فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

الأمر الثالث : أنّ المتيقّن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل كحرمة الظلم وقبح التكليف بما لا يطاق ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقلية ، فلا يجوز استصحابه ؛ لأنّ الاستصحاب (٢٤٠٩) إبقاء ما كان ، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به ، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيّا كما حكم أوّلا ، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم ، ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد.

______________________________________________________

ويبقى احتمال الطهارة بلا معارضة احتمال آخر ، ومقتضاه ثبوت الطهارة شرعا.

٢٤٠٩. حاصله : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون الموضوع في القضيّة المتيقّنة سابقا معلوم البقاء في الزمان الثاني ، وكان الشكّ متعلّقا بمحموله ، وهذا الشرط غير متحقّق في الأحكام العقليّة. وتوضيحه : أنّ العقل ـ بل الشرع أيضا ـ إنّما يحكم على الموضوعات المعلومة المتشخّصة بجميع قيودها ، لأنّه لا يحكم بشيء إلّا بعد إحراز مناطه وعلّته تفصيلا ، وهذا المناط هو موضوع حكمه لا محالة ، ومن هنا لا يعقل الإجمال في موضوعه. وإذا فرض الشكّ في حكم العقل ، فلا يخلو : إمّا أن يكون مع العلم ببقاء موضوعه الذي حكم عليه أوّلا ، أو مع العلم بانتفائه ولو بانتفاء بعض قيوده التي لها مدخل في حكمه ، أو مع اشتباه بعض مصاديقه الخارجة ، أو مع إجمال موضوعه ، بأن حكم أوّلا على موضوع مجمل ثمّ انتفى ما تحتمل مدخليّته فيه ، أو عرض ما تحتمل مانعيّته منه.

وكلّ هذه الوجوه باطلة. أمّا الأوّلان فلعدم تعقّل الشكّ في حكمه عليهما. وأمّا الثالث فلما عرفت من عدم حكمه إلّا على الموضوعات المتعيّنة المعلومة ، فمع الشكّ في تحقّق موضوعه يحصل القطع بعدم حكمه لا محالة. نعم ، في استصحاب نفس الموضوع حينئذ كلام آخر سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله. وأمّا الرابع فلما عرفت من عدم تعقّل الإجمال في موضوع حكمه.

٣٨١

وأمّا الشكّ في بقاء الموضوع ، فإن كان لاشتباه خارجي كالشكّ في بقاء الإضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه ، فذلك خارج عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه. وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلا واحتمال مدخلية موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعية الموضوع ، فهذا غير متصوّر في المستقلّات العقلية ؛ لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم إلّا بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلا ؛ لأنّ القضايا العقلية إمّا ضروريّة لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيته من قيوده ، وإمّا نظريّة تنتهي إلى ضروريّة كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل ، مع أنّك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء الموضوع أنّ الشكّ في الموضوع ـ خصوصا لأجل مدخلية شيء ـ مانع عن إجراء الاستصحاب.

فإن قلت : فكيف (٢٤١٠) يستصحب الحكم الشرعيّ مع أنّه كاشف عن حكم عقليّ مستقلّ؟ فإنّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع طبقه بوجوب الردّ ، ثمّ عرض ما يوجب الشك ـ مثل الاضطرار والخوف ـ فيستصحب

______________________________________________________

لا يقال : لا يمكن إنكار حكم العقل على الموضوعات المجملة ، لبديهة حكمه بوجوب الاجتناب عن الإناء المسموم المشتبه بين إناءين ، بمعنى حكمه بوجوب الاجتناب عن كلّ منهما لأجل العلم الإجمالي بوجود السمّ في أحدهما.

لأنّا نقول : هذا ليس من إجمال موضوع حكم العقل ، بل من قبيل اشتباه بعض مصاديق موضوعه في الخارج ، لأنّ الموضوع عند العقل هو عنوان الضرر ، ولا إجمال فيه أصلا ، والإجمال إنّما يتصوّر فيه لو فرض حكمه على موضوع ، مع تردّد مناط حكمه في الواقع بين عنوانين ، مع عدم ظهور كون المناط عنده خصوص أحدهما.

وكيف كان ، فقد ظهر أنّ عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة إنّما هو لأجل عدم إمكان فرض الشكّ فيها. مضافا إلى عدم العلم ببقاء الموضوع الذي هو شرط جريانه على أكثر الوجوه المذكورة.

٢٤١٠. حاصله : أنّ مقتضى الملازمة بين العقل والشرع أن يكون موضوع

٣٨٢

الحكم (*) مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي. قلت : أمّا الحكم الشرعيّ المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب. نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعيّ من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم ، جرى الاستصحاب وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل ؛ ومن هنا يجري استصحاب عدم التكليف في حال يستقل العقل بقبح التكليف فيه ، لكن العدم الأزلي ليس مستندا إلى القبح وإن كان موردا للقبح.

______________________________________________________

حكم الشرع أيضا هو الموضوع الذي لو اطّلع العقل على المصالح والمفاسد الكامنة فيه كان حاكما على هذا الموضوع ، إذ لو حكم على موضوع مباين أو أخصّ مطلقا أو من وجه لم تصدق المطابقة بين حكم العقل والشرع. ومقتضى ذلك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة أيضا ، لأنّ الشكّ في بقائها إمّا أن يكون مع القطع ببقاء موضوعاتها الواقعيّة ، أو مع القطع بانتفائها ، أو مع اشتباهها في الخارج ، أو لعدم تعيّنها عندنا. ولا معنى للاستصحاب على الأوّلين ، وهو واضح. وكذا على الأخيرين ، لفرض عدم العلم ببقاء موضوعه الذي هو شرط في جريانه.

وحاصل الجواب : أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين :

أحدهما : ما استند إلى حكم العقل. ولا ريب في اتّحاد موضوعه حينئذ مع موضوع حكم العقل ، لأنّ العقل إنّما يكشف عن حكم الشرع على الموضوع الذي حكم عليه العقل. مضافا إلى ما عرفته من قضيّة التطابق والملازمة. ولا مسرح للاستصحاب فيه أصلا ، لما عرفته في تقرير السؤال.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الشرعيّ.

٣٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو قطع النظر عن اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، أمكن استصحاب حكم الشرع المستند إلى حكم العقل في صورة اشتباه موضوعه في الخارج ، لأنّ عدم حكم العقل حينئذ لا يستلزم عدم حكم الشرع أيضا في الواقع ، لاحتمال بقاء الموضوع في الواقع ، إذ حكم الشارع في الواقع على موضوع واقعي لا يستلزم علمنا بهذا الموضوع.

ومن هنا يظهر أنّ عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة من وجهين : أحدهما : من جهة عدم فرض الشكّ فيها مطلقا. والآخر : عدم العلم ببقاء الموضوع في أكثر مواردها ، كما تقدّم في الحاشية السابقة. وفي الأحكام الشرعيّة المستندة إليها من وجه واحد ، وهو عدم العلم ببقاء الموضوع.

وثانيهما : الأحكام الشرعيّة الثابتة بطريق شرعيّ لا عقلي. وهو أيضا على قسمين : أحدهما : ما لا مسرح للعقل فيها أصلا ، كجميع الأحكام التعبّدية. والآخر : ما ثبت بطريق شرعيّ في مورد حكم العقل ، كالوديعة التي ثبت وجوب ردّها عقلا وكتابا وسنّة.

والأوّل لا إشكال في جريان الاستصحاب فيها عند عروض ما يشك في بقائها معه. وأمّا الثاني فهو أيضا كذلك على التحقيق. وتوضيحه : أنّ موضوع الحكم هو ما يتقوّم به الحكم ويستند إليه ، وهي علّته التامّة ، لوضوح عدم قيامه بغيرها ، فموضوعات جميع الأحكام الشرعيّة هي عللها التامّة. ومقتضاه عدم جريان الاستصحاب في شيء منها ، لوضوح أنّ الشكّ في بقائها لا بدّ أن يكون لأجل الشكّ في ارتفاع بعض أجزاء العلّة ، وإلّا فلا يعقل الشكّ في المعلول مع القطع بعلّته التامّة. وحينئذ لا بدّ أن يكون الشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ من جهة الشكّ في موضوعه ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب مع الشكّ في بقاء الموضوع.

٣٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا هو الإشكال الذي أشار المصنّف رحمه‌الله في الأمر السابق عند بيان جريان الاستصحاب فيما أخذ الزمان قيدا له ، وأوضحه عند بيان القول السابع في المسألة مع جوابه. وأشار هنا أيضا إلى جوابه بقوله : «وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل».

وأقول في توضيحه : إنّ موضوعات الأحكام الواقعيّة على ما هي عليه في الواقع وإن كانت عللها التامّة ، إلّا أنّ الأحكام الثابتة في الكتاب والسنّة لا تدور مدار تلك الموضوعات ، بل على موضوعاتها التي ثبتت عليها في الكتاب والسنّة ، وإن لم تكن عللا لها في الواقع. والمدار في جريان الاستصحاب على بقاء هذه الموضوعات الواقعيّة المذكورة ، وإلّا لم تجر الاستصحاب في موارده أصلا ، كما عرفته في تقرير الإشكال. والمدار في جريان الاستصحاب إنّما هو على بقاء هذه الموضوعات ، إمّا على النحو الذي ثبتت في الأدلّة أو بحسب العرف كما سيجيء. والشكّ في بقاء الحكم لا يستلزم الشكّ في بقاء هذه الموضوعات ، لأنّ الشكّ قد ينشأ من احتمال عروض المانع ، وقد ينشأ من انتفاء بعض القيود التي لا يعدّ انتفائه تغيّرا في الموضوع عرفا.

وممّا ذكرناه يظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون موضوع الحكم الشرعيّ أعمّ من موضوع حكم العقل. وعليه يبتنى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من صحّة استصحاب الحكم الشرعيّ في مورد اجتماعه مع حكم العقل ، لما عرفت من عدم استلزام بقائه لبقاء موضوع حكم العقل ، لكون موضوعه أعمّ من موضوعه. فإذا حكم العقل بعدم التكليف على الصبيّ أو المجنون ، لعدم تمييزهما ، وكذا حكم الشرع عليهما بذلك ، إلّا أنّه لم يعلم كون ذلك لأجل عدم التمييز أو لعنوان آخر مجهول لنا ، وكان الموضوع في الأدلّة نفس الصبيّ والمجنون ، فإذا زالت عنهما حالة عدم التمييز وارتفع بذلك حكم العقل ، فإذا شكّ في ارتفاع حكم الشرع أيضا ،

٣٨٥

هذا حال نفس الحكم العقلي. وأمّا موضوعه ـ كالضرر المشكوك بقائه في المثال المتقدّم ـ فالذي ينبغي أن يقال فيه : إنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ؛ لأنّه يظنّ الضرر بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقلي (٢٤١١) إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كما في مثال الضرر.

______________________________________________________

لاحتمال كون مناط حكم الشرع أيضا هو عدم التمييز ، صحّ استصحابه ما بقي عنوان الصبا والجنون ، لفرض كونهما الموضوع في الأدلّة ، فيكون موضوع حكم الشرع أعمّ من موضوع حكم العقل.

فإن قلت : إنّ موضوع حكم الشرع إن كان أعمّ من موضوع حكم العقل في الأحكام الشرعيّة غير المستندة إلى الأحكام العقليّة ، لزم عدم التطابق بينهما ، إذ مقتضى التطابق وصدق الملازمة بين حكم الشرع والعقل هو اعتبار اتّحاد موضوع الحكمين ، وكون حكم العقل على الموضوع الذي حكم عليه الشرع ، لوضوح عدم صدق التطابق مع تغاير الموضوعين.

قلت : يكفي في صدق التطابق اتّحاد موضوعهما ، بمعنى اشتمال موضوع حكم الشرع على موضوع حكم العقل ، بأن لم يكن خارجا منه ، وأمّا اتّحادهما بمعنى العينيّة فلا ، كيف لا ولو كان كذلك لم يجر الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة من رأس ، لما تقدّم من أنّ موضوع حكم العقل هي العلل التامّة ، فلو كانت موضوعات الأحكام التعبّدية أيضا كذلك ـ كما هي قضيّة العينيّة ـ كان الشكّ في بقائها دائما مستندا إلى الشكّ في ارتفاع موضوعها ، كما عرفته في تقريب الإشكال في جريانه في الأحكام العقليّة ، فتلغو حينئذ الأخبار الواردة في عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، فلا بدّ أن يكون المراد بالتطابق الذي اتّفقت العدليّة عليه ما ذكرناه.

٢٤١١. ليس المقصود به استصحاب الحكم العقلي بواسطة استصحاب موضوعه ، بل المراد به استقلال العقل بالحكم في الموضوع المستصحب إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ.

٣٨٦

وإن اعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار ، فلا يجوز العمل به ؛ للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشكّ في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع. فلا يثبت الّا الآثار الشرعيّة المجعولة القابلة للجعل الظاهريّ ، وتعبّد الشارع بالحكم العقلى يخرجه عن كونه حكما عقليّا. مثلا إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشكّ ، وأمّا الحكم العقلي بالقبح والحرمة فلا يثبت إلّا مع إحراز الضرر. نعم ، يثبت الحرمة الشرعيّة بمعنى نهي الشارع ظاهرا (*) ، ولا منافاة بين انتفاء الحكم العقلي وثبوت الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ عدم حكم العقل مع الشكّ إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعيّ الواقعي أيضا ، إلّا أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي بحكم ظاهري هي الحرمة.

وممّا ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي يظهر ما في تمسّك بعضهم (٢٤١٢) لإجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها ، باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان. وما في اعتراض بعض (٢٤١٣) المعاصرين (١٠) على من خصّ من القدماء والمتأخّرين استصحاب حال العقل باستصحاب العدم ، بأنّه لا وجه للتخصيص ؛ فإنّ حكم العقل المستصحب قد يكون وجوديّا تكليفيّا كاستصحاب تحريم التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما كالاضطرار والخوف ، أو وضعيّا كشرطيّة العلم (٢٤١٤) للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها.

______________________________________________________

٢٤١٢. لأنّ موضوع حكم العقل هو النسيان ، وقد زال بالالتفات.

٢٤١٣. هو صاحب الفصول.

٢٤١٤. كذلك شرطيّة القدرة إذا عرض ما يوجب الشكّ في شرطيّتها ، كما إذا صار المكلّف نفسه سببا لزوال القدرة ، كصيرورته سببا للانسداد بالنسبة إلى الشكّ في شرطيّة العلم.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي.

٣٨٧

ويظهر حال المثالين (٢٤١٥) الأوّلين مما ذكرنا سابقا. وأمّا المثال الثالث ، فلم يتصوّر فيه الشك (٢٤١٦) في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان. نعم ، ربّما يستصحب التكليف (٢٤١٧) فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ثمّ اشتبه وصار

______________________________________________________

٢٤١٥. لأنّ موضوع حكم العقل بالحرمة هو التصرّف المقيّد بعدم الخوف والاضطرار ، وقد زال بعروضهما. وإن فرض كونه أعمّ منهما يستقلّ العقل بحكمه في الزمان الثاني أيضا كالزمان الأوّل ، لفرض بقاء موضوعه. وعلى التقديرين لا مجرى للاستصحاب.

٢٤١٦. لأنّ شرط تنجّز التكليف إن كان هو حصول العلم به تفصيلا ، فالشرطيّة باقية مع عروض الانسداد أيضا ، وإن كان ذلك بتقصير من المكلّف ، لأنّ انتفاء الشرط لا يقضي بانتفاء الشرطيّة ، ومقتضاه ارتفاع التكليف في صورة الانسداد مطلقا. وإن كان هو العلم به في الجملة وإن كان إجماليّا مطلقا ، سواء حصل الانسداد بسبب من المكلّف أم لا ، فالتكليف باق مطلقا. وإن كان مشروطا بعدم تسبّب المكلّف للانسداد ، فالتكليف باق مع التسبّب لا بدونه. وعلى كلّ تقدير ، لا يفرض إجمال في حكم العقل حتّى يكون موردا للاستصحاب.

٢٤١٧. يعني : إذا كان التكليف معلوما بالتفصيل ، واشتبه بعض مصاديق المكلّف به في الخارج ، فبعد الإتيان ببعض محتملاته يستصحب التكليف المعلوم الثابت قبل الإتيان ببعض محتملاته ، كما في مثال القبلة المردّدة بين الجوانب الأربعة ، وفي مثال الإنائين المشتبهين ، فإذا صلّى إلى بعض الجوانب أو شرب أحد الإنائين يستصحب التكليف المعلوم الثابت قبل الإتيان ببعض المحتملات. وهذا هو المراد بالعبارة ، لا ما هو ظاهرها من الاستصحاب فيما كان التكليف معلوما بالتفصيل ثمّ صار معلوما بالإجمال ، لأنّ ما ذكرناه هو الذي نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في آخر هذا التنبيه.

٣٨٨

معلوما بالإجمال ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه (٢٤١٨) مع عدم جريان الاستصحاب فيه ، كما سننبّه عليه. ويظهر أيضا فساد التمسّك باستصحاب (٢٤١٩) البراءة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال.

______________________________________________________

٢٤١٨. من استصحاب شرطيّة العلم ، لأنّ المستصحب في محلّ الفرض نفس التكليف لا شرطيّة العلم في تنجّزه.

٢٤١٩. لا يخفى أنّ البحث عن قاعدتي البراءة والاشتغال واستصحابهما ، من حيث اختلافهما بحسب المورد والمفهوم والمؤدّى واتّحادهما كذلك ، حقيق للتخصيص بعنوان مستقلّ ، فلنورد شطرا من الكلام فيه على حسب ما يقتضيه المقام.

وليعلم أوّلا أنّ نفس التكليف ـ الذي هو الإنشاء القائم باللفظ الدالّ عليه الزائل بزواله ـ ليس بمورد للاستصحاب ، لعدم قابليّته للبقاء بالفرض. نعم ، إذا صدر التكليف عن الشارع أو عن غيره ممّن له أهليّة التكليف ، تعرض هنا للآمر حالة يسمّى باعتبارها مكلّفا بالكسر ، وللفعل يسمّى باعتبارها مكلّفا به ، وللمأمور يسمّى باعتبارها مكلّفا بالفتح ، وكون ذمّته مشغولة به ، واستصحاب الاشتغال راجع إلى استصحاب هذه الحالة. وهذه الحالات وإن كانت من الامور الاعتباريّة ، إلّا أنّ لها تأصّلا في نظر أهل العرف ، قابلة للبقاء والارتفاع ، ولذا يظهر أثر الخجلة والاضطراب في وجه المديون عند مطالبة الدين ، فيحمّر وجهه ويضطرب قلبه زعما منه كون الدين أمرا موجودا ثابتا في ذمّته ، ويطالبه المدين ويخاصمه عليه. وبهذا الاعتبار أيضا قد ذهب الشارع عليه جملة من الأحكام ، كجواز بيع ما في الذمّة ، وإيقاع الصلح عليه ، وإلّا فشغل الذمّة ليس راجعا إلى شيء عند التحقيق حتّى يصحّ بيعه والمصالحة عليه.

وإذا عرفت أن استصحاب الشغل إنّما هو باعتبار الحالة المذكورة فاعلم : إنّ قاعدة الشغل واستصحابه متّحدتان من جهة ومفترقتان من اخرى. أمّا الاولى

٣٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فمن حيث احتياج كلّ منهما في تحقّقه وجريانه في مورد إلى تحقّق يقين وشكّ.

وأمّا الثانية فمن وجهين :

أحدهما : أنّ اليقين بالتكليف في آن ثمّ الشكّ فيه في قاعدة الاشتغال علّة تامّة لحكم العقل بتحصيل اليقين بالبراءة ، سواء تعلّق الشغل بأمر دنيويّ كوجوب أداء الدين ، أو اخروي محض كوجوب الإتيان بالصلاة ، بخلاف استصحاب الشغل ، إذ لا بدّ فيه مع ذلك من ملاحظة وجود المتيقن في السابق.

وثانيهما : أنّ مؤدّى القاعدة وجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن الشغل الثابت بأيّ وجه اتّفق ، بخلاف استصحاب الشغل ، لأنّه إنّما يدلّ على بقاء الشغل السابق ، وأمّا وجوب الإتيان بما يحصل به البراءة فإنّما يدلّ عليه العقل بعد إثبات الشغل بالاستصحاب.

وبعبارة اخرى : إنّ القاعدة لا تدلّ على بقاء الحكم السابق ، لأنّ غايتها وجوب تحصيل اليقين بما تحصل معه البراءة ، بخلاف استصحاب الشغل ، لأنّ مقتضاه بقاء المتيقّن السابق في زمان الشكّ. ولذا كان المدار في الثواب والعقاب في مورد جريان القاعدة على موافقة الواقع ومخالفته ، لا على موافقة القاعدة ومخالفتها. ولذا لو ترك الفعل مع عدم وجوبه في الواقع لا يترتّب عليه عقاب ، إلّا على القول بحرمة التجرّي ، بخلاف استصحاب الشغل ، لأنّ مقتضاه كون الحكم المتيقّن في السابق مجعولا في مورد الشكّ ، فيكون المدار في الثواب والعقاب على موافقة مؤدّاه ومخالفته. وذلك لأنّ حكم العقل في مورد القاعدة بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة إرشادي ، وحكمه بذلك إنّما هو لمراعاة الواقع والتحرّز عن مخالفته.

فحكم العقل بوجوب الاحتياط حينئذ إنّما هو لكونه نوعا من طرق امتثال الواقع ، ولا ريب أنّه لا ثواب ولا عقاب على نفس موافقة الطريق ومخالفتها ، إذ

٣٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس هنا حكم إلزامي مولوي بوجوب الإطاعة عقلا أو شرعا حتّى يترتّب الثواب والعقاب على موافقة هذا الحكم ومخالفته ، وإلّا احتاج هذا الحكم إلى حكم آخر أيضا وهكذا ، فيتسلسل.

ومن هنا حمل الأمر في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على الإرشاد. فالمحرّك إلى امتثال أحكام الشرع هو العقل من باب الإرشاد. وأمّا الشارع فحكمه إمّا من باب الإرشاد أيضا ، أو من باب إمضاء حكم العقل.

وأمّا استصحاب الشغل ، فالثابت به حكم شرعيّ ظاهري منزّل منزلة الواقع ، فيترتّب عليه ما يترتّب على الواقع من الثواب والعقاب. وبملاحظة ما ذكرناه يظهر وجه اختلاف قاعدة الاشتغال مع استصحابه بحسب المفهوم والمؤدّى ، وإن وقع التمسّك بكلّ منهما كثيرا في مورد واحد في كلمات صاحب الرياض والوحيد البهبهاني.

وأمّا بحسب المورد ، فالظاهر اختلاف موردهما أيضا بالعموم من وجه ، فقد يجتمعان ، وقد يفترقان.

أمّا الأوّل ، فكالشكّ في الإتيان بإحدى الصلوات اليوميّة قبل خروج وقتها ، وكذا الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته في العبادات على القول بوجوب الاحتياط فيهما ، لأنّ كلّا منهما مورد للقاعدة والاستصحاب ، وهو واضح. نعم ، الظاهر كون الاستصحاب في الثاني تقديريّا ، لأنّ مرجعه إلى استصحاب الشغل على تقدير الإتيان بالعبادة من دون المشكوك فيه.

واعترض عليه بأنّه إنّما يتمّ إن كان الشكّ حاصلا للمقلّد ، وليس كذلك ، لأنّ الشكّ في الأحكام إنّما يعرض للمجتهد لأنّه المستنبط دون المقلّد ، وله أخذ الفتوى منه. والشكّ بالنسبة إلى المجتهد في كلّ وقت فعلي لا تقديري ، فكأنّه يستعمل الأدلّة والاصول من قبل المقلّد ، فهو بمنزلة النائب عنه. ومرجع الشكّ العارض له إلى الشكّ في حصول براءة ذمّة المقلّد بالعمل المخالف للاحتياط ،

٣٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

كالإتيان بالصلاة من دون الجزء المشكوك فيه. فله إجراء الاستصحاب فعلا وإن لم يكن مبتلى بالعمل ، فيقول : الأصل عدم براءة ذمّة المقلّد ، وبقاء شغل ذمّته بهذا العمل.

وأنت خبير بأنّه مع عدم تماميّته بالنسبة إلى عمل نفس المجتهد ، لا يتمّ بالنسبة إلى عمل المقلّد أيضا ، إذ المجتهد لا بدّ أن يقول في مقام الاستنباط : الأصل عدم براءة ذمّة المقلّد على تقدير إتيانه بالصلاة من دون الجزء المشكوك فيه مثلا ، لوضوح عدم صحّة إجراء الأصل في حقّه إلّا معلّقا.

وأمّا الثاني ، فأمّا مادّة الافتراق من جانب قاعدة الشغل فكالواجبات المضيّقة التي يكون زمان الفعل فيها بمقداره كالصوم. فإذا شكّ في بعض أجزائها أو شرائطها لا يمكن فيه استصحاب الشغل ، إذ يعتبر في الاستصحاب تحقّق زمانين ، يحصل اليقين بوجود المستصحب في أحدهما ، ويشكّ في بقائه في الآخر ، والفرض في المقام اتّحاد زمان التكليف ، فهو قبله غير منجّز ، وفي أثنائه متحقّق قطعا ، وبعده مرتفع كذلك ، فالمتعيّن في مثلها التمسّك بالقاعدة ، لأنّه مع العلم بثبوت التكليف الفعلي والشكّ في حصول الامتثال ببعض محتملاته ، يقضي العقل بوجوب الإتيان بما يحصل معه القطع بالبراءة.

وأمّا من جانب استصحاب الشغل ، فكما إذا دار الأمر بين التضييق والتوسعة وبين الفور والتراخي في الأوامر ، لأنّ قاعدة الشغل وإن اقتضت وجوب الإتيان بالفعل في الزمان الأوّل ، إلّا أنّه بعد الإخلال بالفعل ، وفيه يتعيّن الرجوع في الزمان الثاني إلى استصحاب الشغل دون قاعدته ، لاحتمال اختصاص التكليف بالزمان الأوّل ، فلا يحصل القطع بالامتثال بالإتيان به في الزمان الثاني ، بخلاف استصحاب الشغل ، لعدم قدح ذلك في التمسّك به ، ولذا قد ادّعى شريف العلماء في المقام أنّ قاعدة الشغل تقتضي التضييق ، والاستصحاب التوسعة.

فإن قلت : كيف تدّعي عدم قدحه فيه ، ومعه لا يكون المستصحب قابلا

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

للبقاء ، وحينئذ لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب ، لأنّه إبقاء ما كان؟

قلت : نعم ، لكنّه مبنيّ على المداقّة في أمر الاستصحاب ، والكلام هنا مبنيّ على مذاق المشهور الذين تسامحوا فيه بما لا يخفى.

نعم ، يمكن التمسّك بقاعدة الشغل في الزمان الثاني ، نظرا إلى أنّه مع الإتيان بالفعل في الزمان الثاني وإن لم يحصل القطع بالبراءة ، لاحتمال اختصاص التكليف بالزمان الأوّل ، إلّا أنّه مع ثبوت التكليف في الجملة ، وعدم التمكّن من تحصيل البراءة اليقينيّة بعد الإخلال بالفعل في الزمان الأوّل ، فالعقل قاض بوجوب الإتيان بما تحتمل معه البراءة. وهذا الكلام سار بالنسبة إلى الزمان الثالث على تقدير الإخلال به في الزمان الثاني ، وهكذا.

ومن هنا يظهر فساد توهّم كون المقام بالنسبة إلى الزمان الثاني والثالث وهكذا من موارد أصالة البراءة دون الاشتغال ، لاحتمال حصول العصيان بالإخلال بالفعل في الزمان الأوّل ، وعدم العلم بالتكليف بعده ، سيّما مع عدم حصول اليقين بالبراءة بالإتيان به فيه.

ووجه الفساد : أنّه إنّما يتمّ مع عدم سبق العلم بالتكليف في الجملة المردّد بين التضييق والتوسعة ، وإلّا فالعقل يستقلّ بوجوب الإتيان بما يحتمل معه حصول البراءة.

نعم ، التمسّك بالقاعدة بالنسبة إلى الزمان الأوّل أو مطلقا إنّما هو مع قطع النظر عن الاستصحاب ، وإلّا فمعه يرتفع موضوع القاعدة ، لأنّ حكم العقل بوجوب الإتيان بما تحصل معه البراءة اليقينيّة أو الاحتماليّة بعد العلم بالتكليف في الجملة ، إنّما هو لخوف العقاب في المخالفة يقينا أو احتمالا ، وإذا ثبتت التوسعة بمقتضى الاستصحاب وعدم ترتّب العقاب على التخيير حصل الأمن من العقاب ، وارتفع مناط حكم العقل.

٣٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه في بيان قاعدة الاشتغال مع استصحابه. وأمّا قاعدة البراءة مع استصحابها ، فالحقّ اختلافهما أيضا بحسب المفهوم والمؤدّى والمورد.

أمّا الأوّل فمن وجهين : أحدهما : أنّه يكفي في حكم العقل بالبراءة مجرّد الشكّ في التكليف مع قطع النظر عن ثبوتها في السابق ، بخلاف استصحابها. وثانيهما : أنّ المراد بالقاعدة حكم العقل بعدم وجوب الإتيان بالتكليف المحتمل ، وباستصحابها إبقاء البراءة السابقة.

ومن هنا يظهر وجه اختلافهما بحسب المؤدّى أيضا ، لأنّ مؤدّى القاعدة عدم وجوب الإتيان ، ومقتضى استصحاب البراءة بقاء البراءة السابقة.

وأمّا الثالث ، فمادّة الاجتماع واضحة ، وهي جميع موارد الشبهات البدويّة. وأمّا مادّة الافتراق من جانب قاعدة البراءة ، فهي ما أشار إليه صاحب الفصول ، فإنّه بعد أن احتجّ لاعتبار قاعدة البراءة باستصحابها قال : «هذا الدليل أخصّ من المدّعى ، إذ بين مورد الاستصحاب وبين مورد أصل البراءة عموم من وجه ، لجريان الاستصحاب في غير البراءة ، وجريان أصل البراءة حيث لا يتقدّم براءة ، كمن علم بوقوع جنابة وغسل عمّا في الذمّة منه وشكّ في المتأخّر ، فإنّ قضيّة أصل البراءة هنا عدم تحريم جواز المسجدين واللبث في المساجد وقراءة العزائم عليه ، مع أنّه لا مسرح للاستصحاب فيها» انتهى.

ووجه عدم جريان الاستصحاب في المثال : هو حصول العلم بانقطاع البراءة السابقة لأجل العلم بوقوع الجنابة ، وعدم جواز استصحاب الجنابة إنّما هو لمعارضته بمثله ، للعلم بوقوع الطهارة أيضا ، فيتمسّك بأصل البراءة ، لكون مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في التكليف ، لعدم العلم بالطهارة والحدث في الحال. وسيجيء بيان مادّة الافتراق من جانب استصحاب البراءة أيضا. وما ذكره من مادّة الافتراق من جانب الاستصحاب لا دخل له فيما نحن فيه.

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وربّما يورد على ما ذكره ـ من عدم جريان استصحاب البراءة فيما ذكره من المثال ـ بمنع انقطاع البراءة السابقة فيه مطلقا ، لأنّ المسلّم منه انقطاعها بالنسبة إلى من علم بوقوع الجنابة منه بالخصوص ، وأمّا من علم إجمالا بوقوع أحد الأمرين منه فلا ، وإن كانت منقطعة بالنسبة إلى زمان العلم بالجنابة ، وذلك لأنّ المكلّف الواحد باعتبار اختلاف حالاته والعوارض الطارية عليه ينزّل منزلة أشخاص مختلفين في التكليف ، لأنّ مدار الخطابات الشرعيّة في التعلّق بالمكلّفين على اختلاف عناوينهم وحالاتهم ، وكما أنّ للشخص الواحد باعتبار كونه مسافرا وحاضرا وصحيحا ومريضا ومختارا ومضطرّا أحكاما مختلفة ، فكذا باعتبار كونه عالما بالجنابة يجب عليه الغسل ، وتنقطع عنه البراءة السابقة ، وباعتبار كونه شاكّا فيها ـ وإن تردّد أمره بينها وبين الطهارة ـ لا يجب عليه الغسل ، ولا تنقطع عنه البراءة السابقة. وعدم جواز التمسّك باستصحاب البراءة في سائر موارد استصحاب التكليف ، مع فرض كون الشكّ فيها في الزمان الثاني في التكليف ، إنّما هو من جهة كون استصحاب التكليف فيها رافعا لموضوع البراءة ، فتأمّل.

وربّما يمثّل لمادّة الافتراق من جانب أصالة البراءة بما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، شرعيّين كانا أو عقليّين ، كما إذا علم وجوب العتق وتردّد بين عتق الرقبة مطلقا وخصوص المؤمنة لانقطاع البراءة السابقة بثبوت التكليف يقينا في الجملة. ولكن يمكن منع تعيّن وجوب عتق خصوص المؤمنة ، بأصالة البراءة ، كما تقدّم تحقيقه في مسألة البراءة.

وقد يمثّل أيضا بمسألة كون القضاء تابعا للأداء ، لانقطاع البراءة السابقة بثبوت التكليف في الجملة ، فلا يجوز استصحابها ، بل مقتضى استصحاب الأمر الأوّل على خلافه. وأمّا أصالة البراءة فمقتضاها عدم وجوب القضاء مع قطع النظر عن استصحاب الأمر الأوّل. وبالجملة ، إنّ استصحاب البراءة السابقة غير جار وإن قطع النظر عن استصحاب الأمر الأوّل ، وأصالة البراءة جارية لكن مع قطع النظر عنه.

٣٩٥

مثال الأوّل : ما إذا قطع بالبراءة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه ، فإنّ مجرّد الشكّ في حصول (٢٤٢٠) الاشتغال كاف في حكم العقل بالبراءة ، ولا حاجة إلى إبقاء البراءة السابقة والحكم بعدم ارتفاعها ظاهرا ،

______________________________________________________

وفيه نظر ، لأنّ القضاء تكليف جديد وإن قلنا بكونه تابعا للأداء وثبوته بالأمر الأوّل ، ولذا يلتزم بعقاب آخر على مخالفته. والأصل عدم هذا التكليف ، بمعنى استصحاب البراءة السابقة. واستصحاب الأمر الأوّل وإن تمسّك به شريف العلماء تبعا للمحقّق القميّ رحمه‌الله ، إلّا أنّه ضعيف ، لانقضاء الأمر الأوّل بخروج وقته ، ولا أقلّ من احتمال تقيّده بالوقت الأوّل ، فلا يصدق معه البقاء حتّى يصحّ استصحابه. فالأولى التمثيل للمقام بما تقدّم من المثال ، لعدم سلامة الأوّل والثالث من إشكال كما عرفت.

وأمّا مادّة الافتراق من جانب استصحاب البراءة ، فمثل ما لو دار الأمر في شيء بين كونه أحد فردي الواجب المخيّر وبين كونه مباحا مسقطا عنه ، كما إذا ثبت الأمر بالعتق وتردّد الأمر بين كون المكلّف مخيّرا بين المؤمنة والكافرة وبين كون عتق الكافرة مباحا مسقطا عنه ، وحينئذ لا يمكن نفي وجوبه بقاعدة البراءة ، لأنّ مقتضاها ـ كما نبّهنا عليه في مسألة البراءة ـ هو نفي احتمال العقاب لا نفي الوجوب أو الحرمة. والفرض في المقام عدم ترتّب عقاب على ترك عتق خصوص الكافرة. أمّا على تقدير كونه مباحا مسقطا عن الواجب ـ كالسفر المسقط عن وجوب الصوم ـ فواضح. وأمّا على تقدير كونه أحد فردي الواجب المخيّر ، فلعدم ترتّب العقاب على ترك خصوص أحد فرديه ، بل العقاب على ترك الجميع ، كما هو واضح. وحينئذ يتعيّن الرجوع إلى استصحاب البراءة السابقة عن وجوب عتق خصوص الكافرة. والله العالم بحقائق أحكامه.

٢٤٢٠. حاصله : حكومة قاعدة البراءة على استصحابها ، لأنّه إذا فرض كون مجرّد الشكّ في التكليف علّة تامّة لحكم العقل بالبراءة لا يبقى في الزمان الثاني في

٣٩٦

فلا فرق بين الحالة السابقة واللاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما ؛ لكون المناط في القبح عدم العلم. نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من استصحابه ليس إلّا ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلّا عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشك ، فهو من آثار الشك لا المشكوك.

ومثال الثاني : ما إذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ، ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ، ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ـ كأن صلّى بلا سورة أو إلى بعض الجهات أو اجتنب أحدهما ـ فربّما يتمسّك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقّن سابقا.

وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان ، وهو بعينه موجود في هذا الزمان. نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق : حصول العلم بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان ، وهذا لا يؤثّر في حكم العقل المذكور ؛ إذ يكفي

______________________________________________________

شكّ ـ ولو في الظاهر ـ حتّى يجري فيه الاستصحاب. لكن هذا إنّما يتمّ لو اريد باستصحاب البراءة استصحاب عدم اشتغال الذمّة فعلا ، وعدم وجوب الامتثال كذلك. وإن اريد به استصحاب عدم الحكم من الوجوب والحرمة ، فالقاعدة حينئذ وإن لم تكن حاكمة على استصحاب البراءة بالمعنى المذكور ، لعدم دلالة العقل على هذا الحكم عند الشكّ فيه ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه العقل عند الشكّ في التكليف هو عدم وجوب امتثال التكليف المشكوك فيه ، لا عدمه في الواقع ولو ظنّا ، ولكن يرد عليه أنّ المقصود من استصحاب عدم الحكم إثبات عدم وجوب امتثاله في زمان الشكّ ، وهو مع كونه من الآثار العقليّة لعدم الحكم ، فلا يثبت بالاستصحاب أنّ هذا الأثر من آثار مجرّد الشكّ في التكليف لا من آثار عدمه في الواقع ، فبمجرّد الشكّ فيه يرتّب عليه أثره من دون حاجة إلى إثبات عدمه بالاستصحاب.

٣٩٧

فيه العلم بالتكليف الواقعي آناً ما. نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعي وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع السورة والصلاة إلى الجهة الباقية واجتناب المشتبه الباقي ، بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع. لكن مجرّد ذلك لا يثبت وجوب الإتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة إلّا على القول بالأصل المثبت أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، والأوّل لا نقول به ، والثاني بعينه موجود في محل الشك من دون الاستصحاب.

الأمر الرابع : قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديريّ تارة والتعليقي اخرى ، باعتبار كون القضيّة المستصحبة (٢٤٢١) قضيّة تعليقية حكم فيها بوجود حكم على تقدير وجود آخر ، فربّما يتوهم لأجل ذلك الإشكال في اعتباره ، بل منعه والرجوع فيه إلى استصحاب مخالف له.

______________________________________________________

ولا تنافي بين ما ذكره هنا من منع جريان استصحاب البراءة ، وبين ما تقدّم في توجيه كلمات القوم في تفسير استصحاب حال العقل باستصحاب العدم من تسليم ذلك هناك ، لأنّ المراد بما ذكره هنا هو استصحاب البراءة ، وبما ذكره هناك استصحاب العدم. ومقصوده ثمّة بيان عدم المانع من حيث كون المستصحب أمرا عقليّا مع قطع النظر عن سائر الموانع ، فلا ينافي تسليمه هناك ما أورد على استصحاب العدم ، هنا فلا تغفل.

٢٤٢١. حاصله : أنّ الاستصحاب التعليقي ما كان الحكم المستصحب فيه متعلّقا بموضوع على تقدير وجود شرط مفقود أو فقد مانع موجود ، وشكّ في ارتفاع هذا الحكم المعلّق على نحو تعلّقه به وعدمه بسبب تغيّر بعض حالات الموضوع ، كصيرورة العنب زبيبا في المثال الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله. ومن جملة أمثلته أيضا أنّ الصلاة واجبة على المرأة الخالية من الحيض بشرط دخول الوقت فإذا دخل الوقت ، ورأت دما مشتبها مردّدا بين الحيض والاستحاضة ، يستصحب الوجوب المعلّق لإثبات كون الدم استحاضة. وهذا المعنى هو المعروف في الاستصحاب التعليقي.

٣٩٨

توضيح ذلك : أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ، كما إذا وجب الصلاة فعلا أو حرم العصير العنبيّ بالفعل في زمان ، ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه ، وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه. وقد يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ، فالمستصحب هو وجوده التعليقيّ ، مثل : أنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ، فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جفّ وصار زبيبا فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة على الغليان ، فيحرم عند تحقّق الغليان أم لا ، بل يستصحب الإباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان؟ ظاهر سيد مشايخنا في المناهل وفاقا لما حكاه عن والده قدس‌سره في الدرس : عدم اعتبار الاستصحاب الأوّل ، والرجوع إلى الاستصحاب الثاني.

______________________________________________________

وقد يطلق أيضا على استصحاب حكم معلّق على وجود موضوع عند الشكّ في بقاء هذا الحكم وارتفاعه ، لأجل عروض ما يشكّ في بقائه ، مثل قول الشارع : الكلب نجس والغنم طاهر والبيع صحيح ، إذ المراد بهذه القضايا أنّ الكلب إن وجد كان نجسا ، والغنم إن وجد كان طاهرا ، والبيع إذا تحقّق كان صحيحا. فإذا وقع البيع في وقت النداء يستصحب الحكم المعلّق على وجود البيع لإثبات كون هذا البيع صحيحا. وكذا إذا فرض أنّ شخصا لم يقلّد مجتهدا مع وجود الجامع للشرائط ، فإذا مات هذا المجتهد استصحب جواز تقليده إلى ما بعد الموت ، فإنّ تقليد هذا المجتهد كان جائزا ، فيستصحب هذا الجواز ، وإن كان وجوده الفعلي في السابق معلّقا على تحقّق تقليده.

والتمسّك بالاستصحاب بهذا المعنى محكيّ عن بعض متأخّري المتأخّرين. وفيه : أنّ الحكم المستصحب في أمثال ما ذكر ليس معلّقا على شيء ، بل هو مرتّب على موضوعه الكلّي فعلا ، وإن كان تحقّقه في الخارج متوقّفا على وجود بعض أفراده.

وبالجملة ، إنّ الظاهر من الاستصحاب التعليقي استصحاب ما كان وجوده معلّقا على عدم أمر موجود أو وجود أمر معدوم ، لا ما كان عدمه في الزمان

٣٩٩

قال في المناهل في ردّ تمسك السيّد العلّامة الطباطبائي على حرمة العصير من الزبيب إذا غلا بالاستصحاب ودعوى تقديمه على استصحاب الإباحة : إنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعيّ أو تكليفيّ في زمان من الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطل ، وقد صرّح بذلك الوالد العلّامة قدس‌سره في أثناء الدرس ، فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة (١١). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : لا إشكال في أنّه يعتبر (٢٤٢٢) في الاستصحاب تحقّق المستصحب سابقا ، والشكّ في ارتفاع ذلك المحقّق ، ولا إشكال أيضا في عدم اعتبار أزيد من ذلك. ومن المعلوم أنّ تحقّق كلّ شيء بحسبه ، فإذا قلنا : العنب يحرم مائه إذا غلا أو بسبب

______________________________________________________

السابق لعدم موضوعه ، لعدم عدّ مثله من التعليقيّات في شيء.

٢٤٢٢. حاصل ما ذكره يرجع إلى جوابين :

أحدهما : منع كون المعتبر في جريان الاستصحاب وجود المستصحب في الزمان السابق بالوجود الفعلي المنجّز ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه الأدلّة من العقل والنقل هو وجود شيء في السابق على نحو من أنحاء الوجود ، وشكّ في بقائه على نحو وجوده الأوّل ، وحينئذ يحكم ببقائه في زمان الشكّ على نحو وجوده الأوّل. ولا ريب أنّ الوجود التعليقي ـ أعني : قابليّة الشيء للوجود الفعلي وصلاحيّته له ـ قسم من أنحاء الوجود في مقابل عدمه المحض ، ولذا ترى أن التعليقيّات التكليفية أو الوضعيّة تحتاج في وجودها التعليقي إلى إنشاء من الحاكم ، فإذا قال المولى لعبده : إن جاءك زيد فأكرمه ، أو بعتك هذا بهذا إن كان مالي ، فهو منشأ للوجوب المعلّق على المجيء ، وكذا التمليك المعلّق على كون المبيع ماله ، وإن وقع التعليق في المنشأ.

وبعبارة اخرى : إنّ التعليق إنّما هو في الأمر المنشأ لا في نفس الإنشاء. وتوهّم خلافه واضح الضعف. واحتياج الوجود المعلّق إلى الإنشاء دليل على كونه من قبيل الموجودات.

٤٠٠