فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الإمام عليه‌السلام عن مثله ، لكفاية أدلّة البراءة من الآيات والأخبار فيه.

وثانيهما : أنّ بناء العقلاء على الحالة السابقة إنّما هو من جهة كونه شعبة من شعب الاحتياط عندهم ، لا من جهة اعتبار الاستصحاب من حيث هو ، لأنّ باب العلم لمّا كان منسدا في امور معاشهم غالبا ، لعدم علمهم بعواقب الامور ، وكان الاقتصار على معلوماتهم والاحتياط في غيرها فحلا بأمر معاشهم ، لقلّة معلوماتهم ، فأخذوا في ذلك طريقة وسطى ، وهو العمل بالظنّ ، لكونه أقرب إلى العلم. فالعمل بالاستصحاب إنّما هو من حيث كونه أحد أسباب الظنّ ، وكون العمل به من باب الاحتياط ولو في الجملة ، لا لأجل ملاحظة الحالة السابقة من حيث هي.

وكلا الوجهين منظور فيهما :

أمّا الأوّل فإنّ أدلّة البراءة إمّا هو حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، أو عموم الآيات والأخبار الواردة في ذلك. وحكم العقل بقبح التكليف بلا بيان إنّما هو مع عدم بناء العقلاء على ثبوت التكليف بطريق ظاهريّ أو واقعي ، وإلّا فلا يستقلّ العقل بالقبح المذكور ، نظير ما ذكرناه في مبحث أصالة الإباحة من أنّ العقل وإن استقلّ بوجوب الاجتناب عن الأشياء المشتملة على منفعة غالبيّة من أمارة مفسدة ، إلّا أنّه يسقط عن استقلاله بهذا الحكم بعد ملاحظة طريقة العقلاء على عدم وجوب الاجتناب. وبالجملة ، إنّ بنائهم كاف في البيان ، والقبح المذكور غير كاف في الردع.

وأمّا الآيات والأخبار ، فمن تأمّل فيها وأعطى النظر حقّه جزم بأنّ المحصّل منها ليس إلّا ما حكم به العقل من نفي التكليف بلا بيان ، وبناء العقلاء يصلح للبيان. فالعمومات المذكورة لا تشمل المقام ، ولا تصلح للردع عن بنائهم ، مع فرض اطّلاع الإمام عليه‌السلام عليه وعدم خوفه من الردع. مع أنّ اعتبار الظواهر ـ كما تحقّق في محلّه ـ إنّما هو لأجل بناء العرف على اعتبارها ، فلا اعتبار بها مع بنائهم على خلافها.

وأمّا الثاني ، فإنّ بنائهم على اعتبار الاستصحاب إن كان من جهة إفادته الظنّ بالواقع بعد الانسداد ، وجب أن يعملوا بكلّ أمارة أفادت الظنّ بالواقع ، سواء

٢٠١

وزاد آخر أنّ العمل على الحالة السابقة أمر مركوز في النفوس حتّى الحيوانات ؛ إلّا ترى أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عهدت فيها الماء والكلأ ، والطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ، ولو لا البناء على «إبقاء ما كان على ما كان» لم يكن وجه لذلك.

والجواب : أنّ بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء لأجل الغلبة ، فإنّهم في امورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها ؛ إلّا ترى أنّهم لا يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلا عن المهالك ـ إلّا على سبيل الاحتياط لاحتمال الحياة ـ ولا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا في الأموال أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان من أهل الاستدلال ، وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعيّ يبنون على عدمه (*) ، ولو شكّوا في رافعيّة المذي شرعا للطهارة فلا يبنون على عدمها.

وبالجملة ، فالذي أظنّ أنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم الشرعيّ من غير جهة النسخ على الاستصحاب.

نعم ، الإنصاف : أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعيّ فليس عندهم كالشكّ في حدوثه في البناء على العدم ، ولعلّ هذا من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ؛ فإنّها أمارة على العدم ؛ لما علم من بناء الشارع على التبليغ ، فظنّ عدم الورود يستلزم الظنّ بعدم الوجود. والكلام في اعتبار هذا الظنّ بمجرّده ـ من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم ـ في باب أصل البراءة.

______________________________________________________

كانت هو الاستصحاب أم غيره ، وهو خلاف المعاين من طريقتهم ، ولذا ترى أنّ أحدا إذا فارق صديقه أو أباه في بلد ثمّ جاء إلى بلد آخر ، أرسل إليه المكاتب والودائع استصحابا لبقائه فيه وعدم انتقاله عنه ، ولا يرسلهما إلى بلد آخر بمجرّد ظنّ انتقاله من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ، ومنع ذلك مكابرة.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «عدمه» ، البقاء.

٢٠٢

قال في العدّة ـ بعد ما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل المتيمّم الداخل في الصلاة ـ : والذي يمكن أن ينتصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال : لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل لكان عليه دليل ، وإذا تتبّعنا جميع الأدلّة فلم نجد فيها ما يدلّ على أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولى ، دلّ على أنّ حكم الحالة الاولى باق على ما كان. فإن قيل : هذا رجوع إلى الاستدلال بطريق آخر ، وذلك خارج عن استصحاب الحال. قيل : إنّ الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه ، وأمّا غير ذلك فلا يكاد يحصل غرض القائل به (٣) ، انتهى.

احتجّ النافون بوجوه : منها ما عن الذريعة وفي الغنية من : أنّ المتعلّق بالاستصحاب يثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل. توضيح ذلك : أنّهم يقولون : قد ثبت بالإجماع على من شرع في الصلاة بالتيمّم وجوب المضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ، فيجب أن يكون على هذا الحال بعد المشاهدة. وهذا منهم جمع بين الحالتين في حكم من غير دليل اقتضى الجمع بينهما ؛ لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه ؛ لأنّ المصلّي غير واجد للماء في إحداهما وواجد له في الاخرى ، فلا يجوز التسوية بينهما من غير دلالة ، فإذا كان الدليل لا يتناول إلّا الحالة الاولى ، وكانت الحالة الاخرى عارية منه ، لم يجز أن يثبت فيها مثل الحكم (٤) ، انتهى.

أقول : إن كان محلّ الكلام فيما كان الشكّ لتخلّف وصف وجودي أو عدمي متحقّق سابقا يشكّ في مدخليّته في أصل الحكم أو بقائه ، فالاستدلال المذكور متين جدا ، لأنّ الفرض عدم دلالة دليل الحكم الأوّل ، وفقد دليل عامّ يدلّ على انسحاب

______________________________________________________

تنبيه : اعلم أنّه قد ظهر ممّا أورده المصنّف رحمه‌الله على أدلّة القول الأوّل ، وما علّقناه على كلماته ، ضعف جميع هذه الأدلّة ، إلّا أنّ جماعة قد تمسّكوا لهذا القول بالأخبار الواردة في المقام ، وتركها المصنّف رحمه‌الله هنا زعما منه اختصاص مؤدّاها بالشكّ في الرافع ، فأوردها في ذيل بيان مختاره. ولكنّا قد أسلفنا عند شرح ما يتعلّق بمختاره تضعيفه ، وكون مؤدّاها شاملا لكلّ من الشكّ في المقتضي والرافع. وسيجيء تتمّة الكلام فيه عند شرح ما يتعلّق بقول المحقّق الخونساري. ولذا كان الأقوى في النظر بالنظر إلى إطلاق هذه الأخبار القول المذكور.

٢٠٣

كلّ حكم ثبت في الحالة الاولى في الحالة الثانية ؛ لأنّ عمدة ما ذكروه من الدليل هي الأخبار المذكورة ، وقد عرفت اختصاصها (٢١٩٧) بمورد يتحقّق (*) معنى النقض ، وهو الشكّ من جهة الرافع.

نعم قد يتخيّل : كون مثال التيمّم من قبيل الشكّ من جهة الرافع ؛ لأنّ الشكّ في انتقاض التيمّم بوجدان الماء في الصلاة كانتفاضه (٢١٩٨) بوجدانه قبلها ، سواء قلنا بأنّ التيمّم رافع للحدث أم قلنا إنّه مبيح ؛ لأنّ الإباحة أيضا مستمرّة إلى أن ينتقض بالحدث أو يوجد الماء ولكنّه فاسد : من حيث إنّ وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض ، بل الفقدان الذي هو وصف المكلّف لمّا كان مأخوذا (٢١٩٩) في صحّة التيمّم حدوثا وبقاء في الجملة (٢٢٠٠) ، كان الوجدان رافعا لوصف الموضوع الذي هو المكلّف ، فهو نظير التغيّر الذي يشكّ في زوال النجاسة بزواله ، فوجدان الماء ليس كالحدث وإن قرن به في قوله عليه‌السلام (٢٢٠١) حين سئل عن جواز

______________________________________________________

٢١٩٧. قد عرفت في التنبيه السابق عموم الأخبار المذكورة للشكّ في المقتضي أيضا ، فالمتّجه على المختار منع كون التسوية بين الحالين من دون دليل.

٢١٩٨. لا يخفى أنّ المقيس عليه أيضا ممنوع ، لكونه مصادرة ، كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله. والأولى في الاستدلال ما أشار إليه من قضيّة الاقتران بالحدث ، وما سنشير إليه من التعبير بالنقض ، وإن ضعّف المصنّف رحمه‌الله الأوّل ، وسنشير أيضا إلى ضعف الثاني.

٢١٩٩. كما يدل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

٢٢٠٠. لعدم الشبهة بالنسبة إلى حال ما قبل الصلاة ، وإن كان في أثنائها محلّ شبهة.

٢٢٠١. رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له :

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فيه.

٢٠٤

الصلوات المتعدّدة بتيمّم واحد : «نعم ، ما لم يحدث أو يجد ماء» ، لأنّ المراد من ذلك تحديد الحكم بزوال المقتضي أو طروّ الرافع (٢٢٠٢).

وكيف كان ، فإن كان محلّ الكلام في الاستصحاب ما كان من قبيل هذا المثال فالحقّ مع المنكرين ؛ لما ذكروه. وإن شمل ما كان من قبيل تمثيلهم الآخر ـ وهو الشكّ في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ـ قلنا : إنّ إثبات الحكم بعد خروج الخارج ليس من غير دليل ، بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ، مضافا إلى إمكان التمسّك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقّق رحمه‌الله في المعارج ، لكن عرفت ما فيه من التأمّل.

ثمّ إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور ب «أنّ قوله : «عمل بغير دليل» غير مسلّم (*) ؛ لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلّا برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه كان بقاء الثابت راجحا في نظر المجتهد ، والعمل بالراجح لازم (٥) ، انتهى. وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع عدم العلم به ، وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك ، إلّا أن يرجع إلى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم.

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه (٢٢٠٣) فيها ، وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ثمّ انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه ، وهو باطل. وقال في محكيّ الذريعة :

______________________________________________________

يصلي الرجل بوضوء واحد صلاة الليل والنهار كلّها؟ قال : نعم ، ما لم يحدث. قال : فيصلّي بتيمّم واحد صلاة الليل والنهار كلّها؟ قال : نعم ، ما لم يحدث أو يصب ماء. قلت : فإن أصاب الماء ، ورجا أن يقدر على ماء آخر ، وظنّ أنّه يقدر كلّما أراد فعسر عليه؟ قال : ينقض ذلك تيمّمه ، وعليه أن يعيد تيمّمه ...».

٢٢٠٢. وكذا التعبير بالنقض في الحديث المتقدّم في الحاشية السابقة.

٢٢٠٣. هذا ينافي ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله فيما أورده على الدليل الثاني من أدلّة القول الأوّل ، من عدم ظهور دعوى حصول القطع من الاستصحاب من أحد.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «مسلم» ، غير مستقيم.

٢٠٥

قد ثبت في العقول أنّ من شاهد زيدا في الدار ثمّ غاب عنه لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدار إلّا بدليل متجدّد ، ولا يجوز استصحاب الحال الاولى وقد صار كونه في الدار في الزمان الثاني وقد زالت الرؤية ، بمنزلة كون عمرو فيها مع فقد الرؤية (٦).

وأجاب في المعارج عن ذلك : ب «أنّا لا ندّعي القطع ، لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا يكفي في العمل به. أقول : قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية (٢٢٠٤) ومنع حجّيته.

ومنها : أنّه لو كان حجّة لزم التناقض ؛ إذ كما يقال كان للمصلّي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم فكذا بعد الدخول ، أو يقال : الاشتغال بصلاة متيقّنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة فيستصحب. قال في المعتبر : استصحاب الحال ليس حجّة ؛ لأنّ شرعيّة الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه ، ثمّ إنّ مثل هذا لا يسلم عن المعارض ؛ لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الإتمام فكذا بعده (٧) ، انتهى.

وأجاب عن ذلك في المعارج بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ، ووجود المعارض في الأدلّة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث تسلم عن المعارض.

أقول : لو بني على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال لم يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ؛ إذ قلّما ينفكّ مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه على بقائه (٢٢٠٥) ، فيقال : الأصل عدم ذلك الأثر. والأولى في الجواب :

______________________________________________________

٢٢٠٤. الأولى أن يقول : كلّيا بدل كلّية.

٢٢٠٥. المراد بهذا الأثر الحادث هو الأثر الذي لم يكن مترتّبا على المستصحب في زمان اليقين به ، بل كان ترتّبه عليه معلّقا على وجود أمر غير موجود في ذلك الزمان ، واريد ترتّبه عليه في زمان الشكّ لأجل تحقّق الأمر المعلّق عليه حينئذ ، كاستصحاب حياة زيد لتوريثه من مورّث مات في زمان الشكّ في حياته ، واستصحاب طهارة الماء لإثبات حصول الطهارة للثوب النجس المغسول به ، وكذا استصحاب نجاسة ما لاقى شيئا طاهرا ، وهكذا ، فإنّ هذه استصحابات

٢٠٦

أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لإفادته الظنّ بالبقاء ، فإذا ثبت ظنّ البقاء في شيء لزمه عقلا ظنّ ارتفاع كلّ أمر فرض كون بقاء المستصحب رافعا له أو جزءا أخيرا له ، فلا يعقل الظنّ ببقائه ؛ فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماء غسل به ثوب نجس أو توضّأ به محدث ، مستلزم عقلا للظنّ بطهارة ثوبه وبدنه وبراءة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة ، وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد إتمام تلك الصلاة. وتوهّم إمكان العكس (٢٢٠٦) ، مدفوع بما سيجيء توضيحه من عدم إمكانه.

وكذا إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة المترتّبة على وجود المستصحب أو عدمه ؛ لما ستعرف من عدم إمكان شمول الروايات إلّا للشكّ السببي ، ومنه يظهر حال معارضة (٢٢٠٧) استصحاب وجوب المضيّ باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء.

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الإثبات ؛ لاعتضادها باستصحاب النفي. والجواب عنه أوّلا باشتراك هذا

______________________________________________________

معارضة باستصحاب عدم الأثر الحادث من التوريث وحصول الطهارة والنجاسة ، وأمّا الآثار المرتّبة على المستصحب السابق فعلا فلا يكون موردا لاستصحاب العدم.

٢٢٠٦. بأن يقال : إنّ الظنّ باللازم أيضا يستلزم الظنّ بالملزوم ، فمع استصحاب اللازم لا يمكن استصحاب عدم الملزوم ، على عكس ما ذكرت. وأمّا عدم إمكانه ، فإنّ توجّه الذهن أوّلا وبالذات إنّما هو إلى الملزوم دون لازمه ، لكونه من توابعه ، فالظنّ أوّلا وبالذات إنّما يحصل بالملزوم ، ومعه لا يمكن حصوله بعدم لازمه ، وهو واضح ، فتأمّل.

٢٢٠٧. ظاهره كون الشكّ في الانتقاض مسبّبا عن الشكّ في وجوب المضيّ ، وليس كذلك ، إذ الأمر بالعكس. اللهمّ إلّا أن يريد بقوله : «ومنه يظهر ...» ظهور تقديم الشكّ السببي على الشكّ المسبّب مطلقا. والشكّ السببى في المعارضة التي ذكرها هو الشكّ في الانتقاض ، والشكّ المسبّب هو الشكّ في وجوب المضيّ.

٢٠٧

الإيراد (٢٢٠٨) ؛ بناء على ما صرّح به جماعة من كون استصحاب النفي المسمّى ب : «البراءة الأصليّة» معتبرا إجماعا. اللهمّ إلّا أن يقال (٢٢٠٩) : إنّ اعتبارها ليس لأجل الظنّ ، أو يقال : إنّ الإجماع (٢٢١٠) إنّما هو على البراءة الأصليّة في الأحكام الكلّية ـ فلو كان أحد الدليلين معتضدا بالاستصحاب اخذ به ـ لا في باب الشكّ في اشتغال ذمّة الناس ؛ فإنّه من محلّ الخلاف في باب الاستصحاب.

______________________________________________________

٢٢٠٨. إذ مع فرض تحقّق الإجماع على اعتبار أصالة البراءة لا بدّ من تقديم بيّنة النفي على بيّنة الإثبات ، فلا بدّ من بيان وجه عدم التقديم على القول باعتبار الاستصحاب وعدمه ، فلا اختصاص لهذا الإيراد بالأوّل. وأنت خبير بأنّه لا وقع لدعوى اشتراك الإيراد بعد منع المصنّف رحمه‌الله عند تحرير محلّ النزاع من تحقّق الإجماع المذكور.

٢٢٠٩. وجه عدم اشتراك الإيراد على تقدير القول باعتبار أصالة البراءة من باب التعبّد ـ كما إذا قلنا باعتبارها من باب الأخبار أو حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان كما هو الحقّ ـ لا من باب الاستصحاب : أنّ اعتبار البيّنة إمّا من باب الظنّ النوعي أو التعبّد ، والأمر التعبّدي لا يصلح مرجّحا لما هو معتبر من باب الظنّ والطريقيّة ، ولذا نقول بكون الاصول مرجعا في تعارض الأخبار لا مرجّحا كما سيجيء في محلّه ، ولا لما هو معتبر من باب التعبّد ، ولذا لا نقول بالترجيح بكثرة الاصول ، وإن توهّمه الفاضل الكلباسي. والإيراد إنّما يختصّ بمن يرى اعتبار الاصول من باب الظنّ كما هو ظاهر المشهور.

ولكنّك خبير بأنّ القول باعتبار البراءة الأصليّة من باب التعبّد وإن كان يدفع اشتراك الإيراد ، إلّا أنّه لا يصحّح أصل الاستدلال ، لعدم استلزام القول باعتبار الاستصحاب حينئذ لتقديم بيّنة النفي ، كما يظهر ممّا ذكرناه.

٢٢١٠. أنت خبير بأنّ دعوى الإجماع على اعتبار أصالة البراءة في الموضوعات الخارجة أولى من دعواه على اعتبارها في الأحكام ، لأنّ خلاف الأخباريّين إنّما هو

٢٠٨

وثانيا : بما ذكره جماعة من أنّ تقديم بيّنة الإثبات لقوّتها على بيّنة النفي (٢٢١١) وإن اعتضد بالاستصحاب ؛ إذ ربّ دليل أقوى من دليلين. نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ، لكن بيّنة النفي لا تكافئ بيّنة الإثبات ، إلّا أن يرجع أيضا إلى نوع من الإثبات (٢٢١٢) ، فيتكافئان. وحينئذ فالوجه تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات ـ كالترجيح في الأدلّة ـ منوطا بقوّة الظنّ مطلقا أو في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ، كتقديم بيّنة الخارج (٢٢١٣). وربما تمسّكوا بوجوه (٢٢١٤) أخر ، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلّتهم. هذا

______________________________________________________

في الشبهات التحريميّة الحكميّة دون الوجوبيّة والموضوعيّة ، إلّا ما يتراءى من الأمين الأسترآبادي ، كما تقدّم في مسألة البراءة.

٢٢١١. لأنّ شهادة بيّنة الإثبات مستندة إلى الحسّ ، وأمّا بيّنة النفي فإمّا مستندة إلى أصالة البراءة كما هو الغالب ، أو إلى العلم وهو نادر ، إذ أسباب اشتغال الذمّة كثيرة تندر الإحاطة بعدم وقوع شيء منها في الخارج. فشهادة بيّنة النفي على الأوّل لا تفيد الظنّ ، وعلى الثاني على تقدير إفادتها الظنّ لا تقاوم الظنّ الحاصل من بيّنة الإثبات.

٢٢١٢. كما في بيّنة الداخل.

٢٢١٣. مثال للمورد المنصوص به.

٢٢١٤. منها : ما نقله في القوانين وغيره من أنّ العمل بالاستصحاب عمل بالظنّ ، وهو محرّم بالآيات والأخبار.

وفيه : أنّ ما دلّ على اعتبار الاستصحاب من الأخبار أو بناء العقلاء أو الاستقراء أخصّ من تلك الأدلّة ، فتخصّص بها.

وربّما يجاب : بأنّ العمل بالاستصحاب بعد قيام دليل قطعيّ عليه عمل بالقطع دون الظنّ ، فله خروج موضوعيّ من تلك الأدلّة.

وفيه : أنّ قيام دليل قطعيّ على اعتباره يجعله قطعيّ الاعتبار لا قطعيّا ، فلا بدّ

٢٠٩

ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين والنافين مطلقا.

بقي الكلام في حجج المفصّلين. فنقول : أمّا التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار في الأوّل وعدمه في الثاني ، فهو الذي ربّما يستظهر من كلام التفتازاني ، حيث استظهر من عبارة العضدي في نقل الخلاف : أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي. وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمّل (٢٢١٥).

______________________________________________________

أن يكون خروجه منها من باب التخصيص دون التخصّص ، وفيما ذكره اشتباه التخصيص بالورود.

ومنها : ما ذكره الأمين الأسترآبادي من مخالفته لقاعدة التوقّف والاحتياط ، قال في فوائده المدنيّة : «إنّ هذا الموضع من مواضع عدم العلم بحكمه تعالى ، وقد تواترت الأخبار بأنّ بعد إكمال الشريعة يجب التوقّف في تلك المواضع كلّها ، ويجب العمل بالاحتياط في العمل أيضا في بعضها ، وقد تقدّم طرف من تلك الأخبار ، وسيجيء طرف منها فيها الكفاية إن شاء الله تعالى» انتهى.

وتخصيصه المخالفة بقاعدة الاحتياط إنّما هو لأجل عدم قوله بأصالة البراءة والتخيير ، ولو كان المستدلّ من الاصوليّين لتمسّك بمخالفته للاصول القطعيّة من أصالة البراءة والاحتياط والتخيير بحسب اختلاف الموارد ، إذ لا ثمرة للقول باعتبار الاستصحاب في موارد موافقته لأحد هذه الاصول ، إذ القول باعتبارها مغن عن القول باعتباره. وأمّا مع المخالفة فالعمل به مستلزم لطرحها ، وفيه ما سيجيء عند بيان تعارض الاصول من حكومة الاستصحاب على الاصول المذكورة في الجملة. وللكلام في توضيحه مجال لا يسعه المقام ، ولعلّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في تعارض الاصول مغن عن إيراد الكلام هنا ، إلى غير ذلك من أدلّتهم.

٢٢١٥. قد أوضحنا الكلام في ذلك عند شرح ما يتعلّق بتعيين محلّ النزاع من حيث كون الاستصحاب العدمي مشمولا للنزاع وعدمه ، ونزيد هنا ونقول : قال العضدي بعد تعريف الاستصحاب : «وقد اختلف في صحّة الاستدلال

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

به لإفادة ظنّ البقاء ، وعدمها لعدم إفادته ، فأكثر المحقّقين ـ كالمزني والصيرفي والغزالي ـ على صحّته ، وأكثر الحنفيّة على بطلانه ، فلا يثبت به حكم شرعيّ. ولا فرق عند من يرى صحّته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليا ، كما يقال فيما اختلف في كونه نصابا : لم تكن الزكاة واجبة عليه والأصل بقائه ، أو حكما شرعيّا ، مثل قول الشافعيّة في الخارج من غير السبيلين : إنّه كان قبل خروج الخارج متطهّرا ، الأصل البقاء حتّى يثبت معارض ، والأصل عدمه» انتهى.

وقال التفتازاني : «قوله : فلا يثبت به حكم شرعيّ ، كأنّه يشير إلى خلاف الحنفيّة في إثبات الحكم الشرعيّ دون النفي الأصلي ، وهذا ما يقولون إنّه حجّة في الدفع لا في الإثبات ، حتّى إنّ حياة المفقود بالاستصحاب يصلح حجّة لبقاء ملكه ، لا لإثبات الملك له في مال مورّثه» انتهى.

ولم أجد في الكتب المعروفة قولا بالتفصيل بين الوجودي والعدمي ، ولا ناقلا له عن غيره سوى ما استظهره التفتازاني من عبارة العضدي ، وهو منظور فيه لأحد وجهين :

أحدهما : ما ذكره صاحب الفصول من كون الحكم الشرعيّ في كلام العضدي عامّا للنفي والإثبات ، قال بعد نقل كلام العضدي : «ولكن استفاد التفتازاني من قوله «فلا يثبت به حكم شرعيّ» أنّ الحنفيّة إنّما ينكرون صحّته في إثبات الحكم الشرعيّ دون نفيه ، وهو غير واضح ، لأنّ نفي الوجوب والتحريم الشرعيّين مثلا أيضا حكم شرعيّ ، ولهذا لا يجوز بغير دليل معتبر. نعم ، يتّجه ذلك إذا اريد بالحكم خصوص الخمسة التكليفيّة والوضعيّة دون مطلق الحكم ، ولعلّه أوفق بإطلاق الحكم» انتهى.

وفيه ـ مع عدّ العضدي للحكم الشرعيّ في مقابل النفي الأصلي ـ منع عموم الحكم الشرعيّ للنفي ، لظهوره في الوجودي ، لأنّه في الحقيقة منحصر في الخمسة التكليفيّة ، وما عداها ليس بحكم شرعيّ أصلا ، سواء فرض كونه وضعيّا ،

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

لما سيجيء من كون الوضعيّة منتزعة من الطلبيّة أم نفيا محضا ، لعدم حاجته إلى جعل من الشارع.

وثانيهما : ما ذكره بعض مشايخنا من أنّ المقصود الأصلي في مباحث علم الاصول هو البحث عن أحوال الأدلّة الشرعيّة ، لأنّها موضوع هذا العلم ، والبحث عن قاعدة الاستصحاب أيضا إنّما هو من حيث كونها معدودة من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، والدليل الشرعيّ هو المثبت للحكم الشرعيّ الكلّي. والمثبت للموضوعات الشخصيّة ـ سواء كانت شرعيّة أم غيرها ـ لا يسمّى دليلا بل أمارة ، ولذا كان البحث هنا عن قاعدة الاستصحاب من حيث إثبات الموضوعات بها استطراديّا وليس مقصودا بالأصالة ، وكذا من حيث إثبات البراءة الأصليّة ، لما عرفت من عدم كونها من الأحكام الشرعيّة.

وحينئذ فالظاهر أنّ قول العضدي «فلا يثبت به حكم شرعيّ» إشارة إلى منع كون الاستصحاب من الأدلّة المثبتة للأحكام الشرعيّة ، لا إلى التفصيل بين الوجودي والعدمي. مع أنّ تفريع التفتازاني في المسألة حياة المفقود على القول بالتفصيل المذكور في غير محلّه ، لأنّ الظاهر أنّها مبتنية على ما ذكره صدر الشريعة ـ صاحب التلويح من أهل الخلاف ـ من عدم اعتبار الاستصحاب عند التعارض بالنسبة إلى مورد التعارض دون غيره ، لأنّ استصحاب حياة المفقود من لوازمه بقاء ملكه وعدم انتقاله إلى ورّاثه ، وكذا من لوازمه انتقال مال مورّثه الميّت إليه ، فلا يعتبر الاستصحاب بالنسبة إلى الثاني ، لمعارضته باستصحاب عدم الانتقال ، ويعتبر بالنسبة إلى الأوّل ، لسلامته بالنسبة إليه من المعارض. وتبعه المحقّق القمّي رحمه‌الله أيضا مطلقا ، حتّى فيما كان المتعارضين من قبيل المزيل والمزال ، ولا دخل لذلك في التفصيل المذكور ، كيف لا وقد أثبت به حياة المفقود لإثبات بقاء ماله وعدم انتقاله عنه ، فتأمّل.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ عدّ العضدي للحكم الشرعيّ في مقابل النفي

٢١٢

مع أنّ هنا إشكالا آخر ـ قد أشرنا إليه (٢٢١٦) في تقسيم الاستصحاب في تحرير محلّ الخلاف ـ وهو : أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديّات ؛ إذ ما من مستصحب وجودي إلّا وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه الظنّ ببقاء المستصحب الوجودي ، وأقلّ ما يكون عدم ضدّه ؛ فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفكّ عن عدم ما عداه من أضداده ، والظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات ، فلا بدّ من القول باعتباره ، خصوصا بناء (٢٢١٧) على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره (٨) من : «أنّ إنكار الاستصحاب لعدم إفادته الظنّ بالبقاء» ، وإن كان ظاهر بعض النافين كالسيّد قدس‌سره (٩) وغيره استنادهم إلى عدم إفادته للعلم ؛ بناء على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغ عنه في أخبار الآحاد ، فضلا عن الظنّ الاستصحابي.

وبالجملة : فإنكار الاستصحاب في الوجوديّات والاعتراف به في العدميّات لا يستقيم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ (٢٢١٨) ، نعم لو قلنا باعتباره من باب التعبّد من جهة الأخبار ، صحّ أن يقال : إنّ ثبوت العدم بالاستصحاب

______________________________________________________

الأصل ، وتفريعه لعدم إثبات الاستصحاب للحكم الشرعيّ ، لا يخلو من الظهور في التفصيل المذكور ، فتدبّر.

٢٢١٦. قد أشرنا أيضا هناك إلى ما يتعلّق بالمقام ، فراجع.

٢٢١٧. وجه الأولويّة إذا كان النزاع في اعتبار الاستصحاب صغرويّا من حيث إفادة الظنّ وعدمها ، لا يمكن إنكار حصول الظنّ بالأمر الوجودي لأجل حصول الظنّ بالأمر العدمي المقارن له ، لكونه وجدانيّا ، فيرجع إنكاره إلى المكابرة ، بخلاف ما لو كان النزاع كبرويّا ، لإمكان دعوى اعتبار الظنّ بأحدهما دون الآخر ، أو بناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب تعبّدا في أحدهما دون الآخر ، كما سيشير إليه.

٢٢١٨. إذ دليل اعتبار الاستصحاب على هذا التقدير إنّما هو الوجوه الاعتباريّة

٢١٣

لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات ، فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا يثبت الوجوب في الزمان اللاحق ، كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الإنسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى.

لكنّ المتكلّم في الاستصحاب من باب التعبّد والأخبار بين العلماء في غاية القلّة إلى زمان متأخّري المتأخّرين ، مع أنّ بعض هؤلاء وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ، ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب ، على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى.

ودعوى : أنّ اعتبار الاستصحابات العدميّة لعلّه ليس لأجل الظنّ حتّى يسري إلى الوجوديّات المقارنة معها ، بل لبناء العقلاء عليها في امورهم بمقتضى جبلّتهم.

مدفوعة : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضيّ في امورهم بمحض الشكّ والتردّد في غاية البعد ، بل خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء.

______________________________________________________

من دليل الانسداد أو أصالة جواز العمل بالظنّ أو غيرهما ممّا تقدّم ، لوضوح عدم دلالة الأخبار على اعتباره من باب الظنّ. وهذه الأدلّة كما تفيد اعتبار الظنّ المتعلّق بالعدم ، كذا تفيد اعتبار الظنّ المتعلّق بالوجود.

نعم ، لو فرض دلالة الأخبار عليه من باب الظنّ أمكن التفكيك بينهما حينئذ ، نظير ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير اعتباره من باب التعبّد الشرعيّ ، لجواز التفكيك بين اللوازم والمقارنات في الوجود بحسب الشرع ، ولذا يعتبر الظنّ بالقبلة دون الوقت وإن استلزمه ، إلّا أنّه فاسد جدّا ، بل في بعض الأخبار المتقدّمة دلالة على اعتباره ولو مع الظنّ بالخلاف كما أشرنا إليه سابقا ، فراجع. ولذا لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله لذلك في المقام ، وإن كان ربّما ينسب إلى الشهيد بناء على قوله باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وتمسّكه فيه بالأخبار ، كما استظهره المصنّف رحمه‌الله من عبارته فيما نقله من كلامه في الأمر الرابع ، فراجع.

٢١٤

وأضعف من ذلك أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي هو الحاصل بالشيء من تحقّقه السابق ، لا الظنّ الساري من هذا الظنّ إلى شيء آخر ، وحينئذ فنقول (٢٢١٩) : العدم المحقّق سابقا يظنّ بتحقّقه لاحقا ـ ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ـ بخلاف الوجود المحقّق سابقا فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحقّقه السابق ، والظنّ الحاصل ببقائه من الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غير معتبر إمّا مطلقا أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتّبة عليه من جهة الاستصحاب. ولعلّه المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة من : «أنّ حياة الغائب بالاستصحاب إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ، لعدم انتقال إرثه إلى وارثه ، لا انتقال إرث مورّثه إليه» فإنّ معنى ذلك أنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب إلى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه إليه وإن كان أحد الظنّين لا ينفكّ عن الآخر.

ثمّ إنّ معنى عدم اعتبار (٢٢٢٠) الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي وإن كان لترتّب أمر عدمي عليه ، كترتّب عدم جواز تزويج امرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته ، وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميّا ، فلا يترتّب انتقال مال قريب الغائب إليه وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته. ولعلّ هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الإثبات. وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الإشكال عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الإثبات واعتباره في النفي من باب الظن.

______________________________________________________

٢٢١٩. تفريع لأضعف الدعويين ، وبيان لحاصل القول بالتفصيل بناء على هذه الدعوى.

٢٢٢٠. لا يخفى أنّ الكلام إلى هنا وفيما بعده إنّما هو في بيان الإشكال الذي أورده في المقام ، فالتعرّض هنا لبيان المراد من عدم اعتبار الاستصحاب الوجودي في غير محلّه ، لعدم ارتباطه بما قبله ولا بما بعده. فالأولى للمصنّف رحمه‌الله أن يتعرّض أوّلا لبيان وجود القول بالتفصيل بين الوجودي والعدمي ، ثمّ بيان المراد

٢١٥

نعم ، قد أشرنا فيما مضى إلى أنّه لو قيل باعتباره في النفي من باب التعبّد ، لم يغن ذلك عن التكلّم في الاستصحاب الوجودي ؛ بناء على ما سنحقّقه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلّا آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا.

لكن يرد على هذا : أنّ هذا التفصيل مساو للتفصيل المختار المتقدّم ، ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر (*) ؛ إذ الشكّ في بقاء الأعدام السابقة من جهة الشكّ في تحقّق الرافع لها ـ وهي علّة الوجود ـ والشكّ في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع ، لا ينفكّ عن الشكّ في تحقّق الرافع ، فيستصحب عدمه ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي.

وتخيّل : أنّ الأمر (٢٢٢١) الوجودي قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع ، فلا يغني العدمي عن الوجودي.

مدفوع : بأنّ الشكّ إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام الشرعيّة المترتّبة على ذلك الأمر الوجودي مستمرّة إلى تحقّق ذلك الرافع ، فإذا حكم بعدمه عند الشكّ ، يترتّب عليه شرعا جميع تلك الأحكام ، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجودي.

وحينئذ ، فيمكن أن يحتجّ لهذا القول : أمّا على عدم الحجّية في الوجوديات ، فبما تقدّم في أدلّة النافين ، وأمّا على الحجّية في العدميات ، فبما تقدّم في أدلّة المختار من الإجماع والاستقراء والأخبار ؛ بناء على أنّ (**) الشيء المشكوك في بقائه من جهة الرافع إنّما يحكم ببقائه لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا لاستصحابه في نفسه ؛ فإنّ الشاكّ في بقاء الطهارة من جهة الشكّ في وجود الرافع يحكم بعدم الرافع ، فيحكم من أجله ببقاء الطهارة.

______________________________________________________

بعدم اعتبار الاستصحاب الوجودي ، ثمّ بيان الإشكال في التفصيل المذكور.

٢٢٢١. كإثبات حياة الغائب باستصحاب عدم موته.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر» ، ولا يفترق أحدهما عن الأخر.

(**) في بعض النسخ زيادة : إبقاء.

٢١٦

وحينئذ فقوله عليه‌السلام (٢٢٢٢) : «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ» وقوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين» ، وغيرهما ممّا دلّ على أنّ اليقين لا ينقض أو لا يدفع بالشكّ ، يراد منه أنّ احتمال طروّ الرافع لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثر النقض ، فيكون وجوده كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة من جهة استصحاب العدم لا من جهة استصحابها. والأصل في ذلك : أنّ الشكّ في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشكّ في شيء آخر ، فلا يجتمع معه (٢٢٢٣) في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ـ سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ـ بل الداخل هو الشكّ السببي ، ومعنى عدم الاعتناء به زوال الشكّ المسبّب به ، وسيجيء توضيح ذلك.

______________________________________________________

٢٢٢٢. دفع لتوهّم اختصاص مورد جملة من أخبار الباب بالاستصحاب الوجودي. ولكنّك خبير بأنّ ما دفعه به تأويل في الأخبار من دون قرينة.

لا يقال : إنّ عدم جريان الاستصحاب في الشكّ المسبّب قرينة عليه.

لأنّا نقول : إنّ عدم جريانه فيه إنّما هو فيما كان المشكوك فيه بالشكّ المسبّب من الآثار الشرعيّة للمشكوك فيه بالشكّ السببي ، كالثوب النجس المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، لكون حصول الطهارة للثوب من آثار طهارة الماء شرعا ، بخلاف وجود الممنوع منه عند عدم المانع ، لكونه من الآثار العقليّة لعدم المانع كما سنشير إليه.

٢٢٢٣. لأنّه مع إجراء الاستصحاب في الشكّ السببي يرتفع موضوع الشكّ المسبّب عنه ، لأنّه إذا غسل ثوبا نجسا بماء مستصحب الطهارة ، فاستصحاب طهارة الماء يوجب القطع بارتفاع نجاسة الثوب شرعا ، فلا يكون الثوب موردا للاستصحاب حينئذ. وكذا مع تعاضد مقتضى اليقين السابق في أحدهما بالآخر ، كما إذا غسل ثوبا طاهرا بماء مستصحب الطهارة ، لأنّه مع استصحاب طهارة الماء يقطع ببقاء طهارة الثوب شرعا ، فلا يكون الثوب موردا للاستصحاب. وحينئذ

٢١٧

هذا ، ولكن يرد عليه (٢٢٢٤) : أنّه قد يكون الأمر الوجودي أمرا خارجيّا كالرطوبة يترتّب عليها آثار شرعيّة ، فإذا شكّ في وجود الرافع لها لم يجز أن يثبت به

______________________________________________________

لا بدّ أن يكون المندرج تحت الأخبار إمّا الشكّ السببي خاصّة وهو المطلوب ، أو الشكّ المسبّب وهو فاسد ، لأنّه مع إجراء الاستصحاب في الشكّ المسبّب لا بدّ من إخراج الشكّ السببي من حكم عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، في مثل الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ، لأنّ مقتضى استصحاب كلّ من طهارة الماء ونجاسة الثوب ارتفاع الآخر لا محالة.

ولكن ملازمة الأوّل لارتفاع الثاني من باب الحكومة ، لما عرفت من استلزام طهارة الماء لارتفاع الشكّ عن نجاسة الثوب شرعا. وملازمة الثاني لارتفاع الأوّل من باب الملازمة العقليّة ، لعدم كون نجاسة الماء من الآثار الشرعيّة لنجاسة الثوب إذا غسل به بالصب عليه ، إلّا من حيث إنّ الماء لو كان طاهرا حصلت الطهارة للثوب أيضا ، لا من حيث حكم الشارع عليه بالنجاسة.

فإذا اريد إجراء الاستصحاب في الثوب فلا بدّ أن يكون الحكم بنجاسة الماء لأجل خروجه من حرمة نقض اليقين بالشكّ ، لا لأجل خروجه من موضوع الحرمة وهو الشكّ ، لأنّ استصحاب نجاسة الثوب لا يثبت نجاسة الماء إلّا على القول بالاصول المثبتة ، فالشكّ في ارتفاع طهارته لا يرتفع بهذا الاستصحاب. فالحكم بنجاسته مع الشكّ فيها لا بدّ أن يكون لأجل خروجه من عموم الحرمة ، بخلاف استصحاب طهارة الماء ، فإنّه ملازم بحكم الشرع لطهارة الثوب ، فهو مزيل للشكّ في نجاسة الثوب شرعا. فمع دوران الأمر بين اندراج الشكّ السببى والشكّ المسبّب تحت عموم الأخبار ، يدور الأمر بين التخصّص والتخصيص ، والمقرّر في باب تعارض الأحوال أولويّة الأوّل من الثاني.

٢٢٢٤. لا يذهب عليك أنّ ظاهر المصنّف رحمه‌الله تسليم كون أصالة عدم المانع مثبتا لوجود الممنوع منه إذا كان من الامور الشرعية دون الخارجة ، نظرا إلى كون

٢١٨

الرطوبة حتّى يترتب عليها أحكامها ، لما سيجيء من أنّ المستصحب لا يترتّب عليه إلّا آثاره الشرعيّة المترتّبة عليه بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ، فيتعيّن حينئذ استصحاب نفس الرطوبة.

وأصالة عدم الرافع إن اريد بها أصالة عدم ذات الرافع ـ كالريح المجفّف للرطوبة مثلا ـ لم ينفع في الأحكام المترتّبة شرعا على نفس الرطوبة ؛ بناء على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما سيجيء ، وإن اريد بها أصالة عدمه من حيث وصف الرافعية ـ ومرجعها إلى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ـ فهي وإن لم يكن يترتّب عليها إلّا الأحكام الشرعيّة للرطوبة ، لكنّها عبارة اخرى عن استصحاب نفس الرطوبة. فالإنصاف : افتراق القولين في هذا القسم (*).

______________________________________________________

وجوده من اللوازم الشرعيّة لعدم المانع. وفيه : أنّ المانع والممنوع منه وإن فرضا شرعيّين ، إلّا أنّ وجود الممنوع منه عند عدم المانع عقليّ ، فلا يثبت بأصالة عدم المانع. ولذا ذكر المحقّق القمّي رحمه‌الله «أنّ وجود أحد الضدّين يتوقّف على انتفاء الآخر ، فالتوقّف عقليّ وإن كان الضدّ شرعيّا ، إذ المراد بعد فرضه ضدّا» انتهى.

وتوضيحه : أنّ الشارع إذا جعل شيئا مانعا لصحّة فعل آخر ، فالمحتاج إلى جعل الشارع حينئذ هو فساد هذا الفعل مع وجود الشيء المذكور ، وأمّا صحّته مع عدمه فهي عقليّة كما عرفت. وكذلك إذا جعل شيئا شرطا لصحّة فعل آخر ، فالمحتاج إلى جعله حينئذ هي صحّة هذا الفعل مع وجود الشيء المذكور ، وأمّا فساده مع عدمه فهو أيضا عقليّ كما يظهر ممّا قدّمناه. وحينئذ يشكل التمسّك أيضا بأصالة عدم الشرط عند الشكّ في وجوده لإثبات فساد المشروط به ، لما عرفت من كون الفساد حينئذ عقليّا.

وكيف كان ، فممّا يدلّ على ما ذكرنا أيضا قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «فإنّه على يقين من وضوئه» فإنّ تعليل وجوب الإبقاء باليقين بالوضوء لا باليقين

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فافهم وانتظر لبقية الكلام.

٢١٩

حجّة من أنكر الاستصحاب في الامور الخارجية ما ذكره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه في حاشية له عند كلام الشهيد : «ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه» على ما حكاه شارح الوافية واستظهره المحقّق القمّي قدس‌سره من السبزواري ، من : أنّ الأخبار لا يظهر شمولها للامور الخارجيّة ـ مثل رطوبة الثوب ونحوها ـ إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الامور الذي ليس حكما شرعيّا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعيّ ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الامور الخارجية لا عبرة به ، انتهى.

وفيه : أمّا أوّلا : فبالنقض بالأحكام الجزئيّة ، مثل طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ، ونجاسته من حيث ملاقاته لها ؛ فإنّ بيانها أيضا ليس من وظيفة الإمام عليه‌السلام ، كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ، ولا يجوز التقليد فيها ، وإنّما وظيفته ـ من حيث كونه مبيّنا للشرع ـ بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على الرعيّة.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، توضيحه : أنّ بيان الحكم الجزئي في المشتبهات (*) الخارجية

______________________________________________________

بعدم الرافع ـ مع اشتراكهما في اليقين السابق ـ ظاهر كالصّريح في عدم جريان الاستصحاب في عدم الرافع. وما أوّله به المصنّف رحمه‌الله ممّا لا يصغى إليه.

هذا ، ويرد على دعوى اتّحاد التفصيلين ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّ الشكّ في الرافع ـ سواء كان المرفوع شرعيّا أم عاديا ـ تارة يقع في وجود الرافع ، واخرى في رافعيّة الموجود. وأصالة عدم الرافع إنّما تجري في الأوّل دون الثاني ، لأنّه إن اريد بها أصالة عدم رافعيّة الموجود ، كالرطوبة المردّدة بين كونها بولا أو مذيا ، فهو غير مسبوق بالحالة السابقة. وإن اريد بها عدم عروض الرافع مطلقا للممنوع منه ، فهو لا يثبت عدم رافعيّة الموجود إلّا على القول بالاصول المثبتة. نعم ، لو كانت الشبهة حكميّة ـ كما لو شكّ في رافعيّة المذي ـ يمكن أن يقال إنّ المراد بأصالة عدم الرّافع حينئذ أصالة عدم جعل الشارع للمذي رافعا.

__________________

(*) بعض النسخ : بدل «المشتبهات» ، الشبهات.

٢٢٠