فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

١
٢

٣
٤

الاستصحاب

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، و

لعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

المقام الثاني في الاستصحاب (٢٠٠٨) وهو لغة : أخذ الشيء مصاحبا (٢٠٠٩). ومنه : استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

وعند الاصوليّين (٢٠١٠)

______________________________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الأئمّة المعصومين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

٢٠٠٨. سيجيء الكلام في كونه من الأدلّة أو القواعد أو الاصول. وعلى التقادير : في كونه شرعيّا وعقليّا ، بمعنى أن تكون له جهة شرعيّة وعقليّة ، أو شرعيّا محضا ، أو عقليّا كذلك.

٢٠٠٩. إليه يرجع ما في القاموس : استصحبه دعا إلى الصحبة ولازمه.

٢٠١٠. أقول : في كونه من قبيل النقل الرّاجح ، أعني : نقل الكلّي إلى بعض أفراده ، أو النّقل المرجوح ، أعني : نقل أحد المتباينين إلى الآخر ، إشكال.

وتحقيقه : أنّ مدرك الاستصحاب إن كان أخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، فلا إشكال في كونه من قبيل الثاني ، لأنّ الاستصحاب لغة ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ أخذ الشيء مصاحبا ، وفي الاصطلاح هو الحكم ببقاء المتيقن السابق إلى زمان الشكّ. وهذا المعنى على تقدير اعتباره من باب الأخبار ليس من أفراد

٧

عرّف بتعاريف ، أسدّها وأخصرها (٢٠١١): " إبقاء ما كان" ، والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء ، ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم ، فعلّة الإبقاء هو أنّه كان ، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله.

______________________________________________________

المعنى اللغوي ، إذ مرجعه حينئذ إلى حكم الشارع ببقاء الحكم المتيقّن السابق للمكلّف إلى زمان شكّه ، ولا ريب أنّ الشارع ليس بمستصحب للحكم ، بمعنى أخذ شيء مصاحبا له ، ولا المكلّف كذلك ، بل الشّارع إنّما أصحب الحكم مع المكلّف ، فلا يكون من أفراد المعنى اللغوي.

وإن كان هو العقل فكذلك أيضا ، لعدم كون العقل ولا المكلّف حينئذ مستصحبا لشيء ، بمعنى أخذهما شيئا مصاحبا لهما ، وإنّما صار الحكم مصاحبا للمكلّف بواسطة حكمه. نعم ، يمكن اعتباره من أفراد المعنى اللغوي حينئذ ادّعاء ومسامحة في النسبة ، لأنّ العقل حيث كان محلّه المكلّف ، فيقال إنّه المستصحب للحكم إلى زمان الشكّ.

٢٠١١. الوجه في الثاني واضح. وكذا في الأوّل ، لسلامة ما نقله ممّا يرد على غيره. وكيف كان ، فما نقله المصنّف رحمه‌الله منقول بزيادة قيد «على ما كان». وإليه يرجع ما نقله عن غاية المأمول ، بل عن الوافية وشارح المختصر أيضا ، بناء على كون الحدّ في كلامه هو الكبرى كما سنشير إليه ، لأنّ الظاهر أنّ مآل الكلّ واحد ، ومرجع الجميع إلى الحكم ببقاء ما كان ، وإن اختلفت العبارات ، مع التسامح في بعضها كما في عبارة الوافية ، لأنّ الاستصحاب ليس التمسّك ، لأنّ التمسّك هو الاستدلال ، والاستصحاب هو الدليل.

وكيف كان ، فاعلم أنّ هنا امورا لا بدّ من اعتبارها في الحدّ ، وقد خلا منها أكثر التعاريف :

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : اعتبار الشكّ اللاحق. وقد خلت تعاريفهم عنه ، ما عدا تعريف شارح المختصر ، وتعريف المحقّق القمّي رحمه‌الله الذي صرّح المصنّف رحمه‌الله بكونه أزيف التعاريف ، لأنّا إن فرضنا هنا دليلا قطعيّا دالا على كون ثبوت حكم في زمان علّة تامّة لثبوته في الزمان اللاحق ، فإذا حكم بثبوته في الزمان اللاحق لأجل ثبوته في الزمان السابق لأجل هذا الدليل ، صدق عليه أنّه إبقاء ما كان على ما كان ، بمعنى الحكم بثبوته تعويلا على ثبوته في السابق. وكذا تعريف الزبدة بأنّه إثبات حكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل. وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من إشعار دخل الوصف في الموضوع بالعلّية غير مجد في إخراجه من الحدّ ، مع فرض كون الوصف صريحا في العلّية ، فضلا عن كونه مشعرا به. مضافا إلى ما في الاكتفاء بالإشعارات في القيود المأخوذة في الحدود. اللهمّ إلّا أن يدّعى ظهور لفظ الإبقاء في الحكم بالبقاء مع الشكّ فيه ، فلا يشمل صورة الجزم ، كما يستفاد ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله في الأمر الخامس.

وثانيها : اعتبار تأخّر زمان المشكوك فيه عن زمان المتيقّن ، لا تأخّر زمان وصف الشكّ عن زمان وصف اليقين ، لإمكان اجتماع زمان الوصفين مع صحّة الاستصحاب فيه. بل يمكن منع صحّته في بعض موارد تأخّر زمان الشكّ عن زمان اليقين ، كما إذا قطع يوم الجمعة بعدالة زيد في هذا اليوم ، وشكّ في يوم السبت في عدالته في يوم الجمعة ، بأن احتمل في يوم السبت كونه في يوم الجمعة جاهلا مركّبا ، فإنّ زمان الشكّ حينئذ وإن كان متأخّرا عن زمان اليقين ، إلّا أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب تعلّق الشكّ ـ المأخوذ في موضوعه ـ ببقاء المتيقّن السابق لا بوجوده. وبعبارة اخرى : إنّ المعتبر فيه اختلاف زمان متعلّق الوصفين ـ أعني : المتيقّن والمشكوك ـ لا زمانهما ، ولذا لو قطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ، وشكّ في زمان هذا القطع في عدالته يوم السبت ، جاز استصحاب عدالته إلى يوم السبت ، وإن اتّحد زمان اليقين والشكّ وعلى تعريف المحقّق القمّي وشارح

٩

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه في الزبدة بأنّه : " إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل" ، (١) بل نسبه شارح الدروس إلى القوم ، فقال : إنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه.

______________________________________________________

المختصر يصدق أنّ عدالة زيد في المثال الأوّل كانت يقينيّ الحصول في الآن السابق ، وشكّ في بقائها في الآن اللاحق ، فيصحّ كونه مجرى للاستصحاب ، وليس كذلك. نعم ، يصحّ الاحتراز عنه على تعريف المحقّق القمّي رحمه‌الله ، بأخذ قيد البقاء فيه ، لأنّه فرع ثبوت أصل الوجود. وعلى تعريف شارح المختصر بقوله في الحدّ : قد كان ، لعدم صدق الكون مع سراية الشكّ إلى الوجود الأوّل.

وثالثها : أن يتعلّق الشكّ ببقاء المتيقّن السابق لا بوجوده. وبعبارة اخرى : أن لا يكون الشكّ ساريا إلى الشكّ في وجود المتيقّن السابق ، وإلّا فلا مجرى للاستصحاب. وقد غفل عن هذا بعض الفحول ، فأجرى الاستصحاب في غير محلّه. ومثاله من الأحكام الكلّية ما لو استنبط المجتهد في أوّل زمان اجتهاده شطرا من الأحكام ، وعمل برهة من الزمان على طبق اجتهاده ، ثمّ حصّل حظّا وافرا من العلم ، وتضاعفت قوّته الاستنباطيّة ، فشكّ في صحّة اجتهاده السابق ، لأنّ الشكّ في صحّته يوجب الشكّ في ثبوت الأحكام التي كان معتقدا لها بحسب اجتهاده الأوّل ، فلا يمكن استصحاب هذه الأحكام إلى زمان الشكّ ، بل لا بدّ من المراجعة وتجديد النظر. ومثاله من الموضوعات الخارجيّة ما عرفته من المثال الأوّل لعدالة زيد.

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ التعريف السديد السليم من جميع ما قدّمناه وما يأتي أن يقال : إنّه إبقاء مشكوك البقاء لكونه متيقّنا. ولا يرد عليه الشكّ الساري ، لكون الشكّ فيه في أصل وجود شيء لا في بقائه ، ولا الاستصحاب القهقرائي ، أعني : ما تقدّم الشكّ فيه على اليقين ، كما سيجيء في محلّه ، لعدم الشكّ في البقاء فيه أيضا.

١٠

وأزيف التعاريف (٢٠١٢)

______________________________________________________

وإن شئت قلت : إنّه إبقاء مشكوك البقاء بلحاظ كونه متيقّنا ، ليكون صريحا في إخراج قاعدة البراءة والاشتغال ، لعدم كون الحكم ببقاء المشكوك فيه في مورد البراءة بلحاظ البراءة الثابتة في حال الصغر والجنون ، بل من حيث كون الشكّ فيه في التكليف خاصّة. وكذا الحال في قاعدة الاشتغال ، لأنّ الحكم ببقاء المشكوك فيه في موردها إنّما هو لأجل العلم بثبوت الحكم أوّلا ثمّ الشكّ في الخروج من عهدة امتثاله ، فالشكّ اللاحق فيه جزء علّة لحكم العقل بالاشتغال ، بخلاف الاستصحاب ، لأنّ العلّة في حكم العقل فيه هو العلم بثبوت الحكم أو عدمه أوّلا في مورد الشكّ في بقائه.

وقولنا «لكونه متيقّنا» وإن كان مخرجا للقاعدتين ، إلّا أنّ قولنا «بلحاظ كونه متيقّنا» أصرح منه. وفي إخراج القاعدتين من تعريف المحقّق القمّي نوع غموض. اللهمّ إلّا أن يعتبر قيد الحيثيّة فيه ، ولكنّه إنّما يفيد في الاحتراز عن قاعدة البراءة دون الاشتغال ، كما يظهر بالتأمّل فيما قدّمناه.

وقد تلخّص أنّ المعتبر في موضوع الاستصحاب هو اجتماع اليقين بوجود شيء أو عدمه مع الشكّ في استمراره ، بأن يشكّ في بقائه مع العلم بوجوده سابقا ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات السابقة والآتية.

٢٠١٢. هذا التعريف للمحقّق القمّي رحمه‌الله. ويرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ، وما قدّمناه في الحاشية السابقة ـ وجوه من الإشكال :

أحدها : استدراك قيد الآن السابق واللاحق ، إذ لو قال : هو حكم أو وصف يقينيّ الحصول مشكوك البقاء ، كان كافيا ، لدلالة الشكّ في البقاء على اختلاف زمان المتيقّن والمشكوك فيه. وتوضيحه : أنّ الطرفين إن كانا متعلّقين باليقين والشكّ كانا مخلّين بالحدّ ، لعدم دلالته حينئذ على تأخّر المشكوك فيه عن المتيقّن كما هو المعتبر في الاستصحاب ، إذ غاية ما يدلّ عليه حينئذ هو تأخّر زمان الشكّ عن

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

زمان اليقين. وإن كانا متعلّقين بالحصول والبقاء كانا مستدركين ، لكفاية قيد الشك في البقاء على ما عرفت.

وثانيها : أنّ ظاهر أخذ الزمان في الحدّ كونه من مقوّمات ماهيّة الاستصحاب ، وليس كذلك ، لأنّه من مقارنات المستصحب ، وذلك لأنّا لو فرضنا وجود شيء في زمان ، وفرض بعده انقطاع الزمان الحاصل من حركة الأفلاك ، صحّ استصحابه إلى ما بعده. وكذا لو فرض وجود شيء قبل خلق الزمان صحّ استصحابه إلى هذا الزمان. فالمعتبر تقدّم المتيقّن على المشكوك وجودا ، والتقدّم زمانا من مقارناته. ولعلّ هذا هو الذي أوقع المحقّق القمّي رحمه‌الله وغيره في هذه الشبهة ، فجعلوا الزمان من جملة مقوّماته.

وثالثها : استدراك قيدي الحكم والوصف ، لأنّ المراد بالحكم إن كان ثبوت المحمول للموضوع ـ كما صرّح به المحقّق المذكور في تعريف الفقه ـ يلغو قيد الوصف ، لاعتبار تقدّم ثبوت المستصحب لموضوعه في جميع موارد الاستصحاب ، سواء كان المستصحب من الأحكام أو الموضوعات الخارجة ، فيقال في استصحاب الكرّية مثلا : إنّ هذا الماء كان كرّا ، وهكذا تقول في كلّ ما يرد عليك.

وإن كان هو الحكم الشرعيّ أعمّ من التكليفي والوضعي ، وحينئذ فإن كان المراد بالوصف معناه الحقيقي ـ أعني : العوارض الوجوديّة التي تسمّى في العرف أوصافا في مقابل الأفعال ـ لا ينعكس الحدّ ، لعدم شموله لاستصحاب العدم ، واستصحاب الأفعال ، واستصحاب الحقائق عند الشكّ في تبدّلها إلى حقيقة اخرى.

وإن كان المراد به مطلق الأعراض القائمة بالموضوع ، فمع كونه مجازا لا يرتكب مثله في الحدود من دون قرينة ، وعدم شموله لاستصحاب العدم ، أنّه يلغو حينئذ قيد الحكم لشمول الأعراض للأحكام أيضا.

١٢

تعريفه بأنّه : " كون حكم أو وصف (٢٠١٣) يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق" ؛ (٢) إذ لا يخفى أنّ كون حكم أو وصف كذلك ، هو محقّق مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه ، ولذا صرّح في المعالم ـ كما عن غاية المأمول ـ : «بأنّ استصحاب الحال ، محلّه أن يثبت حكم في وقت ، ثمّ يجئ وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، فهل يحكم ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب؟» (٣) انتهى.

ويمكن توجيه التعريف (٢٠١٤) المذكور : بأنّ المحدود هو الاستصحاب المعدود

______________________________________________________

ورابعها : عدم شموله لاستصحاب العدم ، مع تقسيمه للاستصحاب في مقام تعيين محلّ النزاع إلى وجوديّ وعدمي. ولعلّ السر فيه اقتدائه بالسلف ، لعدم تعرّضهم للعدمي منه. ولعلّ الوجه فيه كون حجّية العدمي منه مفروغا منها عندهم ، وإن وقع البحث عنه أيضا في كلام بعض المتأخّرين كما سيجيء. هذا ، ولكنّ الاولى تحديده بما يعمّ جميع أفراد المحدود ، ثمّ التعرّض لبيان ما وقع فيه النزاع.

٢٠١٣. الظاهر أنّ مراده بالحكم الامور الشرعيّة مطلقا ، وبالوصف الامور الخارجة ، مثل رطوبة الثوب وكرّية الماء وحياة زيد ونحوها. ولذا عطفه بالترديد ، وقد تقدّم ما فيه.

ويظهر منه كون اعتبار الاستصحاب عند القوم من باب الظنّ بالبقاء ، لأنّه بعد تحديد الاستصحاب بما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله قال : «والمراد بالمشكوك أعمّ من المتساوي الطرفين ، ليشمل المظنون البقاء وغيره ، وإن كان مراد القوم من الشكّ هنا هو الاحتمال المرجوح في الواقع ، لأنّ بنائهم في الحجّية على حصول الظنّ. ونحن إنّما عمّمنا الشكّ لأنّا لا ننقض إلّا بيقين بسبب الأخبار الآتية ، فلا يضرّنا تساوي الطرفين ، بل كون البقاء مرجوحا أيضا» انتهى.

٢٠١٤. هنا وجه آخر ، وذلك بأن كان المعرّف بالفتح ـ وهو الاستصحاب ـ مصدرا للمبنيّ للمفعول ، أي : كونه مستصحبا ، مثل العدل بمعنى كونه معدولا ،

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لا أن يكون مصدرا بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، ليكون تعريفا لمصدر المبنيّ للمفعول ، وكانت لفظة «كون» فيه تامّة بمعنى الثبوت والوجود ، وقوله : «يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء» صفة للحكم والوصف ، وقوله «في الآن اللاحق» متعلّقا بالكون.

ومحصّل المعنى : أنّ كون الحال مستصحبا هو ثبوت الحكم أو الوصف متّصفا بما ذكر في الآن اللاحق ، ولا ريب أنّ ثبوت الحكم في الآن اللاحق متّصفا بكونه «يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء» هو معنى كونه مستصحبا.

ولمّا كان المصدر باعتبار الوقوع والإيقاع مختلفا بحسب الاعتبار كالوجود والإيجاد ، أورد المحقّق المذكور تعريفه بحسب الوقوع ، لينتقل الذهن إلى تعريفه بحسب الإيقاع ، دلالة باللازم على الملزوم تشريحا للأذهان ، لأنّ الاستصحاب إذا اعتبر بحسب الوقوع يكون مصدرا من المبنيّ للمفعول ، ويصير بمعنى كونه مستصحبا ، فيعرّف حينئذ بما عرّفه المحقّق المذكور. وإذا لوحظ بحسب الإيقاع يكون مصدرا من المبنيّ للفاعل ، ويصير بمعنى الحكم بالبقاء ، ويعرّف حينئذ بأنّه الحكم ببقاء ما كان يقينيّ الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق. ولكنّك خبير بما في هذا التوجيه من تكلّف ، لا يرتكب مثله في الحدود.

وهنا توجيه ثالث ، بناء على كون مراده بالشكّ في الحدّ هو الاحتمال المرجوح ، كما ادّعاه في كلام القوم ، على ما عرفته في الحاشية السابقة ، وكذا مراد المشهور بتعريفه بإبقاء ما كان على ما كان ، هو الظنّ ببقاء ما كان يقينيّ الحصول. وذلك بأن يقال : إنّ التغاير بين كون شيء مظنونا وبين الظنّ به إنّما هو بالاعتبار ، كضرب زيد وكونه مضروبا ، وإيجاب فعل ووجوبه ، وإيجاد شيء وكونه موجودا. ومرجع ما ذكره المحقّق القمّي من التعريف إلى كون الشيء مظنونا بعد كونه متيقّنا ، فيرجع إلى تعريف المشهور.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ مقتضى تعريف المشهور هو كون الاستصحاب عبارة

١٤

من الأدلّة ، وليس الدليل إلّا ما أفاد العلم أو الظنّ بالحكم ، والمفيد للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلّا كونه (٢٠١٥) يقينيّ الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ؛ فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلّا بما ذكره قدس‌سره.

لكن فيه : أنّ الاستصحاب (٢٠١٦) كما صرّح به هو قدس‌سره في أوّل كتابه (٢٠١٧) ـ

______________________________________________________

عن الحكم بالبقاء على وجه الظنّ ، لا نفس الظنّ بالبقاء.

٢٠١٥. بخلاف تعريف القوم بأنّه إبقاء ما كان على ما كان ، لأنّ الإبقاء فعل المكلّف ، وهو ليس موصلا إلى حكم في الآن اللاحق ، بل الموصل إليه ظنّا هو ما ذكره.

٢٠١٦. يرد عليه ـ مضافا إلى ما ذكره ـ أنّه مخالف للأصل من وجهين :

أحدهما : أنّ الأصل في نقل لفظ من معنى إلى آخر أن يكون النقل من كلّي إلى بعض أفراده ، لا من أحد المتباينين إلى الآخر ، لقلّته حتّى يكاد يلحق بالمعدومات. ولا شكّ أنّ تعريف الاستصحاب بما عرّفه المحقّق القمّي رحمه‌الله مستلزم للنقل المرجوح ، للمباينة بينه وبين المعنى اللغوي ، والحمل على الراجح أولى. لكن يدفعه اشتراك هذا الإيراد بينه وبين تعريف المشهور ، كما قدّمناه في بعض الحواشي المتقدّمة.

وثانيهما : أنّ الأصل في المشتقّات هو اشتراك المشتق مع المشتق منه في المعنى الأصلي ، مثل ضرب وضرب ويضرب وضارب ومضروب. ولا ريب أنّ ما يشقّق من الاستصحاب ـ من : استصحب ومستصحب ونحوهما من الألفاظ الدائرة على ألسنة القوم ـ لا يراد به المعنى الذي عرّف المشتقّ منه به.

٢٠١٧. قال : «إنّ موضوع الاصول هو أدلّة الفقه ، وهي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. وأمّا الاستصحاب فإن أخذ من الأخبار فيدخل في السنّة ، وإلّا فيدخل في العقل وأمّا القياس فليس من مذهبنا» انتهى.

١٥

«إن اخذ من العقل كان داخلا في دليل العقلى ، وإن اخذ من الأخبار فيدخل في السنّة» (٤) ، وعلى كلّ تقدير ، فلا يستقيم تعريفه بما ذكره ؛ لأنّ دليل العقل هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، وليس هنا إلّا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان ، والمأخوذ من السنّة ليس إلّا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، فكون الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه لاحقا لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين.

______________________________________________________

وهذا الكلام وإن كان فاسدا في نفسه كما قرّرناه في محلّه ، إلّا أنّ ما عرّف الاستصحاب به هنا لا ينطبق على شيء من دخوله تحت السنّة والعقل ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وما ذكره يرجع إلى أمرين ، أحدهما : منافاة ما ذكره هنا من التعريف لما ذكره في صدر كتابه. والآخر : أنّ الاستصحاب عند الأصحاب من الأدلّة العقليّة ، وعرّفوا الدليل العقلي بأنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ. وحكم العقل هنا حكمه ببقاء ما كان على ما كان بواسطة كونه يقينيّ الحصول مشكوك البقاء ، لا كون الحكم أو الوصف كذلك ، لأنّه مورد لحكم العقل لا نفسه. والمحقّق القمّي رحمه‌الله قد قسّم الحكم العقلي إلى قطعيّ وظنّي ، وليكن هذا من القسم الثاني. ولا ريب أنّ كون الاستصحاب دليلا شرعيّا أيضا إنّما هو باعتبار حكم الشارع ببقاء ما كان ، لا باعتبار ما ذكره.

وأنت خبير بأنّ الحجّة والدليل ـ على ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أوّل الكتاب ـ هو الوسط الذي يحتجّ به لثبوت الأكبر للأصغر ، وهو هنا ليس إلّا كون الشيء معلوم الحصول مشكوك البقاء ، لأنّه يقال : هذا معلوم الحصول مشكوك البقاء ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء. فلا بدّ في تعريف الاستصحاب باعتبار كونه دليلا وحجّة من تحديده بما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لأنّه المنطبق على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. ولا ينافيه تعريف الدليل العقلي بأنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، لأنّ الدليل العقلي هنا هو الوسط في القضيّتين المذكورتين الذي يتوصّل به بعد ترتيب القضيّتين إلى حكم شرعيّ ، وهو حجّية

١٦

نعم ذكر شارح المختصر : " أنّ معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء". فإن كان الحدّ هو خصوص الصغرى انطبق على التعريف المذكور ، وإن جعل خصوص الكبرى (٢٠١٨) انطبق على تعاريف المشهور.

وكأنّ صاحب الوافية استظهر منه كون التعريف مجموع المقدّمتين ، فوافقه في ذلك ، فقال : إنّ الاستصحاب هو التمسّك بثبوت ما ثبت (٢٠١٩) في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال ، فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ، انتهى. ولا ثمرة مهمّة في ذلك.

بقي الكلام في امور : الأوّل : أنّ عدّ الاستصحاب (٢٠٢٠) من الأحكام

______________________________________________________

ما ظنّ بقائه ، فإنّ النتيجة المأخوذة منهما تجعل وسطا في قضيّة اخرى ، فيقال : هذا مظنون البقاء ، وكلّ مظنون البقاء محكوم ببقائه شرعا ، فهذا محكوم ببقائه شرعا. وهذه النتيجة المأخوذة من القضيّة الثانية هو الحكم الشرعيّ المتوصّل إليه بحكم عقلي.

ومن هنا يندفع الإيراد الأوّل أيضا ، لأنّ كون الاستصحاب داخلا في السنّة أو العقل المستلزم لكونه من أدلّة الفقه ، إنّما هو باعتبار ما عرّفه به كما عرفت ، لأنّه يقال : إنّ هذا يقينيّ الحصول مشكوك البقاء ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء عقلا أو شرعا.

٢٠١٨. لأنّ مرجعها إلى إبقاء ما كان. ولعلّ هذا هو الظاهر من كلامه ، وذكر الصغرى إنّما هو لبيان مورد الاستصحاب.

٢٠١٩. قد تقدّم سابقا استدراك قيد التمسّك ، بل إخلاله بالحدّ. وكذا قيد «في وقت» لأنّه لو قال : هو التمسّك بثبوت ما ثبت فيما بعد ذلك ، لكفى. ومنه يظهر استدراك قيد الحال أيضا.

٢٠٢٠. اعلم أنّا قد أشرنا سابقا إلى الخلاف في كون الاستصحاب من الأدلّة أو القواعد أو الاصول. وعلى التقادير : في كونه عقليّا وشرعيّا ، أو عقليّا محضا ، أو شرعيّا كذلك.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وليعلم (*) أنّ الفرق بين الدليل والقاعدة : أنّ الدليل في الاصطلاح إمّا هو الأصغر في الشكل الأوّل مثلا ، كما يشير إليه تعريفه بأنّه ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، أو الوسط الذي يحتجّ به لثبوت الأكبر للأصغر ، والنتيجة هو المطلوب الخبري. والقاعدة هو الكلّي الذي يستخرج منه أحكام جزئيّاته ، وهو الكبرى في الشكل الأوّل ، فيقال في قاعدة (**) عدم جواز نقض اليقين بالشكّ : هذا يقينيّ الحصول مشكوك البقاء ، وكلّ ما هو كذلك لا يجوز نقضه بالشكّ ، يعني : يحكم ببقائه واستمراره.

وممّا ذكرناه يظهر أنّ الاستصحاب على تعريف المحقّق القمّي يكون من الأدلّة ، لوقوعه حينئذ وسطا في الشكل الأوّل كما عرفت. وعلى تعريف المشهور يكون من القواعد ، لكونه حينئذ كبرى في الشكل الأوّل على ما ذكرناه.

وإذا عرفت هذا نقول في توضيح ما قدّمناه : إنّا إن قلنا باعتباره من باب العقل ، كما هو ظاهر الأصحاب على ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، فلا إشكال في كونه من الأدلّة ، للتوصّل حينئذ بحكم العقل بالبقاء إلى ثبوت الحكم شرعا في زمان الشكّ ، كما يتوصّل بحكم العقل بقبح الظلم والعدوان وحسن الإحسان إلى حرمة الأوّلين واستحباب الثالث ، فيقال : هذا ممّا حكم العقل ببقائه ظنّا ، وكلّ ما هو كذلك فهو باق شرعا.

نعم ، لا بدّ من تقييد ذلك بما إذا كان جاريا في الشبهات الحكميّة لإثبات الأحكام الظاهريّة الكلّية ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، واستصحاب طهارة المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة ، لأنّ الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعيّة ـ كاستصحاب عدالة زيد ونجاسة ثوبه وفسق

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قد أسلفنا الحال في بيان المراد بالدليل فيما علّقناه على صدر الكتاب ، فراجع. منه».

(**) في هامش الطبعة الحجريّة : «من مستندها الاخبار. منه».

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عمرو وطهارة بدنه ـ لا يصير دليلا على حكم شرعيّ ، لأنّ الثابت به فيها إنّما هي الأحكام الجزئيّة ، وهي ليست ممّا ينبغي أن يؤخذ من الشارع لتكون شرعيّة ، ويكون المثبت لها دليلا على حكم شرعيّ ، إذ ما ينبغي أن يؤخذ من الشارع هي الأحكام الكلّية دون الجزئيّة.

نعم ، الاستصحاب فيها من الأمارات الظنّية المعتبرة بالعقل ، والبحث عنه من هذه الجهة في هذه المسألة استطراديّ ، كما يشهد به تمثيلهم له بعد تعريفه بوجدان المتيمّم الماء في أثناء الصلاة كما فعله العضدي ، أو بعدم كون المذي ناقضا للوضوء ، كما فعله العلّامة في النهاية.

وإن قلنا باعتباره من باب الأخبار ، فلا إشكال في كونه من القواعد الشرعيّة أو الأدلّة الشرعيّة على الوجهين المتقدّمين ، فيقال : هذا يقينيّ الحصول مشكوك البقاء ، وكلّ ما هو كذلك لا يجوز نقضه بالشكّ.

وهل هو على الأوّل من القواعد الاجتهاديّة الناظرة إلى الواقع والكاشفة عنه ظنّا ، أو من القواعد الفقاهيّة المتعبّد بها ، مع قطع النظر عن إفادتها الظنّ حتّى يكون من الاصول التعبّدية؟ وجهان مبنيّان على أنّ مؤدّى الأخبار الواردة في المقام هو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ من حيث حصول الظنّ ببقاء المتيقّن السابق ، كما احتمله المحقّق القمّي رحمه‌الله ، بل جعل شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين ـ في كلامه الآتي في كلام المصنّف رحمه‌الله ـ مناط حجّية الاستصحاب هو وصف الظنّ مع تمسّكه في اعتباره بالأخبار ، أو أنّ مؤدّاها التعبّد بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ.

وعلى تقدير كونه من الأدلّة العقليّة ، فإن قلنا بكون مؤدّى الأخبار هو إمضاء حكم العقل ، بأن كانت واردة في مقام إمضاء بناء العقلاء على العمل بالظنّ الحاصل بالبقاء في موارد الاستصحاب ، كما تقدّم احتماله من المحقّق القمّي رحمه‌الله ، يكون دليلا عقليّا وشرعيّا. وإن منعنا حكم العقل ، فمع تنزيل الأخبار على صورة

١٩

الظاهريّة الثابتة (٢٠٢١) للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ـ نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال ـ مبنيّ على استفادته من الأخبار ، وأمّا بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما.

______________________________________________________

حصول الظنّ يكون دليلا شرعيّا خاصّة أو قاعدة اجتهاديّة شرعيّة كذلك ، على الوجهين المتقدّمين. ومع تنزيلها على بيان الحكم تعبّدا يكون دليلا فقاهيّا أو قاعدة مبتدئة (*). وإن قلنا باختصاص الأخبار بالشبهات الموضوعيّة ، كما هو ظاهر تركهم التمسّك بها للمقام مع كونها بمرأى ومسمع منهم على ما عرفت ، يكون دليلا عقليّا خاصّة.

وعلى تقدير كونه مأخوذا من الأخبار مع حملها على الشبهات الموضوعيّة ، فإن قلنا بإفادتها لاعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، فمع تسليم حكم العقل أيضا فيها يكون قاعدة اجتهاديّة شرعيّة عقليّة. ومع منع حكم العقل فيها يكون قاعدة شرعيّة خاصّة. ومع عدم الاعتداد بأخبار الآحاد في إثبات المسائل الاصوليّة يكون عقليّة محضة.

وإن قلنا بإفادتها لاعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، فمع تنزيل حكم العقل عليه أيضا ، كما هو ظاهر من قال بأن ما ثبت دام ، يكون قاعدة فقاهيّة شرعيّة عقليّة أو دليلا كذلك. ومع عدم الاعتداد بأخبار الآحاد في المسائل الاصوليّة يكون عقليّة محضة. ومع منع حكم العقل يكون شرعيّة محضة. وبالجملة ، إنّ الخلاف في هذه المراتب واقع في كلماتهم يظهر من ملاحظة أقوالهم وأدلّتهم ، ومنشأ الجميع ما قدّمناه من التفصيل ، فلاحظ وتدبّر ، والله الهادي.

٢٠٢١. قد تقدّم الكلام في الفرق بين الحكم الظاهري والواقعي والدليل الاجتهادي والفقاهتي وغير ذلك فيما علّقناه على أوائل مسألة البراءة ، فراجع.

__________________

(*) كذا تقرأ الكلمة في الطبعة الحجريّة ، ولعلّها تصحيف : تعبّدية.

٢٠