها (٢٥٥٨) بمساعدة العرف.

ثمّ اعلم أنّه نسب إلى الفاضلين قدس‌سرهما التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة وفي مسألة الأقطع ، والمذكور في المعتبر والمنتهى الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق : بأنّ غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر (٣٢) ، انتهى.

وهذا الاستدلال يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة" الميسور لا يسقط بالمعسور" ؛ ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة. ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب ، بأن يراد منه أنّ هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب ، فإذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه (٢٥٥٩) ، أو لم يسقط (٢٥٦٠) بحكم الاستصحاب. ويحتمل أن يراد به التمسّك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء من غير

______________________________________________________

٢٥٥٧. في نفي جزئيّة المشكوك فيه.

٢٥٥٨. قد تقدّم في الأمر الأوّل التمثيل لمورد جريانه بمثال السواد المتبدّل بما هو أخفّ من الأوّل.

٢٥٥٩. فيكون الاستصحاب عدميّا.

٢٥٦٠. معطوف على قوله : «لم يعلم ...» ، فيكون الاستصحاب حينئذ وجوديّا ، وهو استصحاب وجوب الباقي.

٥١٢

مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ، لكنّه ضعيف احتمالا ومحتملا (٢٥٦١).

الأمر الثاني عشر : أنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة (٢٥٦٢)

______________________________________________________

٢٥٦١. يعني : أنّ الوجه الأخير من حيث احتماله في كلام الفاضلين ضعيف ، وهو واضح. وكذا من حيث ملاحظته بنفسه وأخذه دليلا على المدّعي ، لأنّه على تقدير تسليم وجود الدليل على وجوب كلّ واحد من أجزاء الوضوء مع قطع النظر عن دليل وجوب الكلّ ، أنّ مقتضى إطلاق جزئيّة الجزء المتعذّر هو سقوط الأمر بالكلّ. مضافا إلى أنّ وجوب الأجزاء ـ وإن فرض لكلّ واحد منها دليل مستقلّ ـ إنّما هو غيري من باب المقدّمة لتحصيل الكلّ ، ولا يعقل بقاء وجوب المقدّمة عند تعذّر ذيها.

٢٥٦٢. لا يخفى أنّ الوجوه المحتملة في اعتبار الاستصحاب سبعة ، لأنّ اعتباره إمّا أن يكون من باب التعبّد والسببيّة ، بأن كان اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها سببا شرعيّا لترتيب الآثار الشرعيّة عليها في مقام الظاهر ، من دون ملاحظة إفادة ذلك للظنّ شخصا أو نوعا كسائر الأسباب الشرعيّة ، وإمّا أن يكون من باب الظنّ نوعا أو شخصا.

وعلى الثاني ، لا إشكال في عدم اعتباره فيما حصل الظنّ بخلافه ولو من أمارة دلّ الدليل على عدم اعتبارها كالقياس ونحوه ، لانتفاء مناط اعتباره حينئذ.

وعلى الأوّل ، إمّا أن يكون اعتباره مطلقا ، أو مفيدا بعدم الظنّ بخلافه مطلقا ، أو إذا كان الظنّ بخلافه حاصلا من أمارة مشكوكة الاعتبار ، وإن حصل من أمارة دلّ الدليل على عدم اعتبارها كان ملحقا بصورة عدم الظنّ بخلافه. وأمّا احتمال التفصيل في صورة حصول الظنّ بخلافه بين الظنّ المعتبر وغيره فلا مسرح له في المقام ، إذ لا إشكال في عدم اعتبار الاستصحاب فيما حصل الظنّ المعتبر بخلافه.

ثمّ إنّ ثمرة الوجوه المذكورة غير مختفية على أحد ، إلّا القول باعتباره من باب

٥١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التعبّد والظنّ النوعي ، إذ ثمرتهما قد تختفي على بعض الأنظار القاصرة ، وهي من وجوه :

أحدها : اعتبار المرجّحات عند التعارض على القول باعتباره من باب الظنّ النوعي ، بخلافه على القول بالسببيّة ، لأنّ مقتضاه الحكم بالتساقط ، لأنّ الترجيح إنّما هو لإفادة المرجّح لأقربيّة الراجح إلى الواقع بالنسبة إلى صاحبه ، ومع اعتبار الاستصحاب من باب السببيّة ورفع اليد عن الواقع ، وجعل مدار العمل على مقتضاه من حيث هو ، لا يبقى محلّ للترجيح ، بل حكم المتعارضين حينئذ هو التساقط والرجوع إلى أصل آخر ، كما سيجيء في محلّه.

ثمّ إنّا إذا قلنا باعتبار الترجيح في متعارضات الاصول أو الأخبار أو غيرها ممّا هو معتبر من باب الظنّ النوعي ، فإنّما هو بالمرجّحات الداخلة ، كتعدّد الراوي وأعدليّته وأوثقيّته وأصدقيّته ، ونحوها من مرجّحات الأخبار. والموجود من هذه المرجّحات في تعارض الاصول هو التعدّد خاصّة ، لعدم وجود غيره فيها ، فينحصر الترجيح فيها في القلّة والكثرة.

والسرّ فيما ذكرناه أنّ الشارع إذا اعتبر أمارة في مقابل غيرها ، كاليد والسوق والبيّنة في الشبهات الموضوعيّة ، والأخبار في الشبهات الحكميّة ، والاستصحاب مطلقا في مقابل الشهرة ، وعدم الخلاف والاستقراء والغلبة والقياس ونحوها ، فهو يكشف عن وجود مصلحة فيها دون غيرها ، ككونها غالبة الإيصال إلى الواقع بالنسبة إلى غيرها ، فيحصل لها من هذه الجهة نوع تعبديّة ، فلا يلاحظ في جنبها الظنون الخارجة الحاصلة على طبقها أو خلافها ، سواء كانت في مقام التعارض أم غيره.

نعم ، اعتبارها من باب الكشف والظنون النوعيّة يوجب جواز الترجيح بما يظنّ معه أنّ ما يوافقه أقرب إلى الواقع. ولكن هذا إنّما هو فيما استند الظنّ إلى ما يرجع إلى نفس المعارض الراجح ، وهو المرجّح الداخلي ، إذ يمكن أن يستدلّ على

٥١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

جواز الترجيح به حينئذ بنفس ما دلّ على اعتبار المتعارضين في أنفسهما ، بخلاف ما لو كان المرجّح خارجيّا ، كموافقة الشهرة ونحوها ، إذ لا بدّ في جواز الترجيح به من دليل آخر ، كما سيجيء توضيحه في باب التعادل والترجيح. ولعلّ الترجيح بما ذكرناه ممّا لا خلاف فيه ، بل قد نفي بعضهم الخلاف عنه بين العامّة والخاصّة.

ومن هنا يسقط ما أورده المحقّق القمّي على الشهيد الثاني وغيره ـ في حكمهم بوجوب تقليد الأعلم معلّلين بكونه أقوى وأرجح ، واتّباعه أولى وأحقّ ـ بأنّ قول غير الأعلم أيضا قد يكون أقرب إلى الواقع في نظر المقلّد ، لأجل موافقته للشهرة ، أو قول الميّت الأعلم بمراتب من الحيّ الأعلم ، أو نحو ذلك من الأمارات الموهنة لحصول الظنّ بأقربيّة قول الحيّ الأعلم إلى الواقع.

ووجه سقوطه : أنّ اعتبار الشارع لقول المجتهد الحيّ في مقابل الأموات والشهرة مثلا ، يمنع من ترجيح قول غير الأعلم على قول الأعلم بالموافقة للشهرة مثلا على ما عرفت.

وثانيها : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب أو غيره من الاصول أو الأمارات من باب الظنّ النوعي ، فلا بدّ من تقديمه على ما هو المعتبر من باب السببيّة عند المعارضة ، من باب تقديم الدليل على الأصل ، بخلاف ما لو قلنا باعتباره من باب السببيّة ، إذ لا بدّ حينئذ من تقديم معارضه عليه إن كان معتبرا من باب الظنّ النوعي ، أو الحكم بالمعارضة إن كان ذلك أيضا معتبرا من باب السببيّة.

وثالثها : أنّا إذا قلنا باعتباره من باب الظنّ النوعي فلا مناص من القول باعتبار الاصول المثبتة ، بخلاف ما لو قلنا باعتباره من باب السببيّة.

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّا إن قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار فلا ريب في كون اعتباره حينئذ من باب التعبّد ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. وإن قلنا باعتباره من باب العقل كما هو ظاهر المشهور ، حيث لم يتمسّك فيه أحد بالأخبار إلى زمان والد شيخنا البهائي ، فلا مناص من القول باعتباره من باب الظنّ ، إذ

٥١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

العقلاء لا يقدمون على اعتبار أمارة من دون ملاحظة رجحان فيها ، لأنّ نسبة الوجود والعدم مع عدم رجحان أحدهما متساوية عند العقل ، فلا بدّ في حكمه بالأخذ بأحدهما من مرجّح لا محالة ، فلا بدّ في حكمه بالأخذ بالحالة السابقة من رجحان البقاء عنده ، إمّا من جهة غلبة البقاء ، أو من جهة كون العلّة الموجدة مبقية ، فيحصل الظنّ بالبقاء ما لم توجد علّة الارتفاع.

فإن قلت : إن صحّ ما ذكرت من عدم حكم العقل بشيء إلّا بعد ملاحظة رجحان فيه ، وعدم أخذه بشيء تعبّدا ، فكيف يحكم بأصالة الحقيقة من باب التعبّد العقلائي ، كما هو أقوى الوجهين؟

قلت : إنّا نمنع كون بناء العرف والعقلاء على اعتبار ظواهر الألفاظ من باب التعبّد المحض ، من دون ملاحظة رجحان في الأخذ بها ، وذلك لأنّ العلم بمرادات المتكلّمين لمّا كان منسدّا غالبا ، وكانت ظواهر الألفاظ ـ وإن كان ظهورها ناشئا من القرائن الخارجة ـ مرادة لهم في الغالب ، ولم يكن هنا طريق علمي يتوصّل به إلى مراداتهم ، فلم يجدوا بدّا من الأخذ بظواهرها ، فكان هذا هو السرّ في أخذهم بها من أوّل الأمر ، وإن آل أمرهم إلى التعبّد بها مع قطع النظر عن إفادتها للظنّ بالمراد شخصا أو نوعا ، لا أنّ أخذهم بها خال من ملاحظة الرجحان من رأس.

ثمّ إنّ ظاهر المشهور اعتباره من باب الظنّ النوعي دون الشخصي ، كما تشهد به كلماتهم في الفروع والاصول.

أمّا الأوّل ، فإنّا لم نقف إلى الآن من رفع اليد عن مقتضى الاستصحاب بمخالفته للشهرة مثلا ممّن لا يقول باعتبارها ، فلو كان اعتباره من باب الظنّ الشخصي فلا مناص من رفع اليد عن مقتضاه في مقابلها ، لانتفاء مناط اعتباره حينئذ. هذا في الأحكام. وأمّا الموضوعات فناهيك في ذلك بملاحظة رسائلهم العمليّة ، حيث يفتون فيها بأنّ من تيقّن بالحدث ثمّ شكّ في بقائه يبني على البقاء ، من دون تفصيل بين الظنّ بخلافه وعدمه ، وهكذا في غيره من موارد الاستصحاب ،

٥١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مع اختلاف المقلّدين في ذلك جدّا ، لأنّ من توضّأ في الفجر وشكّ في بقائه عند الغروب مثلا ، فلا شكّ أنّ الغالب حصول الظنّ بعدم بقاء الطهارة حينئذ.

وأمّا الثاني ، فيكفيك فيه تعريف العضدي ـ الذي هو مؤسّس أساس الاصول من العامّة ـ للاستصحاب بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء. وما يتوهّم منه من ذهابه إلى اعتباره من باب الظنّ الشخصي ، نظرا إلى أخذ الظنّ بالبقاء في تعريفه ، فاسد جدّا ، لاستلزامه الكذب في الحدّ ، لوضوح أنّ عدم الظنّ بالعدم لا يستلزم الظنّ بالبقاء فعلا. نعم ، لا نضايق من استلزامه له نوعا ، وهو معنى اعتباره من باب الظنّ النوعي.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته من اعتباره من باب الظنّ النوعي إنّما يتمّ إن قلنا باعتباره من باب بناء العقلاء ، وهل يمكن الاستدلال عليه حينئذ بدليل الانسداد أيضا ، أو لا بدّ من القول باعتباره حينئذ من باب الظنون الشخصيّة؟

قلت : إنّ ظاهر من تمسّك فيه بدليل الانسداد هو اعتباره من باب الظنون الشخصيّة ، ولكن يمكن مع ذلك القول باعتباره من باب الظنّ النوعي أيضا ، وذلك لأنّ المدار مع انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة شرعا ووجدانا غالبا ليس على صفة الظنّ من حيث هي ، بل من حيث أقربيّة مؤدّاه إلى الواقع في مقابل الشكّ والوهم ، فلو علم إجمالا غلبة مخالفة أمارة للواقع فلا يجوز العمل بها ولو مع إفادتها للظنّ بالواقع. فلا بدّ حينئذ أن يكون المدار على غلبة مطابقة الأمارة للواقع ، سواء كان ذلك مع إفادتها للظنّ الشخصي بالواقع أم لا.

وإليه ينظر كلام المحقّق القمّي رحمه‌الله في توجيه إخراج القياس من نتيجة مقدّمات دليل الانسداد ، مع عدم قابليّة حكم العقل للتخصيص ، حيث قال : «إنّ تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم من جهة الأدلّة المقتضية للعلم أو الظنّ المعلوم الحجيّة مع بقاء التكليف ، يوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ـ يعني : في نفسه ـ مع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى ، وبالجملة ما يدلّ على مراد الشارع ولو ظنّا ، ولكن

٥١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا من حيث إنّه يفيد الظنّ ، لا أنّه يوجب جواز العمل بالظنّ المطلق النفس الأمري. وهذا المعنى قابل للاستثناء ، فيقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ على مراد الشارع إلّا القياس. وبعد وضع القياس من البين ، فإذا تعارض باقي الأدلّة المفيدة للظنّ فحينئذ يعتبر الظنّ النفس الأمري ، وتلاحظ القوّة والضعف ، بل لا يبقى حينئذ ظنّ ضعيف ، بل الأقوى يصير ظنّا والأضعف وهما» انتهى.

وعلى ما ذكرناه يبتنى أيضا جواز تقليد العوامّ للمجتهد ، وإن كان المقلّد ظانّا بالحكم الواقعي والمجتهد شاكّا فيه ، لأنّ عمدة الأدلّة التي يلتفت إليها العوامّ وتحرّكه إلى الأخذ بقول المجتهد هو ثبوت التكليف بالواقع ، وانسداد باب العلم إليه غالبا ، وعدم تمكّنه من العمل بالأدلّة الظنّية سوى الأخذ بقول المجتهد ، إذ لا طريق أقرب إلى الواقع بالنسبة إلى المقلّد سواه ، فيجب عليه الأخذ بقوله ، وإن كان المجتهد شاكّا والمقلّد ظانّا بالواقع ، لما عرفت أنّ مقتضى دليل الانسداد هو وجوب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع ، لا بصفة الظنّ من حيث هي ، ولا شكّ أنّ شكّ المجتهد أقرب إلى الصواب من الظنون غير المنضبطة للمقلّد ، سيّما إذا قيست إلى مجموع ظنونه وشكوكه.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت من كون ظاهر المشهور اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي ، فاعلم أنّه لم يظهر خلاف ذلك ، وهو القول باعتباره من باب الظنّ الشخصي ، سوى ما حكي عن شيخنا البهائي في حبل المتين ، كما تقدّم كلامه في الأمر الرابع من الامور التي قدّمها المصنّف رحمه‌الله أمام المقصود. وهو غريب ، سيّما مع تمسّكه بالأخبار التي لا إشعار فيها بذلك ، بل فيها شواهد على خلافه ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وأغرب منه قوله بذلك في مورد صحيحة زرارة الظاهرة أو الصريحة في خلافه ، كما يظهر من ملاحظة ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وربّما يلوح ما ذكره ممّا نقله المصنّف رحمه‌الله عن الشهيد ، فتدبّر.

٥١٨

بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة. ويدلّ عليه وجوه : الأوّل : الإجماع القطعيّ على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار. الثاني : أنّ المراد بالشكّ في الروايات معناه اللغويّ وهو خلاف اليقين ، كما في الصحاح. ولا خلاف فيه (٢٥٦٣) ظاهرا.

ودعوى : انصراف المطلق في الروايات إلى معناه الأخصّ وهو الاحتمال المساوي ، لا شاهد لها ، بل يشهد بخلافها ـ مضافا إلى تعارف إطلاق الشك في الأخبار على المعنى الأعمّ ـ موارد من الأخبار :

منها : مقابلة الشكّ باليقين في جميع الأخبار. ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الاولى : " فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به" ، فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم. ومنها : قوله عليه‌السلام : " لا ، حتّى يستيقن" ؛ حيث جعل غاية وجوب (٢٥٦٤) الوضوء الاستيقان بالنوم ومجيء أمر بيّن عنه. ومنها : قوله عليه‌السلام : " ولكن ينقضه بيقين آخر" ، فإنّ الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين. ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الثانية : " فلعلّه شيء اوقع عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ" ، فإنّ كلمة" لعلّ" ظاهرة (٢٥٦٥) في مجرّد الاحتمال ،

______________________________________________________

٢٥٦٣. هو ظاهر الفيّومي حيث نسب ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن الصحاح إلى أئمّة اللغة ، ثمّ قال : فقولهم خلاف اليقين هو التردّد بين شيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر. ونسب تفسير الشكّ في قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) بعدم الاستيقان إلى المفسّرين ، ثمّ قال : وهو يعمّ الحالتين. وهو كما ترى كاف في المدّعى. نعم ، ربّما يفسّر الفقهاء الشكّ في باب الصلاة بما تساوى طرفاه ، كما في ركعات الصلاة وأفعالها. ولكنّهم جروا في باب الشروط على طبق اللغة ، مثل قولهم : من تيقّن بالطهارة ثمّ شكّ فيها يبني عليها ، أو نحو ذلك.

٢٥٦٤. الاولى أن يقال : غاية بقاء الوضوء بدل وجوب الوضوء.

٢٥٦٥. بل تمكن دعوى حصول الظنّ بخلاف الحالة السابقة في مورد الصحيحة ، وهو وقوع الدم على الثوب ، لندرة وقوعه عليه حين الرؤية ، فالمظنون

٥١٩

خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك كما في المقام ، فيكون الحكم متفرّعا عليه. ومنها : تفريع قوله عليه‌السلام : " صم للرؤية وأفطر للرؤية" على قوله عليه‌السلام : " اليقين لا يدخله الشك".

الثالث : أنّ الظنّ الغير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده. وإن كان ممّا شكّ في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعليّ السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل جدّا (٢٥٦٦).

______________________________________________________

وقوعه عليه قبلها ، فيكون الحكم في موردها مرتّبا على مجرّد الاحتمال الموهوم.

وربّما يستدلّ أيضا بقوله عليه‌السلام في هذه الصحيحة : «فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت ولم أر شيئا ، فصلّيت فيه فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ...» ، تارة بظهور الظنّ في المدّعى ، واخرى بترك الاستفصال المفيد للعموم في المقال ، لأنّ مورد السؤال هو الفحص عن الدم وعدم رؤيته بعد حصول الظنّ به ، والظنّ قد ينقلب بعد الفحص إلى الشكّ ، وقد يبقى على حاله ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ من دون استفسار عمّا وقعت عليه الواقعة ، وهو دليل العموم في الجواب.

ويرد على الوجهين : أنّ الاستدلال إن كان مبنيّا على أخذ الشكّ بالمعنى الأعمّ من متساوي الطرفين ومن الراجح ، فهو كاف في المدّعى من دون حاجة إلى الوجهين. وإن كان مبنيّا على تقدير أخذه بمعناه الأخصّ ـ أعني : تساوي الطرفين ـ يرد عليه : أنّ قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ...» يدلّ على عدم جواز النقض بالشكّ بهذا المعنى بالخصوص ، فلا يشمل صورة الظنّ بالخلاف. وظهور هذه الفقرة حاكم على عموم قاعدة ترك الاستفسار ، لأنّها إنّما تفيد العموم مع عدم ظهور آخر حاكم عليها.

٢٥٦٦. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى أنّ دعوى كون مرجع رفع اليد عن

٥٢٠