فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم ، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما (*) في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ، ولذا ذكرنا أنّه تترتّب عليه أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم.

ويظهر من المحقّق القميّ رحمه‌الله في القوانين ـ مع قوله بحجّية الاستصحاب على الإطلاق ـ عدم جواز إجراء الاستصحاب في هذا القسم ، ولم أتحقّق وجهه. قال : إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابليّة الامتداد وملاحظة الغلبة فيه ، فلا بدّ من التأمّل في أنّه كلّيّ أو جزئيّ ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أوّلا مفهوما كليّا مرددا بين امور ، وقد يكون جزئيّا حقيقيّا معيّنا ، وبذلك يتفاوت الحال ؛ إذ قد يختلف أفراد الكليّ في قابلية الامتداد ومقداره ، فالاستصحاب حينئذ ينصرف إلى أقلّها استعدادا للامتداد.

ثمّ ذكر حكاية تمسّك بعض أهل الكتاب لإثبات نبوّة نبيّه بالاستصحاب ، وردّ بعض معاصريه له بما لم يرتضه الكتابي ، ثم ردّه بما ادّعى ابتناءه على ما ذكره من ملاحظة مقدار القابليّة. ثمّ أوضح ذلك بمثال ، وهو : أنّا إذا علمنا أنّ في الدار حيوانا ، لكن لا نعلم أنّه أيّ نوع هو من الطيور أو البهائم أو الحشار أو الديدان؟ ثمّ غبنا عن ذلك مدّة ، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدّة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ، فإذا احتمل كون الحيوان الخاص في البيت عصفورا أو فأرة أو دودة قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بالقدر المشترك باستصحابها إلى حصول زمان ظنّ بقاء أطول الحيوانات عمرا؟! قال : وبذلك بطل تمسّك الكتابي (١) ، انتهى.

______________________________________________________

المشترك قائم باحتمالين ، أحدهما : احتمال بقائه ، والآخر : احتمال ارتفاعه. والأوّل مسبّب عن احتمال كون الحادث هو الأكثر بقاء. والثاني عن احتمال كون

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : هو.

٣٤١

أقول : إنّ ملاحظة استعداد المستصحب واعتباره في الاستصحاب ـ مع أنّه مستلزم لاختصاص (٢٣٧١) اعتبار الاستصحاب بالشكّ في الرافع ـ موجب لعدم

______________________________________________________

الحادث أقلّ بقاء. وتعيين أحد الاحتمالين يتوقّف على تعيين ما نشأ منه هذا الاحتمال. ولا سبيل إلى تعيين كون الحادث هو الأقلّ بقاء الذي هو متيقّن الانتفاء حتّى يترتّب عليه انتفاء القدر المشترك في زمان الشكّ.

وما ذكره المستدلّ من كون الشكّ في بقائه بمعنى كون احتمال بقائه مسبّبا عن الشكّ في حدوث الأكثر بقاء ، فإذا حكم بعدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترك ، ضعيف ، لأنّ الظاهر أنّ مراده بوجه اللزوم أنّه إذا ثبت عدم حدوث الأكثر بقاء لزمه كون الكلّي حاصلا في ضمن الأقلّ بقاء ، فإذا فرض القطع بانتفائه لزم انتفاء الكلّي لا محالة.

ويرد عليه أوّلا : أنّه يبتني على القول بالاصول المثبتة. وثانيا : أنّ الأصل المذكور تعارضه أصالة عدم كون الحادث الأقلّ بقاء ، وهو مستلزم لكون الحادث الأكثر بقاء ، ويلزمه بقاء الكلّي لا محالة.

نعم ، غاية ما يترتّب على أصالة عدم حدوث الأكثر بقاء عدم تحقّق الحصّة الموجودة في ضمنه من الطبيعة من حيث تحقّقها في ضمنه ، فإذا ترتّب على عدم وجودها في ضمن هذا الفرد أثر شرعيّ يترتّب عليه بهذا الأصل ، إلّا أنّه لا يثبت عدم وجود القدر المشترك بين الأمرين. وممّا ذكرناه من المعارضة يظهر وجه إمكان قلب التوهّم المذكور على المتوهّم ، فلا تغفل.

٢٣٧١. وجه الاستلزام واضح ، لأنّ مسيس الحاجة إلى ملاحظة الغلبة إنّما هو لأجل إحراز استعداد المشكوك فيه للبقاء بملاحظة أغلب أفراد نوعه أو صنفه ، فإذا حصل الظنّ باستعداده للبقاء بملاحظته يظنّ بقائه لا محالة ، قضيّة لإلحاق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب. فالحكم بالبقاء في جميع موارد الاستصحاب المبنيّ

٣٤٢

انضباط الاستصحاب ؛ لعدم استقامة (٢٣٧٢) إرادة استعداده من حيث شخصه (*) ولا أبعد الأجناس ولا أقرب الأصناف ، ولا ضابط لتعيين المتوسّط ، والإحالة على الظنّ الشخصي. قد عرفت ما فيه (٢٣٧٣) سابقا ، مع أنّ اعتبار الاستصحاب عند هذا المحقّق لا يختصّ دليله بالظنّ ، كما اعترف به سابقا ، فلا مانع من استصحاب وجود الحيوان في الدار إذا ترتب اثر شرعيّ على وجود مطلق الحيوان فيها. ثمّ إنّ ما ذكره : من ابتناء جواب الكتابي على ما ذكره ، سيجيء ما فيه مفصّلا إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثالث وهو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي مستندا إلى احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، فهو على قسمين ؛ لأنّ الفرد الآخر : إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله ، وإمّا أن يحتمل حدوثه بعده ، إمّا بتبدّله إليه (٢٣٧٤) وإمّا بمجرّد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك الفرد.

______________________________________________________

على الغلبة لا يتحقّق إلّا بعد إحراز استعداد المشكوك فيه للبقاء في زمان الشكّ ، والشكّ في بقائه حينئذ لا يتحقّق إلّا من جهة احتمال عروض المانع.

٢٣٧٢. أمّا عدم استقامة إرادة الاستعداد بحسب تشخّصه فلتعذّر العلم به غالبا. وكذا بحسب أقرب الأصناف إليه. وأمّا بحسب الأجناس البعيدة ، فلعدم إفادة هذه الغلبة للظنّ بلحوق المشكوك فيه بالأغلب ، لأنّ هذا الظنّ ـ كما أوضحناه سابقا ـ إنّما ينشأ من حصول الظنّ بوجود علّة للحكم أو الصفة في الأفراد الغالبة ، وهي موجودة في الفرد المشكوك فيه. وتحصيل الظنّ بها في الأجناس البعيدة متعذّر. وأمّا عدم الضابط لتعيين المتوسّط فواضح.

٢٣٧٣. قد تقدّم ذلك في الأمر الرابع من الامور التي قدّمها أمام الأقوال. وقد ذكر هناك أنّ المعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار الظنّ الشخصي في المقام.

٢٣٧٤. كمثال السواد الشديد وغيره ممّا سيذكره.

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «شخصه» ، تشخّصه.

٣٤٣

وفي جريان استصحاب الكلّي (٢٣٧٥) في كلا القسمين ؛ نظرا إلى تيقّنه سابقا وعدم العلم بارتفاعه ، وإن علم بارتفاع بعض وجوداته وشكّ في حدوث ما عداه ؛ لأنّ ذلك مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلّي ، كما تقدّم نظيره في القسم الثاني ، أو عدم جريانه فيهما ؛ لأنّ بقاء الكلّي في الخارج عبارة عن استمرار وجوده الخارجيّ (*) المتيقّن سابقا ، وهو معلوم العدم ، وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه والقسم الثاني ؛ حيث إنّ الباقي في الآن اللاحق بالاستصحاب هو عين الوجود (**)

______________________________________________________

٢٣٧٥. لا يخفى أنّ الوجه الأوّل مبنيّ على كون المستصحب هو القدر المشترك بين الأمرين ، أعني : الكلّي الموجود بوجوده النوعي في ضمن الفرد المتيقّن الارتفاع والمشكوك الحدوث ، لأن الكلّي بهذا الاعتبار لا يرتفع بسبب انعدام بعض أفراده ، لأنّ الكلّي إنّما يرتفع بانعدام بعض أفراده بلحاظ تقيّده بالوجود الشخصي الذي هو محقّق للفرديّة دون النوعي.

والثاني مبنيّ على أنّ تحقّق الكلّي واستمراره وارتفاعه إنّما هو باعتبار وجوده الشخصي دون النوعي ، لأنّه باعتبار وجوده النوعي أيضا كلّي لا وجود له إلّا باعتبار الوجود الشخصي ، والأحكام إنّما تتعلّق به بهذا الاعتبار. والمفروض أنّ الوجود الشخصي المتيقّن سابقا قد ارتفع ، وفي الزمان الثاني مشكوك الحدوث ، محكوم بالانتفاء بحكم الأصل.

والثالث مبنيّ على تسليم الوجه الثاني فيما كان الفرد الآخر مشكوك الحدوث ، وبعد ارتفاع الفرد الأوّل ، ومنعه فيما كان الفرد الآخر محتمل الوجود مع الفرد الأوّل ، بمعنى منع تأتّي وجه المنع فيه ، لأنّ الكلّي بوجوده الشخصي المحتمل في الزمان الثاني على تقدير وجوده فيه كان موجودا في الزمان الأوّل.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : علي نحو.

(**) في بعض النسخ بدل : «الوجود» ، الموجود.

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنّك خبير بأنّه يشترط في جريان الاستصحاب كون القضيّة المشكوكة عين المتيقّنة حتّى يصدق معه الشكّ في البقاء ، والمتيقّن هنا وجود الكلّي بوجود الفرد المتيقّن الارتفاع ، والمشكوك وجوده بوجود الفرد المحتمل الوجود مع الفرد المتيقّن الارتفاع ، فيختلف موضوع القضيّتين ، فينتفى شرط جريان الاستصحاب.

ومن هنا يظهر أنّ الأقوى هو الوجه الثاني. اللهمّ إلّا أن يبنى على المسامحة في عدّ موضوع القضيّتين واحدا في نظر أهل العرف ، ولكنّ الظاهر أنّ مبنى الوجوه المذكورة على المداقّة دون المسامحة.

وربّما يذكر من مفاسد التفصيل المذكور أنّه يتفرّع عليه امور لا يلتزم بها أحد :

منها : أنّه لو تيقّن بالحدث الأصغر ، واحتمل مقارنته في الوجود بالحدث الأكبر ، فإذا توضّأ وشكّ في ارتفاع الحدث يلزمه استصحاب الحدث المطلق.

وفيه : أنّه لا أثر للحدث الأصغر مع وجود الأكبر ، فمع احتمال مقارنة وجود الأصغر بالأكبر ، يئول الأمر إلى القطع بتحقّق حدث تترتّب عليه أحكامه مع الشكّ في أنّه الأصغر أو الأكبر ، لأنّه مع عدم حدوث الأكبر تترتّب عليه أحكام الأصغر ، ومع حدوثه تترتّب عليه أحكام الأكبر خاصّة ، فيدخل الفرض في القسم الثاني دون الثالث.

ومنها : أنّه لو تيقّن باشتغال ذمّته بمقدار من الدين ، واحتمل اشتغال ذمّته أيضا بمقدار آخر منه حين اشتغالها بالأوّل ، فإذا أدّى المتيقّن يلزمه استصحاب اشتغال ذمّته بمطلق الدين. وكذا إذا تيقّن باشتغال ذمّته بصلاة ، واحتمل اشتغالها باخرى حين اشتغالها بها ، فإذا أتى بما تيقّن باشتغال ذمّته به يحصل الشكّ في الفراغ ، وهكذا.

وفيه : أنّ المقصود من استصحاب القدر المشترك هنا وجوب الإتيان بالفرد

٣٤٥

المتيقن سابقا ، أو التفصيل بين القسمين ، فيجري في الأوّل ؛ لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا ، فيتردّد الكلّي المعلوم سابقا بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه ، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد ، فالشكّ حقيقة إنّما هو (٢٣٧٦) في مقدار استعداد ذلك الكلّي ، واستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلّي ، وجوه ، أقواها الأخير.

ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ما يتسامح فيه (*) العرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل ما لو علم السواد (٢٣٧٧) الشديد في محلّ وشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد أضعف من الأوّل ، فإنّه يستصحب السواد. وكذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشكّ ، ثمّ شكّ من جهة اشتباه المفهوم أو المصداق في زوالها أو تبدّلها إلى مرتبة دونها ، أو علم إضافة المائع ، ثمّ شكّ في زوالها أو تبدّلها إلى فرد آخر من المضاف.

______________________________________________________

المحتمل الحدوث ، وهو لا يثبته ، لأنّه من آثار خصوصيّة هذا الفرد. وإن شئت قلت : إنّ القدر المشترك المردّد بين الأمرين لا يترتّب عليه هنا أثر. نعم ، يستلزم بقائه وجوب الإتيان بالفرد المحتمل ، واستصحابه لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة.

٢٣٧٦. لا يقال : إنّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول باعتبار الاستصحاب عند الشكّ في المقتضي. لأنّا نقول : إنّ الوجوه المذكورة مبنيّة على قول المشهور باعتباره مطلقا ، كما صرّح به في القسم الثاني.

٢٣٧٧. الفرد المحتمل المتبدّل إليه في المثال الأوّل هو السواد الأضعف ، وفي الثاني هي المرتبة الأدنى من كثرة الشكّ ، وفي الثالث هو الفرد الآخر من المضاف.

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «فيه» ، في.

٣٤٦

وبالجملة : فالعبرة في جريان الاستصحاب عدّ الموجود السابق مستمرّا إلى اللاحق ، ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق ؛ ولذا لا إشكال في استصحاب الأعراض ، حتّى على القول فيها بتجدّد الأمثال ، وسيأتي ما يوضح عدم ابتناء الاستصحاب على المداقّة العقلية.

ثمّ إنّ للفاضل التوني كلاما يناسب المقام مؤيّدا لبعض ما ذكرناه ، وإن لم يخل بعضه عن النظر بل المنع. قال في ردّ تمسّك المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية : إنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين : الحياة ، والموت حتف الأنف. والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني أعني الموت حتف الأنف ، فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف أنفه. والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهر أنّه غير باق في الزمان الثاني ، ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ؛ إذ شرطه بقاء الموضوع وعدمه هنا معلوم. قال : وليس مثل المتمسّك بهذا الاستصحاب إلّا مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل. وفساده غنيّ عن البيان (٢) ، انتهى.

أقول : ولقد أجاد فيما أفاد ، من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظيره ، إلّا أنّ نظر المشهور (٢٣٧٨) ـ في تمسّكهم على النجاسة ـ إلى أنّ النجاسة

______________________________________________________

٢٣٧٨. حاصله : منع صحّة مقايسة ما نحن فيه على ما ذكره من المثال ، لأنّها إنّما تتمّ على تقدير كون مراد المشهور باستصحاب عدم التذكية إثبات كون الموت بحتف الأنف ، بناء على كون الحرمة والنجاسة مترتّبتين عليه لا على مجرّد عدم التذكية ، وليس كذلك ، لأنّ مقصودهم به إثبات مجرّد عدم التذكية ، لكون الحرمة والنجاسة مترتّبتين في الأدلّة عليه لا على الموت بحتف الأنف ، كما ستعرف تفصيل القول فيه.

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن شئت تحقيق المقام وتوضيح المرام ، فهو يتوقّف أوّلا على بيان حكم المسألة الفقهيّة. وثانيا على بيان الاصول الجارية في المقام.

أمّا الأوّل ، فاعلم أنّ المشهور نجاسة الجلد واللحم المطروحين وحرمة الثاني ، لأصالة عدم التذكية. وخالف فيه جماعة فحكموا بالطهارة والحلّية ، ولكنّهم اختلفوا في طريق الحكم على وجوه :

أحدها : ما يظهر من صاحب المدارك من عدم اعتداده بالاستصحاب من رأس ، فلا يثبت بأصالة عدم التذكية حكم شرعيّ ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصالة الحلّ والطهارة.

وثانيها : ما يظهر من الفاضل التوني من عدم بقاء موضوع الاستصحاب ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله من عبارته ، فيرجع إلى ما ذكر.

وثالثها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن السيّد الصدر من تعارض أصالة عدم التذكية مع أصالة عدم الموت بحتف الأنف ، فيرجع إلى ما ذكر.

ورابعها : ما يقال من أنّ أصالة عدم التذكية معارضة مع أصالة بقاء الطهارة الثابتة في حال الحياة التي مقتضاها الحليّة أيضا ، فيرجع إلى ما ذكر.

وخامسها : ما يقال أيضا من أنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت الموت بحتف الأنف إلّا على القول بالاصول المثبتة.

والحقّ ما ذهب إليه المشهور ، لأنّ الحلّية والطهارة وضدّهما مترتّبة في الأدلّة على عنوان التذكية وعدمها ، كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله من الآيتين والأخبار ، فلا بدّ في الحكم بالطهارة والحلّية من إحراز سببهما الشرعيّ ، كما هو مقتضى جعل السببيّة ، بخلاف الحرمة والنجاسة ، إذ يكفي في ثبوتهما الشكّ في تحقّق موضوع الحلّية والطهارة ، فإذا لم تثبت التذكية شرعا حكم بأصالة عدمها ، ولا تعارضها أصالة الحلّ والطهارة ، لحكومتها عليهما.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن هنا يظهر عدم بقاء الأصل الأوّلي على حالته الأصليّة ، كما يشهد به جعل الشارع للحلّ والطهارة أمارات خاصّة من اليد والسوق ونحوهما ، إذ لو بقيت أصالة الطهارة والحلّ على حالتها الأصليّة لم تترتّب على جعل تلك الأمارات ثمرة. ولا ينافي ما ذكرناه من الحكم بالحرمة والنجاسة بمجرّد الشكّ في تحقّق سبب الحلّ والطهارة ، ترتّب الحرمة والنجاسة على عنوان الميتة في الأدلّة ، مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...) ، حتّى يقال : إنّ الميتة أمر وجودي لا يثبت بأصالة عدم ضدّه أعني : التذكية ، لأنّ الميتة عبارة عمّا لم يذكّ لا خصوص ما مات بحتف الأنف ، لأنّ التذكية أمر شرعيّ توقيفي فما عداه ميتة. وستعرف زيادة توضيح لذلك.

وأمّا الثاني فإنّ الاصول الجارية في المقام هي أصالة عدم التذكية ، وأصالة بقاء الطهارة الثابتة حال الحياة ، وأصالة بقاء الحرمة للأجزاء المبانة حال الحياة. والاولى موضوعيّة. والأخيرتان حكميّتان.

ثمّ إنّ الطهارة والحلّية إن كانتا مترتّبتين شرعا على عنوان التذكية والحرمة ، والنجاسة على عدمها ، فلا إشكال في كون أصالة عدم التذكية مثبتة للأخيرتين. وإن كانت الأوليان مترتّبتين على عنوان التذكية ، والأخيرتان على عنوان الميتة ، أعني : الموت بحتف الأنف ، فأصالة عدم التذكية غير ناهضة لإثبات الحرمة والنجاسة ، بل لا بدّ حينئذ من الحكم بالطهارة والحلّية لقاعدتهما كما ستعرفه.

ولكنّك قد عرفت أنّ التحقيق هو الأوّل ، بل بعد ما عرفت من ترتّبهما على عنوان التذكية لا يعقل كون الحرمة والنجاسة مترتّبتين على عنوان الميتة ، بمعنى الموت بحتف الأنف ، إذ مقتضى جعل التذكية سببا للأوليين هو انتفائهما وثبوت ضدّهما بمجرّد انتفاء التذكية. ولو كان ضدّهما مع ذلك مرتّبا على عنوان الميتة بالمعنى المذكور ، لم يكن انتفاء السبب مقتضيا لثبوت ضدّ مسبّبه بنفسه ، بل كان

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك مشروطا بتحقّق عنوان الميتة. بل مقتضى جعل عنوان الميتة سببا للحرمة والنجاسة عدم مدخليّة انتفاء التذكية في ثبوتهما ، وهو خلاف فرض كون التذكية سببا للطهارة والحلّية اللتين هما مع الحرمة والنجاسة من قبيل ضدّين لا ثالث لهما.

وبالجملة ، إنّه لا يعقل تسبّب كلّ من ضدّين لا ثالث لهما عن سبب مستقلّ بحيث لا يكون لانتفاء أحدهما مدخل في ثبوت مقتضى الآخر ، فتأمّل.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه من كون الحلّية والطهارة مترتّبتين على عنوان التذكية ، وضدّهما على عدمها لا على عنوان الميتة بمعنى الموت بحتف الأنف ، أنّ التذكية بمعنى التطهير ، والمراد بالميتة أيضا لا بدّ أن يكون بقرينة المقابلة ما لم يطهر من الخباثة الباطنيّة لا ما مات بحتف الأنف. ومع تسليم كون العنوان في الحرمة والنجاسة هي الميتة ، لكنّها بمقتضى اشتقاقها هو مطلق الميّت حتّى المزكّى ، إلّا أنّه قد خرج من حكم الميتة بالدليل ، فعموم ما دلّ على حرمتها ونجاستها يقتضي الحكم بهما في كلّ ميّت إلّا ما أخرجه الدليل ، وهو المذكّى. وحيث فرض عدم العلم بكون الجلد المطروح أو اللحم المطروح داخلا تحت أحد العنوانين بالخصوص ، حكم بالنجاسة والحرمة فيهما عملا بالعموم بعد إحراز موضوعه ولو بالأصل ، وهي أصالة عدم التذكية. فكما أنّه إذا ورد وجوب إكرام العدول ، وشكّ في كون شخص عادلا ، لا يصحّ التمسّك بعمومه بضميمة استصحاب العدالة إن كان مسبوقا بها ، كذلك فيما نحن فيه. فلا يرد عليه حينئذ عدم جواز التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة ، لأنّ ذلك مع فرض بقاء الشبهة لا مع دفعها ولو بالأصل.

هذا ، ولكنّا لو قلنا بترتّب الحرمة والنجاسة على عنوان الميتة بمعنى الموت بحتف الأنف انقلب الأصل ، وكان مقتضاه الحلّية والطهارة ، لأنّها بهذا المعنى أمر وجودي منفي بالأصل. ولا تعارضه أصالة عدم التذكية ، لأنّ نفيها بالأصل لا يثبت

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

كون الموت بحتف الأنف إلّا على القول بالاصول المثبتة. ولكنّك قد عرفت أنّ العنوان في الأدلّة ولو بمعونة فهم المشهور هو عنوان التذكية وعدمها ، وقد عرفت الحكم بالحرمة والنجاسة في المقام.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ في أصالة عدم التذكية وجوها ثلاثة : أحدها : كون العنوان عنوان التذكية وعدمها. وثانيها : قضيّة عموم حرمة الميتة ونجاستها. وثالثها : كون العنوان هي الميتة بمعنى الموت بحتف الأنف. وقد عرفت مقتضى الحال في الجميع.

هذا كلّه في أصالة عدم التذكية. وأمّا أصالة بقاء الطهارة الثابتة في حال الحياة ، فربّما يشكل التمسّك بها بتغيّر موضوعها ، لأنّها إنّما ثبتت حال الحياة فلا تنسحب إلى حال الممات. اللهمّ إلّا أن يتسامح في بقاء موضوع الاستصحاب كما هو ظاهر المشهور ، ولذا ترى حكمهم بجواز النظر للزوج إلى الأعضاء المنفصلة عن زوجته التي ماتت قبل عشرين سنة مثلا ، وبحرمة نظر الأجنبي إليها ، استصحابا للحكم السابق. بل حكي عن المحقّق الحكم بنجاسة الكلب الذي صار ملحا بالوقوع في المملحة. فيقال فيما نحن فيه أيضا : إنّ موضوع الطهارة والنجاسة في نظر أهل العرف هو الجسم مطلقا لا بوصف الاقتران بالحياة ، فحينئذ يصحّ استصحابها إلى حال الموت. لكن هذا الأصل لا يعارض أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة ، لحكومتها عليه ، لكونها من الاصول الموضوعيّة.

وأمّا أصالة بقاء حرمة الأجزاء المبانة فالظاهر عدم جريانها في المقام ، لأنّها إنّما كانت حراما بوصف كونها مبانة من الحيّ ، فلا تنسحب إلى حال الموت.

ومن جميع ما ذكرناه قد ظهر جريان أصالة عدم التذكية من دون معارضة شيء. نعم ، بقي الكلام فيما استشكله الفاضل التوني من عدم بقاء الموضوع في

٣٥١

إنّما رتّبت في الشرع على مجرّد عدم التذكية ، كما يرشد إليه قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) (٣) الظاهر في أنّ المحرّم إنّما هو لحم الحيوان الذي لم يقع عليه التذكية واقعا أو بطريق شرعيّ ولو كان أصلا ، وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٤) ، وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٥) ، وقوله عليه‌السلام في ذيل موثّقة ابن بكير : " إذا كان ذكيّا ذكّاه الذابح" (٦) ، وبعض الأخبار المعلّلة لحرمة الصيد الذي ارسل إليه كلاب ولم يعلم أنّه مات بأخذ المعلّم (*) بالشكّ في استناد موته إلى المعلّم ، إلى غير ذلك ممّا اشترط فيه العلم باستناد القتل إلى الرمي ، والنهي عن الأكل مع الشكّ.

ولا ينافي ذلك ما دلّ على كون حكم النجاسة مرتّبا على موضوع" الميتة" بمقتضى أدلّة نجاسة الميتة ؛ لأنّ" الميتة" (**) عبارة عن كلّ ما لم يذكّ ؛ لأنّ التذكية أمر شرعيّ توقيفيّ ، فما عدا المذكّى ميتة. والحاصل : أنّ التذكية سبب للحلّ والطهارة ، فكلّما شكّ فيه أو في مدخليّة شيء فيه ، فأصالة عدم تحقّق السبب الشرعيّ حاكمة على أصالة الحلّ والطهارة.

ثمّ إنّ الموضوع للحلّ (٢٣٧٩) والطهارة ومقابليهما هو اللحم أو المأكول ، فمجرّد تحقّق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة. لكنّ الإنصاف : أنّه

______________________________________________________

المقام ، نظير استصحاب الضاحك المتحقّق في ضمن زيد لإثبات وجود عمرو ، فالظاهر اشتباه الأمر عليه من وجوه سيأتي إليها الإشارة.

٢٣٧٩. دفع لما يمكن أن يتوهّم من أنّ استصحاب عدم التذكية لا يثبت كون هذا اللحم غير مذكّى إلّا على القول بالاصول المثبتة. وحاصل الدفع : أنّ المستصحب هو عدم كون هذا اللحم مذكّى لا مطلق عدم التذكية.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : معلّلا.

(**) في بعض النسخ زيادة : ولذا حكم بنجاستها.

٣٥٢

لو علّق حكم النجاسة على ما مات حتف الأنف ؛ لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى ، ـ كما يراه بعض ـ أشكل إثبات الموضوع بمجرّد أصالة عدم التذكية الثابتة حال الحياة ؛ لأنّ عدم التذكية السابق حال الحياة المستصحب إلى زمان خروج الروح لا يثبت كون الخروج حتف الأنف ، فيبقى أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللحم ـ وهو الموت حتف الأنف ـ سليمة عن المعارض وإن لم يثبت به التذكية ، كما زعمه السيّد الشارح للوافية ، فذكر أنّ أصالة عدم التذكية تثبت الموت حتف الأنف ، وأصالة عدم الموت حتف الأنف تثبت التذكية. فيكون وجه الحاجة إلى إحراز التذكية (٢٣٨٠) ـ مع أنّ الإباحة والطهارة لا تتوقّفان عليه ، بل يكفي استصحابهما ـ أنّ استصحاب عدم التذكية حاكم على استصحابهما ، فلولا ثبوت التذكية بأصالة عدم الموت حتف الأنف لم يكن مستند للإباحة والطهارة. وكأنّ السيّد قدس‌سره ذكر هذا ؛ لزعمه أنّ مبنى تمسّك المشهور على إثبات الموت حتف الأنف بأصالة عدم التذكية ، فيستقيم حينئذ معارضتهم بما ذكره السيّد قدس‌سره ، فيرجع بعد التعارض إلى قاعدتي" الحلّ" و" الطهارة" واستصحابهما.

لكن هذا كلّه مبنيّ على ما فرضناه من تعلّق الحكم على الميتة ، والقول بأنّها ما زهق روحه بحتف الأنف. أمّا إذا قلنا بتعلّق الحكم على لحم لم يذكّ حيوانه أو لم يذكر اسم الله عليه ، أو تعلّق الحلّ على ذبيحة المسلم وما ذكر اسم الله عليه

______________________________________________________

٢٣٨٠. بأصالة عدم الموت بحتف الأنف في الحكم بالطهارة والحلّية. وحاصل ما ذكره : أنّ إجراء أصالة عدم الموت بحتف الأنف لإثبات التذكية ، وفرض التعارض بينها وبين أصالة عدم التذكية ، إنّما هو ليسلم استصحاب الطهارة والحلّية من المعارض ، وإلّا فمع عدم إجراء أصالة عدم الموت بحتف الأنف لم يكن مستند للطهارة والحلّية ، لكون أصالة عدم التذكية حاكمة على استصحابهما.

ثمّ إنّ الطهارة يمكن استنادها إلى القاعدة والاستصحاب ، وأمّا الحلّية فهي مستندة إلى القاعدة خاصّة ، فإطلاق الاستصحاب عليهما من باب التغليب.

٣٥٣

المستلزم لانتفائه بانتفاء أحد الأمرين ولو بحكم الأصل ـ ولا ينافي ذلك (٢٣٨١) تعلّق الحكم في بعض الأدلّة الأخر بالميتة ، ولا ما علّق فيه الحلّ على ما لم يكن ميتة ، كما في آية : (قُلْ لا أَجِدُ ...) (٧) ـ ، أو قلنا : إنّ الميتة (٢٣٨٢) هي ما زهق روحه مطلقا ، خرج منه ما ذكّي ، فإذا شكّ في عنوان المخرج فالأصل عدمه ، فلا محيص عن قول المشهور. ثمّ إنّ ما ذكره الفاضل التوني من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك المحقّق في ضمن زيد صحيح ، وقد عرفت أنّ عدم جواز استصحاب نفس الكلّي ـ وإن لم يثبت به خصوصيّة ـ لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحق فيه التفصيل ، كما عرفت.

إلّا أنّ كون عدم المذبوحيّة (٢٣٨٣) من قبيل الضاحك محلّ نظر ؛ من حيث إنّ العدم الأزليّ مستمرّ مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف ، فلا مانع من استصحابه وترتيب أحكامه عليه عند الشكّ ، وإن قطع بتبادل الوجودات المقارنة له ، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين من الكلّي كان الاستصحاب في الأمر العدميّ المقارن للوجودات خاليا عن الإشكال إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخّر المقارن له ـ نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية ـ أو ارتباط الموجود المقارن له به ، كما إذا فرض الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن

______________________________________________________

٢٣٨١. لما تقدّم من أنّ الميتة عبارة عمّا. لم يذكّ.

٢٣٨٢. معطوف على قوله : «أمّا إذا قلنا ...». وجواب الشرط هو قوله : «فلا محيص عن قول المشهور». وأنت خبير بأنّ ما ذكره في الشقّ الثاني من الترديد مبنيّ على جواز التمسّك بالعموم مع الشكّ في وجود المخصّص ، وهو خلاف المرضيّ عنده بل عند المشهور أيضا ، كما أشار إليه عند التعرّض لقول المدقّق الخوانساري بل المحقّق أيضا ، فراجع.

٢٣٨٣. اعلم أنّ اختلاط الأمر على الفاضل التوني ووقوعه من جهته في الاشتباه من وجوه :

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وتوضيحه : أنّ ما ذكره من كون عدم التذكية لازما أعمّ ، وملزومه أمران : أحدهما الحياة والآخر الموت بحتف الأنف ، غير صحيح ، بل عدم التذكية من المقارنات الاتّفاقيّة للحياة ، إذ مراد المشهور من استصحاب عدمها هو استصحاب عدم التذكية الأزلي ، لا خصوص عدمها القائم بحياة الحيوان ، وهو مقدّم على الحياة ، فلا يكون من اللوازم ، إذ يعتبر المناسبة والعلّية بين اللازم والملزوم ، فيمتنع تقدّمه عليه. نعم العدم الأزلي السابق منطبق على العدم الخاصّ المتحقّق في ضمن الحيوان الحيّ.

وحاصل المرام : أنّ قياس استصحاب العدم على استصحاب الكلّي غير صحيح ، لأنّ الكلّي قائم بوجود أفراده ، ووجوده مستند إلى وجودها ، فوجوده في ضمن فرد مغاير لوجوده في ضمن فرد آخر ، بخلاف العدم الأزلي ، لأنّه قائم بنفسه ، ومقارنته ببعض الوجودات لا يوجب تغايره مع ما كان في غيره ، فتبدّل الوجودات فيه لا يوجب اختلافه بحسب اختلافها.

نعم ، لو كان انتفاء بعض الوجودات مقتضيا لوجود المعدوم انقطع العدم الأزلي السابق ، ولكنّه خلاف الفرض هنا. فلا إشكال في جريان الاستصحاب هنا ، وإن لم نقل بجواز استصحاب الكلّي في القسمين الأوّلين اللذين قد تقدّم عدم الإشكال في استصحاب الكلّي فيهما.

لا يقال : يعتبر في صدق نفي الحكم في القضيّة السلبيّة من وجود الموضوع ، فلا يصدق عدم التذكية إلّا مع وجود أحد ملزوميه من الحياة أو الموت بحتف الأنف.

لأنّا نمنع ذلك ، بل القدر المسلّم في صدق عدم التذكية كون موضوعه على تقدير وجوده في الخارج ممّا يقبل التذكية ، فلا يقال للحائط مثلا : إنّه غير مذكّى ، وأمّا اعتبار وجود الموضوع في صدقه ، حتّى يمنع من جهته عدم صدق عدم

٣٥٥

حيضا فهو استحاضة ، فإنّ استصحاب عدم الحيض (٢٣٨٤) في زمان خروج الدم المشكوك لا يوجب انطباق هذا السلب على ذلك الدم وصدقه عليه حتّى يصدق" ليس بحيض" على هذا الدم ، فيحكم عليه بالاستحاضة ؛ إذ فرق بين الدم المقارن

______________________________________________________

التذكية في المقام ، ليترتّب عليه عدم صحّة استصحابه فلا. هكذا قيل.

وفيه نظر ، لأنّه إن أراد استصحاب عدم كون هذا اللحم مذكّى ، ففيه : أنّه لم يكن هذا اللحم موجودا في السابق حتّى يتّصف بعدم هذه الصفة ، ويستصحب عدمها في هذا الموضوع. وإن أراد استصحاب العدم الأزلي المطلق ، فهو لا يفيد انطباق الكلّي المذكور على هذا الفرد إلّا على القول بالاصول المثبتة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الكلام هنا على مذهب المشهور ، وهم يتسامحون في الاستصحاب في موارد المسامحة العرفيّة ، كما في استصحاب الكرّية ونحوه. ولا ريب أنّ أهل العرف يعدّون العدم الأزلي السابق ووجوده في ضمن فرد أمرا واحدا مستمرّا ، فيقال : إنّ هذا اللحم لم يكن مذكّى ، من دون التفات إلى أنّ العدم في السابق كان قائما بنفسه وهنا بهذا الفرد ، فتأمّل.

وثانيها : أنّه قد زعم كون الحرمة والنجاسة مرتّبتين على عنوان الميتة بمعنى الموت بحتف الأنف لا عدم التذكية ، وقد عرفت ضعفه.

وثالثها : أنّه قد زعم كون مراد المشهور من استصحاب عدم التذكية إثبات الموت بحتف الأنف ليترتّب عليه الحرمة والنجاسة ، ولذا قال : «وليس التمسّك بهذا الاستصحاب ...» ، وليس كذلك ، لما عرفت من عدم كون مقصودهم بذلك إلّا إثبات مجرّد عدم التذكية.

٢٣٨٤. لأنّ الموضوع فيه المرأة ، فاستصحاب عدم كونها حائضا وإن ثبتت به مقارنة الدم الموجود بوصف عدم الحيض ، إلّا أنّه لا يثبت الارتباط بينهما ، بمعنى صدق عدم كون هذا الدم حيضا ، وإن كان وجود الدم يقينا وكون المرأة غير

٣٥٦

لعدم الحيض وبين الدم المنفيّ عنه الحيضيّة. وسيجيء نظير هذا الاستصحاب الوجودي والعدميّ في الفرق بين الماء المقارن لوجود الكرّ وبين الماء (*) المتّصف بالكرية.

والمعيار : عدم الخلط بين المتّصف بوصف عنواني وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ؛ فإنّ استصحاب وجود المتّصف أو عدمه لا يثبت كون المحلّ موردا لذلك الوصف العنوانيّ ، فافهم.

الأمر الثاني : أنّه قد علم من تعريف الاستصحاب (٢٣٨٥) وأدلّته أنّ مورده الشكّ في البقاء ، وهو وجود ما كان موجودا في الزمان السابق. ويترتّب عليه عدم

______________________________________________________

حائض ثابتا بالأصل. ونظير استصحاب وجود الكلّي لإثبات بعض أفراده كما في مثال الضاحك ، أو استصحاب العدم لإثبات بعض وجوداته كما في مثال عدم التذكية ، أو الارتباط بينهما كما في مثال الحيض ، ما لو كان هنا مقدار من الكرّ وأخذ منه شيء حتّى شكّ في بقائه على الكرّية ، فإنّ استصحاب الموجود السابق ـ أعني : المتّصف بالكرّية ـ لا يثبت كون هذا الماء الموجود كرّا وإن ثبت التقارن بينه وبين الكرّيّة. نعم ، لو قيل إنّ هذا الماء كان كرّا في السابق ، والأصل بقائه على صفته السابقة ، ثبت كون هذا الماء كرّا ، وإن كان لا بدّ فيه أيضا من المسامحة في الموضوع.

وقد ظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله أنّ استصحاب العدم على أقسام : أحدها : ما كان المقصود منه إثبات نفس العدم. وثانيها : ما كان المقصود منه إثبات بعض وجوداته. وثالثها : ما كان المقصود منه إثبات الارتباط بينهما ، لاختلاف الأحكام بذلك كلّه بحسب الموارد. وقد ظهرت الحال في الجميع ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله مع أمثلتها ، فتدبّر.

٢٣٨٥. هذا الأمر كالأمر السابق متعلّق بحال المستصحب ، وما تعرّض له المصنّف رحمه‌الله

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : المقارن.

٣٥٧

جريان الاستصحاب في نفس الزمان ، ولا في الزمانيّ الذي لا استقرار لوجوده بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ، وكذا في المستقرّ الذي يؤخذ قيدا له ، إلّا أنّه يظهر من كلمات جماعة جريان الاستصحاب في الزمان ، فيجري في القسمين الأخيرين بطريق اولى ، بل تقدّم من بعض الأخباريين : أنّ استصحاب الليل والنهار من الضروريّات.

والتحقيق أنّ هنا أقساما ثلاثة : أمّا نفس الزمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل أو النهار ؛ لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السابق (٢٣٨٦) فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا.

______________________________________________________

في المقام إنّما هو الزمان والزماني والأمر المستقرّ الذي أخذ الزمان فيه.

وبقي هنا أمران : أحدهما : الأوصاف العارضة للامور التدريجيّة ، كالجهر والإخفات العارضين للقراءة. وثانيهما : الامور المتولّدة من التدريجيّات ، مثل الكرّية الحاصلة من اجتماع الماء تدريجا. وهذان الأمران مشتركان مع الامور المذكورة في جهة الإشكال من حيث جريان الاستصحاب فيهما وعدمه ، ولعلّه لذا لم يتعرّض لهما المصنّف رحمه‌الله. ونشير إلى شطر من الكلام فيهما في بعض الحواشي الآتية.

٢٣٨٦. حاصله : أنّ المعتبر في الاستصحاب هو كون القضيّة المشكوكة عين المتيقّنة حتّى يصدق في مورده البقاء والارتفاع ، والأمر في الأزمان ليس كذلك ، لأنّه إذا شكّ في بقاء زمان ـ كالليل والنهار ـ فالموضوع في القضيّة المتيقّنة مقطوع الارتفاع ، وفي القضيّة المشكوكة قد حصل القطع بعدم وجوده في زمان اليقين ، فلا يصدق معه البقاء ، وهو واضح.

وربّما يستدلّ عليه أيضا بأنّ الاستصحاب يفتقر إلى زمان يقين وزمان شكّ متأخّر عنه ، بمعنى كونهما ظرفين للمستصحب لا قيدا له ، فلو جعل نفس الزمان مستصحبا لاحتاج إلى زمان آخر متيقّن الوجود فيه وزمان آخر أيضا مشكوك البقاء فيه ، واللازم واضح الفساد ، فكذا المقدّم.

٣٥٨

نعم لو اخذ المستصحب مجموع (٢٣٨٧) الليل أو النهار ، ولوحظ كونه أمرا خارجيّا واحدا ، وجعل بقاؤه وارتفاعه عبارة عن عدم تحقّق جزئه الأخير وتجدّده (*) أو عن عدم تجدّد جزء مقابله وتجدّده ، أمكن القول بالاستصحاب بهذا المعنى فيه أيضا ؛ لأنّ بقاء كلّ شىء في العرف بحسب ما يتصوّره (**) العرف له من الوجود ، فيصدق أنّ الشخص كان على يقين من وجود الليل فشكّ فيه ، فالعبرة بالشكّ في وجوده والعلم بتحقّقه قبل زمان الشكّ وإن كان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشكّ. وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيّات ، حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال ، أو لتعميم البقاء لمثل هذا مسامحة. إلّا أنّ هذا المعنى ـ على تقدير صحّته (٢٣٨٨) والإغماض عمّا فيه ـ لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء

______________________________________________________

ويرد عليه : أنّ اعتبار الزمان في الاستصحاب والحاجة إليه في مورده ـ على ما تقدّم عند بيان تعريفه ـ إنّما هو لتوقّف البقاء المعتبر في مفهومه على زمانين ، ولا ريب أنّ المفتقر إليه في البقاء إنّما هو غير الأزمان ، لوضوح عدم احتياجها في البقاء إلى زمان آخر.

٢٣٨٧. حاصل ما ذكره هنا هو إدراج الأزمان في تعريف الاستصحاب ، بارتكاب التأويل فيه بأحد وجهين : أحدهما : التصرّف في المستصحب ، بأن يقال : إنّهم حيث جعلوا الكلام في استصحاب الحال ، فلاحظوا فيه كونه أمرا واحدا خارجيّا شاملا لما كان بقائه وارتفاعه بتجدّد جزئه الأخير وعدمه ، وحينئذ يبقى لفظ البقاء في الحدّ على معناه العرفي الملحوظ في كلّ شيء بحسبه. وثانيهما : التصرّف في لفظ البقاء ، بأخذه على معنى يشمل ما ذكرناه.

٢٣٨٨. لا يخفى أنّه على تقدير منع صحّة هذا المعنى لا يبقى وجه لاستصحاب الأزمان ، مع أنّه من المسلّمات عندهم.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «تجدّده» ، تحققه.

(**) في بعض النسخ بدل : «يتصوّره» ، يتصوّر فيه.

٣٥٩

المشكوك فيه متّصفا بكونه من النهار أو من الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلّا على القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض الوجوه الآتية (٢٣٨٩) ، ولو بنينا على ذلك (٢٣٩٠) أغنانا عمّا ذكر من التوجيه.

ثم إنّ هذا استصحابات أخر (٢٣٩١) في امور متلازمة مع الزمان ، كطلوع الفجر وغروب الشمس وذهاب الحمرة وعدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها ،

______________________________________________________

٢٣٨٩. من كون الواسطة خفيّة ، فإنّ صدق كون الفعل واقعا في النهار مثلا وإن احتاج إلى إثبات الواسطة ، وهي كون الجزء المشكوك فيه من النهار ، إلّا أنّ هذه الواسطة خفيّة في نظر أهل العرف ، لزعمهم ترتّب الحكم على بقاء الزمان الذي حصل القطع بثبوت الحكم فيه.

٢٣٩٠. يعني : على اعتبار الاصول المثبتة.

٢٣٩١. لا يخفى أنّ هذه الاستصحابات مع كونها مثبتة غير مغنية عن التوجيه المذكور ، لكون المستصحب فيها أيضا من الامور التدريجيّة ، كما نبّه عليه عند بيان القول الخامس ، لكون مرجع الطلوع والغروب مثلا إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا ، وهكذا في غيرهما. اللهمّ إلّا أن يريد بهما كون الشمس فوق الأفق أو تحته ، وبكون القمر مرئيّا كونه في درجة يكون مرئيّا فيها ، لا حركة الشمس أو القمر من محلّ إلى آخر.

وكيف كان ، فقد نبّه المصنّف رحمه‌الله هناك ـ كما سيشير إليه هنا أيضا ـ على عدم صحّة استصحاب حكم الزمان ، ولذا قيّد ما ذكره هنا بقوله : «لو كان جاريا فيه».

ثمّ إنّ من جملة الاستصحابات المذكورة أصالة عدم حدوث ضدّ الزمان المشكوك البقاء ، كعدم حدوث الليل عند الشكّ في انقضاء النهار وبالعكس. وفيه : أنّ الأحكام مرتّبة غالبا على عنوان الليل والنهار لا على عدم ضدّهما.

٣٦٠