فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

وحيث إنّ المختار عندنا هو الأوّل ، ذكرناه في الاصول العمليّة المقرّرة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم ، لكن ظاهر كلمات الأكثر (٢٠٢٢) ـ كالشيخ والسيّدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم ـ كونه حكما عقليّا ، ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر من الأخبار.

______________________________________________________

٢٠٢٢. لا يخفى ما فيه من الاشتباه والخلط بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، لأنّهما أصلان مختلفان ، والأوّل معتبر من باب العقل ، والثانية معدودة في القواعد الشرعيّة حتّى عند العامّة. وقد تعرّض جماعة منهم لكلّ منهما بعنوان على حدة ، منهم الرازي ومحمد البرماوي والشافعي وغيرهم. واستدلّوا على قاعدة اليقين بأخبار مرويّة عن طرقهم ، منها ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن الشيخ تأييدا للقول بحجّية الاستصحاب.

وصرّح بعضهم بأنّهما قريبان بحسب المؤدّى ، قال في منظومته بعد ذكر الأدلّة المختلف فيها ، ومنها الاستقراء والاستصحاب والاستحسان.

قد قرّرت في فقهنا له قواعد

وفي اصوله لها شواهد

منها اليقين الشكّ لا يرفعه

وذا في الاستصحاب ما ينفعه

وقال في شرحها المسمّى بالنبذة الألفيّة : «ولأجل هذه القاعدة كان الاستصحاب حجّة ، بل كاد أن يكونا متّحدين ، ولذا قلت في النظم : وذا في الاستصحاب ما ينفعه».

وممّن صرّح باختلاف الأصلين من الطائفة المحقّة هو المحقّق القمّي رحمه‌الله. وظنّي أنّ عدم تعرّض أصحابنا لقاعدة اليقين في كتبهم الاصوليّة ممّا عثرت عليه ، إنّما هو لأجل عدم تعرّضهم للقواعد الشرعيّة فيها. ويؤيّده ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن الحلّي هنا ، والشهيد في الأمر الرابع ، من التعبير بعدم نقض اليقين.

نعم ، قد ذكر الشيخ في العدّة من جملة أدلّة القول باعتبار الاستصحاب الخبر الذي نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ، وهو يؤذن بكون الكلام في اعتبار الاستصحاب أعمّ

٢١

نعم ، ذكر في العدّة ـ انتصارا للقائل بحجّيته ـ ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من : " أنّ الشيطان ينفخ بين أليتي المصلّي فلا ينصرفنّ أحدكم إلّا بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا" (٥). ومن العجب أنّه (٢٠٢٣) انتصر بهذا الخبر الضعيف المختصّ بمورد خاصّ ، ولم يتمسّك بالأخبار الصحيحة العامّة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم.

وأوّل من تمسّك بهذه الأخبار ـ فيما وجدته ـ والد الشيخ البهائي قدس‌سره فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ، وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخّر عنهم. نعم ، ربّما يظهر من الحليّ في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ؛ حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه ب : " عدم نقض اليقين إلّا باليقين" ، وهذه العبارة الظاهر أنّها مأخوذة من الأخبار.

الثاني : أن عدّ الاستصحاب ـ على تقدير (٢٠٢٤) اعتباره من باب إفادة الظنّ ـ

______________________________________________________

من جهة العقل والشرع. وكيف كان ، لا يسعني المجال في الحال للمتتبّع في كتب القوم لينكشف به الحجاب عن وجه المرام.

٢٠٢٣. فيه ما لا يخفى ، لأنّ الشيخ لم ينتصر بالخبر المذكور للقول باعتبار الاستصحاب ، وإنّما ذكره من جملة أدلّة القول باعتباره. قال : «واستدلّ من نصر استصحاب الحال بما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ...».

٢٠٢٤. اعلم أنّ دليل كلّ شيء لا بدّ أن يكون مركّبا من صغرى وكبرى كلّية ، فإن كانت كلّ واحدة منهما عقليّة محضة يسمّى الدليل حينئذ عقليّا ، مثل قولنا : العالم ممكن ، وكلّ ممكن له مؤثّر. وإن كانت إحداهما عقليّة والاخرى نقليّة ، يسمّى الدليل حينئذ بالمركّب من العقلي والنقلي ، مثل قولنا : الوضوء عمل ، وكلّ عمل لا يصحّ إلّا بالنيّة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما الأعمال بالنيّات».

وليس من الأدلّة ما يكون نقليّا محضا. وعلّله المحقّق الطوسي رحمه‌الله باستلزامه الدور ، لأنّ النقلي الصرف لا يفيد إلّا بعد العلم بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعلم بصدقه لا يستفاد من العقل على هذا التقدير ، وإلّا لم يكن نقليّا صرفا ، بل لا بدّ وأن

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يستفاد من النقل ، فيلزم الدور. وعلى هذا فما كان من الأدلّة بعض مقدّماته نقليّا ـ وإن كان من المقدّمات البعيدة ـ لا يسمّى عقليّا.

ومنهم من ثلّث القسمة ، وأراد بالدليل النقلي ما كان جميع مقدّماته القريبة نقليّا ، كقولنا : تارك المأمور به عاص ، لقوله تعالى : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) وكلّ عاص يستحقّ العقاب ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ). هذا ما ذكره علماء الكلام.

وأمّا علماء الاصول فظاهرهم انقسام الدليل عندهم إلى عقلي ونقلي ، فما كانت مقدّمتاه عقليّتين ـ كما في مسألة الحسن والقبح ـ فهو داخل في العقلي. وما كانت الكبرى فيه شرعيّة فهو داخل في النقلي ، كما في الأدلّة الشرعيّة من الكتاب والسنّة والإجماع. وما كانت الكبرى فيه خاصّة عقليّة ، أو توقّفت الكبرى العقليّة على بعض المقدّمات الشرعيّة ، كما في القياس والاستحسان والمفاهيم والملازمات مثل مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، يسمّى بالعقليّات غير المستقلّة.

أمّا الأوّل ، فإنّ إلحاق الفرع بالأصل إنّما هو بواسطة العلّة المستنبطة عقلا من الشرع. فإذا قال الشارع : الخمر حرام ، واستفيد منه كون علّة الحرمة هو الإسكار ، يلحق بها الفقّاع ، فيقال : الفقّاع حرام ، لمساواته للخمر في الإسكار. وإن شئت قلت : الفقّاع مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، للظنّ بذلك من قوله عليه‌السلام : «الخمر حرام».

وأمّا الثاني ، فإنّ الاستحسان رجحان ينقدح في نفس الفقيه يعسر عليه التعبير عنه من دون أن يرد على الحكم المستحسن دليل شرعيّ بالخصوص ، بل كان انقداح رجحانه مستندا إلى ملاحظة موارد الشرع وسلوك الشارع فيها ، فيقال : فعل هذا أو تركه يناسب موارد الشرع ، وكلّ ما هو كذلك فهو مطلوب الفعل أو الترك للشارع ، لرجحان في النظر ، وهذا الرجحان وإن كان عقليّا إلّا

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّه مستند إلى الشرع أيضا.

وأمّا الثالث ، فإنّ الشارع إذا قال : في الغنم السائمة زكاة ، بناء على اعتبار مفهوم الوصف يقال : إنّ الغنم ممّا علّق وجوب الزكاة فيه على السوم ، وكلّ ما هو كذلك ينتفي عنه وجوب الزكاة عند عدم السوم ، فيثبت به عدم وجوب الزكاة في المعلوفة.

وأمّا الرابع ، فإنّه يقال : الصلاة واجبة ، وكلّ واجب يجب مقدّماته ويحرم ضدّه ، فالصلاة كذلك. وقد اختلفت كلماتهم في المقام ، فمنهم من لاحظ عقليّة الكبرى ، فأدرج الجميع في الأدلّة العقليّة. ومنهم من لاحظ كون الصغرى في جملة منها ثابتة بالأدلّة اللفظيّة مطلقا أو غالبا ، كالمفاهيم والاستلزامات ، فأدرجها في مباحث الألفاظ. ومنهم من لاحظ كون البحث في جملة منها في إدراك العقل لا في حجّية إدراكه ، فذكرها في المبادي ، وذلك لأنّ جهة البحث في مسألة الحسن والقبح إنّما هو في إدراك العقل لحسن بعض الأفعال وقبحه ، لا في حجّية إدراكه ، لكون ذلك مفروغا منه فيما بينهم. وسنشير إلى توضيح ذلك ، وإلى كون البحث من هذه الجهة داخلا في المبادي عند شرح قوله : «نعم ، يشكل ذلك بما ذكره ...».

وكذا الكلام في مبحث المقدّمة والضدّ واجتماع الأمر والنهي واستلزام النهي لفساد العبادة ، إنّما هو في إدراك العقل لدخول مطلوبيّة فعل المقدّمة وترك الضدّ في مراد المولى ، وكذا إدراكه لجواز الاجتماع وعدمه.

وكيف كان ، فعدّ الاستصحاب من الأدلّة العقليّة إنّما هو لكون الكبرى فيه ثابتا بالعقل ، وإن كانت الصغرى ثابتة بالشرع كما قرّره المصنّف رحمه‌الله. وعدم مراعاة الصغرى إنّما هو لأجل شرافة الكبرى ، وكونها العمدة في ترتيب المقدّمتين لأخذ النتيجة.

٢٤

من الأدلّة العقليّة ، كما فعله غير واحد منهم ؛ باعتبار أنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ بواسطة خطاب الشارع ، فنقول : إنّ الحكم الشرعيّ الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم ارتفاعه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ، فالصغرى شرعيّة والكبرى عقليّة ظنّية ، فهو والقياس والاستحسان والاستقراء ـ نظير المفاهيم (٢٠٢٥) والاستلزامات ـ من العقليّات الغير المستقلّة.

الثالث : أنّ مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقليّة مسألة اصوليّة يبحث فيها (٢٠٢٦) عن كون الشيء دليلا على الحكم الشرعيّ ، نظير حجّية

______________________________________________________

٢٠٢٥. في عدّها من العقليّات غير المستقلّة نظر ، لأنّ اللزوم في المفاهيم وضعي ، ولذا قد تمسّكوا فيها بالتبادر ، بخلاف وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ، وذلك لأنّ الواضع قد وضع القيود المأخوذة في الجمل التي لها مفاهيم لإفادة تقيّد مفاهيم هذه الجمل على وجه يفيد الانتفاء عند الانتفاء ، بأن كان التقييد داخلا والقيد خارجا. هذا ممّا نقله سيّد مشايخنا عن مجلس درس جدّي الأمجد قدس‌سره.

٢٠٢٦. لا إشكال في كون البحث عن حجّية الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب العقل من المسائل الاصوليّة ، لأنّ تمايز مسائل العلوم إمّا هو بتمايز موضوعاتها ، أو حدودها ، أو خواصّها ولوازمها على سبيل منع الخلوّ. وألحق بها التدوين والشهرة ، بمعنى كون تدوين مسألة في مسائل علم أمارة لكونها من مسائله. وكذا اشتهار كونها منه في ألسنة القوم. وهذه أمارات خمسة في تمييز العلوم بعضها عن بعض ، وكلّها موجودة فيما نحن فيه. أمّا التدوين فواضح. وأمّا الاشتهار فلما حكي عن جماعة من التصريح بكونه من المسائل الاصوليّة. وأمّا الخواصّ فلوجود خاصّية علم الاصول فيه ، وهي اختصاص العمل به ببعض المكلّفين دون بعضهم ، أعني : المجتهدين. وأمّا التعريف فكذلك ، لصدق تعريف علم الاصول بأنّه علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عليه. وأمّا الموضوع ، فإنّ موضوع علم الاصول هي ذات الأدلّة لا بوصف كونها دليلا ، و

٢٥

القياس والاستقراء. نعم ، يشكل ذلك بما ذكره (٢٠٢٧)

______________________________________________________

البحث عن حجّية الاستصحاب وعدمها بحث عن ذات الدليل ، فيدخل في هذا العلم.

نعم ، إن قلنا بأنّ موضوعه الأدلّة بوصف كونها دليلا يكون داخلا في المبادي التصديقيّة ، لكون البحث عن حجّيته حينئذ بحثا عن تعيين الدليل لا عن أحواله والمبادي ، وإن كانت تذكر غالبا في غير العلم ، إلّا أنّه لمّا لم يكن محلّ آخر يناسب ذكر مبحث الاستصحاب فيه ذكروه في تضاعيف مسائل هذا العلم. ولكنّ الوجه الثاني ضعيف كما سنشير إليه. هذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الأحكام الكلّية. وأمّا الجاري في الموضوعات الخارجة فسيشير المصنّف رحمه‌الله وسنشير أيضا إلى دخوله في الفقه.

٢٠٢٧. يرد على ما ذكره المحقّق المذكور ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من مخالفته لظاهر تعريف علم الاصول ـ أوّلا : أنّه يستلزم خروج عمدة مسائل علم الاصول منه ، كالبحث عن حجّية الكتاب والسنّة وأصالة البراءة والاستصحاب ، والتزامه بعيد.

وثانيا : أنّ المحقّق المذكور قد ذكر أنّ موضوع علم الاصول هي الأدلّة الأربعة ، أعني : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ولا ريب أنّ البحث عن دليل العقل في كلّ مقام إنّما هو عن حجّيته ، ومرادهم بكونه حجّة وعدمها كونه حاكما بالحسن والقبح في بعض الأفعال وعدمه ، فالمثبت يدّعي الأوّل والنافي الثاني ، وليس البحث فيه عن حجّية حكمه وعدمها بعد الفراغ من استقلاله في الحكم بالحسن والقبح في بعض الأفعال ، فالنزاع بينهم صغروي. وذلك لأنّ القول بحكم العقل بالحسن والقبح إنّما هو مبنيّ على ما عليه الإماميّة والمعتزلة من كون العباد مختارين في أفعالهم لا مجبورين فيها ، لأجل توهّم كونها مخلوقة لله تعالى ، والأشاعرة لمّا أنكروا هذا الأصل فأنكروا أصل حكم العقل بالحسن والقبح.

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، قد أنكر الأخباريّون حجّية حكم العقل بعد تسليم استقلاله بالحسن والقبح ، لكنّهم ليسوا بمطرح أنظار العلماء ، لأنّ البحث هنا مع الأشاعرة. وإذا فرض كون البحث هنا في أصل إدراك العقل ، يرجع البحث عنه إلى البحث عن وجود الدليل وعدمه ، ولا ريب أنّ التصديق بوجود الموضوع وتصوّره وتصوّر أجزائه وجزئيّاته داخل في المبادي دون المقاصد ، ولذا قد رسم شيخنا البهائي وغيره مسألة الحسن والقبح في المبادي دون المقاصد.

وحينئذ يرد على المحقّق المذكور أوّلا : أنّ دعوى كون موضوع علم الاصول هي الأدلّة بوصف كونها دليلا تنافي رسم مسألة الحسن والقبح في المقاصد ، لما عرفت من أنّ اللازم على ما ذكره إدراجها في المبادي. ومع تسليم كون البحث عن حجّية حكم العقل بعد الفراغ من تسليم حكمه ، أنّه لا بدّ أن يرسم ذلك في المبادي أيضا ، لرجوع البحث حينئذ أيضا إلى البحث عن تعيين الدليل لا عن أحواله ، كما يظهر ممّا أسلفناه.

نعم ، يمكن دفع الأوّل بأنّ الإشكال باختصاص البحث في مسألة الحسن والقبح بإدراك العقل ، مشترك الورود على تقدير أخذ موضوع علم الاصول هو ذات الأدلّة أو بوصف كونها دليلا.

ويمكن دفع أصل الإشكال ببيان مقدّمة ، وهي أنّ البحث عن أحوال الموضوع في كلّ علم ـ كما ذكره المحقّق المذكور في حاشية القوانين ـ أعمّ من أن يكون عن عوارض نفى الموضوع ، مثل البحث عن تخصيص الكتاب بخبر الواحد والنسخ به والنقل بالمعنى ونحو ذلك ، وعن عوارض عوارض الموضوع ، مثل البحث عن جواز النسخ قبل حضور وقت العمل وعدمه ، وعن عوارض جزئيّات الموضوع ، مثل البحث عن تقديم المحكم على المتشابه والنصّ على الظاهر والخاصّ على العامّ والمقيّد على المطلق والمبيّن على المجمل ، و

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

عن عوارض أجزاء الموضوع ، مثل البحث عن كون الأمر للوجوب وللفور والمرّة وعدمها.

وحينئذ نقول : إنّ البحث عن حجّية الاستصحاب وعدمه راجع في الحقيقة إلى البحث عن جواز رفع اليد عن البراءة والاشتغال والتخيير الثابتة بالعقل بالاستصحاب ـ نظرا إلى حكومته عليها ـ وعدمه. بل عن جواز تخصيص عمومات الكتاب والسنّة المعلومة الاعتبار ـ مثل عموم الوفاء بالعقود ونحوه ـ بالاستصحاب ، إذ ربّما يبتني تخصيص العامّ على اعتباره ، كما في موارد دوران الأمر بين استصحاب حال العامّ واستصحاب حال المخصّص ، كما سيجيء في محلّه. والبحث عن جواز رفع اليد عن القواعد المذكورة بالاستصحاب ، بل عن جواز تخصيص الكتاب والسنّة به ، بحث عن عوارض جزئيّات الموضوع ، وداخل في مقاصد الاصول ، لكونه بحثا عن أحوال الدليل بعد إحراز دليليّته. وهذا الجواب جار بالنسبة إلى البحث عن حجّية الكتاب والسنّة ، مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في صدر مبحث حجّية خبر الواحد.

نعم ، يبقى الإشكال بالنسبة إلى البحث عن حجّية أصالة البراءة ، إلّا أنّه يندرج في الإيراد الثاني ، لأنّ البحث عن أصالة البراءة من جزئيّات حجّية العقل ، وقد عرفت أنّ الإيراد الثاني مشترك الورود.

ثمّ إنّ في إدراج البحث عن حجّية الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب العقل في مسائل الاصول إشكالا آخر ، سوى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير كون موضوع علم الاصول هي الأدلّة بوصف الدليليّة ، وهو أنّ ظاهر كلماتهم في المقام ـ مثل استدلال المثبت بأنّ ما ثبت دام ، وقول المجيب بأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، وغير ذلك ـ كون نزاعهم في المقام صغرويّا ، بمعنى كون نزاعهم في إفادة الاستصحاب للظنّ بالبقاء وعدمها بعد الفراغ من اعتبار هذا الظنّ. وحينئذ يرجع البحث عنه إلى البحث عن إحراز الموضوع ، وقد عرفت أنّ البحث

٢٨

المحقّق القمّي قدس‌سره في القوانين وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلا ، لا عن دليليّة الدليل. وعلى ما ذكره قدس‌سره ، فيكون مسألة الاستصحاب كمسائل حجّية الأدلّة الظنّية ـ كظاهر الكتاب وخبر الواحد ونحوهما ـ من المبادئ التصديقيّة للمسائل الاصوليّة ، وحيث لم تتبيّن في علم آخر احتيج إلى بيانها في نفس العلم ، كأكثر المبادئ التصوّريّة. نعم ذكر بعضهم : «أنّ موضوع الاصول ذوات الأدلّة من حيث يبحث عن دليليّتها أو عمّا يعرض لها بعد الدليليّة» (٦). ولعلّه موافق لتعريف (٢٠٢٨) الاصول بأنّه : " العلم بالقواعد الممهّدة

______________________________________________________

عن تعيين الموضوع داخل في المبادي.

وحكي عن المصنّف رحمه‌الله الجواب عن الإيرادين السابقين ، بأنّ المراد بالأدلّة الّتي هي موضوع علم الاصول هي الأدلّة الواقعيّة التي ثبتت دليليّتها في نفس الأمر وعلمناها إجمالا ، والبحث عن حجّية دليليّة شيء في الظاهر بحث عن أحوال الأدلّة الواقعيّة من حيث الانطباق على المبحوث عنه وعدمه.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه إنّما يدفع الإيراد الأوّل دون الثاني. نعم ، يدفعه أيضا على تقدير كون البحث عن دليل العقل بحثا عن حجّية حكمه لا عن إدراكه.

٢٠٢٨. تقريب الموافقة : أنّ قولنا : الكتاب حجّة أو السنّة حجّة يصدق عليه أنّه من القواعد الممهّدة للاستنباط ، وهو إنّما يتمّ على تقدير كون المراد بالأدلّة الّتي هي موضوع علم الاصول ذواتها لا بوصف كونها أدلّة ، وإلّا لم يصحّ الحمل ، إذ لو كان المراد بالكتاب مثلا ـ الذي هو الموضوع ـ هو ذلك بوصف كونه حجّة ودليلا لزم حمل الشيء على نفسه. ولكن في كلام المصنّف رحمه‌الله إشارة إلى عدم الجزم بذلك. ولعلّ الوجه فيه احتمال كون المراد بالقواعد الممهّدة هي القضايا التي كانت محمولاتها من عوارض موضوعاتها بوصف دليليّتها ، مثل قولنا : لا يجوز النسخ بخبر الواحد ، وقولنا : يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ونحوهما. ولكن فيه ما

٢٩

لاستنباط الأحكام الفرعيّة من أدلّتها" (٧) (٢٠٢٩).

وأمّا على القول بكونه من الاصول (٢٠٣٠)

______________________________________________________

لا يخفى من تكلّف التقييد من دون دليل.

٢٠٢٩. ليس في المنقول عنهم في تعريف علم الاصول لفظ «عن أدلّتها» نعم ، هو موجود في تعريف الفقه ، فتدبّر.

٢٠٣٠. بأن كان معتبرا من باب الأخبار. وقد ذكروا لكون مسألة الاستصحاب من الاصول أو الفروع ثمرتين. إحداهما : عدم جواز التمسّك فيها بأخبار الآحاد ، لما عزي إلى المشهور ـ وصرّح به المحقّق في المعارج ـ من عدم جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصولية ، وببالي أنّه قد ادّعى عليه الإجماع في الذخيرة. والاخرى : عدم جواز التقليد فيها ، بناء على كونها من الاصول. ولكنّ الاولى ضعيفة ، لما قرّرناه من عدم الفرق في حجّية الأخبار بين المسائل الاصوليّة والفقهيّة ، سواء قلنا باعتبارها من الظنون الخاصّة أم المطلقة. وكذا الثانية ، إذ ليس كلّ مسألة فقهيّة يجوز فيها التقليد ، كنفس مسألة جواز التقليد ، إذ لو جاز التقليد فيها لزم الدور. وسنشير إلى بعض الكلام في ذلك.

ثمّ إنّ تحقيق الكلام في كون مسألة الاستصحاب من المسائل الاصولية أو الفقهيّة يتوقّف على بيان حقيقتهما ، فنقول : إنّ الأحكام الشرعيّة إمّا أن يكون موضوعها الاعتقاد ، وإن لم يتعلّق بالعمل أصلا ، كوجوب الاعتقاد بالمعاد الجسماني. أو كان وكان تعلّقه به بعيدا ، ولم يكن ذلك مقصودا بالأصالة من التكليف ، مثل وجوب تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ موضوعه وإن كان هو الاعتقاد إلّا أنّه يتبعه وجوب العمل بكلّ ما جاء به من الأحكام. وهذا القسم يسمّى بالاصول الاعتقاديّة. وإمّا أن يكون موضوعها أفعال المكلّفين ، وهو على قسمين : قسم يكون موضوعه فعل مكلّف مخصوص ، كوجوب العمل بأخبار الآحاد ، لاختصاصه بالمجتهدين كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، وهذا القسم يسمّى بالاصول. وقسم لا يختصّ

٣٠

بمكلّف دون آخر ، كوجوب الصلاة والزكاة ونحوهما ، وهذا القسم يسمّى بالمسائل الفقهيّة.

وإن شئت قلت : إنّ كلّ مسألة بعد تنقيحها واستنباطها من الأدلّة ، إن اختصّ العمل بها بالمجتهد فهي من المسائل الاصوليّة ، وإن عمّه العمل بها والمقلّد فهي من المسائل الفقهيّة. فلا يرد حينئذ اختصاص وجوب القصر بالمسافر والإتمام بالحاضر ونحوهما ، مع كونهما من المسائل الفقهيّة. وعلى ما ذكرناه يبتنى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من خاصّة علم الاصول ، وإن كان ذلك لا يخلو من نظر كما سنشير إليه.

وإذا عرفت هذا نقول : إنّ موارد الاستصحاب ومجاريه مختلفة ، ولا إشكال في دخوله في بعض موارده في الفقه ، وفي بعض آخر في الاصول ، ويقع الإشكال في بعض آخر.

أمّا الأوّل ، فهو الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجة لإثبات الأحكام الجزئيّة ، كعدالة زيد ونجاسة ثوبه وفسق عمرو وطهارة ثوبه ، إذ لا إشكال ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه ـ في دخول مثله في المسائل الفقهيّة ، لما أشرنا إليه سابقا من أنّ تمايز العلوم إمّا بتمايز الموضوعات أو الحدود أو الخواصّ أو التدوين أو الاشتهار ، وشيء منها لا يفيد كونه من المسائل الاصوليّة.

أمّا الأوّل ، فإنّ موضوع علم الاصول هي الأدلّة الأربعة المستدلّ بها على إثبات الأحكام الشرعيّة ، والثابت بالاستصحاب في الموضوعات الخارجة أحكام جزئيّة ، وهي ليست بشرعيّة ، بمعنى كونها ممّا ينبغي أن يؤخذ من الشارع كما أسلفناه سابقا ، بل الحكم حيث يطلق فظاهره إرادة الحكم الكلّي منه دون الجزئي.

وأمّا الثاني ، فإنّهم قد عرّفوا الاصول بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، وقد عرفت عدم إفادة الاستصحاب في الموضوعات الخارجة لحكم شرعيّ.

٣١

العمليّة ، ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموض ؛ من حيث إنّ الاستصحاب (٢٠٣١) حينئذ قاعدة مستفادة من السنّة ، وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة ،

______________________________________________________

وأمّا الثالث ، فلجواز التقليد في موارده ، إذ يجوز للمجتهد أن يفتي المقلّد بجواز العمل بمقتضى الاستصحاب في الموضوعات الخارجة بعد بيان مؤدّاه ومفهومه له ، كما يجوز له الإفتاء بحرمة شرب الخمر مثلا ، وجاز لمقلّده العمل بفتواه في جميع موارده.

وأمّا الرابع ، فلما أسلفنا سابقا من كون البحث عن اعتبار الاستصحاب في الموضوعات الخارجة في هذا العلم استطراديّا. وأمّا الخامس فواضح.

وأمّا الثاني ، فهو الاستصحاب الجاري في إثبات المسائل الاصوليّة ، كأصالة عدم النقل والاشتراك المعمول بها في مباحث الألفاظ ، وأكثر المميّزات المذكورة آتية هنا. وربّما يمثّل له باستصحاب انسداد باب العلم أو انفتاحه عند الشكّ في ذلك لإثبات جواز العمل بمطلق الظنّ أو حرمته ، كما إذا فرض انسداد باب العلم ، لاندراس كتب الأخبار سوى جملة منها يشكّ معها في بقاء الانسداد ، أو كان باب العلم مفتوحا ثمّ شكّ في بقاء الانفتاح ، لاندراس بعض الكتب.

وفيه نظر ، لأنّ جواز العمل بمطلق الظنّ عند الانسداد ـ وكذا حرمته عند الانفتاح ـ عقلي ، ولا يجوز الاستصحاب في الأحكام العقليّة كما سيجيء في محلّه.

وكيف كان ، فالظاهر خروج القسمين من محلّ البحث.

وأمّا الثالث ، فهو الاستصحاب الجاري في الأحكام الكلّية الفرعيّة. وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله فيه وجهين ، وستقف على تحقيق الحال فيهما.

٢٠٣١. توضيحه : أنّ الاستصحاب على تقدير أخذه من الأخبار عبارة عن مضمون قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» فمرجع البحث عنه حينئذ إلى البحث عن تعيين مضمون هذا الخبر ، فكما أنّ البحث عن تعيين مضمون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وكذا قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قذر» وقوله : يجب كذا ويحرم كذا ، ونحو ذلك ممّا يتضمّن حكما كلّيا أو قاعدة كليّة تندرج فيها أحكام كلّية ، مرجعه إلى البحث عن تعيين مضمون هذه الأخبار للإفتاء بمضمونها ، وليس ذلك بحثا عن أحوال الدليل ، كذلك ما نحن فيه.

وبالجملة ، إنّ مسائل الاصول هي الباحثة عن أحوال طريق هذه الأحكام من حيث السند أو الدلالة أو المعارض أو نحو ذلك ، والبحث عن تعيين مضمون الطريق ليس بحثا عن أحواله.

ومن هنا يظهر ضعف ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله في مقام تعيين موضوع علم الاصول ـ كما تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله ـ من أنّ الاستصحاب إن أخذ من الأخبار يدخل في السنّة ، لأنّه إن أراد أنّ قاعدة الاستصحاب على تقدير أخذها من الأخبار عبارة عن مضمون قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وأنّ البحث عنها بحث عن أحوال الدليل ، لكونه من جزئيّات السنّة التي هي أحد الأدلّة الأربعة ، وتكون دليليّته باعتبار الاستدلال به على جزئيّاته ، ففيه : أنّه منتقض بجميع القواعد الشرعيّة ، من قاعدة الضرر والطهارة والسلطنة ووجوب الوفاء بالعقود والعسر ونحوها ، إذ يلزم عليه أن تكون هذه القواعد كلّها من المسائل الاصوليّة ، وقد اتّفقت كلمتهم على خلافه ، إذ لم يذكر أحد إحدى هذه القواعد في علم الاصول ، بل ذكروها في الفقه. ولعلّ الوجه فيه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّ تطبيق الكلّيات على جزئيّاتها لا يسمّى استدلالا ، إذ لا بدّ فيه من ترتيب الصغرى والكبرى وأخذ النتيجة منهما. ولذا أخذوا قيد النظر في تعريف الدليل ، فقالوا : الدليل ما يمكن الوصول بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، ولا ريب في عدم صدق ذلك على تطبيق قولنا : كلّ فاعل مرفوع على جزئيّاته.

والحاصل : أنّ الاستصحاب على تقدير أخذه من الأخبار عبارة عن مضمون قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ولا ريب أنّ البحث عن دلالة هذا الخبر على هذه الكلّية ـ أعني : عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ـ ليس بحثا عن أحوال السنّة ،

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إذ المراد بالبحث عن أحوالها هو البحث عنها من حيث السند أو الدلالة أو المعارض أو نحو ذلك ، لا البحث عن تعيين مدلولها بعد الفراغ منها. بل ذكر الخبر حينئذ ليس إلّا من باب ذكر المبادي التصديقيّة ، والمقصود الأصلي استفادة الحكم منه ، كإثبات وجوب عبادة بالخبر ، لأنّ ذكر الخبر حينئذ ليس بحثا عن الخبر ، بل من باب ذكر المبادي. وبعد استفادة الكلّية المذكورة عن الخبر المزبور ، فالاستدلال بها على مواردها الجزئيّة ليس استدلالا بالدليل ، حتّى يكون البحث عنها ـ ولو من حيث استفادتها من الأخبار وتطبيقها على جزئيّاتها ـ بحثا عن الدليل.

وإن أراد أنّ قاعدة الاستصحاب كلّية يستدلّ بها على جزئيّاتها ، والأخبار دليل على هذه الكلّية ، بأن كانت هذه الأخبار دليل الدليل ، كما أنّ أخبار الآحاد أدلّة على إثبات خصوصيّات مؤدّياتها ، وآية النبأ دليل الدليل ، يرد عليه ـ مضافا إلى ما عرفت ، وإلى ما ستعرفه عند ما أورده المصنّف رحمه‌الله على بعض السادة الفحول ـ أنّ أخذ شيء من شيء لا يوجب دخوله فيه ، وإلّا انحصر أدلّة الأحكام الشرعيّة في العقل ، لانتهاء جميع الأدلّة السمعيّة إليه ، فلا يبقى وجه لتربيع الأدلّة.

وقد ظهر من جميع ما قدّمناه أنّ المتعيّن إدراج مسألة الاستصحاب على تقدير أخذها من الأخبار في المسائل الفقهيّة ، وأنّه لا وجه لرسمها في المسائل الاصوليّة.

نعم ، يصحّ ذلك بأحد وجهين ، إمّا أن يلتزم بحكم العقل والعقلاء تعبّدا أو ظنّا باستصحاب الحكم الثابت سابقا ، ويجعل قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» دليلا على ذلك ، بمعنى كون ورود هذا الكلام من الشارع في مقام إمضاء الحكم المذكور إرشادا منه إليه ، فيكون الاستصحاب حينئذ دليلا على إثبات الحكم الشرعيّ في زمان الشكّ ، والخبر الشريف دليلا على اعتباره وحجّيته. وإمّا أن يلتزم بكون الخبر المذكور ناظرا إلى جعل الحالة السابقة مع الشكّ في بقائها أمارة إلى الواقع ، إذ الحكم حينئذ يكون مستفادا من هذه الأمارة ، ويكون الخبر دليلا

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على اعتبارها. ولكن شيء منهما لا يساعده دليل ، لأنّ ظاهر الخبر بيان الكلّية المسمّاة بقاعدة اليقين.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وهو بعد ما يخلو من نظر يتوقّف بيانه على بيان الفرق بين الدليل والقاعدة ، فنقول : إنّ الدليل هو الوسط الذي يحتجّ به لثبوت الأكبر للأصغر ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في صدر الكتاب ، وهو نفس الأصغر. وإليه ينظر تعريفهم له بأنّ الدليل ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، لأنّ المراد بالموصولة هو الأصغر ، وبصحيح النظر ترتيب القضيّتين من الصغرى والكبرى ، وبالتوصّل أخذ النتيجة منهما. هذا بحسب ما اصطلح عليه الاصوليّون. وأمّا علماء الميزان فالدليل عندهم مجموع المقدّمتين ، فإذا قيل : العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، فالدليل عند الاصوليّين هو العالم ، وعند علماء الميزان مجموع المقدّمتين. والقاعدة هي الكلّية التي يستدلّ بها على جزئيّاتها ، وهذه الكلّية هي التي تجعل كبرى في ترتيب القضيّتين وأخذ النتيجة منهما. وإذا فرضت لموضوع هذه الكلّية ملزوما ، وكرّرت هذا الموضوع بينه وبين محموله ، حصلت عندك المقدّمتان ، كما يظهر ممّا ذكرناه من المثال.

وإذا تحقّق ذلك نقول : إنّ عدم كون قاعدة الاستصحاب من الاصول إن كان من جهة عدم جريان المميّزات الخمسة ـ التي عرفتها في الحاشية السابقة وغيرها ـ فيها ، فتوجّه المنع إليه واضح أمّا تعريف علم الاصول فإنّه لا ريب أنّه يصدق عليها أنّها قاعدة ممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، لأنّ إطلاق التعريف يشمل استنباط الحكم من نفس هذه القاعدة أو من غيرها بمعونتها.

فإن قلت : إنّ المراد بالاستنباط هو الاستدلال على الحكم بالدليل ، وقد عرفت أنّ تطبيق القواعد على جزئيّاتها لا يسمّى استدلالا.

قلت : لا نفهم معنى هذا الكلام وإن ذكره بعض أجلّة الأعلام ، لأنّ إثبات حكم كلّي على جزئيّاتها الحقيقيّة أو الإضافيّة لا يتمّ إلّا بترتيب القضيّتين من الصغرى

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والكبرى حتّى تؤخذ النتيجة منهما ، كما إذا قلت : إنّ هذا كان متيقّن النجاسة وشكّ في بقائها ، وكلّ ما هو كذلك فهو محكوم بالنجاسة ، فلا وجه لمنع كونه استدلالا.

وأمّا موضوعه ، فإنّ موضوع علم الاصول هي أدلّة الفقه ، ولا ريب أنّ المقصود من البحث عن قاعدة الاستصحاب هو التصديق بثبوتها شرعا ، ولا إشكال أنّ الاستدلال على إثباتها والتصديق بثبوتها شرعا بالأخبار بحث عن أحوال هذه القاعدة التي عرفت كونها دليلا على إثبات جزئيّاتها. وسيجيء توضيحه عند بيان مراد من جعل الأخبار دليلا على الدليل.

وما ذكرناه في توضيح مراد المصنّف رحمه‌الله من أنّ مرجع البحث عنها ـ بناء على اعتبارها من باب الأخبار ـ إلى البحث عن تعيين مدلول الدليل ، وهو ليس بحثا عن أحواله ضعيف ، لأنّ فيه اشتباها بين البحث عن تعيين مدلول الدليل لتصوّره ، وبين البحث عن تعيين مدلوله للتصديق بثبوت مضمونه في الواقع ، لكون ألفاظ الخبر دليلا على إثبات مضمونها في الواقع ، كما يقال : إنّ قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) دليل على وجوبها في الواقع ، فيقال فيما نحن فيه أيضا : إنّ قاعدة الاستصحاب دليل على إثبات أحكام مواردها الجزئيّة ، والبحث عن ثبوتها وعدمه في الواقع بحث عن أحوال الدليل ، فتدخل في المسائل الاصوليّة.

وأمّا خواصّه ، فباعتراف من المصنّف رحمه‌الله. وأمّا التدوين فواضح. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ تدوينهم قاعدة الاستصحاب في المسائل الاصوليّة إنّما هو لأجل قولهم باعتباره من باب العقل ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله في الأمر الأوّل ، وهو لا ينكر كونها منها على هذا التقدير ، وإنّما ينكر كونها منها على تقدير أخذها من الأخبار ، والتدوين بالاعتبار الأوّل لا يستلزم كونها من مسائل الاصول بالاعتبار الثاني.

ويؤيّده أنّ ظاهر كثير من العامّة دخول قاعدة الاستصحاب في القواعد الشرعيّة ، نظير قاعدة الضرر والحرج ونحوهما ، حيث نظموها في سلكها بعد ذكر

٣٦

بل هو نظير سائر القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ، والمسألة الاصوليّة هي التي بمعونتها يستنبط هذه القاعدة من قولهم عليهم‌السلام : " لا تنقض اليقين بالشكّ" ، وهي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه ، فهذه القاعدة ـ كقاعدة" البراءة" و" الاشتغال" ـ نظير قاعدة" نفي الضرر والحرج" من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف.

نعم ، تندرج تحت هذه القاعدة (٢٠٣٢) مسألة اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الاصوليّة أحيانا تحت أدلّة نفي الحرج ، كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتّى يقطع بعدمه بنفي الحرج.

______________________________________________________

الأدلّة العقليّة والشرعيّة ، كما في محصول الرازي وشرح المنظومة لمحمد البرماوي الشافعي وغيرهما ، وعدّها من القواعد الشرعيّة ظاهر في خروجها من مسائل الاصول. وكيف كان ، وفيما قدّمناه كفاية.

وإن كان من جهة (*) أنّ تطبيق الكلّيات على جزئيّاتها لا يسمّى استدلالا بالدليل ، حتّى يكون البحث عنها بحثا عن أحوال الدليل ، فقد عرفت ضعفه.

فإن قلت : إنّ جميع ما ذكرت جار في جميع القواعد الشرعيّة التي تتفرّع عليها أحكام كلّية ، فلا بدّ أن يكون من الاصول ، ولا يلتزمون به.

قلت : هذا الإشكال وارد على القوم ، ولا أعرف وجها في دفعه ، وإن كان ربّما يذكر في وجهه ما لا يدفع ضيما.

٢٠٣٢. لعلّه إشارة إلى استثناء هذا المورد من محلّ الكلام ، لتعيّن القول بكون القاعدة حينئذ من المسائل الاصوليّة ، كما أشرنا إليه عند قوله : «أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ...».

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «عطف على قوله : إن كان من جهة .... منه».

٣٧

نعم ، يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعيّة : بأنّ إجراءها في موردها ـ أعني : صورة الشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ـ مختصّ بالمجتهد وليس وظيفة للمقلّد ، فهي ممّا يحتاج إليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا من خواصّ المسألة الاصوليّة (٢٠٣٣) ؛ فإنّ المسائل الاصوليّة لما مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة اختصّ التكلّم فيها بالمستنبط ، ولا حظّ لغيره فيها.

______________________________________________________

٢٠٣٣. قد ظهر الوجه فيه عند شرح قوله : «أمّا على القول بكونه من المسائل الاصوليّة ...». ولكن للنظر فيه مجال واسع ، لأنّي لا أعرف فرقا بين قاعدة الاستصحاب وسائر القواعد الفقهيّة التي يستنبط منها الأحكام الكلّية ، كقاعدة الضرر والحرج والسلطنة والطهارة وغيرها ، إذ لا ريب في اختصاص العمل بها بالمجتهد ، ولا حظّ للمقلّد فيها أيضا. مضافا إلى إمكان دعوى اختصاص العمل بالاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعيّة بالمجتهد ، مع تصريح المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه بكون الاستصحاب الجاري فيها من المسائل الفقهيّة ، لأنّ تمييز موارد جريانه ـ من جهة إحراز بقاء الموضوع ، ومعرفة موارد تعارضه ، والحاكم والمحكوم منهما ، وما يجب العمل فيه بكلّ منهما ، وما يحكم فيه بالتعارض ـ من الامور المشكلة لمن لم يعط ملكة قدسيّة ، فكيف يطلق القول بجواز عمل المقلّد بالاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة بالتقليد. اللهمّ إلّا أن يفرض المقلّد ممّن حصّل حظّا من العلم يتمكّن معه من معرفة ذلك كلّه ، وكان تمييزه للموارد مطابقا لاعتقاد مجتهده. وهو كما ترى إن وجد ففي غاية الندرة ، بل وإن فرض وجوده كان مثله مجتهدا غالبا يحرم تقليده لغيره.

قال المصنّف رحمه‌الله في آخر هذه المسألة بعد بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه وأحكامه : «فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجمالي ـ من عقل أو شرع أو غيرهما ـ بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر. والعلماء وإن كان

٣٨

فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ؛ لأجل أنّ موضوعها ـ وهو الشكّ في الحكم الشرعيّ وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه ـ لا يتشخّص إلّا للمجتهد ، وإلّا فمضمونه وهو العمل على طبق الحالة السابقة وترتيب آثارها ، مشترك بين المجتهد والمقلّد.

قلت : جميع المسائل (٢٠٣٤) الاصوليّة كذلك ؛ لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصّا بالمجتهد. نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختصّ بالمجتهد ؛ لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائب عن المقلّد في تحصيل مقدّمات العمل بالأدلّة الاجتهاديّة وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ، وإلّا فحكم الله الشرعيّ في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد ، هذا.

وقد جعل بعض السادة (٢٠٣٥) الفحول الاستصحاب دليلا على الحكم في

______________________________________________________

ظاهرهم الاتّفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعيّة ، ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلّا أنّ تشخيص موارد سلامتها عن الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد ، فلا بدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ، وإلّا فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم. وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعيّ ، نظير تشخيص حجّية أصل الاستصحاب وعدمها» انتهى.

٢٠٣٤. حاصله : أنّ اختصاص العمل بالمسائل الاصوليّة بالمجتهد ليس من جهة أخذ الاجتهاد في موضوعها ، بل من جهة عدم تحقّق موضوعها وعدم اجتماع شرائط العمل بها إلّا في المجتهد ، بخلاف المسائل الفقهيّة.

٢٠٣٥. هو العلّامة الطباطبائي في فوائده قال : «استصحاب الحكم المخالف في شيء دليل شرعيّ رافع لحكم الأصل ، مخصّص لعمومات الحلّ ، كاستصحاب

٣٩

مورده ، وجعل قولهم عليهم‌السلام : " لا تنقض اليقين بالشكّ" دليلا على الدليل ـ نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الواحد ـ حيث قال : إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء ، دليل شرعيّ رافع لحكم الأصل ومخصّص لعمومات الحلّ ـ إلى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله ـ : وليس عموم قولهم عليهم‌السلام : " لا تنقض اليقين بالشكّ" بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته ، إلّا كعموم آية النبأ بالقياس إلى آحاد الأخبار المعتبرة (٨) ، انتهى.

______________________________________________________

حكم العنب ، فإنّ الأصل قد انتقض فيه بالإجماع والنصوص الدالّة على تحريمه بالغليان ، وعمومات الكتاب والسنّة قد تخصّصت بهما قطعا. وحينئذ فينعكس الأصل في الزبيب ، ويكون الحكم فيه بقاء التحريم الثابت له قبل الزبيبية بمقتضى الاستصحاب ، فلا يرتفع إلّا مع العلم بزواله ، والخاصّ وإن كان استصحابا مقدّم على العامّ وإن كان كتابا ، كما حقّق في محلّه. وأمّا استصحاب الحلّ فغايته الحلّية بالفعل ، وهي لا تنافي التحريم بالقوّة. والحلّ المنجّز يرتفع بحصول شرائط التحريم المعلّق.

فإن قيل : مرجع الاستصحاب إلى ما ورد في النصوص من عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، وهذا عامّ لا خاصّ.

قلنا : الاستصحاب في كلّ شيء ليس إلّا بقاء الحكم الثابت له ، وهذا المعنى خاصّ بذلك الشيء لا يتعدّاه إلى غيره. وعدم نقض اليقين بالشكّ وإن كان عامّا ، إلّا أنّه واقع في طريق الاستصحاب ، وليس نفس الاستصحاب المستدلّ به. والعبرة في العموم والخصوص بنفس الأدلّة لا بنفس أدلّة الأدلّة ، وإلّا لزم أن لا يوجد في الأدلّة الشرعيّة دليل خاصّ أصلا ، إذ كلّ دليل ينتهي إلى أدلّة عامّة هي دليل حجّيته. وليس عموم قولهم : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته إلّا كعموم قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) بالقياس إلى آحاد الأخبار المرويّة ، وكما أنّ ذلك لا ينافي كون الخبر خاصّا إذا اختصّ مورده

٤٠