فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

وأمّا الوجه الثاني ، ففيه : أنّ منشأ العجب (٢٣٠٢) من تناقض قوليه ؛ حيث إنّ ما ذكره في استصحاب حال الإجماع من اختصاص دليل الحكم بالحالة الاولى ، بعينه موجود في بعض صور استصحاب حال غير الإجماع ، فإنّه إذا ورد النصّ على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما بعد الحالة الاولى ، كما إذا ورد أنّ الماء ينجس بالتغيّر ، مع فرض عدم إشعار فيه بحكم ما بعد زوال التغيّر ، فإنّ وجود هذا الدليل ـ بوصف كونه دليلا ـ مقطوع العدم في الحالة الثانية ، كما في الإجماع.

وأمّا قوله : " وغرضه من دلالة الدليل على الدوام كونه بحيث لو علم أو ظنّ بوجود المدلول في الآن الثاني ... إلى آخر ما ذكره". ففيه : أنّه إذا علم (٢٣٠٣) لدليل أو ظنّ لأمارة ، بوجود مضمون هذا الدليل الساكت ـ أعني النجاسة في المثال المذكور ـ فإمكان حمل هذا الدليل على الدوام ، إن اريد به إمكان كونه دليلا على

______________________________________________________

٢٣٠٢. قال في شرح الوافية بعد الردّ على الغزالي : «ثمّ إنّك إذا تأمّلت القولين للغزالي ـ أعني : قوله بحجّية استصحاب الحال ، وعدم حجّية استصحاب حال الإجماع ـ قضيت منه العجب ، لأنّ مبنى قوله الثاني إنّما هو اصول المنكرين لاستصحاب الحال ، كقوله : فإنّا نقول إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ، وكقوله : فإنّ كلّ ما ثبت جاز دوامه وعدمه ، فلا بدّ في دوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت. اللهمّ إلّا أن يجمع بين قوليه ، بأنّ قوله بحجّية حال الاستصحاب» إلى آخر ما ذكر في المتن.

ثمّ إنّ قول المصنّف رحمه‌الله : «إنّ منشأ العجب ـ إلى قوله ـ وأمّا قوله ...» ، بيان وتوجيه لتعجّب السيّد الصدر من قولي الغزالي ، وليس إيرادا عليه ، وإن كان ظاهر العبارة موهما له. وقوله «من تناقض» خبر لأنّ.

٢٣٠٣. توضيحه : أنّ دليل الحالة الاولى لا يخلو : إمّا أن يشمل بعمومه أو إطلاقه الحالة الثانية ، وإمّا أن يدلّ على انتفاء مدلوله عنها بالمفهوم ونحوه ، وإمّا أن يكون مجملا بالنسبة إليها ، وإمّا أن يكون مهملا بالنسبة إليها ، كما إذا قيل : أكرم زيدا يوم الجمعة ، لأنّه لا يشمل يوم السبت ، بناء على عدم اعتبار مفهوم

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

اللقب ، ومثل قوله : الماء المتغيّر نجس ، بناء على وروده لبيان حدوث النجس بالتغيّر ساكتا عن بيان دوامها وعدمه. وكذا إذا ثبت الحكم في الحالة الأولى بالإجماع أو بدليل لبّي آخر ، مثل الفعل والتقرير. ولا ريب في عدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين ، وفي كون الأخيرين موردا له مع اجتماع شرائط جريانه فيهما.

وحينئذ نقول : إنّ السيّد الصّدر إن أراد بإمكان حمل دليل الحكم في الحالة الاولى على الدّوام ـ في غير موارد استصحاب حال الإجماع ـ إمكان دلالة دليل الحالة الاولى على الدوام ، فهو ممنوع في القسمين الأخيرين بعد فرض إجماله أو إهماله.

وإن أراد إمكان إرادة الدوام منه يرد عليه أوّلا : أنّ منعه للإمكان المذكور في الإجماع إنّما يتمّ على مذهب العامّة دون الخاصّة ، لكون الإجماع على مذهب العامّة مثبتا للحكم ، لكونه معتبرا عندهم من حيث كون اجتماع الأمّة على أمر صوابا ، وكون نفس القول المجمع عليه حجّة لا كاشفا عن حجّة واقعيّة ، بل هو ليس حجّة مصطلحة. ولذا عرّفه النظام «بأنّه قول قامت حجّته». وقال في الفصول : «رام بذلك الجمع بين إنكار كونه حجّة ، وبين تحريم مخالفته» انتهى. وإذا فرض كون اعتباره من حيث كونه مثبتا للحكم لا كاشفا عنه ، فلا يعقل إرادة حكم الحالة الثانية منه ، لفرض عدم تحقّقه فيها ، وانحصار مورده بالحالة الاولى في الواقع ، بخلافه على مذهب الخاصّة ، لأنّه إنّما يعتبر عندهم من حيث كشفه عن قول المعصوم أو رضاه ، وإرادة الدوام ممكنة فيهما.

ولكنّك خبير بأنّ الغزالي من العامّة ، فلا وجه للاعتراض عليه على مذهب الخاصّة. اللهمّ إلّا أن يمنع كونه من العامّة ، أو يقال : إنّ إطلاقه حال الإجماع يشمل مذهب الخاصّة أيضا.

وثانيا : إنّ إرادة الدوام وإن أمكنت مع إجمال الدليل ، إلّا أنّها لا يمكن مع إهماله كما عرفته في القسم الأخير ، لقصوره بالذات عن الشمول للحالة الثانية. مع

٢٨٢

الدوام ، فهو ممنوع ؛ لامتناع دلالته على ذلك ، لأنّ دلالة اللفظ لا بدّ له من سبب واقتضاء ، والمفروض عدمه.

وإن اريد إمكان كونه مرادا في الواقع من الدليل وإن لم يكن الدليل مفيدا له ، ففيه ـ مع اختصاصه (٢٣٠٤) بالإجماع عند العامة ، الذي هو نفس مستند الحكم لا كاشف عن مستنده الراجع إلى النصّ ، وجريان مثله في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير ؛ فإنّه لو ثبت دوام الحكم لم يمكن حمل الدليل على الدوام ـ : أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثّر فيما ذكره الغزالي في نفي استصحاب حال الإجماع ؛ لأنّ

______________________________________________________

أنّه قد لا تمكن إرادة العموم والدوام مع إجمال الدليل أيضا ، كما إذا تردّد بين العامّ والخاصّ أو المطلق والمقيّد ، لعدم إمكان إرادة العموم والدوام على تقدير كون المراد به الخاصّ أو المقيّد في الواقع.

لكن يرد على المصنّف رحمه‌الله : أنّ الفعل والتقرير وإن كانا مهملين من حيث الشمول للحالة الثانية ، إلّا أنّ اعتبارهما ليس كالإجماع على مذهب العامّة ، بل من حيث الكشف عن وجود حجّة ، وهي ما أنزله الله تعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أوصيائه ، نظير الإجماع على مذهب الخاصّة.

وثالثا : أنّ مجرّد إمكان إرادة الدوام من غير الإجماع من الأدلّة وعدمه فيه لا يوجب الفرق بينهما ، من حيث شمول أدلّة الاستصحاب نفيا وإثباتا لأحدهما دون الآخر ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

ويرد عليه : منع كون مراد السيّد الصدر بيان الفرق بمجرّد ذلك ، لأنّ الظاهر أنّ مراده تخصيص مورد الاستصحاب بما أمكن إرادة الدوام من دليل المستصحب ، وبذلك يخرج استصحاب حال الإجماع ، لعدم إمكان ذلك فيه ، ثمّ إثبات الاستمرار في موارد جريان الاستصحاب بأمر آخر ، من أمارة أو عادة أو غيرهما ، كما يرشد إليه آخر كلامه.

٢٣٠٤. أي : عدم إمكان الإرادة. وفي بعض النسخ : اختصاص منعه.

٢٨٣

مناط نفيه لذلك ـ كما عرفت من تمثيله بموت زيد وبناء دار ـ احتياج الحكم في الزمان الثاني إلى دليل أو أمارة.

هذا ، وعلى كلّ حال ، فلو فرض كون الغزالي مفصّلا في المسألة بين ثبوت المستصحب بالإجماع وثبوته بغيره ، فيظهر ردّه ممّا ظهر من تضاعيف ما تقدّم من أنّ أدلّة الإثبات لا يفرّق فيها بين الإجماع وغيره ، خصوصا ما كان نظير الإجماع في السكوت عن حكم الحالة الثانية ، خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه في الواقع كالفعل والتقرير ، وأدلّة النفي كذلك لا يفرّق فيها بينهما أيضا.

و (*) قد يفرّق بينهما : بأنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلم بتحققه وعدم تحققه في الآن اللاحق ، كما إذا قال : " الماء إذا تغيّر نجس" ، فإنّ الماء موضوع والتغيّر قيد للنجاسة ، فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب النجاسة للماء. وإذا قال : " الماء المتغيّر نجس" ، فظاهره ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ؛ لأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتغيّر وهو غير موجود ، كما إذا قال : " الكلب نجس" ، فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد استحالته ملحا.

فإذا فرضنا انعقاد الإجماع على نجاسة الماء المتّصف بالتغيّر ، فالإجماع أمر لبيّ ليس فيه تعرّض لبيان كون الماء موضوعا والتغيّر قيدا للنجاسة أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر.

وكذلك إذا انعقد الإجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ثمّ مات ، فإنّه لا يتعيّن الموضوع حتّى يحرز عند إرادة الاستصحاب ، لكن هذا الكلام جار في جميع الأدلّة الغير اللفظيّة (٢٣٠٥).

______________________________________________________

٢٣٠٥. أنت خبير بأنّ الدليل اللفظي أيضا كثيرا ما يكون مجملا من حيث تبيّن موضوع الحكم فيه ، وفي الإجماع أيضا قد يكون موضوع الحكم مبيّنا ، كما إذا انعقد الإجماع على حكم ووقع الخلاف في رافعه ، كالمذي بالنسبة إلى الطهارة ،

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، نعم.

٢٨٤

نعم ، ما سيجيء وتقدّم من أنّ تعيين الموضوع في الاستصحاب بالعرف لا بالمداقة ولا بمراجعة الأدلّة الشرعيّة ، يكفي في دفع الفرق المذكور ، فتراهم يجرون الاستصحاب فيما لا يساعد دليل المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق ، كما سيجيء في مسألة اشتراط بقاء الموضوع إن شاء الله.

حجّة القول التاسع وهو التفصيل بين ما ثبت (٢٣٠٦) استمرار المستصحب واحتياجه في الارتفاع إلى الرافع وبين غيره : ما يظهر من آخر كلام المحقّق في المعارج كما تقدّم في نقل الأقوال ، حيث قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا ، فإذا وجد الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : " حلّ الوطء ثابت قبل النطق بها فكذا بعده" كان صحيحا ، فإن المقتضي للتحليل وهو العقد ، اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.

لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق ، فلم يثبت الحكم. لأنّا نقول :

وقوع العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا ، فيلزم دوام الحلّ ؛ نظرا إلى وقوع المقتضي ، لا إلى دوامه ، فيجب أن يثبت الحلّ حتّى يثبت الرافع. فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس ذلك عملا بغير دليل ، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا فنحن مضربون عنه (١٩) ، انتهى.

وحاصل هذا الاستدلال يرجع إلى كفاية وجود المقتضي وعدم العلم بالرافع لوجود المقتضى. وفيه : أنّ الحكم بوجود الشيء لا يكون إلّا مع العلم بوجود علّته

______________________________________________________

لوضوح عدم كون عدم الرافع مأخوذا في موضوع الحكم ، فلا وجه لإطلاق تسليم عدم تبيّن الموضوع في غير الأدلّة اللفظيّة ، وتسليم تبيّنه في الأدلّة اللفظيّة.

٢٣٠٦. اختاره أيضا صاحب الفصول والمصنّف قدس‌سرهما. وسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى الفرق بين مذهبهما ومذهب المحقّق رحمه‌الله. وستقف على توضيح الكلام فيه ، وكذا في الفرق بين مذهب المحقّق الحلّي والخوانساري إن شاء الله تعالى.

٢٨٥

التامّة التي من أجزائها عدم الرافع ، فعدم العلم به يوجب عدم العلم بتحقق العلّة التامّة ، إلّا أن يثبت التعبّد من الشارع بالحكم بالعدم عند عدم العلم به ، وهو عين الكلام في اعتبار الاستصحاب.

والاولى : الاستدلال له بما استظهرناه ـ من الروايات السابقة بعد نقلها ـ : من أنّ النقض رفع الأمر المستمرّ (٢٣٠٧) في نفسه وقطع الشيء المتّصل كذلك ، فلا بدّ أن يكون متعلّقه ما يكون له استمرار واتّصال ، وليس ذلك نفس اليقين ؛ لانتقاضه بغير اختيار المكلّف ، فلا يقع في حيّز التحريم ، ولا أحكام اليقين (٢٣٠٨) من حيث هو وصف من الأوصاف ؛ لارتفاعها بارتفاعه قطعا ، بل المراد به بدلالة الاقتضاء : الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين ؛ لأنّ نقض اليقين (٢٣٠٩) بعد

______________________________________________________

٢٣٠٧. فيه نوع مسامحة ، لأنّ النقض ـ كما تقدّم ـ حقيقة في رفع الهيئة الاتّصاليّة في الامور الحسيّة ، ومجاز في رفع الأمر الثابت مع وجود المقتضي له. فإن أراد هنا بيان المعنى الحقيقي ، فلا يناسبه قوله : «رفع الأمر المستمرّ في نفسه» لأنّه إنّما يناسب معناه المجازي. وإن أراد بيان المعنى المجازي ، فلا يناسبه قوله : «قطع الشيء المتّصل كذلك» لأنّه إنّما يناسب معناه الحقيقي دون المجازي.

٢٣٠٨. توضيحه : أنّ الشارع إمّا أن يجعل الحكم ويرتّبه على موضوعه الواقعي ، من دون مدخليّة للعلم والجهل فيه أصلا إلّا من حيث التنجّز وعدمه. وإمّا يرتّبه على موضوعه بشرط العلم به أو بوصف كونه معلوما. وعلى الثاني لا معنى للاستصحاب ، للقطع بوجود الحكم مع العلم بموضوعه ، وبعدمه مع الشكّ فيه. وعلى الأوّل ، إمّا أن يكون أحكام الموضوع كيفيّة من الامور المستمرّة أو لا. وعلى الثاني لا دليل على اعتباره فيه ، لظهور النقض المنهيّ عنه في الأخبار في الأوّل خاصّة.

٢٣٠٩. هذا إنّما يتمّ في الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجة دون الأحكام الكلّية ، لأنّ إرادة أحكام المتيقّن من متعلّق اليقين في الموضوعات الخارجة إنّما هو لأجل عدم قابليّة نفس الموضوعات الخارجة للجعل الشرعيّ في زمان

٢٨٦

ارتفاعه لا يعقل له معنى سوى هذا ، فحينئذ لا بدّ أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ممّا يكون مستمرّا لو لا الناقض. هذا ، ولكن لا بدّ من التأمّل في أنّ هذا المعنى جار في المستصحب العدمي أم لا؟ ولا يبعد تحقّقه ، فتأمّل (٢٣١٠).

ثمّ إنّ نسبة القول المذكور إلى المحقّق قدس‌سره مبنيّ على أنّ مراده (٢٣١١) من دليل الحكم في كلامه ـ بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور ـ هو المقتضي ،

______________________________________________________

الشكّ نفيا وإثباتا ، بخلاف الأحكام الكلّية ، لوضوح قابليّتها لذلك ، فتصحّ بالنسبة إليها دعوى كون المراد بمتعلّق اليقين نفس المتيقّن لا خصوص أحكامه. فالاولى للمصنّف أن يقول : بل المراد به بدلالة الاقتضاء مطلق الأحكام الثابتة في حال اليقين ، سواء كانت أحكاما كلّية ثابتة لموضوعاتها الكلّية ، أو أحكاما جزئيّة ثابتة لموضوعاتها الجزئيّة.

٢٣١٠. أمّا على القول بكون العدم مستندا إلى عدم علّة الوجود ـ بمعنى كون عدم علّة الوجود علّة له ـ فواضح ، لاستمرار العدم حينئذ ما لم توجد علّة الوجود. وأمّا على القول باستغنائه في البقاء عن العلّة ، فلفرض استمراره بنفسه حينئذ ما لم تزاحمه علّة الوجود. وعلى القولين فالعدم من الامور المستمرّة إمّا بغيره أو بنفسه. ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى أنّ الأقوى ـ كما صرّح به المحقّق الطوسي وغيره ـ هو الأوّل. وعليه يكون الشكّ في انقلاب العدم إلى الوجود دائما مسبّبا عن الشكّ في زوال علّته التامّة ، وليس هذا إلّا من قبيل الشكّ في المقتضي ، لفرض عدم العلم بالمقتضي حينئذ من رأس.

٢٣١١. لأنّ في كلامه نوع إجمال ، لأنّ قوله : «والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ...» ربّما يعطي كونه مفصّلا بين استصحاب عموم النصّ وغيره ، بالقول باعتباره في الأوّل دون الثاني. وهذا هو الذي فهمه صاحب المعالم ، لأنّه قال : «فاعلم أنّ المحقّق رحمه‌الله ذكر في أوّل كلامه أنّ العمل بالاستصحاب محكيّ عن المفيد ، وقال : إنّه المختار ، واحتجّ له بهذه الوجوه الأربعة ، ثمّ ذكر حجّة المانع

٢٨٧

وعلى أن يكون حكم الشكّ في وجود الرافع حكم الشكّ في رافعيّة الشيء ؛ إمّا لدلالة دليله (٢٣١٢) المذكور على ذلك ، وإمّا لعدم القول بالإثبات في الشكّ في الرافعية والإنكار في الشكّ في وجود الرافع ، وإن كان العكس موجودا كما

______________________________________________________

والجواب عنها ، وقال بعد ذلك : والذي نختاره». ثمّ نقل كلام المحقّق إلى آخر ما نقله المصنّف رحمه‌الله. «وهذا الكلام جيّد ، لكنّه عند التحقيق رجوع عمّا اختاره أوّلا ، ومصير إلى القول الآخر ، فكأنّه استشعر ما يرد على احتجاجه من المناقشة ، فاستدرك بهذا الكلام ، فقد اختار في المعتبر قول المرتضى ، وهو الأقرب» انتهى.

وحينئذ يكون المحقّق من النافين مطلقا لخروج استصحاب عموم النصّ من محلّ النزاع ، بل من حقيقته ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في غير موضع ، منها عند بيان القول الثامن. ولكن تمثيله لدليل الحكم بعقد النكاح ـ سيّما قوله : «لأنّ المقتضي للتحليل اقتضاه ...» ـ يقتضي كونه مفصّلا بين كون الشكّ في المقتضي والمانع ، بالقول باعتباره في الثاني دون الأوّل. وحينئذ لا بدّ من التصرّف في أحد كلاميه ، إمّا بحمل الدليل على إرادة المقتضي منه ، أو بالعكس. ولكنّ الأوّل عند المصنّف أظهر ، والثاني عند صاحب المعالم. والإنصاف أنّ ما استظهره المصنّف رحمه‌الله هو الأظهر ، كما هو واضح عند المتأمّل في كلماته.

وعلى كلّ تقدير ، فما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا اعتراض على ما فهمه صاحب المعالم من كلامه. نعم ، ربّما يحمل كلام صاحب المعالم على ما يوافق ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، بأن يريد بقوله : «رجوع عمّا اختاره أوّلا ، ومصير إلى القول الآخر» الرجوع عن القول باعتباره مطلقا إلى القول بالتفصيل بين المقتضي والمانع. ولكن يبعّده سبق القول بالنفي مطلقا وهو قول المرتضى ، وتعريف القول الآخر الظاهر في إرادة العهد ، سيّما مع استجواده لقول المحقّق ، مع ما ظهر من صاحب المعالم في الفقه وغيره من إنكاره للاستصحاب مطلقا ، ولا سيّما مع ما ذكره في ذيل كلامه كما عرفت.

٢٣١٢. لأنّ مقتضاه كون الحكم بالدوام مستندا إلى العلم بوجود المقتضي

٢٨٨

سيجيء من المحقّق السبزواري.

لكن في كلا الوجهين (٢٣١٣) نظر : أمّا الأوّل ، فلإمكان الفرق في الدليل الذي ذكره ؛ لأنّ مرجع ما ذكره (٢٣١٤) في الاستدلال إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العامّ والمخصّص ، فإذا ثبت عموم المقتضي ـ وهو عقد النكاح ـ لحلّ

______________________________________________________

والشكّ في المانع ، ولا ريب أنّه لا فرق فيه بين كون الشكّ في مانعيّة الشيء الموجود أو في وجود المانع.

٢٣١٣. من دلالة الدليل وعدم القول بالفصل.

٢٣١٤. توضيحه : أنّ الشكّ في المخصّص تارة يحصل في ذاته ، واخرى يحصل في صفته ، أعني : كونه مخصّصا ، بأن يشكّ في كون الأمر الموجود مخصّصا للعامّ ، لأجل خلل إمّا في سنده أو دلالته ، وثالثة في وجوده ، بأن يعلم بكون العامّ مخصّصا ووقع الشكّ في مصداق المخصّص ، كما إذا ورد قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، وشكّ في كون شخص فاسقا.

ولا ريب في كون ظهور العامّ في العموم مزيلا للشبهة في القسمين الأوّلين دون الثالث ، لأنّ تخصيص العامّ مزاحم لظهوره في الشمول لجميع مصاديق عنوانه ، فمع الشكّ في تخصيصه يدفع احتماله بالظهور المذكور ، بخلاف الشكّ في مصداق المخصّص ، لأنّ ارتكاب خلاف الظاهر في العامّ بالتخصيص قد حصل بالفرض ، والفرض أنّ كون الفرد المشتبه من أفراد المخصّص لا يوجب زيادة ارتكاب خلاف الظاهر في العامّ حتّى تدفع الشبهة عنه بظهور العامّ في العموم. نعم ، لا بدّ في إزالة الشبهة عن مصداق المخصّص من الرجوع إلى الأمارات الخارجة وإن كانت مثل الاستصحاب ، كأصالة عدم الفسق إن كان مسبوقا بالعدم. وإذا فرض كون المقتضي والمانع نظير العامّ والخاصّ ، فلا بدّ أن يكون المقتضي مؤثّرا مع الشكّ في المانعيّة ، لا مع الشكّ في وجود المانع.

ولكنّك خبير بأنّ إطلاق المنع من جواز العمل بالعامّ عند الشكّ في مصداق

٢٨٩

الوطء في جميع الأوقات ، فلا يجوز رفع اليد عنه بالألفاظ التي وقع الشكّ في كونها مزيلة لقيد «* و**» النكاح ؛ إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه بمجرّد الشكّ في التخصيص.

أمّا لو ثبت تخصيص العامّ ـ وهو المقتضي لحلّ الوطء ، أعني عقد النكاح ـ بمخصّص ، وهو اللفظ الذي اتّفق على كونه مزيلا لقيد «* و**» النكاح ، فإذا شكّ في تحققه وعدمه فيمكن منع التمسّك بالعموم حينئذ ؛ إذ الشكّ ليس في طروّ التخصيص على العامّ بل في وجود ما خصّص العامّ به يقينا ، فيحتاج إثبات عدمه المتمّم للتمسك بالعام إلى إجراء الاستصحاب ، بخلاف ما لو شكّ في أصل التخصيص ، فإنّ العام يكفي لإثبات حكمه في مورد الشكّ. وأمّا أصالة عدم التخصيص فهي من الاصول اللفظيّة المتّفق عليها ، كما هو ظاهر.

______________________________________________________

المخصّص لا يخلو من نظر ، لأنّ هذا إنّما يتمّ إن رجع التخصيص إلى تنويع موضوع العامّ بأن ورد قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، وكان المقصود منه تقييد موضوع العامّ وتنويعه على نوعين : أحدهما العدول والآخر الفساق ، وكأنّه قال : أكرم العلماء العدول ولا تكرم الفسّاق منهم. وإذا حصل الشكّ في كون شخص عادلا أو فاسقا لا يصحّ التمسّك بعموم العامّ ، إذ دخول المشكوك فيه تحت عنوان العامّ المقيّد ليس بأولى من دخوله تحت عنوان المخصّص ، بخلاف ما لو كان التخصيص باعتبار خصوصيّات الأفراد ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلّا زيدا ، واشتبه عالم بين كونه زيدا وعمرا لا باعتبار كون عنوان الخاصّ مقيّدا لموضوع العامّ ، إذ لا ريب في شمول العامّ حينئذ للفرد المشتبه ، لفرض صدق عنوانه عليه ، ويدفع احتمال وجود ما يزاحمه بهذا الظهور ، نظير دفع احتمال التخصيص به.

وبمثل هذا يدفع أيضا ما أورد على التمسّك بإطلاق ألفاظ العبادات على القول بالأعمّ ، من أنّها وإن وضعت للأعمّ من الصحيحة ، لكن لا ريب أنّ أوامر الشارع لا تتعلّق إلّا بالصحيحة ، لأنّ الفاسدة لا تكون مرادة له ، فالصحّة قيد

__________________

(* و**) في بعض النسخ : بدل «لقيد» ، لعقد.

(* و**) في بعض النسخ : بدل «لقيد» ، لعقد.

٢٩٠

وبالجملة : فالفرق بينهما ، أنّ الشكّ في الرافعية فيما نحن فيه من قبيل الشكّ في تخصيص العام زائدا على ما علم تخصيصه ، نظير ما إذا ثبت تخصيص العلماء في" أكرم العلماء" بمرتكبي الكبائر ، وشكّ في تخصيصه بمرتكب الصغائر ، فإنّه يجب التمسّك بالعموم.

والشك في وجود الرافع فيما نحن فيه ، شكّ في وجود ما خصّص العامّ به يقينا ، نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشكّ في تحقّق الارتكاب وعدمه في عالم ، فإنّه لو لا إحراز عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها إلى الاستصحاب المختلف فيه لم ينفع العام في إيجاب إكرام ذلك المشكوك.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال (٢٣١٥) : إنّ مبنى كلام المحقّق قدس‌سره لمّا كان على وجود

______________________________________________________

لمطلوب الشارع ، ومقيّدة للإطلاقات دفعة واحدة ، فكما أنّه يعتبر في العمل بإطلاق الأمر بالصلاة إحراز كونها صلاة ، كذلك يعتبر إحراز قيود مطلوبه.

ووجه الدفع ـ كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في مسألة الشكّ في الأجزاء والشرائط فيما كان الشكّ ناشئا من إجمال الدليل ـ : أنّ المطلوب لم يقيّد بمفهوم الصحيحة حتّى يكون مرجع التقييد إلى تنويع مقتضى الإطلاقات بنوعي الصحيح والفاسد ، بل القدر الثابت من عدم كون الفاسدة مرادة للشارع كون المصاديق الصحيحة مرادة له ، لأنّ ألفاظ العبادات على القول بالأعمّ إنّما هي موضوعة لنفس المصاديق الصحيحة والفاسدة ، والقدر الثابت من تقييد مراده كون مراده بها المصاديق الصحيحة الخارجة ، أعني : الأفراد المستجمعة للأجزاء والشرائط المعتبرة في تعلّق الأمر بها. وإذا فرض صدق لفظ الصلاة على الفرد المشتبه بحسب وضعه ، وفرض استجماعه لجميع الأجزاء والشرائط التي قد ثبتت بالأدلّة ، يدفع احتمال غيرها بإطلاق الأمر ، بمعنى كون شمول إطلاق الأمر لهذا الفرد كاشفا عن دخوله تحت مراد الشارع ، فيحكم بصحّته بذلك. وذيل الكلام في ذلك طويل ، أوضحناه في مبحث العامّ المخصّص بالمجمل.

٢٣١٥. حاصله : بيان الفرق بين العامّ والمقتضي ، لأنّ اعتبار العامّ من باب

٢٩١

المقتضي حال الشك وكفاية ذلك في الحكم بالمقتضى ، فلا فرق في كون الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود.

والفرق بين الشكّ في الخروج والشكّ في تحقّق الخارج في مثال العموم والخصوص من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل من جهة أصالة الحقيقة ، وعدم إحرازه في المثال الثاني لعدم جريان ذلك الأصل ، لا لإحراز المقتضي (٢٣١٦) لنفس الحكم وهو وجوب الإكرام في الأوّل دون الثاني ، فظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين المثالين.

وأمّا دعوى (٢٣١٧) عدم الفصل بين الشكّين على الوجه المذكور فهو مما لم يثبت (٢٣١٨). نعم ، يمكن أن يقال : أنّ المحقّق قدس‌سره لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ؛ لأنّ ما كان من الشبهة الحكمية من هذا القبيل ليس إلّا النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه إجماعيّ بل ضروريّ ، كما تقدّم (*). وأمّا الشبهة الموضوعية ، فقد تقدّم خروجها في كلام القدماء عن (**) مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام ، فالتكلّم فيها إنّما يقع تبعا للشبهة الحكمية ، ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في

______________________________________________________

الظهور العرفي ، ولا ظهور له عند الشكّ في وجود المخصّص ، كما عرفته في الحاشية السابقة. وحاصل ما ذكره المحقّق من الدليل هو القطع بوجود المقتضي في زمان الشكّ في المانع ، ولا فرق فيه بين كون الشكّ في وجود المانع أو مانعيّة الشيء الموجود.

٢٣١٦. معطوف على قوله : «من جهة ...». والمقتضي في المثال هو العلم. وضمير «هو» عائد إلى الحكم لا إلى المقتضي.

٢٣١٧. معطوف على قوله : «وأمّا الأوّل».

٢٣١٨. إمّا لعدم الإحاطة بجميع أقوال المسألة. وإمّا لوجود القول بالفصل ،

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فتأمّل.

(**) في بعض النسخ زيادة : معقد.

٢٩٢

الأحكام وعدم جريانه بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية ، فترى المنكرين يمثّلون بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة ببقائه ، فإنّه لا يحكم ببقائه بمجرّد احتماله ، والمثبتين بما إذا غاب زيد عن أهله وماله فإنّه يحرم التصرف فيهما بمجرّد احتمال الموت.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة المحقّق وإن أوهم اختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأبيد الحكم ، فلا يشمل ما لو كان الحكم موقّتا حتّى جعل بعض هذا من وجوه الفرق (٢٣١٩) بين قول المحقّق والمختار ـ بعد ما ذكر وجوها أخر ضعيفة

______________________________________________________

مثل القول باعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة دون الامور الخارجة ، لكون الشكّ في وجود المانع من قبيل الثاني ، لعدم تحقّقه في الأحكام سوى استصحاب عدم النسخ الخارج من محلّ النزاع ، وفي مانعيّة الشيء الموجود من قبيل الأوّل. وإمّا لأنّ المسألة اصوليّة لا يعتدّ بدعوى الإجماع فيها. وإمّا لأنّ عدم الفصل والإجماع المركّب إنّما يعتبران مع ضمّ إجماع بسيط إليهما ، وهو في المقام غير ثابت.

٢٣١٩. قال في الفصول : «اعلم أنّ ما اختاره المحقّق رحمه‌الله في الاستصحاب وإن كان قريبا إلى مقالتنا ، إلّا أنّه يفارقها من وجوه :

الأوّل : أنّه لم يتعرّض لحكم الاستصحاب في غير الحكم الشرعيّ ، وإنّما ذكر التفصيل المذكور في الحكم الشرعيّ جريا للكلام على مقتضى المقام.

الثاني : أنّه يعتبر في سبب الحكم أن يكون مقتضيا لبقائه ما لم يمنع عنه مانع ، ليصحّ أن يكون دليلا على البقاء عند الشكّ. ونحن إنّما اعتبرنا ذلك ليكون مورد الاستصحاب مشمولا لأخبار الباب.

الثالث : أنّ أدلّة الاستصحاب عنده مختلفة على حسب اختلاف الحكم ، وقضيّة ذلك أن لا يكون الاستصحاب حجّة في موارده. وأمّا على ما اخترناه فقاعدة الاستصحاب مستندة إلى دليل عامّ ، وهي حجّة على الحكم بالبقاء في مواردها الخاصّة.

٢٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الرابع : أنّه اعتبر في الاستصحاب أن لا يكون الدليل الذي يقتضيه موقّتا. وهذا إنّما يعتبر عندنا فيما إذا كان الشكّ في تعيين الوقت مفهوما أو مصداقا دون غيره» انتهى.

وأمّا عدم صلاحيّة هذه الوجوه للفرق ، فأمّا الأوّل فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ البحث إنّما هو في الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام ، وأنّ البحث عنه في الموضوعات الخارجة إنّما هو من باب التبعيّة والتمثيل.

وأمّا الثاني فيرد عليه أنّ اعتباره لعموم المقتضي إنّما هو لتحقيق مورد الاستصحاب ، لا لأجل كون عمومه دليلا على ثبوت المقتضى بالفتح في زمان الشكّ في الرافعيّة ، لوضوح عدم تحقّق الاقتضاء حينئذ. ولعلّ دليله على اعتبار الاستصحاب حينئذ هو بناء العقلاء على ثبوت المقتضى بالفتح عند الشكّ في الرافعيّة. ومنه يظهر ضعف الثالث أيضا. وأمّا الرابع فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

ولكنّك خبير بأنّه يمكن أن يقال : إنّ مراد صاحب الفصول من بيان هذه الوجوه ليس بيان الفرق بين نفس القولين من حيث العموم والخصوص ، بل من حيث بيان عدم اتّحادهما من جميع الجهات ، وحينئذ يندفع عنه بعض ما تقدّم.

وأمّا الفرق بين قولي المحقّق وصاحب الفصول وقول المحقّق الخوانساري فمن وجهين :

أحدهما : أنّ المعتبر عند الخوانساري ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة في الواقع من دون مدخليّة للعلم والجهل فيه ، وكان الشكّ في حدوث الغاية أو مصداقها الخارجي. والمراد بالغاية ما انتهى إليه الحكم مطلقا ، سواء انقضى استعداده عنده ، كالصوم المغيّا بالغروب ، أو كان مستعدّا للبقاء عنده وكانت الغاية من قبيل الموانع ، كالزوجيّة المرتفعة بالطلاق. والمعتبر عند المحقّق كون المستصحب ممّا من شأنه البقاء لو لا المانع ، سواء ثبتت له في الأدلّة غاية كما عرفت ، أم لا كما في الموضوعات الخارجة ، مثل الرطوبة واليبوسة ونحوهما. فبين القولين عموم من وجه.

٢٩٤

غير فارقة ـ لكن مقتضى دليله (*) (٢٣٢٠) شموله لذلك إذا كان الشكّ في رافعية شيء للحكم قبل مجيء الوقت.

حجّة القول العاشر (٢٣٢١) ما حكي عن المحقّق السبزواري في الذخيرة ، فإنّه استدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الإطلاق ـ بممازجته مع المضاف

______________________________________________________

وثانيهما : أنّ الدليل على اعتبار الاستصحاب عند المحقّق هو القطع بوجود المقتضي عند الشكّ في المانع ، وعند صاحب الفصول والمحقّق الخوانساري هو الأخبار ، إلّا أنّ المراد باليقين فيها عند الأوّل هو المتيقّن ، وعند الثاني موجبه كما سيجيء ، فإنّ كلّا منهما وإن ادّعى كون المراد بالنقض بعد تعذّر حقيقته هو رفع اليد عن الشيء الثابت ، إلّا أنّ الأوّل ادّعى كون المراد باليقين معنى المفعول ، والثاني سببه الذي كان مفيدا له لو لا الشكّ في الغاية. فالمراد بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ على الأوّل عدم جواز رفع اليد عن المتيقّن السابق الذي من شأنه البقاء لو لا المانع ، وعلى الثاني عدم جواز رفع اليد عن موجب اليقين ، والحكم بمقتضى الموجب الذي كان مفيدا لليقين به لو لا الشكّ.

٢٣٢٠. بتنقيح المناط ، لأنّه إذا عرض في أثناء النهار من شهر رمضان مرض يشكّ في كونه مبيحا للإفطار ، فالمقتضي حينئذ يقتضي ثبوت الحكم مطلقا بالنسبة إلى أجزاء الوقت ، ولا يعلم أنّ هذا المرض رافع أم لا.

٢٣٢١. توضيح هذه الحجّة : أنّ مطلوب المحقّق السبزواري مركّب من أمرين ، أحدهما : عدم اعتبار الاستصحاب في الشكّ في المقتضي ، وكذا فيما عدا الشكّ في وجود الرافع من أقسام الشكّ في الرافع. والآخر : اعتباره في الشكّ في وجود الرافع. والدليل على عدم اعتباره في الشكّ في المقتضي اختصاص الأخبار بالشكّ في الرافع ، وعدم الدليل على اعتباره سواها. وعلى عدم اعتباره فيما عدا

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : بتنقيح المناط فيه.

٢٩٥

النجس ـ بالاستصحاب ، ثمّ ردّه بأنّ استمرار الحكم تابع لدلالة الدليل ، والإجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة. ثمّ قال :

لا يقال : قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : " ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، ولكن تنقضه بيقين آخر" يدلّ على استمرار أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع. لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعيّ الذي تعلّق به اليقين إمّا أن يكون مستمرّا ، بمعنى أنّ له دليلا دالّا على الاستمرار بظاهره ، أم لا ، وعلى الأوّل فالشكّ في رفعه يكون على أقسام.

ثمّ ذكر الشكّ في وجود الرافع ، والشكّ في رافعية الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء ، والشكّ في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشكّ في كون الشيء رافعا مستقلا.

______________________________________________________

الشكّ في الرافع أمران :

أحدهما : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» تأخّر الشكّ عن اليقين ، بقرينة عطف الشكّ بالفاء في غير واحد من الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت». وقوله : «من كان على يقين فشكّ» وقوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فأصابه شكّ». وهو فيما عدا الشكّ في وجود الرافع مقدّم عليه ، كما يظهر من كلامه المحكيّ في المتن.

وثانيهما : كون الشكّ علّة تامّة أو جزء أخير منها للنقض ، قضيّة لباء السببيّة. والنقض فيما عدا الشكّ في وجود الرافع مستند إلى اليقين بوجود ما يشكّ في رافعيّته ، لا إلى الشكّ ، لتقدّمه عليه كما عرفت. وعلى اعتباره في الشكّ في وجود الرافع ظاهر الأخبار ، لكون النقض فيه مستندا إلى الشكّ ، لا إلى اليقين بوجود ما يشكّ في رافعيّته ، لفرض عدم اليقين به.

ثمّ إنّ صاحب الفصول قد ذكر أمثلة أقسام الشكّ في الرافع قائلا : «ثمّ اعلم أنّ الحكم الشرعيّ الذي لا دليل على بقائه في خصوص مورد ، إمّا أن تثبت رافعيّة عنوان شيء له ويشكّ في حصوله ، كالشكّ في النوم بعد فعل الطهارة ، أو تثبت

٢٩٦

ثمّ قال : إنّ الخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة دون غيره ؛ لأنّ في غيره لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شكّ في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما شكّ في كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه ، لا بالشكّ ؛ فإنّ الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه (٢٣٢٢) نقض ، وإنّما يعقل النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ؛ لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشكّ ، وإنّما يكون ذلك في صورة خاصّة دون غيرها (٢٠). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : ظاهره تسليم صدق النقض في صورة الشكّ في استمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل أيضا ، وإنّما المانع عدم صدق النقض بالشكّ فيها. ويرد عليه أوّلا (٢٣٢٣) : أنّ الشكّ واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشكّ في كونه رافعا ، ومقيّدة بكونها بعده ، فيتعلّق اليقين بالاولى والشكّ بالثانية ، واليقين والشكّ بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ـ سواء كان قبل حدوث

______________________________________________________

رافعيّة عنوان له ويشكّ في فرديّة الطاري له ، إمّا لاشتمال العنوان على ضرب من الإجمال ، كالمتيمّم بالحجر عند من يشكّ في شمول الصعيد له ، وكالتطهير في ماء يشتمل على مقدار معلوم عند من يشكّ في كون ذلك المقدار كرّا ، أو لتوقّفه على اعتبار أمر غير حاصل ، كما لو شكّ المتطهّر في كون الخارج منه بولا أو دما مع إمكان التمييز بالمشاهدة وعدمه ، وكالمتيمّم بما يشكّ في كونه أرضا أو معدنا ، أو يثبت عروض شيء ويشكّ في رافعيّته ابتداء ، أي : لا من جهة تحقّق رافعيّة عنوان يشكّ في اندراجه فيه ، كالشكّ في ناقضيّة المذي للطهارة مع العلم بخروجه» انتهى.

٢٣٢٢. متعلّق بالنقض ، والضمير عائد إلى اليقين.

٢٣٢٣. إليه يرجع ما أورده عليه أيضا في الفصول من «أنّ اليقين في أخبار الباب ظاهر في اليقين الفعلي لا التقديري ، وكذلك الظاهر من عدم نقضه بالشكّ

٢٩٧

ذلك الشيء أو بعده ـ فهذا الشكّ كان حاصلا من قبل ، كما أنّ اليقين باق من بعد ، وقد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة المطلقة ، وهما بهذا الاعتبار لا يجتمعان في زمان واحد ، بل الشكّ متأخّر عن اليقين.

ولا ريب أنّ المراد باليقين والشكّ في قوله عليه‌السلام في صدر الصحيحة المذكورة : " لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت" وغيرها من أخبار الاستصحاب ، هو اليقين والشكّ المتعلّقان بشيء واحد أعني الطهارة المطلقة وحينئذ فالنقض المنهيّ عنه هو نقض اليقين بالطهارة بهذا الشك المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين.

______________________________________________________

عدم نقضه بالشكّ المتعلّق به تعلّقا فعليّا لا تقديريّا. ولا ريب أنّ الشكّ المتعلّق بالفعل باليقين الفعلي متأخّر عن اليقين الفعلي ، وإن كان الشكّ التقديري متقدّما عليه ، مثلا الشكّ المتعلّق بالفعل ببقاء الطهارة ـ التي تحقّقها من جهة خروج المذي أو ما يحتمل كونه بولا ـ متأخّر عن العلم بالطهارة ، وإن كان المتعلّق بالطهارة على تقدير خروج ما ذكر متقدّما على تلك الطهارة» انتهى.

لأنّ حاصل ما أورده عليه المصنّف رحمه‌الله أنّ اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد إنّما هو فيما كان متعلّقهما مقيّدين ، وحينئذ يكون الشكّ فيه في زمان اليقين به تقديريّا معلّقا على وجود ما يشكّ في رافعيّته ، إذ لا معنى للشكّ الفعلي قبل وجود ما علّق عليه. وأمّا إذا كان متعلّقهما مطلقين كالطهارة المطلقة ، فلا يعقل حصول الشكّ الفعلي فيه حين اليقين به.

نعم ، استظهر صاحب الفصول كون المراد باليقين والشكّ هو الفعليّان من لفظهما. واستظهره المصنّف رحمه‌الله من قوله عليه‌السلام : «لأنّك كنت على يقين فشككت» لأنّ ظاهره اعتبار تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين لا بشيء آخر ، وهو لا يتمّ إلّا باعتبار كون الشكّ فعليّا متأخّرا عن اليقين. ولكلّ وجه.

ثمّ إنّه يرد على السبزواري أيضا ما نبّه عليه في الفصول من منع تقدّم الشكّ في القسم الثالث ، لوضوح تأخّره عن حصول ما يحتمل كونه رافعا ، فتدبّر.

٢٩٨

وأمّا وجود الشيء المشكوك الرافعية ، فهو بوصف الشكّ (*) في كونه رافعا الحاصل من قبل سبب لهذا الشكّ ؛ فإنّ كلّ شكّ لا بدّ له من سبب متيقّن الوجود حتّى الشكّ في وجود الرافع ، فوجود الشيء المشكوك في رافعيته جزء أخير للعلّة التامّة للشكّ المتأخّر الناقض ، لا للنقض.

وثانيا : أنّ رفع اليد (٢٣٢٤) عن أحكام اليقين عند الشك في بقائه وارتفاعه لا يعقل إلّا أن يكون مسبّبا عن نفس الشك ؛ لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق أو العمل بالاصول المخالفة له لا يكون إلّا لأجل الشك ، غاية الأمر كون الشيء المشكوك كونه رافعا منشأ للشكّ. والفرق بين الوجهين أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع ، والثاني إلى عدم الإمكان.

وثالثا : سلّمنا أنّ النقض في هذه الصور ليس بالشكّ ، لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف ، ولا يخفى أنّ ظاهر ما ذكره في ذيل الصحيحة : " ولكن تنقضه بيقين آخر"

______________________________________________________

٢٣٢٤. توضيحه : أنّ المراد بنقض اليقين بالشكّ في الأخبار رفع اليد عن الآثار المرتّبة في حال اليقين ، بترتيب آثار الشكّ من التوقّف أو العمل بأصالة البراءة أو الاشتغال بحسب الموارد. ولا ريب أنّ النقض في صورة الشكّ في مانعيّة ما يشكّ في مانعيّته إنّما هو بهذا الاعتبار. ولا يعقل حينئذ كون النقض فيها مستندا إلى اليقين بوجود ما يشكّ في مانعيّته ، لعدم كون التوقّف أو العمل بالاصول من آثار اليقين بوجوده ، بل من آثار الشكّ في بقاء المتيقّن السابق.

ثمّ إنّ مرجع هذا الإيراد وسابقه إلى منع كون النقض في ما عدا القسم الأوّل من أقسام الشكّ في الرافع باليقين ، بل بالشكّ. ولكنّهما يفترقان بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع ، بمعنى منع كون النقض في الواقع فيما عداه باليقين مع قطع النظر عن إمكانه ، وهذا ناظر إلى منع إمكانه ، كما يظهر الوجه فيه ممّا عرفت.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «شكّ» ، شيء.

٢٩٩

حصر الناقض لليقين السابق في اليقين بخلافه ، وحرمة النقض بغيره ـ شكّا كان أم يقينا بوجود ما شكّ في كونه رافعا ـ ألا ترى أنّه لو قيل في صورة الشكّ في وجود الرافع : أنّ النقض بما هو متيقّن من سبب الشك لا بنفسه ، لا يسمع. وبالجملة : فهذا القول ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الإجماع المركّب (٢٣٢٥) بل البسيط على خلافه.

وقد يتوهّم (٢٣٢٦) أنّ مورد صحيحة زرارة الاولى ممّا أنكر المحقّق المذكور الاستصحاب فيه ؛ لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين من نقضهما للوضوء. وفيه : ما لا يخفى ؛ فإنّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليه‌السلام : " قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن" ، وإنّما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارة على النوم ، مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ، فأجاب بعدم اعتبار ما عدا اليقين بقوله عليه‌السلام : " لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجئ من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين ...". نعم ، يمكن أن يلزم المحقّق المذكور كما ذكرنا سابقا بأنّ الشك في أصل النوم في مورد الرواية مسبّب عن وجود ما يوجب الشكّ في تحقق النوم ، فالنقض به ، لا بالشكّ (*) ، فتأمّل (٢٣٢٧).

______________________________________________________

٢٣٢٥. لعدم وجود مفصّل بين الشكّ في وجود المانع والشكّ في مصداقه ، لأنّ كلّ من قال باعتبار أحدهما قال باعتبار الآخر أيضا ، ومن أنكره أنكره أيضا ، بل لا قائل بإنكاره حتّى من المنكرين في الشكّ في مصداق المانع المبيّن المفهوم ، كما لا قائل بإنكاره في الشكّ في وجود المانع ، بل قد ادّعى الأمين الأسترآبادي الضرورة على اعتباره في الموضوعات. مضافا إلى استفاضة حكاية الإجماع على عدم الفرق بين أقسام الشكّ في المانع. ومن هنا يظهر وجه مخالفته للإجماع البسيط محصّلا ومحكيّا ، فتدبّر.

٢٣٢٦. المتوهّم صاحبا الفصول والضوابط. وقد تقدّم كلام ثانيهما عند شرح ما يتعلّق بالصحيحة ، فراجع.

٢٣٢٧. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى دعوى المحقّق السبزواري لكون النقض

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فيه.

٣٠٠