فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

وعلى الأوّل ، فهو في كلّ جزء من الوقت من قبيل الموقّت المضيّق. وعلى الثاني ، فلا معنى للاستصحاب ، بناء على ما سيذكره من أنّ الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد الوقت. وعلى الثالث ، يكون في الوقت الأوّل كالمضيّق وفيما بعده كالأمر المطلق.

وقد ذكر بعض شرّاح الوافية : أنّ دفع هذا التوهّم لأجل استلزامه الاحتياج إلى الاستصحاب لإثبات الوجوب فيما بعد الوقت الأوّل. ولم أعرف له وجها.

قوله : " وكذا النهي" (٢٢٦٥). لا يخفى أنّه قدس‌سره لم يستوف أقسام الأمر ؛ لأنّ منها ما يتردّد الأمر بين الموقّت بوقت فيرتفع الأمر بفواته ، وبين المطلق الذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت ، كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في يوم الجمعة مطلق ، فيجوز الإتيان به في كلّ جزء من النهار ، أو موقّت إلى الزوال؟ وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد ، فإنّ الظاهر أنّه لا مانع من استصحاب الحكم التكليفيّ هنا ابتداء (٢٢٦٦).

______________________________________________________

لعدم شموله لما بعده ، لأنّ تسليم كونه من قبيل الموقّت غير مضرّ بمطلبه حتّى يحتاج إلى دفعه ، لتصريحه بعدم جريان الاستصحاب فيما بعد الوقت ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. والضمير المجرور في قوله «ولا دخل له» عائد إلى الدفع ، وفي قوله : «وهو عدم جريان ...» إلى مطلبه.

٢٢٦٥. لا يخفى أنّه كان للمصنّف رحمه‌الله أن يتعرّض هنا لقوله. ولا يمكن أن يقال : إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ، فإنّ هذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز إجماعا ، إذ يمكن منع هذا الإجماع ، لتمسّك جماعة به في مسألة كون القضاء تابعا للأداء وعدمه ، فإنّ هذا وإن كان فاسدا جدّا ، إلّا أنّ تمسّكهم به مانع من تحقّق الإجماع على خلافه. ولعلّ من تمسّك به هنا زعم كون الموقّت بحسب العرف من قبيل تعدّد المطلوب ، أحدهما الإتيان بالفعل مطلقا ، والآخر الإتيان به في الوقت ، فإذا تعذّر الثاني بقي الأوّل ، ولكن في إثباته بالاستصحاب ما لا يخفى.

٢٢٦٦. يعني : من دون تبعيّة لاستصحاب حكم وضعي. وهذا بناء على

٢٦١

قوله : " بل هو أولى لأنّ مطلقه ...". كأنّه قدس‌سره لم يلاحظ (٢٢٦٧) إلّا الأوامر والنواهي اللفظية البيّنة المدلول ، وإلّا فإذا قام الإجماع أو دليل لفظي مجمل على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقاؤها بعده ـ كحرمة الوطء للحائض المردّدة بين اختصاصها (٢٢٦٨) بأيّام رؤية الدم فيرتفع بعد النقاء وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض فلا يرتفع إلّا بالاغتسال ، وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير النار ، وحلّية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ـ فلا مانع في ذلك كلّه من الاستصحاب.

قوله : " فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب هل هي على الإطلاق ...". الظاهر أنّ مراده من سببية السبب تأثيره ، لا كونه سببا في الشرع وهو الحكم الوضعي ؛ لأنّ هذا لا ينقسم إلى ما ذكره من الأقسام ، لكونه دائميّا (٢٢٦٩) في جميع الأسباب إلى أن ينسخ.

______________________________________________________

المشهور من المسامحة في موضوع الاستصحاب ، وإلّا فما ذكره من قبيل الشكّ في بقاء موضوع المستصحب ، فلا مجرى للاستصحاب فيها بناء على المداقّة في أمره ، سيّما على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله من عدم جريانه فيما كان الشكّ فيه في المقتضي. ومن هنا تظهر الحال فيما يأتي في كلامه من مثال حرمة الوطي وغيرها.

٢٢٦٧. ظاهره تسليم ما ذكره الفاضل التوني من إفادة النهي المطلق للتكرار ، وهو واضح المنع كما نبّه عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لظهور كون النهي ـ كالأمر ـ ظاهرا في الطبيعة من حيث هي من دون إفادة مرّة ولا تكرار.

٢٢٦٨. الترديد ناش من إجمال النصّ ، أعني : قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) حيث قرئ بالتخفيف والتضعيف.

٢٢٦٩. ظاهره عدم وقوع الشكّ في الحكم الوضعي ، أعني : كون السّبب سببا مثلا من غير جهة النسخ ، وهو واضح ، إذ ليس من الأسباب الشرعيّة ما يشكّ في بقاء سببيّته. نعم ، قد يقع الشكّ في بقاء نفس السبب ، كالطهارة بعد خروج المذي ، أو في السببية ابتداء ، كالألفاظ التي يشكّ في وقوع الطلاق بها.

٢٦٢

فإن أراد من النظر في كيفيّة سببيّة السبب تحصيل مورد (٢٢٧٠) يشكّ في كيفية السببيّة ليكون موردا للاستصحاب في المسبّب ، فهو مناف لما ذكره من عدم جريان الاستصحاب في التكليفيات إلّا تبعا (*) للوضعيات. وإن أراد من ذلك نفي مورد يشكّ في كيفية سببيّة السبب ليجري الاستصحاب في المسبّب (**) ، فأنت خبير بأنّ موارد الشكّ كثيرة ؛ فإنّ السببيّة قد تتردّد بين الدائم والموقّت ـ كالخيار المسبّب عن الغبن المتردّد بين كونه دائما لو لا المسقط وبين كونه فوريّا ، وكالشفعة المردّدة بين كونه مستمرّا إلى الصبح لو علم به ليلا أم لا ، وهكذا ـ والموقّت قد يتردّد بين وقتين ، كالكسوف الذي هو سبب لوجوب الصلاة المردّد وقتها بين الأخذ في الانجلاء وتمامه.

قوله : " وكذا الكلام في الشرط والمانع ...". لم أعرف المراد (٢٢٧١) من إلحاق الشرط والمانع بالسبب ؛ فإنّ شيئا من الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في (***) المانع وإن جرى كلّها أو بعضها في المانع إن لوحظ كونه سببا للعدم ؛ لكنّ المانع بهذا الاعتبار يدخل في السبب ، وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم الحكم.

______________________________________________________

٢٢٧٠. احتمال هذا الشقّ من الترديد في كلام الفاضل التوني في غاية البعد ، لأنّه بصدد نفي وقوع الشكّ في أحكام الوضع من رأس ، بل هو مخالف لصريح قوله : «فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان ...» إلى آخر ما ذكره.

٢٢٧١. لا يخفى أنّ المراد بالإلحاق واضح ، فإنّ المراد به ليس بيان جريان أقسام سببيّة السبب في الشرط والمانع ، بل المراد به عدم تحقّق الشكّ في شرطيّة الشرط ومانعيّة المانع ، لاندفاع الشكّ فيهما بإطلاق دليليهما كالسبب. نعم ، يرد عليه منع عدم تحقّقه فيهما ، كما هو واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : لجريانه.

(**) في بعض النسخ زيادة : كما هو الظاهر من كلامه.

(***) في بعض النسخ زيادة : الشرط و.

٢٦٣

وكذا ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله : " فإنّ ثبوت الحكم ...". فإنّ (*) الحاصل من النظر (٢٢٧٢) في كيفيّة شرطيّة الشرط أنّه قد يكون نفس الشيء شرطا لشيء على الإطلاق ، كالطهارة من الحدث الأصغر للمسّ ، ومن الأكبر للمكث في المساجد ، ومن الحيض للوطء ووجوب العبادة. وقد يكون شرطا في حال دون حال ، كاشتراط الطهارة من الخبث في الصلاة مع التمكّن ، لا مع عدمه. وقد يكون حدوثه في زمان ما شرطا للشىء فيبقى ، المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، كالاستطاعة للحجّ. وقد يكون تأثير الشرط بالنسبة إلى فعل دون آخر ، كالوضوء العذريّ المؤثّر فيما يؤتى به حال العذر.

فإذا شككنا في مسألة الحجّ في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة ، فلا مانع من استصحابه. وكذا لو شككنا في اختصاص الاشتراط بحال التمكّن من الشرط ـ كما إذا ارتفع التمكّن من إزالة النجاسة في أثناء الوقت ـ فإنّه لا مانع من استصحاب الوجوب. وكذا لو شككنا في أنّ الشرط في إباحة الوطء الطهارة بمعنى النقاء من الحيض أو ارتفاع حدث الحيض. وكذا لو شككنا في بقاء إباحة الصلاة أو المسّ بعد الوضوء العذريّ إذا كان الفعل المشروط به بعد زوال العذر. وبالجملة : فلا أجد كيفيّة شرطية الشرط مانعة عن جريان الاستصحاب في المشروط ، بل قد يوجب (٢٢٧٣) إجرائه فيه.

قوله : " فظهر ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلّا في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشروط والموانع". لا يخفى ما في هذا التفريع (٢٢٧٤) ؛

______________________________________________________

٢٢٧٢. حاصله : انقسام الشرط بهذا الاعتبار ، لا باعتبار ما ذكره في السبب.

٢٢٧٣. يعني : الشكّ في الكيفيّة لا نفسها.

٢٢٧٤. حاصله : أنّ قول الفاضل التوني مركّب من عقدي إيجاب وسلب ، وهما اعتبار الاستصحاب في متعلّقات أحكام الوضع ، وعدمه في غيرها. وما

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فإنّ» ، نعم.

٢٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يظهر من كلامه إلى قوله : «فظهر ممّا ذكرنا» عدم اعتباره في الأحكام التكليفيّة ابتداء. ، ولا في المسبّبات ، وكذا في أحكام الوضع.

وأمّا متعلّقات أحكام الوضع فلم يظهر من كلامه جريانه ولا عدمه فيها بالمعنى المعروف ، أعني : إثبات الشيء في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل ، فلا يصحّ التفريع حينئذ. مع أنّ متعلّقاتها إن كانت من الموضوعات الخارجة فهي خارجة من محلّ كلامه ، أعني : الأحكام الشرعيّة التي قسّمها على ستّة أقسام. وإن كانت من الموضوعات الشرعيّة مثل الطهارة والنجاسة اللتين مثّل بهما ، فهي من قبيل المسبّبات التي صرّح بعدم جريان الاستصحاب فيها. اللهمّ إلّا أن يدّعي أنّ ما صرّح به هو عدم جريانه في الأحكام التكليفيّة المسبّبة عن الأسباب ، لا أحكام الوضع المسبّبة عنها. ولكن يدفعها ما نقله عن الشهيد من كون الطهارة والنّجاسة من الامور الاعتباريّة دون المجعولة المسبّبة عن الأسباب.

وأنت خبير بأنّ التفريع يمكن أن يكون من حيث عدم جريان الاستصحاب في غير متعلّقات أحكام الوضع ، لا من حيث جريانه فيها ، وإن كان تفريع تمام المدّعى على ما ذكره في سابق كلامه لا يخلو من مسامحة ، إلّا أنّ أمثال هذه المسامحات غير غريزة في كلماتهم. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ التّفريع إنّما هو من حيث تعيين مورد جريان الاستصحاب ، بمعنى أنّه حيث فصّل في أوّل كلامه بين الأحكام الطلبيّة والوضعيّة ، ثمّ بيّن عدم جريانه في الاولى وكذا في الثاني بمعناها المعروف ، أراد هنا أن يبيّن أنّ ما اخترناه من اعتبار الاستصحاب في الجملة إنّما هو في الأحكام الوضعيّة بمعنى نفس الأسباب والشروط والموانع لا بمعناها المعروف ، ولا ريب في ظهور ذلك ممّا ذكره ، إذ بعد نفي جريانه فيما عداها يتعيّن كون مورد جريانه ما ذكره ، لعدم احتمال غيره.

وهنا معنى ثالث للتفريع ، وهو أنّه بعد أن قسّم الحكم إلى الطلبيّة والوضعيّة ، وفصّل بينهما في أوّل كلامه بالقول باعتباره في الثانية دون الاولى ، أراد

٢٦٥

فإنّه لم يظهر من كلامه جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية بمعنى نفس الأسباب والشروط والموانع ، ولا عدمه فيها بالمعنى المعروف (٢٢٧٥). نعم ، علم من كلامه عدم الجريان في المسبّبات أيضا ؛ لزعمه انحصارها في المؤبّد والموقّت بوقت محدود معلوم.

فبقي أمران (٢٢٧٦) : أحدهما : نفس الحكم الوضعي ، وهو جعل الشيء سببا لشيء أو شرطا. واللازم عدم جريان (٢٢٧٧) الاستصحاب فيها ؛ لعين ما ذكره في

______________________________________________________

هنا أن يشير إلى عدوله عمّا اختاره أوّلا ، بأنّا وإن اخترنا التفصيل أوّلا إلّا أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه عدم جريانه في شيء من الأحكام الطلبيّة والوضعيّة بمعناها المعروف ، وأنّ الاستصحاب المختلف فيه ـ يعني : بالمعنى الذي اختلفوا في اعتباره وعدمه ، وهو إثبات الشيء في الزمان الثاني اتّكالا على ثبوته في الزمان الأوّل ـ إنّما يجري في الأحكام الوضعيّة بمعنى الأسباب والشروط والموانع ، وهو ليس من محلّ النزاع في شيء ، لإجماعهم على اعتباره فيها كما ادّعاه الأمين الأسترآبادي. وممّا يشهد به تخصيصه المقسم في أوّل كلامه بالأحكام الشرعيّة ، واختياره للتفصيل بين الطلبيّة والوضعيّة منها ، مع تخصيصه مورد الجريان في آخر كلامه بمتعلّقات أحكام الوضع الّتي ليست بشرعيّة غالبا ، ولو لا مراده ما ذكرناه من العدول لزم التناقض والتهافت في كلامه ، والتزامه بعيد.

ثمّ إنّه يرد على المصنّف رحمه‌الله أيضا أنّ ما دفع به الدعوى المذكورة مدفوع بأنّ ما نقله الفاضل التوني عن الشهيد لا يلزم أن يكون مختاره. مضافا إلى أنّ تصريحه بكون وجوب الاجتناب مسبّبا عن النجاسة ، وكذا التكليف بالصلاة عن شرطيّة الطهارة ، لا يجتمع مع كونهما من الامور الاعتباريّة ، وهو واضح.

٢٢٧٥. متعلّق بقوله : «جريان الاستصحاب ...».

٢٢٧٦. يعني : لم يظهر من كلامه جريان الاستصحاب ولا عدمه فيهما.

٢٢٧٧. يعني أنّ اللازم ممّا ذكره عدم جريان الاستصحاب فيهما. وما تقدّم في كلامه من تعليل عدم جريانه في الأحكام الوضعيّة إنّما يقتضي عدم جريانه

٢٦٦

الأحكام التكليفية. والثاني : نفس الأسباب والشروط.

ويردّ عليه : أنّ نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير شرعيّ ، فظاهر كلامه ـ حيث جعل محلّ الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الامور الشرعيّة ـ خروج مثل هذا عنه ، كحياة زيد ورطوبة ثوبه. وإن كان أمرا شرعيّا كالطهارة والنجاسة ، فلا يخفى أنّ هذه الامور الشرعيّة مسبّبة عن أسباب ، فإنّ النجاسة التي مثّل بها في الماء المتغيّر مسبّبة عن التغيّر ، والطهارة التي مثّل بها في مسألة المتيمّم مسبّبة عن التيمّم ، فالشكّ في بقائهما لا يكون إلّا للشك في كيفيّة سببيّة السبب الموجب لإجراء الاستصحاب في المسبّب ـ أعني النجاسة والطهارة ـ ، وقد سبق منه المنع عن جريان الاستصحاب في المسبّب.

ودعوى : أنّ الممنوع (٢٢٧٨) في كلامه جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي المسبّب عن الأسباب إلّا تبعا لجريانه في نفس الأسباب. مدفوعة : بأنّ النجاسة كما حكاه المفصّل عن الشهيد ليست إلّا عبارة عن وجوب الاجتناب ، والطهر الحاصل من التيمّم ليس إلّا إباحة الدخول في الصلاة المستلزمة لوجوب المضيّ فيها بعد الدخول ، فهما اعتباران (*) منتزعان من الحكم التكليفي.

قوله : " ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ...".

قد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا خفاء في أنّ استصحاب النجاسة لا يعقل له معنى إلّا ترتيب أثرها (٢٢٧٩) ـ أعني وجوب الاجتناب في الصلاة والأكل والشرب ـ ، فليس هنا استصحاب للحكم التكليفي ، لا ابتداء ولا تبعا ، وهذا كاستصحاب حياة

______________________________________________________

في الأحكام المترتّبة عليها لا في أنفسها ، ولذا جعل ذلك لازم كلامه دون صريحه.

٢٢٧٨. يمكن منع هذه الدعوى بإطلاق الحكم فيما علّل به عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، لشموله لكلّ من الوضعيّة والتكليفيّة.

٢٢٧٩. أنت خبير بأنّ النجاسة إن كانت من الامور الاعتباريّة فلا معنى لاستصحابها ، لأنّ المستصحب حينئذ نفس الأحكام التكليفيّة التي انتزعت النجاسة

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «اعتباران» ، أمران اعتباريّان.

٢٦٧

زيد ؛ فإنّ حقيقة ذلك هو الحكم بتحريم عقد زوجته والتصرّف في ماله ، وليس هذا استصحابا لهذا التحريم.

بل التحقيق كما سيجيء : عدم جواز إجراء الاستصحاب في الأحكام التي تستصحب موضوعاتها ؛ لأنّ استصحاب وجوب الاجتناب مثلا : إن كان بملاحظة استصحاب النجاسة فقد عرفت أنّه لا يبقى بهذه الملاحظة شك في وجوب الاجتناب ؛ لما عرفت من أنّ حقيقة حكم الشارع باستصحاب النجاسة هو حكمه بوجوب الاجتناب حتى يحصل اليقين بالطهارة. وإن كان مع قطع النظر عن استصحابها فلا يجوز الاستصحاب ؛ فإنّ وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور إنّما كان من حيث كونه نجسا ؛ لأنّ النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب ، فما لم يحرز الموضوع في حال الشكّ لم يجر الاستصحاب ، كما سيجيء في مسألة اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب.

ثمّ اعلم : أنّه بقي هنا شبهة اخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا ، وهي : أنّ الموضوع للحكم التكليفي ليس إلّا فعل المكلّف ، ولا ريب أنّ الشارع بل كلّ حاكم إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخّصاته (٢٢٨٠) التي لها دخل في ذلك الحكم ثمّ يحكم عليه. وحينئذ ، فإذا أمر الشارع

______________________________________________________

منها. وإن كانت من الأحكام الوضعيّة المجعولة ، فهو مناف لما نقله عن الشهيد آنفا فيما أورده على الفاضل التوني. مع أنّ ما ذكره لا يخلو حينئذ من مسامحة ، لأنّ معنى استصحاب النجاسة ليس مجرّد ترتيب آثارها عليها في زمان الشكّ ، بل معناه الحكم بثبوتها في زمان الشكّ ، ويتفرّع عليه ثبوت آثارها أيضا ، لكونها تابعة في الثبوت على ثبوتها واقعا أو شرعا. ولا يقاس ذلك على استصحاب حياة زيد ، إذ نفس الحياة غير قابلة للثبوت شرعا إلّا بمعنى ترتيب آثارها عليها في زمان الشكّ ، بخلاف المجعولات الشرعيّة ، لأنّها بنفسها قابلة لجعل الشارع لها كآثارها في زمان الشكّ ، وهو واضح.

٢٢٨٠. وإن شئت توضيحه فقس موضوع الحكم الشرعيّ على موضوع

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم العقلي ، إذ كما أنّ العقل لا يحكم بشيء إلّا بعد إحراز جميع خصوصيّات موضوعه وقيوده ومشخّصاته حتّى عدم المانع ، كذلك الشرع. والوجه فيه واضح ، لأنّ الشرع أو العقل إن حكم بشيء على موضوع من دون إحراز جميع مقتضيات حكمه حتّى عدم المانع ، لزم حكمه من دون إحراز علّته التامّة ، وهو واضح البطلان ، فالموضوع دائما إمّا نفس العلّة التامّة أو هي موجودة فيه إجمالا. فإذا ثبت الحكم على هذا الموضوع في زمان ، فالشكّ في ثبوته في الزمان الثاني لا يعقل إلّا من جهة الشكّ في بعض قيود موضوعه ، إذ مع العلم بالموضوع بجميع قيوده لا يعقل الشكّ في ثبوت حكمه ، وإلّا لزم تخلّف العلّة عن معلولها ، وهو خلف.

ومن هنا يظهر أنّا لو فرضنا اعتبار قيد في الحكم دون موضوعه في الأدلّة ، مثل ما لو قال الشارع : الماء نجس إذا تغيّر ، فلا بدّ من إرجاعه أيضا إلى قيود الموضوع ، إذ بعد اعتبار كون الموضوع علّة للحكم المرتّب عليه ، فإن كان الموضوع غير مقيّد بما قيّد حكمه به لزم كون العلّة مقتضية لمعلوله مطلقا ، ومعلوله مختصّا ببعض الأحوال ، وهو محال ، لاستلزامه تخلّف العلّة عن معلوله في غير محلّ القيد ، وهو باطل بالضرورة.

ومن هذا التقرير يظهر عدم اختصاص الشبهة بما كان الموضوع فيه فعل المكلّف ، لوضوح سريانها إلى سائر الموارد أيضا حتّى مثل استصحاب حياة زيد ، لأنّ الموضوع فيه هو الشخص الحيّ ، والمستصحب حصوله ووجوده بالمعنى المصدري ، كما سيجيء عند بيان اشتراط العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، فالموضوع فيه أيضا لا بدّ أن يكون علّة لعروض المستصحب عليه بتقريب ما عرفت. وكذا الأمر في استصحاب الرطوبة واليبوسة ، وهكذا.

وبالجملة ، إنّ المستصحب في جميع الموارد عارض ومحمول على موضوعه ، والموضوع علّة لثبوته ، فلا يعقل التفصيل بحسب الموارد. فهذه الشبهة في الحقيقة من أدلّة القول بالنفي مطلقا ، لا القول بالتفصيل بين الأحكام التكليفيّة وغيرها.

٢٦٩

بفعل ـ كالجلوس في المسجد مثلا ـ فإن كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه الغير المقيّد بشيء أصلا ، فلا إشكال في عدم ارتفاع وجوبه إلّا بالإتيان به ؛ إذ لو ارتفع الوجوب بغيره كان ذلك الرافع من قيود الفعل ، وكان الفعل المطلوب مقيّدا بعدم هذا القيد من أوّل الأمر ، والمفروض خلافه.

وإن كان الموضوع فيه هو الجلوس المقيّد بقيد ، كان عدم ذلك القيد موجبا لانعدام الموضوع ، فعدم مطلوبيّته ليس بارتفاع الطلب عنه ، بل لم يكن مطلوبا من أوّل الأمر. وحينئذ فإذا شكّ في الزمان المتأخّر في وجوب الجلوس ، يرجع الشكّ إلى الشكّ في كون الموضوع للوجوب هو الفعل المقيّد أو الفعل المعرّى عن هذا القيد. ومن المعلوم عدم جريان الاستصحاب هنا ؛ لأنّ معناه إثبات حكم كان متيقّنا لموضوع معيّن عند الشكّ في ارتفاعه عن ذلك الموضوع ، وهذا غير متحقّق فيما نحن فيه.

وكذا الكلام في غير الوجوب من الأحكام الأربعة الأخر ؛ لاشتراك الجميع في كون الموضوع لها هو فعل المكلّف الملحوظ للحاكم بجميع مشخّصاته ، خصوصا إذا كان حكيما ، وخصوصا عند القائل بالتحسين والتقبيح ؛ لمدخليّة المشخصات في الحسن والقبح حتّى الزمان.

______________________________________________________

ولكنّك خبير بما فيها ، لأنّه مع قطع النظر عمّا أجاب به عنها المصنّف رحمه‌الله يمكن منع كون الشكّ في بقاء الحكم دائما ناشئا من الشكّ في بعض قيود موضوعه ، لوضوح عدم كون عدم المانع ابتداء أو استدامة داخلا في الموضوع ، لأنّه من قيود ثبوت المحمول على موضوعه في كلّ زمان ، فالموضوع عند العقل هو المقتضي للحكم دون علّته التامّة وقياس ما نحن فيه على الأحكام العقليّة فاسد جدّا ، لأنّ عدم جريان الاستصحاب فيها إنّما هو من جهة أنّ حكم العقل بشيء لا يعقل إلّا بعد إحراز علّته التامّة ، فلا يحصل الشكّ في حكمه في آن حتّى يجري فيه الاستصحاب ، كما سيجيء في التنبيهات. والعلّة التامّة غير معلومة غالبا في الأحكام الشرعيّة. وقد عرفت عدم ملازمة وجود الموضوع لوجود العلّة التامّة حتّى يقال : إنّ العلم ببقائه كما هو الشرط في جريان الاستصحاب مستلزم للعلم بالعلّة التامّة.

٢٧٠

وبه يندفع ما يقال : إنّه كما يمكن أن يجعل الزمان ظرفا للفعل ، بأن يقال : إنّ التبريد في زمان الصيف مطلوب ، فلا يجري الاستصحاب إذا شكّ في مطلوبيّته في زمان آخر ، أمكن أن يقال : إنّ التبريد مطلوب في الصيف على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان قيدا للطلب ، وحينئذ فيجوز استصحاب الطلب إذا شك في بقائه بعد الصيف ؛ إذ الموضوع باق على حاله في الحالتين. توضيح الاندفاع : أنّ القيد في الحقيقة راجع إلى الموضوع ، وتقييد الطلب به أحيانا في الكلام مسامحة في التعبير ـ كما لا يخفى ـ فافهم.

وبالجملة : فينحصر مجرى الاستصحاب في الامور القابلة للاستمرار في موضوع ، وللارتفاع عن ذلك الموضوع بعينه ، كالطهارة والحدث والنجاسة والملكية والزوجية والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك. ومن ذلك يظهر عدم جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي أيضا إذا تعلّق بفعل الشخص.

هذا ، والجواب عن ذلك : أنّ مبنى الاستصحاب ـ خصوصا إذا استند فيه (٢٢٨١) إلى الأخبار ـ على القضايا العرفيّة المتحقّقة في الزمان السابق التي ينتزعها العرف من الأدلّة الشرعيّة ، فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ثمّ شكّ في بقائه بعده ، فإنّ الشكّ في هذه المسألة في استمرار الحرمة لهذا الفعل وارتفاعها ، وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة كون الزمان قيدا للفعل. وكذلك الإباحة والكراهة والاستحباب.

______________________________________________________

٢٢٨١. ظاهره أنّ المدار في باب الاستصحاب على الصدق العرفي في البقاء والارتفاع ، حتّى على القول باعتباره من باب الظنّ. وقد يناقش فيه بأنّ المدار على هذا القول على حصول الظنّ ، سواء صدق معه البقاء عرفا أم لا ، ولا ملازمة بينهما ، كيف لا واعتبار الصدق العرفي إنّما يتمّ على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، لكون المدار في العمل بها على مصاديقها العرفيّة ، ولا دليل عليه على تقدير اعتباره من باب الظنّ.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان متّجها ، إلّا أنّ الظاهر أنّ مقصود

٢٧١

نعم قد يتحقق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشكّ في الاستمرار ، مثلا : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثمّ شككنا في الغد أنّه واجب اليوم عند الزوال ، فلا يحكمون باستصحاب ذلك ، ولا يبنون على كونه ممّا شكّ في استمراره وارتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال. أمّا لو ثبت ذلك مرارا ، ثمّ شكّ فيه بعد أيّام ، فالظاهر حكمهم (٢٢٨٢) بأنّ هذا الحكم كان مستمرّا وشكّ في ارتفاعه ، فيستصحب.

ومن هنا ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشكّ في حدوث التكليف بالقصر ، وباستصحاب وجوب العبادة عند شكّ المرأة في حدوث الحيض ، لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب للقصر ، وعدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة ـ حتّى يحكم بوجوب التمام ؛ لأنّه من آثار عدم السفر الشرعيّ الموجب للقصر ، وبوجوب العبادة ؛ لأنّه من آثار عدم الحيض ـ بل من جهة كون التكليف بالتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم أمرا مستمرّا عندهم وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما ، فهو في كلّ يوم مسبوق بالعدم ، فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ، لا إلى استصحاب وجوده.

والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف بأنّ الشيء الفلانيّ كان مستمرّا فارتفع وانقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع. ولو لا ملاحظة هذا التخيّل العرفيّ لم يصدق على النسخ أنّه رفع للحكم الثابت أو لمثله ؛ فإنّ عدم التكليف في وقت الصلاة بالصلاة

______________________________________________________

المصنّف رحمه‌الله التنبيه على أنّ ظاهر العلماء ـ مع قولهم باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، واشتراطهم للعلم ببقاء الموضوع ـ هو الاكتفاء في بقائه بالقضايا العرفيّة ، كما يرشد إليه ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من مثال استصحاب وجوب التّمام ووجوب العبادة ووجود الكرّ ، لأنّهم قد تمسّكوا فيها بالاستصحاب ، مع كون الموضوع فيها مشكوك البقاء بحسب المداقّة ، بل ومع العلم بعدم بقائه في الواقع في بعضها.

٢٢٨٢. فيكون الموضوع حينئذ في نظر أهل العرف هو فعل المكلّف من حيث هو ، لا من حيث تقيّده بزمان خاصّ.

٢٧٢

إلى القبلة المنسوخة دفع في الحقيقة (٢٢٨٣) للتكليف ، لا رفع. ونظير ذلك في غير الأحكام الشرعيّة ما سيجيء من إجراء الاستصحاب في مثل الكريّة وعدمها ، وفي الامور التدريجيّة (٢٢٨٤) المتجدّدة شيئا فشيئا ، وفي مثل وجوب الناقص (٢٢٨٥) بعد تعذّر بعض الأجزاء فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلّا بالمسامحة العرفيّة ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

حجّة القول الثامن وجوابها يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه. فنقول : قد نسب جماعة إلى الغزاليّ القول بحجيّة الاستصحاب وإنكارها في استصحاب حال الإجماع ، وظاهر ذلك كونه مفصّلا في المسألة.

______________________________________________________

٢٢٨٣. بل لا دفع في الحقيقة أيضا ، لأنّ النسخ كاشف عن عدم مطلوبيّة الفعل بعد زمان النسخ ، وعدم وجود المصلحة فيه بعده ، نظير التخصيص بحسب الأفراد ، والدفع إنّما يصدق مع وجود المقتضي للحكم لا مع عدمه.

٢٢٨٤. كالزمان والزمانيّات ، مثل التكلّم ونحوه.

٢٢٨٥. كاستحباب وجوب باقي أجزاء المركّب بعد تعذّر بعضها ، فإنّ المقصود منه إثبات الوجوب النفسي لباقي الأجزاء بعد تعذّر بعضها. مع أنّ الوجوب النفسي كان متعلّقا في حال تيسّر الكلّ بالكلّ لا ببعضها ، والفرض انتفائه بتعذّر بعض أجزائه ، فاستصحاب الوجوب النفسي لا يتمّ إلّا بالمسامحة العرفيّة ، بدعوى كون الأجزاء الباقية هو ما كان واجبا في الزمان السابق.

ويحتمل أن تكون المسامحة في المستصحب دون موضوعه ، بأن يدّعى كون الوجوب المتعلّق بالأجزاء في زمان تيسّر الكلّ هو الوجوب الذي اريد إثباته في زمان الشكّ ، ومرجعه إلى المسامحة في دعوى كون الوجوب الغيري هو الوجوب النفسي في نظر أهل العرف ، لعدم التفاتهم إلى جهة اختلافهما ، وغفلتهم عن مغايرة المطلوبيّة للغير للمطلوبيّة النفسيّة. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الوجهين في مسألة البراءة.

٢٧٣

وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة منهم الغزاليّ حجّيته ، ثمّ أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثمّ ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الإجماع ، ومثل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر ، ونسب إلى الأكثر ومنهم الغزاليّ عدم حجّيته.

إلّا أنّ الذي يظهر بالتدبّر (٢٢٨٦) في كلامه المحكي في النهاية : هو إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا وإن ثبت المستصحب بغير الإجماع من الأدلّة المختصّة

______________________________________________________

٢٢٨٦. لا يخفى أنّ ما استظهره المصنّف رحمه‌الله من كلام الغزالي ـ من كونه نافيا مطلقا ـ وإن كان متّجها بناء على التأمّل في كلامه المحكيّ في النهاية ، إلّا أنّ محمّد بن علي بن أحمد الحرفوشي العاملي قد حكى في شرحه على قواعد الشهيد عن الغزالي في كتابه المستصفى التصريح بالتفصيل بين استصحاب حال الإجماع وغيره ، لأنّ الشهيد قد قسّم الاستصحاب إلى استصحاب النفي ، واستصحاب حكم العموم إلى ورود مخصّص ، وحكم النصّ إلى ورود ناسخ ، واستصحاب حكم ما ثبت شرعا كالملك عند وجود سببه إلى أن يثبت رافعه ، واستصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع.

قال الفاضل الحرفوشي عند بيان القسم الرابع : «حاصله أن يتّفق حكم فيتغيّر الحال ويقع الاختلاف ، فيستدلّ من يعتبر باستصحاب الحال» إلى أن قال : «اعلم أنّ الغزالي والأكثر ذهبوا إلى أنّ الاستصحاب في محلّ النزاع ليس بحجّة. وحكى عن بعض الشافعيّة. وذهب أبو بكر الصيرفي وغيره من الشافعيّة إلى أنّه حجّة. وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب. ومن أطلق منهم القول بأنّه ليس بحجّة ـ كإمام الحرمين ـ فمرادهم به هذا النوع الرابع ، لأنّ الغزالي يوافقهم على عدم القول به ، وقد صرّح في المستصفى بأنّ الأنواع الثلاثة الأول متّفق على القول بها ، فتأمّل» انتهى.

وقال بعض الشافعيّة في شرح منظومته بعد بيان أقسام الاستصحاب واعتبارها : «ويخرج من هذا استصحاب حال الإجماع في محلّ الخلاف ، وهو أن

٢٧٤

دلالتها بالحال الأوّل المعلوم انتفاؤها في الحال الثاني ؛ فإنّه قد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الإجماع ، كما ستعرف في كلام الشهيد رحمه‌الله (٢٢٨٧) ، وإنّما المسلّم عنده استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه الخارج عن محلّ النزاع ، بل عن حقيقة الاستصحاب (٢٢٨٨) حقيقة. فمنشأ نسبة التفصيل (٢٢٨٩) إطلاق الغزالي الاستصحاب على استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه ، وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الإجماع ، وإن صرّح في أثناء كلامه بإلحاق غيره ـ ممّا يشبهه في اختصاص مدلوله بالحالة الاولى ـ به في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت به ، كما ستعرف في كلام الشهيد قدس‌سره.

______________________________________________________

يحصل الإجماع على حكم في الحال ، فتتغيّر تلك الحال ويقع الخلاف ، فلا تستصحب حال الإجماع في محلّ الخلاف ، كقول الشافعيّة في الخارج من غير السّبيلين : الإجماع على أنّه قبله متطهّر ، والأصل البقاء حتّى يثبت معارض ، والأصل عدمه. هذا قول أكثر أصحابنا منهم الغزالي ، خلافا لما نقل عنه من الحاجب. وذهب الأقلّون ـ منهم المزني وأبو ثور والصيرفي وابن شريح وابن حيزان ـ إلى أنّه حجّة» انتهى.

٢٢٨٧. قد أسلفنا شطرا من كلماتهم ممّا يشهد بذلك عند شرح ما يتعلّق بتحرير محلّ النزاع ، من حيث اختصاصه باستصحاب حال الإجماع وعدمه ، فراجع.

٢٢٨٨. يمكن استظهاره أيضا من كلام الغزالي ، وهو قوله : «كان ذلك تمسّكا بالعموم ...» إلى آخر ما ذكره ، فتدبّر.

٢٢٨٩. بهذا يجمع بين قولي الغزالي ، أعني : قوله باعتبار استصحاب غير حال الإجماع وعدمه فيه ، مع كون دليله على النفي فيه شاملا لغيره أيضا ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله ، وسيشير إلى ضعف ما جمع به السيّد الصدر بينهما.

٢٧٥

قال في الذكرى ـ بعد تقسيم حكم العقل الغير المتوقّف على الخطاب (٢٢٩٠) على خمسة أقسام : ما يستقلّ به العقل كحسن العدل ، والتمسّك بأصل البراءة ، وعدم الدليل دليل العدم ، والأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر ـ : الخامس أصالة بقاء ما كان ، ويسمّى استصحاب حال الشرع وحال الإجماع (٢٢٩١) في محلّ الخلاف ، مثاله : المتيمم ... ، واختلف الأصحاب في حجّيته ، وهو مقرّر في الاصول (١٥). انتهى. ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا؟ وفي مسألة المتيمّم ... ، وصاحب الحدائق في الدرر النجفيّة (١٦) ، بل استظهر هذا من كلّ من مثّل لمحلّ النزاع بمسألة المتيمّم ، كالمعتبر والمعالم وغيرهما.

ولا بدّ من نقل عبارة الغزالي المحكية في النهاية حتّى يتّضح حقيقة الحال. قال الغزالي على ما حكاه في النهاية : المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يقم دليلا في المسألة ، بل قال : أنا ناف (٢٢٩٢) ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ، وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ ؛ فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه (٢٢٩٣) ، وهو إن كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها عند عدم الخروج من غير السبيلين لا عند وجوده. وإن دلّ بعمومه على دوامها عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسّكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص. وإن كان بالإجماع فالإجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم (٢٢٩٤) دون الوجود ، ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف خارقا للإجماع ،

______________________________________________________

٢٢٩٠. المتوقّف من حكم العقل على الخطاب الشرعيّ ، مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ والمفاهيم.

٢٢٩١. يحتمل أن يكون تعدّد التسمية باعتبار تعدّد أقسام الاستصحاب ، فلا تكون في كلامه حينئذ شهادة للمدّعى.

٢٢٩٢. يعني : لانتقاض الحالة الاولى.

٢٢٩٣. أي : الطهارة.

٢٢٩٤. أي : عدم الشرط ، وهو وجدان الماء.

٢٧٦

كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الشمس (٢٢٩٥) خارق للإجماع ، لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ، فأمّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال. وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصليّة بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، فكذا هنا انعقد الإجماع بشرط العدم ، فانتفى الإجماع عند الوجود.

وهذه دقيقة : وهو أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف ، فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنص ودليل العقل ، فإنّ الخلاف لا يضادّه ؛ فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته شامل لمحلّ الخلاف ؛ فإنّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : " لا صيام لمن لا يبيت الصّيام من اللّيل" شامل بصيغته صوم رمضان ، مع خلاف الخصم فيه ، فيقول : " اسلّم شمول الصيغة ، لكنّي اخصّصه بدليل" فعليه الدليل. وهاهنا ، المخالف لا يسلّم شمول الإجماع لمحلّ الخلاف ؛ لاستحالة الإجماع مع الخلاف ، ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل. فهذه دقيقة يجب التنبّه لها.

ثمّ قال : فإن قيل : الإجماع يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف؟ ثمّ أجاب : بأنّ هذا الخلاف غير محرّم بالإجماع (٢٢٩٦) ولم يكن المخالف خارقا للإجماع ؛ لأنّ الإجماع إنّما انعقد على حالة العدم ، لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل. لا يقال : دليل صحّة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع. لأنّا نقول : ذلك الدليل ليس هو الإجماع ؛ لأنّه مشروط بالعدم (٢٢٩٧) ، فلا يكون دليلا عند الوجود ، وإن كان نصّا فبيّنه حتى ننظر هل يتناول حال الوجود أم لا.

______________________________________________________

٢٢٩٥. وغيرهما من الحوادث.

٢٢٩٦. أي : بسببه.

٢٢٩٧. أي : بعدم وجدان الماء.

٢٧٧

لا يقال : بم تنكرون على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ؛ فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب. لأنّا نقول : هذا وهم باطل ؛ لأنّ كلّ ما ثبت جاز دوامه وعدمه ، فلا بدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت. ولو لا دليل العادة على أنّ الميّت لا يحيى والدار لا ينهدم إلّا بهادم أو طول الزمان ، لما عرفنا دوامه بمجرّد ثبوته ، كما لو اخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ، ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال ، فإنّا لا نقضي بدوامها. وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ، فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر (١٧) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ كثيرا من كلماته (٢٢٩٨) خصوصا قوله أخيرا : " خبر الشارع عن دوامها" صريح في أنّ هذا الحكم غير مختصّ بالإجماع ، بل يشمل كلّ دليل يدلّ على قضيّة مهملة من حيث الزمان بحيث يقطع بانحصار مدلوله الفعلي في الزمان الأوّل. والعجب من شارح المختصر (٢٢٩٩) ؛ حيث إنّه نسب القول بحجّية

______________________________________________________

٢٢٩٨. منها قوله : «وهو إن كان لفظ الشارع ...». ومنها قوله : «فإنّ المخالف مقرّ ...» ، فإنّه ظاهر في شمول المنع لكلّ مورد لم يكن دليل الحالة الاولى شاملا للحالة الثانية ، سواء كان إجماعا أم غيره ، واختصاص اعتبار الاستصحاب بموارد عموم الدليل للحالتين بالعموم أو الإطلاق. ومنها قوله : «لأنّا نقول : ذلك الدليل ...» والتقريب فيه يظهر من سابقه. ومنها قوله : «فلا بدّ لدوامه من سبب ...» إلى آخر ما ذكره ، سيّما قوله : «وكذا خبر الشارع ...».

وبالجملة ، إنّ ظاهر كثير من كلماته التي عرفتها كونه منكرا لاعتبار استصحاب ما عدا عموم النصّ الذي هو خارج من محلّ النزاع ، بل من حقيقة الاستصحاب ، بل قد أسلفنا استظهار ذلك من كلامه أيضا ، فلاحظ.

٢٢٩٩. منشأ التعجّب أمران : أحدهما : نسبة القول باعتبار الاستصحاب مطلقا إلى الغزالي ، مع ما عرفت من أنّ ظاهر كلامه إنكار اعتبار ما عدا استصحاب

٢٧٨

الاستصحاب إلى جماعة منهم الغزالي ، ثمّ قال : ولا فرق عند من يرى صحّة الاستدلال به بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا ، كما يقال فيما اختلف كونه نصابا : لم تكن الزكاة واجبة عليه والأصل بقاؤه ، أو حكما شرعيّا ، مثل قول الشافعية في الخارج من غير السبيلين : إنّه كان قبل خروج الخارج متطهّرا ، والأصل البقاء حتى يثبت معارض ، والأصل عدمه (١٨) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ المثال الثاني ممّا نسب إلى الغزالي إنكار الاستصحاب فيه ، كما عرفت من النهاية ومن عبارته المحكيّة (*) فيها.

ثم إنّ السيّد صدر الدين جمع في شرح الوافية بين قولي الغزالي : تارة : بأنّ قوله بحجيّة الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلا من حصول الظنّ ، بل هو مبنيّ على دلالة الروايات عليها ، والروايات لا تدلّ على حجّية استصحاب حال الإجماع. واخرى : بأنّ غرضه من دلالة الدليل على الدوام كونه بحيث لو علم أو ظنّ وجود المدلول في الزمان الثاني أو الحالة الثانية لأجل موجب (٢٣٠٠) لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا ، والإجماع ليس كذلك ؛ لأنّه يضادّ الخلاف ، فكيف يدلّ على كون المختلف فيه مجمعا عليه؟ كما يرشد إليه قوله : " والإجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف النصّ والعموم ودليل العقل ، فإنّ الخلاف لا يضادّه". ويكون غرضه من قوله : " فلا بدّ لدوامه من سبب" الردّ على من ادّعى أنّ علّة الدوام هو مجرّد تحقق الشيء في الواقع ، وأنّ الإذعان به يحصل من مجرّد العلم بالتحقق ، فردّ عليه بأنّه ليس الأمر كذلك ، وأنّ الإذعان والظنّ بالبقاء لا بدّ له من

______________________________________________________

حال العموم. وثانيهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من تصريحه باعتبار استصحاب الطهارة في مثال خروج الخارج من غير السبيلين ، مع إنكار الغزالي لاعتباره في خصوص هذا المثال.

٢٣٠٠. يعني : دليل آخر يدلّ على بقاء مدلول الدليل الأوّل.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : عنه.

٢٧٩

أمر أيضا ، كعادة أو أمارة أو غيرهما ، انتهى.

أقول : أمّا الوجه الأوّل ، فهو كما ترى ؛ فإنّ التمسّك بالروايات ليس له أثر في كلام الخاصّة (٢٣٠١) الذين هم الأصل في تدوينها في كتبهم ، فضلا عن العامّة.

______________________________________________________

٢٣٠١. يعني : إلى زمان والد شيخنا البهائي ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا. ومع تسليم استدلال أصحابنا بالأخبار لا ريب أنّ العامّة لا يجوّزون التمسّك بالأخبار المرويّة من طرقنا. ومع التسليم أيضا لا ريب أنّه لا فرق في مفاد الأخبار ـ بل سائر أدلّة القول بالاعتبار وعدمه ـ بين موارد الإجماع وغيرها. ولكنّ الظاهر أنّ مراد السيّد الصدر بالأخبار ليس ما كان مرويّا من طرقنا من طرق العامّة. وقد أشرنا سابقا إلى أنّ لهم قاعدتين ، إحداهما : المسمّاة بالاستصحاب ، وهو المستدلّ عليه بالاعتبار. والاخرى : المسمّاة بقاعدة اليقين ، وهي المستدلّ عليها بالأخبار. وقد أوردنا شطرا من كلماتهم الدالّة على ذلك عند شرح ما يتعلّق بالأمر الأوّل من الامور التي قدّمها المصنّف رحمه‌الله أمام المسألة. وأشرنا عند شرح ما يتعلّق بالقول الخامس إلى أنّ في كلام الأمين الأسترآبادي أيضا دلالة على ذلك.

ومن جملة الأخبار المذكورة حديث عبيد الله بن زيد المازني «شكا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الرجل يخيّل إليه أنّه يجد الشيء في الصلاة. قال : لا ينصرف حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا أخرجهما». وما رواه مسلم : «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنّ من المسجد حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا.»

ثمّ إنّه ربّما يحتمل كون مراده الأخبار الواردة من طرقنا ، نظرا إلى بعض كلمات الغزالي الدالّة على تشيعه ، مثل ما نقله الشيخ الطريحي في المجمع في مادّة الغدير عن كتابه المسمّى بسرّ العالمين. ولكن قد نقل عنه غيره بعض المقالات المنكرة ، مثل عدم جواز لعن يزيد بن معاوية ، بل جواز الترحّم ـ بل استحبابه ـ عليه ، وحرمة رواية مقتل الحسين عليه الصلاة والسلام على الواعظ وغيره ، فلا تغفل.

٢٨٠