فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد ـ غير صحيح ؛ لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل. نعم ، المخالف للأصل الإطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام.

والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر نبوّة مستدامة إلى آخر الأبد ، ونبوّة مغياة إلى وقت خاصّ ، ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة بمعنى غير المقيّدة ومطلق النبوة سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت ، فلا وجه لإجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر ، إلّا أن يريد ـ بقرينة ما ذكره بعد ذلك من أنّ المراد من مطلقات كلّ شريعة بحكم الاستقراء الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ـ أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ؛ فإنّ استعداده غير محرز عند الشكّ ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد.

وثالثا : أنّ ما ذكره منقوض (٢٥١١) بالاستصحاب في الأحكام الشرعيّة ؛ لجريان ما ذكره في كثير منها بل في أكثرها. وقد تفطّن لورود هذا عليه ودفعه بما لا يندفع به ، فقال : إنّ التّتبع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة ـ في غير ما ثبت في الشرع له حدّ ـ ليست بآنيّة ولا محدودة إلى حدّ معيّن ، وأنّ الشارع اكتفى فيها فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ، ويظهر من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ؛ فإنّ من تتبّع أكثر الموارد واستقرأها يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقليّ أو نقليّ (٣٠) ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه : أمّا اوّلا : فلأنّ مورد النقض لا يختصّ بما شكّ في رفع الحكم

______________________________________________________

٢٥١١. من اشتراط تعيّن المستصحب حتّى يجري الاستصحاب على مقدار استعداده. وتوضيح النقض : أنّ الأحكام الشرعيّة فيما لم يعلم تقيّده بغاية معيّنة ولا إلى آخر الأبد كلّيات قابلة للبقاء إلى آخر الأبد ، وللبقاء إلى زمان معيّن ، ولأن لا تكون مقيّدة بأحد القيدين ، نظير ما ذكره في منع جريان استصحاب الشريعة السابقة.

٤٨١

الشرعيّ الكلّي ، بل قد يكون الشكّ لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة. وأمّا ثانيا : فلأنّ الشكّ في رفع الحكم الشرعيّ إنّما هو بحسب ظاهر دليله الظاهر في الاستمرار ـ بنفسه أو بمعونة القرائن ، مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات ـ لكنّ الحكم الشرعيّ الكليّ في الحقيقة إنّما يرتفع بتمام استعداده (٢٥١٢) ، حتّى في النسخ ، فضلا عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي ، والنسخ ايضا رفع صوريّ ، وحقيقته انتهاء استعداد الحكم ، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ لا يكون إلّا من جهة الشكّ في مقدار استعداده ، نظير الحيوان المجهول استعداده. وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره من حصول الظنّ بإرادة الاستمرار من الإطلاق لو تمّ ، يكون دليلا اجتهاديّا مغنيا عن التمسّك بالاستصحاب ؛ فإنّ التحقيق :

أنّ الشكّ في نسخ الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر في نفسه أو بمعونة دليل خارجيّ ـ في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب ؛ لوجود الدليل الاجتهاديّ في مورد الشكّ ، وهو ظنّ الاستمرار. نعم ، هو من قبيل استصحاب حكم العامّ إلى أن يرد المخصّص ، وهو ليس استصحابا في حكم شرعيّ ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على ما ذكره ـ من قضاء التتبّع بغلبة الاستمرار فيما ظاهره الإطلاق ـ : بأنّ النبوّة ايضا من تلك الأحكام. ثمّ أجاب : بأنّ غالب النبوّات (٢٥١٣) محدودة ، والذي ثبت علينا استمراره نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

______________________________________________________

٢٥١٢. فيكون الشكّ في ارتفاعه من حيث المقتضي لا الرافع ، فلا يتمّ الجواب عن النقض المذكور.

٢٥١٣. أورد عليه في الفصول : «بأنّ ما ذكره من أنّ نبوّة الأنبياء السلف كانت محدودة ، فإن اريد التحديد بأمر غير معيّن كمجيء نبيّ آخر ، فهذا لا يقدح في صحّة الاستصحاب حيث يشكّ في مجيئه. وإن أراد التحديد بزمن معيّن ، فإن أراد ذلك بحسب الواقع فلا يجديه بعد تسليم إبرازها ببيان لا يشتمل عليه. وإن أراد ذلك بحسب الظاهر ، فهذه الدعوى على إطلاقها ممّا لا يمكن الالتزام بها ، إذ لم نقف إلى الآن ما يدلّ عليها ، بل قد عرفت ما يدلّ على خلافها» انتهى.

٤٨٢

ولا يخفى ما في هذا الجواب ، أمّا اوّلا : فلأنّ نسخ أكثر (٢٥١٤) النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها ـ في أنفسها أو بمعونة الاستقراء ـ في الاستمرار ، فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه. وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة (٢٥١٥) التحديد في النبوّات غير مجدية ؛ للقطع بكون إحداها مستمرّة ، فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب وإلحاقه بالنادر ، بل يشكّ في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون هذا ملحقا بالغالب.

والحاصل أنّ هنا أفرادا غالبة وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير النادر أو ما قبله الغالب ، بل قد يثبت بأصالة (٢٥١٦) عدم ما عداه كون هذا هو الأخير المغاير للباقي.

______________________________________________________

٢٥١٤. أنت خبير بأنّ هذا وإن كان متّجه الورود على ما أجاب به المحقّق القمّي رحمه‌الله ، إلّا أنّه لا يصحّ الاعتراض الذي أورده على نفسه ، لأنّ ظهور أدلّة النبوّات في أنفسها أو بمعونة الاستقراء في الاستمرار والدوام ، لا يجدي في إلحاق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب بعد ظهور عدم استمرار أغلبها في الواقع. ولعلّ مراد المصنّف رحمه‌الله أيضا دفع الجواب لا تصحيح الاعتراض.

٢٥١٥. حاصله : أنّ دعوى الغلبة إنّما تتمّ فيما كان هنا أفراد غالبة وفرد نادر وفرد ثالث مشكوك اللحوق بالغالب أو النادر ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ المفروض فيه أنّ هنا في الواقع أفرادا غالبة وهي النبوّات المحدودة ، وفردا نادرا وهي النبوّة المستمرّة ، ووقعت الشبهة في أنّ نبوّة موسى أو عيسى عليهما‌السلام هو الفرد النادر بالخصوص أو هي من الأفراد الغالبة والنادر غيرها ، ولا ريب أنّ غلبة التحديد في النبوّات لا يثبت أنّ المشكوك فيها من الغالبة وأنّ الفرد النادر غيرها.

ثمّ لا يخفى أنّ المحقّق القمّي رحمه‌الله لو قنع بمجرّد منع تحقّق الغلبة في ظهور أدلّة النبوّات في الاستمرار ، من دون دعوى الغلبة في النبوّات المحدودة ، لسلم من الإيراد المذكور.

٢٥١٦. يرد عليه : أنّ هذا الأصل مثبت فلا يعتدّ به.

٤٨٣

ثم أورد قدس‌سره على نفسه بجواز استصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة. وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام (٢٥١٧) مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينفعهم. وربّما يورد عليه : أنّ الكتابيّ لا يسلّم البشارة المذكورة حتّى يضرّه في التمسّك بالاستصحاب أو لا ينفعه. ويمكن توجيه كلامه (٢٥١٨) : بأنّ المراد أنّه إذا لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة ، فإذا فرض قضيّة نبوته مهملة غير دالّة إلّا على مطلق النبوّة ، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة ؛ فإنّها تصير أيضا حينئذ مهملة.

ثمّ إنّه يمكن الجواب (٢٥١٩) عن الاستصحاب المذكور بوجوه : الأوّل : أنّ

______________________________________________________

٢٥١٧. قال في الفصول : «ما ذكره من أنّ إطلاق الأحكام لا يجدي مع الإخبار بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مردود بأنّ الإخبار المذكور إذا لم يفد تعيين زمن مجيئه فمع عدم العلم به تستصحب تلك الأحكام ، وهل ذلك إلّا كحكم يذكره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : إنّه سينسخ؟ فإنّه ما لم يعلم بورود الناسخ يستصحب بقائه ، فتأمّل فيه» انتهى.

٢٥١٨. حاصله : أنّ إطلاق الأحكام كما لا ينفع مع الاقتران بالبشارة المذكورة ، كذلك إطلاقها لا ينفع مع كون قضيّة النبوّة مهملة ، كما هو الفرض بعد فرض عدم جريان الاستصحاب فيها ، للعلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة.

٢٥١٩. اعلم أنّ تحقيق ما ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الشكّ في ثبوت الشريعة اللاحقة لا بدّ أن يكون مع الشكّ في بقاء الشريعة السابقة أيضا ، لقيام الشكّ بطرفيه لا محالة. والمقصود من استصحاب الشريعة السابقة لا يخلو : إمّا أن يكون تحصيل الاعتقاد بها ، أو إلزام الخصم وإسكاته ، أو الاقتناع به في مقام العمل.

والأوّل ممّا لا وجه له ، إمّا لأنّ المعتبر في مثل المسألة هو الاعتقاد الجزمي ، والاستصحاب لا يفيده ، وإمّا لأنّه على تقدير تسليم كفاية الظنّ فيها لا يفيد الظنّ هنا ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أوّل المسألة ، أو لا دليل على اعتبار هذا الظنّ ،

٤٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بناء على ما هو الحقّ من كون اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

والثاني مردود بما صرّح به المصنّف رحمه‌الله من عدم كون الاستصحاب دليلا إسكاتيّا.

وأمّا الثالث فنقول : إنّ الشاكّ إذا نظر في حقّية اللاحقة إمّا أن يحصل له القطع بحقّيتها ، أو بطلانها ، أو يفرض الكلام في زمان المهلة والنظر ، بأن لا يمضي زمان يمكن استعلام أحد الطرفين فيه. والكلام على الأوّلين واضح.

وأمّا الثالث فالكلام فيه إمّا من حيث الحكم بطهارة الشاكّ ونجاسته من حيث كفره وعدمه ، وفيه وجهان ينشآن من أنّ الكفر عبارة عن مجرّد عدم الاعتقاد ولو لأجل كونه شاكّا ، أو عن جحد الحقّ وإنكاره المنتفي في حقّ الشاكّ. وإمّا من حيث التديّن بالشريعة السابقة والعمل بأحكامها. والظاهر أنّه لا إشكال بل لا خلاف ـ حتّى من المنكرين لاعتبار الاستصحاب ـ في وجوب العمل بأحكام الشريعة السابقة ، لأنّ التكليف بها كان ثابتا يقينا ، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة حتّى عند المنكرين للاستصحاب.

فإن قلت : إنّ القول بالموجب بقاعدة الاشتغال لا دخل له في مسألة الاستصحاب ، لتغاير القاعدتين. والمقصود في المقام إثبات أحكام الشريعة السابقة بالاستصحاب لا بقاعدة الاشتغال.

قلت : إنّ ما ذكرناه مبنيّ على ظاهر المشهور من عدم تفرقتهم بين القاعدتين. والمنكر للاستصحاب لا ينكر استصحاب الشغل ، وإن كان الحقّ عدم جريانه في مورد قاعدة الشغل كما قرّر في محلّ آخر. مع أنّ المقصود في المقام إثبات وجوب التديّن بأحكام الشريعة السابقة لمثل هذا الشاكّ مطلقا ، وإن كان المثبت له قاعدة اخرى سوى الاستصحاب. مضافا إلى إمكان استصحاب عدم حدوث الشريعة اللاحقة الناسخة للسابقة ، فتأمّل.

هذا كلّه فيما لم يكن الشكّ في حقّية اللاحقة ناشئا من تقصير المكلّف في الفحص كما في زمان المهلة والنظر ، وإلّا فلا إشكال في الحكم بنجاسته من حيث

٤٨٥

المقصود من التمسّك به : إن كان الاقتناع به (٢٥٢٠) في العمل عند الشكّ ، فهو ـ مع مخالفته للمحكيّ عنه من قوله : " فعليكم كذا وكذا" ؛ فإنّه ظاهر في أنّ غرضه الإسكات والإلزام ـ فاسد جدّا ؛ لأنّ العمل به على تقدير تسليم جوازه (٢٥٢١) غير جائز إلّا بعد الفحص والبحث ، وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين بناء على ما ثبت من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفّار والإجماع المدّعى على عدم معذوريّة الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشئ في بلاد الإسلام. وكيف كان ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالاستصحاب.

______________________________________________________

كفره ، وعدم جواز العمل بأحكام الشريعة السابقة للاستصحاب ، لأنّ شرطه الفحص المفروض عدمه في المقام. وأمّا جواز العمل به في زمان المهملة والنظر فلفرض عذره عند العقل لو فرض حقّية اللاحقة في نفس الأمر ، بخلاف المقصّر في الفحص.

٢٥٢٠. الدليل كما قيل إمّا إقناعي ، أو إسكاتي ، أو إثباتي ، أو إرشادي. والأوّل ما يستدلّ به المستدلّ لإثبات عمل نفسه ، وإن لم يكن بعض مقدّماته مسلّمة عند الخصم. والثاني ما اشتمل على مسلّمات الخصم. والثالث ما يؤتى به لإثبات المطلوب. والرابع ما يراد به إرشاد الغير وتعليمه لكيفيّة الاستدلال ، كالأخبار المتضمّنة لاستدلال الأئمّة عليهم‌السلام بالآيات ، وهي كثيرة.

٢٥٢١. فيه إشارة إلى منع الجواز ، لما أشار إليه في أوّل هذا التنبيه. ثمّ إنّ هذا الجواب مركّب من مقدّمتين : إحداهما : وجوب الفحص في العمل بالاستصحاب. والاخرى : عدم وجود القاصر في اصول الدين. والاولى مسلّمة. والثانية ممنوعة ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله عند الكلام في اعتبار الظنّ في اصول الدين. مضافا إلى إمكان فرض الكلام في زمان المهلة والنظر ، كما أشرنا إليه ثمّة.

٤٨٦

وإن أراد به الإسكات (٢٥٢٢) والإلزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيّا ؛ لأنّه فرع الشكّ ، وهو أمر وجداني كالقطع لا يلزم (*) به أحد.

وإن أراد بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلط ؛ لأنّ مدّعي البقاء في مثل المسألة أيضا يحتاج إلى الاستدلال عليه.

الثاني : أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار ، فلا ينفع الكتابيّ التمسّك به ؛ لأنّ ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم. نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسّك به ؛ لصيرورته حكما إلهيّا غير منسوخ يجب تعبّد الفريقين به. وإن كان من باب الظنّ ، فقد عرفت في صدر البحث أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعيّ الكلّي ممنوع جدّا ، وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوع. وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكليّة الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي ؛ لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكّن من التوقّف والاحتياط في العمل. ونفي الحرج لا دليل عليه (٢٥٢٣) في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.

______________________________________________________

٢٥٢٢. نظرا إلى اعتراف المسلمين بحجيّة الاستصحاب في شرعهم. وحاصل ما أجاب به : أنّ الإسكات والإلزام إنّما يأتي مع اعتراف المسلمين بالشكّ ، وليس كذلك ، لدعوى المسلمين القطع بكون الشريعة السابقة منسوخة بشرعهم.

٢٥٢٣. لأنّ نفيه شرعيّ وليس بعقلي ، ولم يثبت دليل عليه في الشريعة السابقة. وأنت خبير بأنّه إنّما يتمّ إذا لم يبلغ الحرج حدّا يوجب اختلال نظم امور المكلّف معاشا ومعادا ، وإلّا فلا ريب في استقلال العقل بنفيه. والمطلوب إنّما يتمّ على تقدير عدم لزوم هذه المرتبة من الحرج من الجمع بين أحكام الشريعتين ، وهو موقوف على ملاحظة أحكامهما وسبرها ولو إجمالا. ويمكن نفي الإشكال عنه فيما لو انسدّ باب العلم في إحدى الشريعتين أو كليهما ، لما ذكره المصنّف رحمه‌الله

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «لا يلزم» ، لا يلتزم.

٤٨٧

ودعوى : قيام الدليل الخاصّ على اعتبار هذا الظنّ ؛ بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين (٢٥٢٤) من أنّ شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبيّ اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ، ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقرّ لهم البناء على أحكامهم.

مدفوعة : بأنّ استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ؛ وإلّا لزم كونهم شاكّين في حقّية شريعتهم ونبوّة نبيّهم في أكثر الأوقات لما تقدّم من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ لا يفيد الظنّ الشخصيّ في كلّ مورد. وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب هي ترتيب الأعمال المترتّبة على الدين السابق دون حقّيّة دينهم ونبوّة نبيّهم التي هي من اصول الدين.

فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم ؛ من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبيّ السابق. نعم ، بعد ظهور النبيّ الجديد الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال ، وحينئذ فللمسلمين ايضا أن يطالبوا اليهود بإثبات

______________________________________________________

عند بيان دليل الانسداد من كون الاحتياط عند الانسداد الأغلبي موجبا لذلك ، فضلا عن انضمام الانسداد في الشريعة السابقة إليه في شرعنا.

وأمّا الخصوصيّة التي ادّعاها المصنّف رحمه‌الله فلم يظهر لها وجه ، لعدم الفرق في موضوع الأحكام الكلّية بين القليل والكثير بعد تحقّق عنوان موضوع الحكم ، فبعد تحقّق عنوان الحرج ولو في حقّ مكلف واحد انتفى عنه الحكم الحرجي.

نعم ، يختلف الحكم بذلك فيما لو كان الحرج نوعيّا أو شخصيّا ، إذ لو تحقّق الحرج للأغلب انتفى الحكم عن الجميع على الأوّل ، وعمّن تحقّق في حقّه الحرج خاصّة على الثاني. ولكن لا دخل لذلك فيما نحن فيه ، لسقوط التكليف عمّن تحقّق في حقّه الحرج على التقديرين ، ولا تؤثّر فيه القلّة والكثرة.

٢٥٢٤. هو صاحب الفصول.

٤٨٨

حقّية دينهم ؛ لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر ، فتأمّل.

الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي نبوّة موسى أو عيسى عليهما‌السلام إلّا بإخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصّ القرآن ؛ وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.

ودعوى : أنّ النبوّة موقوفة (٢٥٢٥) على صدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لا على نبوّته ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلّا من حيث نبوّته.

والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة. وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام ، لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود.

الرابع : أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلّا إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبيّ ، وإلّا فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا معنى لاستصحابه لعدم قابليّته للارتفاع (٢٥٢٦) أبدا. ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبيّ السابق الإخبار بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى حكاية عن عيسى : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) فكلّ ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدين عيسى عليه‌السلام المختصّ به عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن المعلوم أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ المسلمين فضلا

______________________________________________________

٢٥٢٥. حاصلها : أنّ الجواب المذكور يرجع إلى أنّ علمنا بنبوّة عيسى وموسى عليهما وعلى نبيّنا وآله الصلاة والسلام إنّما هو بإخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمع الشكّ في نبوّته لا يبقى لنا علم بنبوّتهما حتّى يستصحب. ومع تسليم نبوّته لا معنى للاستصحاب. ولمانع أن يمنع حينئذ توقّف ثبوت نبوّتهما على نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يلزم من صحّة التمسّك باستصحاب نبوّتهما ثبوت نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل على صدقه ، وعليه لا يلزم المحذور.

٢٥٢٦. هذه العبارة يحتمل معنيين :

٤٨٩

عن استصحابه. فإن أراد الكتابيّ دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة ، فنحن منكرون له ، وإن أراد هذه الجملة ، فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ انتهاء مدّة الحكم المعلومة إجمالا.

فإن قلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ ، في تحقّق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا ، فيصحّ تمسكه بالاستصحاب. قلت : المسلّم هو الدين المغيّا بمجيء هذا الشخص الخاصّ ، لا بمجيء موصوف كلّي حتّى يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص ويتمسّك بالاستصحاب.

الخامس : أن يقال : إنّا معاشر المسلمين لمّا علمنا أنّ النبيّ السالف أخبر بمجيء

______________________________________________________

أحدهما : أنّ صفة النبوّة قائمة بشخص النبيّ ، فعدم النبوّة بعد موت النبيّ إنّما هو لعدم تحقّق موضوعها ، لا لارتفاعها حتّى تكون قابلة للشكّ في الارتفاع والبقاء بعد الموت ، كي تكون موردا للاستصحاب.

والآخر أنّ صفة النبوّة قائمة بالنفس الناطقة التي لا زوال لها ، فتكون صفتها أيضا دائميّة ، فلا تكون موردا للاستصحاب.

ولكن يرد على هذا المعنى أنّ قيام الصفة بالموصوف لا يقتضي كون الموصوف علّة تامّة لثبوتها ، إذ يحتمل أن يكون قيامها به مشروطا بشرط مفقود عند ظهور نبيّ آخر ، إذ الحكم والمصالح كثيرة لا يحيط بها إلّا الله تعالى. مع أنّ ما ذكر إنّما يتمّ إن كانت النبوّة صفة واقعيّة ، لا أمرا منتزعا من وجوب إطاعته فيما جاء به ، إذ الخلاف في قيام النبوّة بالنفس أو بها مع مدخليّة الهيكل الجسماني إنّما يتمّ على الأوّل. اللهمّ إلّا أن ينازع على الثاني أيضا في مدخليّة أحد الأمرين بالخصوص في وجوب الإطاعة. وهو فاسد ، إذ مورد الاستصحاب حينئذ يكون هو وجوب التديّن بما جاء به لا الصفة المنتزعة ، لعدم قابليّتها للاستصحاب. مع أنّه على تقدير احتمال مدخليّة الهيكل الجسماني لا يمكن استصحاب الصفة ، لعدم العلم ببقاء الموضوع.

٤٩٠

نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الإقرار به والإيمان به متوقّف على تبليغ ذلك إلى رعيّته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبيّ السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبوّة التقديريّة لا يضرّنا ولا ينفعهم في بقاء شريعتهم.

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق (٢٥٢٧) ، حيث قال له عليه‌السلام : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟ قال عليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ولم يبشّر به امّته. ثمّ قال الجاثليق : أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال عليه‌السلام : بلى. قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا. قال عليه‌السلام : الآن جئت بالنّصفة يا نصرانيّ. ثمّ ذكر عليه‌السلام إخبار خواصّ عيسى عليه‌السلام بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا يخفى : أنّ الإقرار بنبوّة (٢٥٢٨) عيسى عليه‌السلام وكتابه وما بشّر به امّته لا يكون

______________________________________________________

٢٥٢٧. الرواية طويلة نقلها الطبرسيّ في الاحتجاج. وهي تحتمل وجهين آخرين :

أحدهما : أن لا يكون الإمام عليه‌السلام في مقام ردّ الاستصحاب ، بل في مقام دفع كلام جاثليق ، حيث سأله بقوله : «ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه؟ وهل تنكر منهما شيئا؟». وسكت في جواب الإمام عليه‌السلام بقوله : «أنا مقرّ بنبوّة عيسى ...».

ولم يلتفت إلى التمسّك بالاستصحاب بالتقريب الذي تمسّك به اليهودي في مناظرة السيّد ، ولو تمسّك به لعلّ الإمام عليه‌السلام أجابه بجواب أوفى وأتمّ.

وثانيهما : مع تسليم كون الإمام عليه‌السلام في مقام ردّ الاستصحاب ، أنّه عليه‌السلام لمّا كان مدّعيا لنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله والجاثليق منكرا لها ، فأبرز الإمام عليه‌السلام دعواه في زيّ الإنكار حتّى لا يطالبه بدليل على دعواه ، والجاثليق لمّا لم يلتفت إلى عدم كون مقالته عليه‌السلام دافعة للاستصحاب سكت بذلك ، وهو من طرق المناظرة بل أحسنها.

٢٥٢٨. حاصله : أنّ ما أقرّ به الإمام عليه‌السلام من نبوّة عيسى وكتابه والبشارة ،

٤٩١

حاسما لكلام الجاثليق ، إلّا إذا اريد المجموع من حيث المجموع بجعل الإقرار بعيسى عليه‌السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة. ويشهد له قوله عليه‌السلام بعد ذلك : " كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشّر" ، فإنّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.

وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه ، فلا يدلّ على تسليمه (٢٥٢٩) الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ، بل لأنّه عليه‌السلام من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات ، وإلّا فالظاهر المؤيّد بقول الجاثليق : " وسلنا مثل ذلك" كون كلّ منهما مدّعيا ، إلّا أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى عليه‌السلام ، إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم.

______________________________________________________

إن كان كلّ منها إقرارا مستقلّا لا يحسم مادّة كلام الجاثليق ، إذ له أن يقول له : إنّه بعد الإقرار بالنبوّة فلا يجديك دعوى إقرار عيسى بالبشارة إلّا عن دليل وبرهان ، فما لم تقم دليلا على هذه الدعوى فلا بدّ من الأخذ بالإقرار الأوّل. فلا بدّ أن يكون مراد الإمام عليه‌السلام أنّ إقرارنا بنبوّة عيسى ليس على إطلاقه ، بل على تقدير البشارة ، بمعنى أنّ من نقرّ بنبوّته هو عيسى الذي بشّر امّته بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله. فالمقرّ به هي النبوّة المتعلّقة بهذا الموصوف على تقدير وجود هذه الصفة فيه لا مطلقا. وحقيقة ذلك ترجع إلى أنّه إذا كان شخص واحد وجزئي حقيقي في الخارج على صفة ، وكان اتّصافه بها على تقدير وجود صفة اخرى فيه ، مثل كون زيد ابن عمرو ، فإنّه على تقدير كون عمرو أباه ، لكون البنوّة والأبوّة من المتضايفين ، صحّ لنا نفي كونه على الصفة المذكورة على تقدير عدم وجود الصفة الاخرى فيه. وفيما نحن فيه أيضا لمّا كانت نبوّة عيسى مرتبطة بالبشارة ، لما علمنا من وجوب ذلك عليه ، صحّ لنا نفي نبوّته على تقدير عدم بشارته ، فإقرار الإمام عليه‌السلام بالنبوّة والكتاب والبشارة بمنزلة الإقرار بأمر واحد ، لما ثبت من الارتباط والاقتران بينها.

٢٥٢٩. من حيث دلالة الالتزام بها على كون الجاثليق منكرا وقوله موافقا للأصل. ثمّ المراد بالاستصحاب هنا هو المنجّز دون المعلّق ، وهو واضح.

٤٩٢

الأمر العاشر : أنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : " أكرم العلماء في كلّ زمان" وكقوله : " لا تهن فقيرا" ، حيث إنّ النهي للدوام. وإمّا إن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو قوله : " أكرم العلماء إلى أن يفسقوا" ؛ بناء على مفهوم الغاية ، وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا : إمّا لإجماله ، كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، وإمّا لقصور دلالته ، كما إذا قال : " إذا تغيّر الماء نجس" ، فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ، ومثل الإجماع المنعقد على حكم في زمان ؛ فإنّ الإجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث. وأمّا القسم الثاني ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني. وكذلك القسم الأوّل ؛ لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كاف ومغن عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ؛ إذ المعتبر في الاستصحاب عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة.

ثمّ إذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ، فشك فيما بعد ذلك الزمان المخرج بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟ الحقّ : هو التفصيل في المقام (٢٥٣٠) بأن يقال : إن اخذ فيه عموم

______________________________________________________

٢٥٣٠. تحقيق المقام : أنّه إذا تعلّق حكم بعامّ ، إمّا أن يتعلّق بأفراده في كلّ زمان ، بأن كان الزمان جزء موضوع للحكم ، بأن يعلم من حال الآمر أنّ مراده بقوله : أكرم العلماء وجوب إكرام زيد وعمرو وبكر إلى آخر الأفراد في كلّ زمان يسع إكرامهم ، أو يصرّح هو بذلك ، بأن يقول : يجب عليك إكرام كلّ فرد من العلماء في كلّ زمان من الأزمنة. وإمّا أن يتعلّق بالأفراد على وجه الدوام والاستمرار من دون أخذ الزمان قيدا له ، بأن يعلم من جهة عدم تقيّد الأمر بزمان كون مراد الآمر استمرار حكم الأفراد ، أو كان الاستمرار من لوازم الفعل المأمور به ، كالأمر بالوفاء بالعقود ، بناء على أنّه مع المخالفة في زمان لا يسمّى وفاء

٤٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كما ادّعاه بعضهم ، وستعرف ما فيه ، أو صرّح الآمر بذلك بقوله : أكرم العلماء دائما. وكيف كان ، فاعتبار الزمان على هذا التقدير من باب الظرفيّة لا التقييد.

ثمّ إذا خرج بعض الأفراد من تحت العموم في زمان ، بأن قال : لا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة ، فهو لا يخلو أيضا : إمّا أن يعتبر الزمان فيه أيضا من باب التقييد ، أو من باب الظرفيّة. فالأقسام أربعة. الأوّل : أن يكون الزمان في كلّ منهما معتبرا من باب التقييد. الثاني : أن يعتبر في كلّ منهما من باب الظرفيّة. الثالث : أن يكون في العامّ من باب الظرفيّة ، وفي الخاصّ من باب التقييد. الرابع : عكس الثالث.

أمّا الأوّل ، فلا يمكن فيه استصحاب حكم المخصّص حتّى يحكم بعدم وجوب إكرام زيد فيما بعد يوم الجمعة أيضا ، لفرض أخذ الزمان فيه جزء موضوع ، فلا يمكن إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر بالاستصحاب ، لاشتراط اتّحاد الموضوع في جريانه. وحينئذ لا بدّ في محلّ الشكّ من العمل بعموم العامّ ، لفرض كون كلّ فرد في كلّ زمان موضوعا مستقلّا ، فمع خروج بعض الأفراد في زمان فأصالة عدم التخصيص زائدا على ما علم تقتضي عدم خروجه في زمان آخر ، بل لو لم يكن هنا عموم وجب الرجوع إلى سائر الاصول والعمومات دون استصحاب حكم المخصّص كما عرفت.

وأمّا الثاني ، فالمتعيّن فيه استصحاب حكم المخصّص ، إذ ثبوت حكم المخصّص في محلّ الشكّ لا يستلزم التخصيص في حكم العامّ زائدا على ما علم من تخصيصه ، حتّى يدفع بأصالة عدم التخصيص الزائد ، لأنّه إذا أخذ حكم الأفراد مستمرّا بحسب الأزمان فالموضوع كلّ فرد من دون خصوصيّة زمان ، فبعد إخراج بعضها في زمان لا يبقى للعامّ مقتض للشمول للزمان الثاني ، حتّى يكون استصحاب حكم المخصّص بالنسبة إليه مستلزما لارتكاب خلاف الظاهر في العامّ زائدا على ما علم ارتكابه فيه ، بخلاف القسم الأوّل ، لكون كلّ فرد في كلّ زمان فردا من العامّ ، يلزم ارتكاب خلاف الظاهر في العامّ بإخراج فرد منه بالنسبة إلى كلّ زمان.

٤٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ومع ظهور العامّ في الشمول لكلّ زمان بالعموم الاصولي ـ كنفس الأفراد ـ لا يصحّ استصحاب حكم المخصّص ، لاشتراط جريانه بعدم وجود دليل حاكم عليه. وهذا وجه آخر في عدم جريان استصحاب حكم المخصّص هناك سوى ما قدّمناه.

وأمّا الثالث ، فلا يصحّ فيه استصحاب حكم المخصّص ، لما مرّ في القسم الأوّل. ولا يشمله حكم العامّ أيضا ، لما تقدّم في القسم الثاني ، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر القواعد والاصول.

وأمّا الرابع ، فيعمل فيه بالعموم ، ولا يجوز فيه استصحاب حكم المخصّص ، كما يظهر ممّا تقدّم في القسم الثاني.

وهنا بحث ، وهو أنّ المشهور كون التخصيص موجبا للتجوّز ، ومقتضاه أنّه إذا خرج زيد يوم الجمعة في القسم الأوّل من عموم إكرام العلماء كلّ يوم ، لزم التجوّز في كلّ من العلماء وكلّ يوم ، ومقتضى ما تقدّم هناك ـ من عدم جواز استصحاب حكم المخصّص بعد ضمّ خطابي العموم والخصوص ـ وجوب إكرام من عدا زيد أبد الآباد ، وكذا وجوب إكرام زيد فيما عدا يوم الجمعة من الأيّام ، ولكن مقتضى التجوّز في عموم العلماء وكلّ يوم ـ على ما عرفت ـ خلافه ، إذ مقتضى تخصيص العلماء وجوب إكرام من عدا زيد ومقتضى تخصيص كلّ يوم ثانيا وجوب إكرام من عدا زيد ، من العلماء فيما عدا يوم الجمعة من الأيّام ، وأمّا وجوب إكرام زيد فيما عدا يوم الجمعة ، وكذا وجوب إكرام من عداه بالنسبة إلى يوم الجمعة ، فلا يستفاد من ضمّ الخطابين.

والجواب : أنّ هذا إنّما يلزم على تقدير استقلال كلّ من التخصيصين ، بحيث يقطع النظر في كلّ منهما عن الآخر ، وليس كذلك ، إذ إخراج زيد من وجوب إكرام العلماء إنّما هو بملاحظة كونه يوم الجمعة لا من حيث هو ، فكأنّ لزيد وجودات على حسب وجوده في الأزمان قد تعلّق بها الحكم مستقلّا ، أحدها زيد

٤٩٥

الأزمان أفراديّا ، بأن اخذ كلّ زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ؛ لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ، كقوله : " أكرم العلماء كلّ يوم" فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة. ومثله ما لو قال : " أكرم العلماء" ، ثمّ قال : " لا تكرم زيدا يوم الجمعة" إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلا ، فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاصول ؛ لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.

وإن اخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : " أكرم العلماء دائما" ، ثمّ خرج فرد في زمان وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ؛ لأنّ مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم (٢٥٣١) بل إلى الاصول الأخر.

ولا فرق بين استفادة الاستمرار من اللفظ كالمثال المتقدّم أو من الإطلاق ، كقوله : " تواضع للناس" ـ بناء على استفادة الاستمرار منه ـ فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج ، وليس هذا من باب تخصيص العامّ بالاستصحاب.

______________________________________________________

يوم الجمعة والآخر زيد يوم السبت وهكذا ، فالمخرج هو زيد بلحاظ كونه يوم الجمعة ، وأمّا بلحاظ كونه يوم السبت فهو باق تحت العموم ، وكذا سائر الأفراد بالنسبة إلى يوم الجمعة ، لاندراجها تحته بلحاظ كونها في ذلك اليوم. وبعبارة اخرى : أنّ ما ذكر من المحذور إنّما يلزم لو أخرج زيد من العموم أوّلا ثمّ أسند الحكم إلى الباقي ، وقيّد الحكم حينئذ بكلّ زمان وأخرج منه يوم الجمعة ، وليس كذلك ، بل قد اعتبر لأفراد العامّ وجودات متعدّدة باعتبار كلّ يوم ، وأسند الحكم إليهما بهذا الاعتبار ، ثمّ أخرج منها زيد بلحاظ وجوده يوم الجمعة ، فلزوم التجوّز في العامّين بتخصيص واحد لا بتخصيصين مستقلّين ، فتدبّر.

٢٥٣١. لفرض عدم عموم لفظي يشمل كلّ زمان.

٤٩٦

وقد صدر خلاف ما ذكرنا ـ من أنّ مثل هذا من مورد الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العامّ به ـ في موضعين (٢٥٣٢) : أحدهما : ما ذكره المحقّق الثاني رحمه‌الله (٢٥٣٣) في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان من أنّه فوريّ ؛ لأنّ عموم الوفاء (٢٥٣٤) بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان. وحاصله : منع جريان الاستصحاب ؛ لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن وبقي الباقي.

______________________________________________________

٢٥٣٢. أحدهما : في العمل بالعموم في مورد الاستصحاب. والآخر : في تخصيص العامّ بالاستصحاب. وقد قلنا بخلاف ذلك في الموضعين.

٢٥٣٣. قد نقل بعض مشايخنا عن الشيخ علي بن الشيخ جعفر صاحب كاشف الغطاء سماعا منه في مجلس بحثه التمسّك بعموم الأمر بالوفاء بالعقود في المسألة ، إلّا أنّه استند في استفادة العموم الزماني منه إلى عدم صدق الوفاء مع عدم قصد الاستمرار عليه ، فإذا خرج البيع المغبون فيه في زمان الاطّلاع بالغبن ، يحكم فيما بعده باللزوم وسقوط الخيار ، للعموم ، وكون المتيقّن من الخارج ما ذكرناه من أوّل زمان الاطّلاع.

وأنت خبير بمنع اشتراط الاستمرار على ترتيب الآثار على العقد في صدق الوفاء ، إن هو إلّا كسائر المطلقات. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المتعاقدين لمّا كانا قاصدين للالتزام بمقتضى العقد والاستمرار عليه ، فالوفاء به لا يصدق إلّا بالاستمرار على مقتضاه. ولعلّ هذا أيضا مراده ، إلّا أنّه يرد عليه : أنّ غايته إثبات إرادة الاستمرار ، وهو لا ينافى استصحاب حكم المخصّص كما قرّره المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ المنافي له اعتبار الزمان فيه من باب التقييد ، بأخذ كلّ فرد في كلّ زمان فردا من العامّ ، كما أسلفنا توضيحه في الحواشي السابقة.

٢٥٣٤. يرد عليه أوّلا : منع الملازمة ، والسند فيه واضح. وثانيا : مع التسليم أنّ مقتضاه استلزام خروج بعض الأفراد خروجه مع ما يتبعه من العموم الزماني ،

٤٩٧

وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار. وهو الأقوى ؛ بناء على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء إلّا كون الحكم مستمرّا ، لا أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ ، حتّى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي.

نعم لو استظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمان ، بالإضافة إلى غيره من الأزمنة ، صحّ ما ادعاه المحقّق قدس‌سره ، لكنّه بعيد. ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك ، إلّا أنّ بعضهم (٢٥٣٥) قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو الإجماع ، لا أدلّة نفي الضرر ؛ لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل.

ولا أجد وجها لهذا التفصيل ؛ لأنّ نفي الضرر (٢٥٣٦) إنّما نفى لزوم العقد ، ولم يحدّد زمان الجواز ، فإن كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ، ويرجع في الزائد إلى العموم ، فالإجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده.

______________________________________________________

فإذا خرج بعض الأفراد في زمان لا يبقى في العامّ مقتض للشمول له بعده.

هذا ، ويمكن دفع الأوّل بما نبّهنا عليه في الحاشية السابقة ، من أنّ استفادة تبعيّة العموم الأفرادي للعموم الزماني إنّما هي من جهة قصد المتعاقدين للاستمرار ، فالوفاء بالعقد الواقع بينهما لا يكون إلّا بالاستمرار على الالتزام بمقتضى العقد.

ومنه يندفع الثاني أيضا ، لأنّ عدم وجوب الوفاء وعدم وجوب العمل بما قصده المتعاقدان في زمان لا يستلزم عدمه بعده أيضا. ولكن يزيّف ذلك ما تقدّم هناك من عدم منافاته لاستصحاب حكم المخصّص ، فلا تغفل.

٢٥٣٥. هو صاحب الرياض.

٢٥٣٦. حاصله : أنّا إن قلنا بكون عموم الوفاء بالعقود مستتبعا لعموم الأزمان بحيث يتعدّد أفراد الموضوع بتعدّد الأزمان ، فلا يفرّق فيه بين كون المخصّص هو الإجماع أو قاعدة الضرر في عدم صحّة استصحاب حكم المخصّص ، إذ العامّ حينئذ كما يثبت حكم ما بعد الزمان الذي نفت القاعدة لزوم الوفاء فيه ،

٤٩٨

والثاني : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول (٢٥٣٧):

______________________________________________________

لفرض عدم عموم القاعدة للزمان الثاني ، لانتفاء الضرر بثبوت الخيار للمغبون في الزمان الأوّل ، كذلك الزمان المجمع على خروجه من حكم العامّ.

وإن قلنا بكون عموم الوفاء مستتبعا لاستمرار الحكم خاصّة ، لا يفرّق فيه أيضا بين الأمرين في صحّة استصحاب حكم المخصّص ، إذ كما يصحّ استصحاب حكم الإجماع فيما بعد الزمان الذي انعقد الإجماع على خروجه من حكم العامّ ، نظرا إلى عدم شمول العامّ لما بعد الزمان المخرج ، كذلك يصحّ استصحاب حكم القاعدة إلى ما بعد الزمان الذي أخرجته من حكم العامّ.

وبالجملة ، إنّ القاعدة كالإجماع مثبتة لحكم الزمان المخرج بهما ، وليست محدّدة لزمان خروج الفرد. فإن كان هنا عموم يشمل ما بعد الزمان المخرج فلا يصلح استصحاب حكم المخصّص على التقديرين ، وإلّا يصحّ استصحابه كذلك ، فتدبّر.

٢٥٣٧. هو العلّامة الطباطبائي ، قال في فوائده ما لفظه : «استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء دليل شرعيّ رافع بحكم الأصل ، ومخصّص لعمومات الحلّ ، كاستصحاب حكم العنب ، فإنّ الأصل قد انتقض فيه بالإجماع والنصوص الدالّة على تحريمه بالغليان ، وعمومات الكتاب والسنّة قد تخصّصت بهما قطعا. وحينئذ فينعكس الأمر في الزبيب ، ويكون الحكم فيه بقاء التحريم الثابت له قبل الزبيبيّة بمقتضى الاستصحاب ، فلا يرتفع إلّا مع العلم بزواله ، والخاصّ وإن كان استصحابا مقدّم على العامّ وإن كان كتابا ، كما حقّق في محلّه. وأمّا استصحاب الحلّ فغايته الحلّية بالفعل ، وهي لا تنافي التحريم بالقوّة ، والحلّ المنجّز يرتفع بحصول شرائط التحريم المعلّق.

فإن قيل : مرجع الاستصحاب إلى ما ورد في النصوص من عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، وهذا عامّ لا خاصّ.

٤٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

قلنا : الاستصحاب في كلّ شيء ليس إلّا بقاء الحكم الثابت له ، وهذا المعنى خاصّ بذلك الشيء ، ولا يتعدّاه إلى غيره. وعدم نقض اليقين بالشكّ وإن كان عامّا إلّا أنّه واقع في طريق الاستصحاب ، وليس نفس الاستصحاب المستدلّ به. والعبرة في العموم والخصوص بنفس الأدلّة لا بأدلّة الأدلّة ، وإلّا لزم أن لا يوجد في الأدلّة الشرعيّة دليل خاصّ أصلا ، إذ كلّ دليل فهو ينتهي إلى أدلّة عامّة هي دليل حجّيته. وليس عموم قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته إلّا كعموم قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) بالقياس إلى أخبار الآحاد المرويّة ، فكما أنّ ذلك لا ينافي كون الخبر خاصّا إذا اختصّ مورده بشيء معيّن ، فكذا هذا. ولذا ترى الفقهاء يستدلّون باستصحاب النجاسة والحرمة ، في مقابل الاصول والعمومات الدالّة على طهارة الأشياء وحليّتها. وكذا باستصحاب شغل الذمّة ، في مقابلة ما دلّ على براءة الذمة من الأصل والعمومات. وفي مسائل العصير ما يبتني على ذلك أيضا ، كمسألة الشكّ في ذهاب الثلثين ، وكون التحديد به تحقيقا لا تقريبا. وكذا مسألة خصت الإناء ، وصيرورة العصير دبسا قبل ذهاب ثلثيه ، وغير ذلك من المسائل. ولو لا أنّ الاستصحاب دليل خاصّ يجب تقديمه على الأصل والعمومات لم يصحّ شيء من ذلك. وهذا من نفائس المباحث فاحتفظ به» انتهى كلامه رفع في الجنان مقامه.

واعترض عليه صاحب الفصول بعد إيراد ملخّص كلامه في مبحث العامّ والخاصّ بما لخّصه المصنّف رحمه‌الله قائلا : «التحقيق أنّ هنا مقامين : الأوّل : تخصيص العامّ ، ورفع شموله لبعض ما يتناوله بالاستصحاب. الثاني : إبقاء حكم المخصّص بعد قيام دليله في بعض ما يتناوله العامّ بالاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل ، فلا ريب في عدم حجّية الاستصحاب فيه ، سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له ، لأنّ أدلّة حجّيته مقصورة على صورة عدم دلالة دليل على الخلاف وإن كان في أدنى درجة من الحجّية ، وعموم العامّ دليل ، فلا يصلح

٥٠٠