فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

ليس وظيفة للشارع ولا لأحد من قبله. نعم ، حكم المشتبه حكمه الجزئي ـ كمشكوك النجاسة أو الحرمة ـ حكم شرعيّ كلّي ليس بيانه وظيفة إلّا للشارع. وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها وانتفائها في الواقع ليس وظيفة للشارع. نعم ، حكم الموضوع المشتبه في الخارج كالمائع المردّد بين الخلّ والخمر ، حكم كلّي ليس بيانه وظيفة إلّا للشارع ، وقد قال الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ...» ، وقوله في خبر آخر : «ساخبرك عن الجبن وغيره» (١٠).

ولعلّ التوهّم نشأ من تخيّل أنّ ظاهر «لا تنقض» إبقاء نفس المتيقّن السابق ، وليس إبقاء الرطوبة ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه. ويدفعه ـ بعد النقض بالطهارة المتيقّنة سابقا ؛ فإنّ إبقائها ليس من الأفعال الاختياريّة القابلة للإيجاب ـ : أنّ المراد من الإبقاء (٢٢٢٥) وعدم النقض هو ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المتيقّن ، فمعنى استصحاب الرطوبة ترتيب آثارها الشرعيّة في زمان الشكّ ، نظير استصحاب الطهارة ، فطهارة الثوب ورطوبته سيّان في عدم قابلية الحكم بإبقائهما عند الشك ، وفي قابليّة الحكم بترتيب آثارهما الشرعيّة في زمان الشك ، فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب وكونه من قبيل طهارته ـ لعدم شمول أدلّة «لا تنقض» للأوّل ـ في غاية الضعف.

______________________________________________________

٢٢٢٥. فإن قلت : على هذا المعنى يلزم الإضمار ، بخلاف ما لو اختصّت الأخبار بالأحكام الشرعيّة ، لأنّ المراد بالإبقاء حينئذ هو جعل الوجود الثاني للحكم في زمان الشكّ ، والتخصيص أولى من الإضمار. مع أنّها على تقدير شمولها للامور الخارجة يلزم استعمال اللفظ في معنيين ، أعني : ترتيب الآثار الشرعيّة بالنسبة إلى الامور الخارجة ، وجعل الوجود الثاني بالنسبة إلى الأحكام.

قلت : نمنع الإضمار ، وكذا لزوم استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ المراد باليقين ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا ـ هو المتيقّن الشامل للأحكام الكلّية والموضوعات الخارجة ، والمراد بإبقائه معنى عامّ ـ من باب عموم المجاز ـ شامل

٢٢١

نعم ، يبقى في المقام أنّ استصحاب الامور الخارجيّة ـ إذا كان معناه ترتيب آثارها الشرعيّة ـ لا يظهر له فائدة (٢٢٢٦) ، لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه كانت مشاركة معه في اليقين السابق ، فاستصحابها يغني عن استصحاب نفس الموضوع ، فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب وزوجته يغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ

______________________________________________________

لكلّ منهما ، وبقاء الأحكام إنّما هو باعتبار ثبوت الوجود الثاني لها في زمان الشكّ ، وبقاء الامور الخارجة باعتبار ثبوت آثارها الشرعيّة في ذلك الزمان ، وقد اريد هذا المعنى العامّ من لفظ البقاء ، فتدبّر.

٢٢٢٦. يرد عليه أوّلا : أنّ الثمرة تظهر في تعارض الاستصحاب الحكمي مع الموضوعي ، فإن قلنا بجريانه في الامور الخارجة يقدّم الثاني على الأوّل ، كما سيجيء عند بيان تعارض الاستصحابين من تقدّم الموضوعي منه على الحكمي ، بخلاف ما لو لم نقل بجريانه فيها.

وثانيا : أنّ قول المفصّل «وهذا ما يقال ...» وإن اقتضى اختصاص مورد كلامه بالامور الخارجة ، إلّا أنّ الظاهر أنّه كما لا يقول بجريان الاستصحاب فيها ، كذلك لا يقول بجريانه في الآثار الشرعيّة المرتّبة عليها ، كما يرشد إليه عموم دليله. وكذا قوله : «وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعيّ» لأنّ الظاهر أنّه إشارة إلى منع كون الامور الخارجة موردا للاستصحاب ، لا بحسب ذاتها ولا بحسب آثارها.

وثالثا : مع التسليم أنّه قد يمكن استصحاب الموضوع ، ولا يصحّ استصحاب الحكم المرتّب عليه ، كما في شهر رمضان بناء على كون كلّ يوم منه تكليفا مستقلّا ، إذ يمكن استصحاب بقاء شهر رمضان على القول بجريانه في الامور الخارجة ، ولا يصحّ استصحاب وجوب الصوم في يوم الشكّ ، لكون الشكّ فيه بدويّا موردا لأصالة البراءة دون الاستصحاب.

٢٢٢

معنى إبقاء الحياة ترتيب آثارها الشرعيّة. نعم ، قد يحتاج إجراء (٢٢٢٧) الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبّر ، كما في الآثار الغير المشاركة معه في اليقين السابق ، مثل توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشكّ في حياة الغائب ، فإنّ التوريث غير متحقّق حال اليقين بحياة الغائب ؛ لعدم موت قريبه بعد ، لكن مقتضى التدبّر إجراء الاستصحاب على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشكّ في حياته لورث منه ، وبعبارة اخرى : موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لإرثه منه ولم يعلم انتفاء الملازمة فيستصحب.

وبالجملة : الآثار المترتّبة على الموضوع الخارجي ، منها ما يجتمع معه في زمان

______________________________________________________

٢٢٢٧. توضيحه : أنّ آثار الموضوع الخارجي منها ما يشارك معه في الوجود في زمان اليقين به ، ومنها ما لا يشاركه كذلك ، إمّا لوجود مانع من ترتّبه عليه فعلا في ذلك الزمان ، أو لفقد شرط ترتّبه عليه كذلك ، إذ عدم ترتّب الآثار الشرعيّة لموضوعاتها الخارجة فعلا لا يخلو من أحد الوجهين ، ولكن يصدق حينئذ أنّه إن فقد المانع أو وجد الشرط ترتّبت عليها ، فيكون لها في زمان اليقين بموضوعاتها شأنيّة الترتّب والملازمة بينهما. وإذا فرض فقد المانع أو وجود الشرط ، وشكّ في ترتّب الحكم على موضوعه من جهة الشكّ في بقاء الموضوع ، تستصحب الملازمة الشأنيّة الثابتة في زمان اليقين بوجود الموضوع.

وهذا هو معنى الاستصحاب التعليقي. ومرجعه إلى استصحاب الملازمة المعلّقة على فقد المانع أو وجود الشرط إلى زمان الشكّ في وجود الموضوع. وذلك مثل ما لو رأت المرأة الدم في أوّل وقت الفريضة ، وتردّد دمها بين الحيض والاستحاضة ، فيقال : إنّه قد جاز لها الدخول في الفريضة قبل رؤية الدم ، إلّا أنّ فقد الشرط ـ وهو دخول الوقت ـ قد منع من ثبوت هذا الحكم لها قبل الرؤية. لكن مع تحقّق الشرط يشكّ في ترتّب هذا الحكم عليها من جهة الشكّ في بقاء الموضوع على الصفة التي كان معها موضوعا له ، وهي صفة الخلوّ من الحيض ، فتستصحب الملازمة الثابتة قبل الرؤية إلى ما بعدها ، كما يظهر من صاحب الرياض.

٢٢٣

اليقين به ، ومنها ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان ، لكن عدم الترتّب فعلا في ذلك الزمان ـ مع فرض كونه من آثاره شرعا ـ ليس إلّا لمانع في ذلك الزمان أو لعدم شرط ، فيصدق في ذلك الزمان أنّه لو لا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتّب الآثار ، فإذا فقد المانع الموجود أو وجد الشرط المفقود وشكّ في الترتّب من جهة الشكّ في بقاء ذلك الأمر الخارجي ، حكم باستصحاب ذلك الترتّب الشأني. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في بعض التنبيهات الآتية.

______________________________________________________

وكذا استصحاب الحرمة في ماء الزبيب إذا غلى وذهب ثلثاه ، فيقال : إنّ ماء العنب كان حراما على تقدير غليانه ، فالحرمة ثابتة له على تقدير الغليان ، فإذا جفّ العنب وصار زبيبا ، وشكّ في حرمة مائه بعد الغليان من جهة الشكّ في بقاء موضوع الحرمة ، لاحتمال كون موضوعها العنب ، بحيث يكون لهذا الوصف العنواني مدخل في ثبوت حكمه لا ما يعمّ الزبيب ، تستصحب الحرمة الثابتة لماء العنب على تقدير الغليان إلى ماء الزبيب كما حكي عن بعضهم.

ومن التأمّل فيما ذكرناه تظهر الحال فيما نحن فيه من توريث المفقود من مورّثه الميّت ، إذ يقال : إنّ المفقود في زمان اليقين بحياته كان المانع من انتقال مال أبيه مثلا إليه حياة أبيه ، فإذا ارتفع المانع وشكّ في حياة المفقود ، تستصحب الملازمة الثابتة له حال اليقين بحياته.

ويرد عليه : أنّ استصحاب الملازمة الشأنيّة إن كان مع استصحاب الموضوع المشكوك البقاء فهو مغن عن استصحابها. وإن كان بدونه فهو غير صحيح ، لاشتراط العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، نظير ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في استصحاب مطلق الآثار الشرعيّة. بل ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من التحقيق شامل لمطلق الآثار ، سواء كان ثبوتها في زمان اليقين بموضوعاتها منجّزة أو معلّقة على فقد مانع أو وجود شرط.

نعم ، قد يمكن إحراز بقاء الموضوع بالمسامحة العرفيّة كما في مثال المرأة ، لأنّ

٢٢٤

هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّ في موضع (*) جريان الاستصحاب في الأمر الخارجي لا يجري استصحاب الأثر المترتّب عليه ، فإذا شكّ في بقاء حياة زيد فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلّا بحكم الشارع بعدم جواز نقض حياته ، بمعنى وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على الشخص الحيّ ، ولا يغني عن ذلك إجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال بأنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقّنة ، فيحرم نقض اليقين بالشكّ ؛ لأنّ حرمة المال والزوجة إنّما تترتّبان في السابق على الشخص الحيّ بوصف أنّه حيّ ، فالحياة داخل في موضوع المستصحب ـ ولا أقلّ من الشكّ في ذلك ـ فالموضوع مشكوك في الزمن اللاحق ، وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب. واستصحاب الحياة لإحراز الموضوع في استصحاب الآثار غلط ؛ لأنّ معنى استصحاب الموضوع ترتيب آثاره الشرعيّة.

فتحقّق : أنّ استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ؛ لعدم إحراز الموضوع ، واستصحاب الموضوع كاف في إثبات الآثار. وقد مرّ في مستند التفصيل السابق وسيجيء في اشتراط بقاء الموضوع وفي تعارض الاستصحابين : أنّ الشكّ المسبّب عن شكّ آخر لا يجامع معه في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ، بل الداخل هو الشك السببي ، ومعنى عدم الاعتناء به وعدم جعله ناقضا لليقين ، زوال الشكّ المسبّب به ، فافهم.

______________________________________________________

موضوع جواز الدخول في الفريضة وإن كان هي المرأة بوصف الخلوّ من الحيض ، إلّا أنّ أهل العرف يزعمون ثبوت هذا الحكم لشخص المرأة من حيث هي ، ويتخيّلون تبدّل حالة الخلوّ عن الحيض إلى حالة الحيض من قبيل تبدّل حالات الموضوع لا من قبيل تغيّر نفسه ، نظير تغيّر صفة البياض إلى صفة السواد مثلا ، كما سيجيء توضيحه عند بيان اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، وبعد إحراز بقاء الموضوع وتحقّق شرط تنجّز الحكم ـ وهو دخول الوقت ـ يستصحب الحكم الثابت قبل تحقّقه.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «موضع» ، مورد.

٢٢٥

وأمّا القول الخامس وهو التفصيل بين الحكم الشرعيّ الكلّي وبين غيره ، فلا يعتبر في الأوّل ـ فهو المصرّح به في كلام المحدّث الأسترآبادي (٢٢٢٨) ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم النسخ مدّعيا الإجماع بل الضرورة على اعتباره. قال في محكيّ فوائده المكّية (١١) ـ بعد ذكر أخبار الاستصحاب ـ ما لفظه :

لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام الله تعالى كما ذهب إليه المفيد والعلّامة من أصحابنا والشافعيّة قاطبة ، وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به.

______________________________________________________

٢٢٢٨. وكذا في كلام الشيخ الحرّ العاملي المحكيّ عن الفصول المهمّة ، قال بعد نقل شطر من أخبار الباب : «إنّ هذه الأخبار لا تدلّ على حجّية الاستصحاب في نفس الحكم الشرعيّ ، وإنّما تدلّ عليه في موضوعاته ومتعلّقاته ، كتجدّد حدث بعد الطهارة أو طهارة بعد الحدث أو طلوع الصبح أو غروب الشمس أو تجدّد ملك أو نكاح أو زوالهما أو نحو ذلك ، كما هو ظاهر من حديث المسألتين ، وقد حقّقناه في الفوائد الطوسيّة».

وقال في محكيّ الفوائد الطوسيّة : «إنّ المتتبّع في أخبار الاستصحاب يجدها واردا لبيان إجراء الاستصحاب في الموضوعات ، كالطهارة والنجاسة والليل والنهار والرطوبة واليبوسة. فمورد تلك الأخبار هو الموضوعات بحكم التّتبع ، فنحكم بحجّية الاستصحاب فيها ، فلا نتعدّى إلى غيرها من الأحكام الكلّية» انتهى.

ويرد عليه أوّلا : أنّ مورد جملة من الأخبار وإن اختصّ بموضوعات الأحكام ، إلّا أنّ جملة اخرى منها مطلقة ، كرواية الخصال وغيرها ، وهي صحيحة على اصطلاح القدماء ، لغاية وثاقتها كما تقدّم سابقا.

فإن قلت : ينبغي حمل المطلق منها على مقيّدها كما هو المطّرد في باب المطلقات.

قلت : نمنع الاطّراد ، بل الحمل مشروط بالعلم باتّحاد التكليف. واشتراطهم لاتّحاد السبب في المثبتين إنّما هو لكشف ذلك عندهم عن اتّحاده كما قرّرناه في

٢٢٦

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليّين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة : تارة بما ملخّصه : أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعيّ في موضوع في حال من حالاته ، نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه. ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف

______________________________________________________

محلّه ، مثل قوله : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة ، فالمطلوب إمّا عتق الرقبة مطلقا أو عتق المؤمنة خاصّة ، فيقع التعارض بينهما ، فيجب حمل المطلق منهما على المقيّد ، بخلاف ما لو تعدّد المطلوب ، مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وما دلّ على حلّية بيع السلم مثلا ، لأنّ حلّيته لا تنافي حلّية مطلق البيع حتّى يلتجئ إلى الجمع بينهما بالتقييد. وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، إذ اعتبار استصحاب في موضوعات الأحكام لا ينافي اعتباره مطلقا حتّى في الأحكام ، كما هو مقتضى مطلقات أخبار الباب.

وثانيا : مع تسليم اختصاص موارد جميع الأخبار الواردة في المقام بموضوعات الأحكام ، إنّا نمنع كون خصوصيّة السؤال مخصّصة لعموم الجواب ، فالعبرة بعموم الجواب لا بخصوص المورد كما قرّر في محلّه. وقد تقدّم سابقا دلالة الأخبار على العموم ، من حيث وقوع النكرة في سياق النفي ، وعدم صحّة حمل اللام على العهد في قوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ».

وثالثا : مع التسليم أنّه لا بدّ على ما ذكره أن يقتصر في الحكم بحجّية الاستصحاب على موارد الأخبار فلا وجه للتعدّي إلى مطلق موضوعات الأحكام.

ودعوى عدم الفصل بين الموضوعات ممّا لا يصغى إليه بعد ملاحظة تشتّت الأقوال في المسألة كما لا يخفى. ثمّ إنّ عدم تعرّضه لاستثناء عدم النسخ ـ كما صرّح به الأمين الأسترآبادي ـ لعلّه لوضوحه ، لكونه مجمعا عليه فيما بينهم.

٢٢٧

موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات مختلف معه في الصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له (٢٢٢٩).

وتارة : بأنّ استصحاب الحكم الشرعيّ (٢٢٣٠) وكذا الأصل (٢٢٣١) أي الحالة السابقة التي إذا خلّي الشىء ونفسه كان عليها ، إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محلّ النزاع ؛ لتواتر الأخبار بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الامّة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم‌السلام ، فعلم أنّه ورد في محلّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ، وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رشده وبيّن غيّه ـ أي مقطوع فيه ذلك ، لا ريب فيه ـ وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث ، انتهى.

أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره أوّلا قد استدلّ به كلّ من نفى الاستصحاب من أصحابنا ، وأوضحوا ذلك غاية الايضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة (١٢) والعدّة والغنية وغيرها ، إلّا أنّهم منعوا (٢٢٣٢) من إثبات الحكم الثابت لموضوع في زمان ، له بعينه في زمان آخر ، من دون تغيير واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا ، كما يشهد له تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد

______________________________________________________

٢٢٢٩. لعدم صدق النقض مع اختلاف موضوع المسألتين.

٢٢٣٠. أراد به قاعدة اليقين المستفادة من الأخبار.

٢٢٣١. أراد به قاعدة الاستصحاب المستدلّ عليها بالعقل.

٢٢٣٢. يعني : أنّ ظاهر منع المحدّث المذكور من جريان الاستصحاب في الموارد التي منعه فيها إنّما هو بتوهّم كون الشكّ فيها في المقتضي ، ولذا استند فيه إلى تغاير موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها. وأمّا غيره من المانعين فقد زادوا عليه ، فمنعوه مطلقا وإن اتّحد الموضوع في القضيّتين ، وكان الشكّ من جهة احتمال عروض المانع. فلا يرد عليهم ما أورده المصنّف رحمه‌الله على المحدّث المذكور من النقض بالموارد التي سلّم جريان الاستصحاب فيها.

٢٢٨

الغيبة عنهما. وأهملوا قاعدة «البناء على اليقين السابق» ؛ لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل ، بناء على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة ؛ لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا إليه سابقا ، أو لغفلتهم عنها (٢٢٣٣) على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل. وهذا المحدّث قد سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتّحاد الموضوع ، إلّا أنّه ادّعى تغاير موضوع المسألة المتيقّنة والمسألة المشكوكة ، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناء على اليقين السابق ، وعدم الحكم به ليس نقضا له.

فيرد عليه أوّلا : النقض بالموارد التي ادّعى الإجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ـ كما حكيناها عنه سابقا ـ فإنّ منها استصحاب الليل والنهار ؛ فإنّ كون الزمان المشكوك ليلا أو نهارا أشدّ تغايرا (٢٢٣٤) واختلافا مع كون الزمان السابق كذلك (٢٢٣٥) من ثبوت خيار الغبن (٢٢٣٦) أو الشفعة في الزمان المشكوك وثبوتهما في الزمان السابق.

______________________________________________________

٢٢٣٣. قد أشرنا في بعض الحواشي السابقة إلى أنّ الظاهر أنّ عدم ذكر العلماء للأخبار في المقام ليس لأجل غفلتهم عنها ، بل من جهة أنّ القاعدة المستفادة من الأخبار المسمّاة بقاعدة اليقين معدودة عندهم في عداد القواعد الشرعيّة ، ومقصودهم في المقام بيان القاعدة المستدلّ عليها بالعقل المسمّاة عندهم بالاستصحاب ، وقد ذكرنا سابقا شطرا ممّا يشهد بذلك. ويؤيّد تغاير القاعدتين أيضا عندهم قول الأمين الأسترآبادي هنا : «وتارة بأنّ استصحاب الحكم الشرعيّ وكذا الأصل ...» إلى آخر ما ذكره ، فتدبّر. ثمّ إنّ الأولى للمصنّف رحمه‌الله أن يقول : الاحتمالين بدل الاحتمالات.

٢٢٣٤. لكون الزمان متجدّدا آناً فآنا ، فالثاني منه غير الأوّل ، فكيف يحكم بوجود الليل والنهار وبقائهما إلى زمان الشكّ فيهما؟

٢٢٣٥. أي : ليلا ونهارا.

٢٢٣٦. الذي ينكر المحدّث المذكور جريان الاستصحاب فيه ، لكون مورده من الأحكام الكلّية.

٢٢٩

ولو اريد من الليل والنهار (٢٢٣٧) طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس الزمان ، كان الأمر كذلك ـ وإن كان دون الأوّل

______________________________________________________

ثمّ إنّ وجه مغايرة موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فيها هنا أنّ الموضوع هنا وإن كان هو المشتري والشفيع ، إلّا أنّ سبب عروض الحكم ـ أعني : الخيار ـ هو تضرّرهما بلزوم العقد ، وهذا الضرر منجبر بثبوت الخيار في أوّل أوقات إمكانه. وحينئذ فإن كان الضرر علّة لثبوت الحكم ، كان الموضوع هو المشتري المتضرّر ما دام متضرّرا ، والشفيع المتضرّر كذلك ، وإذا ارتفع الضرر في الزمان الثاني بثبوت الخيار في الزمان الأوّل ارتفع موضوع القضيّة الاولى يقينا. وإن كان حكمة له ، كان الموضوع هو المشتري والشفيع المتضرّران بلزوم العقد في أوّل أوقات إمكان الفسخ ، وإن ارتفع الضرر في الزمان الثاني بثبوت الخيار في الزمان الأوّل. وحينئذ إذا ارتفع الضرر في الزمان الثاني بثبوت الخيار في الزمان الأوّل ، فهو لا يوجب تغيّرا في الموضوع ، إذ الفرض أنّ الموضوع هو المتضرّر في الجملة لا مع اعتبار دوام وصف الضرر.

ثمّ إنّ الأمر مع العلم بإحدى الحالتين واضح. وأمّا إذا شكّ وتردّد الأمر بين كون الضرر علّة أو حكمة ، فيحصل الشكّ في بقاء الحكم ـ أعني : الخيار في الزمان الثاني ـ من جهة الشكّ في بقاء الموضوع ، لاحتمال كون الموضوع هو المتضرّر بوصف كونه متضرّرا كما عرفت ، وهذا هو المراد بتغاير الموضوع في القضيّتين. ومنه يظهر وجه أشدّية التغاير هنا منه في استصحاب الأزمان ، لكون التغاير هناك قطعيّا لا على وجه الاحتمال ، لأنّ الزمان المقطوع بكونه ليلا أو نهارا قد زال بالفرض ، والزمان الثاني المشكوك في كونه ليلا أو نهارا مغاير له بالوجدان.

٢٢٣٧. بأن اريد بهما ما يتعلّق بهما من الزمانيّات ، كطلوع الفجر وغروب الشمس ، فيراد باستصحاب الليل أصالة عدم طلوع الفجر ، وباستصحاب النهار أصالة عدم غروب الشمس.

٢٣٠

في الظهور ـ لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا. ولو اريد استصحاب أحكامهما ، مثل : جواز الأكل والشرب وحرمتهما ، ففيه : أنّ ثبوتهما في السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعيّة بزماني الليل والنهار ، فإجراؤهما مع الشكّ في تحقّق الموضوع بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب من إجراء (*) الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وبما ذكرنا يظهر ورود النقض المذكور عليه في سائر الأمثلة ، فأيّ فرق بين الشكّ في تحقّق الحدث أو الخبث بعد الطهارة ـ الذي جعل الاستصحاب فيه من ضروريّات الدين ـ وبين الشكّ في كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة؟! فإنّ الطهارة السابقة (٢٢٣٨) في كلّ منهما كان منوطا بعدم تحقّق الرافع ، وهذا المناط في زمان الشكّ غير متحقّق ، فكيف يسري حكم حالة وجود المناط إليه؟!

______________________________________________________

وقوله : «كان الأمر كذلك» يعني : من حيث تغاير القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وإن كان التغاير على تقدير إرادة نفس الزمان أظهر ، لكون التغاير علي تقدير إرادة الطلوع والغروب من أجل التعلّق بالزمان ، لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا بحسب الزمان ، إذ المراد بالطلوع حركة الشمس من تحت الأرض إلى فوق الأفق ، وبالغروب حركتها من فوق الأفق إلى تحت الأرض. وحينئذ فمرجع استصحاب عدم الطلوع أو الغروب إلى إثبات الحركة الحاصلة للشمس تحت الأرض أو فوقها في زمان اليقين في زمان الشكّ ، وهو متيقّن الارتفاع ، للقطع بتغاير الحركة في الزمانين. مضافا إلى أنّ الأحكام في الأدلّة إنّما تعلّقت بعنوان الليل والنهار ، فإثباتهما بأصالة عدم الطلوع والغروب من قبيل الاصول المثبتة.

٢٢٣٨. حاصله : أنّ عدم المانع وإن لم يكن داخلا في موضوع الحكم إلّا أنّه معتبر في ثبوت الحكم له ومناطه ، وحينئذ تختلف القضيّة المتيقّنة والمشكوكة

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «إجراء» ، إسراء.

٢٣١

وثانيا : بالحلّ (٢٢٣٩) ، بأنّ اتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين (*) ونقضه بالشكّ عليه ، أمر راجع إلى العرف ؛ لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ، ومن المعلوم أنّ الخيار أو الشفعة إذا ثبت في الزمان الأوّل وشكّ في ثبوتهما في الزمان الثاني ، يصدق عرفا أنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني. نعم ، قد يتحقّق في بعض الموارد الشكّ في إحراز الموضوع للشكّ في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه. فلا بدّ من التأمّل التامّ ، فإنّه من أعظم المزال في هذا المقام.

وأمّا ما ذكره ثانيا من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقّف. ففيه مضافا إلى ما حقّقناه في أصل البراءة من ضعف دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط ، وإنّما تدلّ على وجوب التحرّز عن موارد الهلكة الدنيويّة أو الاخرويّة ،

______________________________________________________

من حيث القطع بتحقّق المناط في إحداهما دون الاخرى.

٢٢٣٩. حاصله : أنّه سيجيء عند بيان شرائط جريان الاستصحاب أو جواز العمل به ـ التي منها القطع ببقاء الموضوع ـ أنّ إحرازه إمّا بالعقل أو الأدلّة أو العرف. وما ذكره المستدلّ على تقدير تسليمه إنّما يتمّ على الأوّل دون الأخيرين ، كما سيجيء تفصيل الكلام هناك. ولا ريب في صدق البقاء مع الشكّ في الرافع مطلقا ، وكذا مع الشكّ في المقتضي في كثير من موارده أو أغلبها ، كما مثّل به من الخيار والشفعة ، لأنّ المثبت لهما وإن كان هي قاعدة الضّرر ، وإذا شكّ في ثبوتهما في الزمان الثاني من جهة الشكّ في كون القاعدة علّة لثبوتهما أو حكمة فيهما ، ومقتضاه حصول الشكّ في بقاء موضوع الحكمين ، لاحتمال تقيّده بالتضرّر المنتفي في الزمان الثاني ، لانجبار هذا الضرر بثبوت الخيار لهما في الزمان الأوّل ، إلّا أنّ الموضوع في نظر أهل العرف هو المغبون والشريك الذي باع صاحبه حصّته من المال المشترك فيه ، وهو باق إلى زمان الشكّ.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : عدم.

٢٣٢

والأخيرة مختصّة بموارد (٢٢٤٠) حكم العقل بوجوب الاحتياط من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالا وتردّده بين المحتملات : أنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أدلّة الاحتياط ـ على تقدير دلالة الأخبار عليه أيضا ـ كما سيجيء في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول ، ممّا لا يخفى ما فيه ؛ إذ أيّ اصولي أو فقيه تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة فعجز عن جوابها؟! مع أنّه لم يذكر في الجواب الأوّل عنها إلّا ما اشتهر بين النافين للاستصحاب ، ولا في الجواب الثاني إلّا ما اشتهر بين الأخباريين : من وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهة الحكميّة.

حجّة القول السادس على تقدير وجود القائل به ، على ما سبق التأمّل فيه ، تظهر مع جوابها (٢٢٤١) ممّا تقدّم في القولين السابقين.

______________________________________________________

٢٢٤٠. لاستقلال العقل بعدم التهلكة الاخرويّة في موارد الشبهات البدويّة. وحاصل ما ذكره في مسألة البراءة : أنّ أخبار الاحتياط إنّما تدلّ على وجوب الاجتناب في موارد تحقّق احتمال التهلكة ، وأخبار البراءة أيضا إنّما تدلّ على نفي التكليف مع عدم وصول البيان إلى المكلّف ، وأخبار الاحتياط حاكمة عليها ، لكونها بيانا إجماليّا في موارد الشبهة.

نعم ، إنّ العقل من أدلّة أصالة البراءة حاكم عليها في الشبهات البدويّة ، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان ، فلا احتمال للعقاب فيها حينئذ حتّى تكون مجرى لأخبار الاحتياط ، فتختصّ موردها بموارد العلم الإجمالي التي لا مسرح لحكم العقل فيها. ثمّ أشار مع تسليمه إلى دعوى حكومة أخبار الاستصحاب على الأخبار المذكورة مطلقا حتّى في موارد العلم الإجمالي ، لارتفاع احتمال التهلكة بالاستصحاب ، لكونه من جملة الأدلّة الشرعيّة بالفرض.

٢٢٤١. لأنّ الظاهر أنّ حجّة القول المذكور هي الأخبار ، بدعوى اختصاص مواردها بالأحكام الجزئيّة ، نظير ما توهّمه الأمين الأسترآبادي من اختصاص

٢٣٣

حجّة القول السابع الذي نسبه الفاضل التوني قدس‌سره إلى نفسه ، وإن لم يلزم ممّا حقّقه (٢٢٤٢) في كلامه ما ذكره في كلام طويل له ، فإنّه بعد الإشارة إلى الخلاف في المسألة ، قال : ولتحقيق المقام لا بدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقة الحال ، فنقول : الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى ستّة أقسام : الأوّل والثاني : الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الفعل ، وهي الواجب والمندوب (٢٢٤٣). والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الترك ، وهي الحرام والمكروه. والخامس : الأحكام التخييريّة الدالّة على

______________________________________________________

مواردها بغير الأحكام الكلّية. مضافا في الموضوعات الخارجة إلى عدم كون بيانها من وظيفة الشارع ، كما تقدّم عند بيان حجّة القول الرابع.

والجواب عنها واضح بعد ما أوردناه على حجّة القول السابق المحكيّة عن الفصول المهمّة. مضافا إلى ما ظهر ممّا أورده المصنّف رحمه‌الله على الأمين الأسترآبادي من النقض ، بناء على كون منشأ عدم شمول الأخبار للأحكام الكلّية هو كون مرجع الاستصحاب فيها إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ، كما ذكره الأمين الأسترآبادي ، وإلى ما أورده على حجّية القول الرابع.

٢٢٤٢. قد أوضحه المصنّف رحمه‌الله عند بيان محلّ النزاع. وحاصله : أنّ ما ذكره تفصيل بين الأحكام التكليفيّة والوضعيّة وبين متعلّقات الأحكام الوضعيّة ، وهي السبب والشرط والمانع. بل ما ذكره عند التحقيق ليس قولا بالتفصيل ، بل قول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، لأنّه إنّما منعه في الموارد التي منعه فيها بزعم عموم دليل الحالة السابقة للحالة اللاحقة ، لا من جهة عدم اعتبار الاستصحاب من حيث هو ، وهذا ليس قولا بالتفصيل ، لأنّه إنّما يتحقّق مع قوله بعدم اعتباره في بعض الموارد ، مع فرض كونه موردا له كما هو واضح.

٢٢٤٣. فيه مسامحة ، لأنّ الحكم الشرعيّ هو الوجوب والندب ، وأمّا الواجب والمندوب فهما من أفعال المكلّفين التي هي موضوعات لها. وهذه المسامحة نظير المسامحة في إطلاق الأحكام الوضعيّة على الأسباب والشروط والموانع.

٢٣٤

الإباحة. والسادس الأحكام الوضعيّة ، كالحكم على الشيء بأنّه سبب لأمر أو شرط له أو مانع له. والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعيّ ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده.

إذا عرفت هذا ، فإذا ورد أمر بطلب شيء ، فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا أم لا. وعلى الأوّل ، يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا ، وهو ظاهر. وعلى الثاني ، أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار ، وإلّا فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان. ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا.

والتوهّم : بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباه غير خفيّ على المتأمّل (٢٢٤٤). فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء.

ولا يمكن أن يقال : إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ؛ فإنّ هذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز إجماعا. وكذا الكلام في النهي ، بل هو الأولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ؛ لأنّ مطلقه يفيد التكرار. والتخييري أيضا كذلك.

فالأحكام التكليفيّة الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب. وأمّا الأحكام الوضعيّة ، فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة كالدلوك لوجوب الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك و

______________________________________________________

٢٢٤٤. هذا مبنيّ على القول بكون الأمر الفوري من قبيل تعدّد المطلوب ، نظير الحجّ ، فيجب الإتيان بالمأمور به في الزمان الثاني على تقدير المخالفة والإخلال به في الزمان الأوّل. وهكذا قوله : «والتخييري أيضا كذلك» يعني : لا بدّ أن ينظر في دليله المثبت له.

٢٣٥

النكاح ، وفيه لتحريم أمّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ، فينبغي أن ينظر (٢٢٤٥) إلى كيفيّة سببيّة السبب : هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب والقبول ؛ فإنّ سببيّته على نحو خاصّ ، وهو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن؟ كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم ، فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر ؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة. وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ؛ فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة. وكذا الكلام في الشرط والمانع.

فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلّا في الأحكام الوضعيّة ، أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنّها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، فأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ؛ لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذلك تكون بعده.

ويقال في المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ، فكذا بعده ، أي كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله ، فكذا بعده ، فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء فكذا بعده ، والطهارة من الشروط. فالحقّ مع قطع النظر عن الروايات : عدم حجّية الاستصحاب ؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظنّ بوجوده في

______________________________________________________

٢٢٤٥. حاصله : أنّ السبب على أقسام ، لأنّه إمّا أن يقتضي وقوع مسبّبه مطلقا ، أو في وقت معيّن. وعلى الثاني : فإمّا أن لا يكون ظرفا لمسبّبه ، وإمّا أن يكون ظرفا له أيضا. والأمثلة واضحة ممّا ذكره.

٢٣٦

غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى. فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!

فالذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف ، وإذا زال ذلك العلم بطروّ الشك ـ بل الظنّ أيضا ـ يتوقّف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت اوّلا ، إلّا أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء ، فإنّه يحكم به حتّى يعلم زواله (١٣). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

وفي كلامه أنظار يتوقّف بيانها على ذكر كلّ فقرة هي مورد للنظر ، ثمّ توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر ، فنقول : قوله اوّلا : " والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعيّ داخل في الحكم الشرعيّ ، لا يضرّ فيما نحن بصدده".

فيه : أنّ المنع المذكور (٢٢٤٦) لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره وهو اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية ، أعني نفس السبب والشرط والمانع ، وإنّما يضرّ في التفصيل بين الأحكام الوضعية ـ أعني سببيّة السبب وشرطيّة الشرط ـ والأحكام التكليفيّة. وكيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعيّ حكما مستقلا ، وتسليم أنّه أمر اعتباريّ منتزع من التكليف ، تابع

______________________________________________________

٢٢٤٦. حاصله : أنّ صدر كلامه وذيله مختلفا المؤدّى ، فمقتضى صدره كونه مفصّلا بين الأحكام الوضعيّة وغيرها ، بالتسليم في الاولى دون غيرها. ومقتضى ذيله كونه مفصّلا بين متعلّقات الأحكام الوضعيّة ـ أعني : الأسباب والشروط والموانع ـ وبين مطلق الأحكام وغيرها ، بالتسليم في الاولى دون غيرها. ومنع إضرار عدم دخول خطاب الوضع في الحكم الشرعيّ إنّما يسلّم على الثاني دون الأوّل ، إذ عليه لا معنى للتفصيل ، وهو واضح.

ولا يخفى أنّه لا وقع لهذا الإيراد ، إذ غير خفيّ على أحد أنّ آخر كلامه قرينة للمسامحة في أوّل كلامه في إطلاق الأحكام الوضعيّة على متعلّقاتها ، كما نبّه عليه عند بيان محلّ النزاع ، نظير مسامحته في تفسير الحكم بالواجب والحرام ، كما نبّهنا عليه سابقا.

٢٣٧

له حدوثا وبقاء؟! وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع؟!

ثم إنّه لا بأس بصرف الكلام (٢٢٤٧) إلى بيان أنّ

______________________________________________________

٢٢٤٧. اعلم أنّ المراد بالحكم الوضعي ما اخترعه الشارع ولم يكن من قبيل الاقتضاء والتخيير. واختلفوا على القول بكونه مجعولا في عدده على أقوال ، قد نقل أكثرها الفاضل الكلباسي في إشاراته. فقيل : إنّه ثلاثة : الشرط والسبب والمانع. وهو محكيّ عن العلّامة والسبوري وغيرهما. وذكر الشيخ صلاح الدين العلائي من العامّة أنّ كونها من خطاب الوضع مشهور ، بل منهم من ادّعى الاتّفاق عليه. وزاد آخر الرخصة عليها ، كما عن الحاجي والعضدي. وفي الإشارات : ويؤذن كلامهما بكون الصحّة والبطلان في المعاملات منها ، يعني : من أحكام الوضع.

أقول : قد حكى بعض الشافعيّة عن بعض شرّاح شرح المختصر التصريح به ، بمعنى التصريح بكونهما عقليّين في العبادات وشرعيّين في المعاملات. وقيل بالتفرقة بين تفسيريهما في العبادات. والمحصّل : أنّ في الصحّة والبطلان أقوالا أربعة ، ثالثها ورابعها التفصيلان المذكوران.

وزاد ثالث العلّامة والعلّة. وحكي عن الشهيد الثاني ، إلّا أنّه احتمل ردّ العلّة إلى السبب ، والعلّامة إليه وإلى الشرط. وزاد رابع العزيمة كما عن الآمدي. فأحكام الوضع عنده سبعة : الشرط والسبب والمانع والصحّة والفساد والرخصة والعزيمة. وزاد خامس التقديرات والحجاج. حكاها صلاح الدين عن القرافي. قال في محكيّ كلامه : «فالأوّل إعطاء الموجود حكم المعدوم ، كالماء الذي يخاف المريض من استعماله فوات عضو ونحوه ، فيتيمّم مع وجوده جنبا. وإعطاء المعدوم حكم الموجود ، كالمقتول تورث عنه الدية ، وإنّما تجب بموته ، ولا تورث

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عنه إلّا إذا دخلت في ملكه ، فيقدّر دخولها قبل موته. والثاني : وهو الحجاج ما يستند إليه القضاة في الأحكام ، من بيّنة وإقرار ونحو ذلك من الحجج. قال : وهي في الحقيقة راجعة إلى السبب ، فليست أقساما اخرى» انتهى.

وبدّل بعض منّا الحجّة بالأجزاء. وعدّ العلّامة الطباطبائي في فوائده من أحكام الوضع الحكم بكونه جزءا أو خارجا. والحكم بأنّ اللفظ موضوع لمعناه المعيّن شرعا. وآخر كون الإجماع حجّة. ولكن بعضها ممّا لا يختلف حقيقة ، فلا ينبغي ذكره على حدة ، كالحجّة ، كما بيّنه في الإشارات.

وقال العلّامة الطباطبائي في فوائده بعد ما تقدّم : «ولا يختصّ بالخمسة المذكورة أوّلا ، وإن أوهمه بعض عبارات القوم ، بل كلّ ما استند إلى الشرع ، وكان غير الاقتضاء والتخيير ، فهو حكم وضعيّ» انتهى. وهو الحقّ الذي لا محيص عنه على القول بكون أحكام الوضع مجعولة.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني قد ذكر في تمهيده أقسام خطاب التكليف والوضع من حيث تضمّن الخطاب لأحدهما أو كليهما. ولا يهمّنا إيرادها في المقام ، إذ المهمّ بيان الثمرة في كون أحكام الوضع مجعولة أو منتزعة من التكليفيّة.

فنقول : إنّه يتفرّع على الأوّل عدم اشتراط ثبوتها بما يشترط ثبوت التكليفيّة به ، من البلوغ والعلم والقدرة والعقل ، فيثبت الضمان على الصبيّ والمجنون فعلا بالإتلاف ـ وإن كان المكلّف بالأداء فعلا هو الوليّ ، بل الصبيّ أيضا ـ معلّقا على حصول شرائط التكليف ، إن كان مميّزا يصحّ توجيه الخطاب إليه ، وإلّا فالخطاب المعلّق الواقعي في حقّه كالمجنون والنائم يكون شأنيّا محضا. ونحوه الكلام في حصول الجنابة بالدخول والإدخال. وكذا ينتقل إليه مال مورّثه بالموت وإن لم يشعر بموته ، وينعتق عليه من ينعتق بالملك إن كان في تركته من هو كذلك ، وهكذا.

وممّا يتفرّع على عدم اشتراطها بالشروط المذكورة عدم صحّة التمسّك بلزوم التكليف بما لا يطلق في نفيها ، كما يصحّ التمسّك به في نفي الأحكام التكليفيّة.

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا يتفرّع على القولين أيضا جريان الاصول فيها على الأوّل وعدمه على الثاني ، لأنّا إن قلنا بالأوّل أمكن إثباتها ونفيها بالاستصحاب. وإن قلنا بالثاني يكون مجراه الأحكام الطلبيّة التي انتزعت الوضعيّة منها دونها ، لفرض كونها حينئذ امورا اعتباريّة ، والأصل فيها على الأوّل يكون حاكما على قاعدة الاشتغال والبراءة في موارد اجتماعه مع إحداها. وهي كثيرة منها : ما لو شكّ في جزئيّة شيء وشرطيّته في العبادات ، وقلنا بوجوب الاحتياط عند الشكّ فيهما كما هو مذهب جماعة ، فإذا شكّ في جزئيّة السورة كانت أصالة عدم الجزئيّة حاكمة على قاعدة الاشتغال ، لأنّ تردد المكلّف به بين ذات الأجزاء العشرة والتسعة مسبّب عن الشكّ في جزئيّة السورة وعدمها ، لكنّه إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، لأنّ أصالة عدم جزئيّة السورة لا تعيّن ماهيّة الصلاة فيما عداها من الأجزاء. ومن هنا قد احتاط صاحب الفصول في مثل المقام.

ويمكن دفعه بأنّ إثبات عدم وجوب الاحتياط لا ينحصر في إثبات حصر الماهيّة في المأتيّ به ، لأنّ المحرّك لحكم العقل بوجوب الاحتياط هو عدم الائتمان من العقاب من جهة ترك المشكوك فيه ، فإذا ثبت بالأصل عدم جزئيّة المشكوك فيه حصل الائتمان المذكور ، للقطع بعدم العقاب من جهة اخرى ، نظير ما ذكرناه في نفي الجزئيّة على المختار من كون الشكّ في الأجزاء والشرائط موردا لأصالة البراءة ، إذ لا ريب في عدم دلالتها أيضا على حصر الماهيّة فيما عدا المشكوك فيه إلّا على القول بالاصول المثبتة.

هذا بخلاف ما لو قلنا بكون أحكام الوضع منتزعة من الأحكام الطلبيّة ، لكون الشكّ في جزئيّة السورة حينئذ راجعا إلى الشكّ في وجوبها الغيري ، لكون الجزئيّة منتزعة منه. وحينئذ ينعكس الأمر ، فتكون قاعدة الاشتغال حاكمة على أصالة عدم وجوبها الغيري ، لأنّ الشكّ في وجوبها الغيري ناش من الشكّ في تركّب الماهيّة من عشرة أجزاء أو تسعة ، فإذا ثبت وجوب الإتيان بتمام العشرة بقاعدة

٢٤٠