فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لا بوصف كونها في يوم الجمعة ، بأن اعتبر الزمان الأوّل في المتيقّن من باب الظرفيّة دون التقييد.

وعلى الثاني ، يكون متعلّقهما متّحدا من جهة الزمان ، بمعنى كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما تيقّنه أوّلا بوصف وجوده في السابق ، فيكون الزمان الأوّل في المتيقّن معتبرا من باب التقييد دون الظرفيّة. واختلاف مناط اعتبار القاعدتين وعدم الجامع بينهما يمنع إرادتهما من لفظ واحد ، بناء على ما هو الحقّ من عدم جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد. ومع التسليم فهو محتاج إلى القرينة. وحيث كانت الأخبار صريحة في اعتبار القاعدة الاولى ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله ، فهو يمنع إرادة الثانية منها أيضا.

وأمّا ما ذكره في السؤال فحاصله : أنّ اختلاف مناط القاعدتين لا يستلزم كون نفس المناطين مرادين من اللفظ بخصوصهما ، لجواز التعبير عنهما بما يلزمانه ، كالمضيّ على اليقين عند عروض الشكّ مطلقا ، لأنّ المضيّ عليه في مورد الشكّ في البقاء هو البناء عليه ، وفي مورد الشكّ في الحدوث هو البناء عليه مع قطع النظر عن بقائه.

وأمّا ما أجابه به عن السؤال فحاصله : أنّ ظاهر الأخبار اعتبار اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ ، وكون الشكّ متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين. وقد أشرنا إلى أنّ متعلّقهما في مورد القاعدة الاولى متّحدان مع قطع النظر عن الزمان ، وفي مورد الثانية متّحدان من جهة الزمان ، بمعنى كون الشكّ في مورد الاولى متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين ، بإلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل حتّى يكون الشكّ في البقاء ، وفي مورد الثانية باعتبار خصوصيّة الزمان الأوّل حتّى يكون الشكّ في الحدوث. وحينئذ إذا حكم الشارع بالمضيّ على اليقين السابق ، وعدم الاعتناء بالشكّ في مورد الاولى ، فلا بدّ أن يكون حكمه بذلك من الحيثيّة الاولى ، أعني : حيثيّة إلغاء

٥٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

خصوصيّة الزمان الأوّل وكون الشكّ في البقاء ، وفي مورد الثانية لا بدّ أن يكون من الحيثيّة الثانية ، أعني اعتبار خصوصيّة الزمان الأوّل وكون الشكّ في الحدوث ، لا بمجرّد حصول اليقين والشكّ في مورد ، لما عرفت من ظهور الأخبار في اعتبار اتّحاد متعلّقهما ، وقد عرفت عدم تماميّته في مورد القاعدتين إلّا باعتبار إحدى الحيثيّتين.

ولا ريب في عدم جواز إرادة كلتا الحيثيّتين في المقام حتّى يدّعى شمول الأخبار للقاعدتين ، لتباينهما واختلافهما ، فلا بدّ من إرادة إحداهما ، فلا تشمل إلّا ما كان من قبيل الشكّ في البقاء خاصّة ، أو من قبيل الشكّ في الحدوث كذلك ، إذ لا ريب في عدم اجتماع نفس القبيلين في مورد واحد حتّى يستغني به عن لحاظ الاعتبارين في الأخبار. وإمكان ملاحظة اليقين الحاصل في مورد ـ كاليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ـ تارة مطلقا واخرى مقيّدا بالزمان ، لا يوجب تعدّده في الواقع حتّى يتعدّد على حسبه الشكّ المتعقّب له ، لأنّ تعدّد اليقين إنّما هو بتعدّد متعلّقه واقعا كعدالة زيد وفسق عمرو ، لا بتعدّد اللحاظ والاعتبار.

هذا غاية توضيح المقام على ما وصل إليه فهمي القاصر. وهو بعد لا يخلو من مناقشة أو منع ، لأنّ جميع ما تقدّم في الجواب إنّما يسلّم على تقدير اختلاف مناط القاعدتين على نحو ما تقدّم ، ولا دليل عليه ، إذ يحتمل أن يكون المناط فيها مجرّد حصول اليقين بشيء والشكّ فيه ، سواء اتّحد زمان حصولها ، كما قد يتّفق في مورد قاعدة الاستصحاب ، أم تعدّد بأن حصل الشكّ بعد اليقين ، كما هو كذلك غالبا في مورد تلك القاعدة ، ودائما في مورد القاعدة الثانية ، وسواء تعلّق الشكّ ببقاء المتيقّن السابق كما في مورد القاعدة الاولى ، أو بأصل حدوثه كما في مورد القاعدة الثانية. ولا ريب أنّه لا حاجة في تأدية هذه الكلّية إلى لحاظ الاعتبارات المختلفة ولا غيرها. ويشهد به عموم التعليل الوارد في الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الاولى : «فإنّه على يقين من وضوئه». بل ربّما يدّعى ظهور

٥٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام في صحيحته الثانية : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» في بيان القاعدة الثانية ، لأنّ مقتضى إلغاء المعقّبة اعتبار تأخّر الشكّ عن اليقين ، ولا يعتبر ذلك في مورد القاعدة الاولى. ولكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور ، لصراحة جملة من أخبار الباب بمقتضى موردها في الشمول للقاعدة الاولى.

نعم ، يمكن أن يستدلّ على القاعدة الثانية بخصوص ما رواه في الفقيه عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إن شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر ثلاثا صلّى أم أربعا ، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» لأنّ عموم العلّة يدفع خصوصيّة المورد.

فإن قلت : لعلّ المراد بالرواية بيان قاعدة الفراغ ، فلا دخل لها فيما نحن فيه.

قلت : يدفعه التقييد بقوله : «وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ» لعدم اعتبار اليقين بالإتيان بالفعل حين الانصراف في مورد قاعدة الفراغ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه لا يعتبر الانصراف والفراغ في مورد القاعدة الثانية أيضا ، فتعود الرواية بذلك مجملة ، لعدم ظهورها في خصوص إحدى القاعدتين. مضافا إلى ما ادّعاه بعض مشايخنا من مخالفة القاعدة الثانية للإجماع ، وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن عموم أخبار الباب على تقدير تسليم عمومها للقاعدتين اللهمّ إلّا أن يمنع انعقاد الإجماع عليه ، لأنّ غايته عدم مصرّح بالعمل بها إلى زمان السبزواري ، ودعوى الإجماع عليه بمجرّد ذلك مشكلة.

ولكنّك خبير بأنّه مع تسليم عدم صلاحيّة ذلك للتحدّث عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، لا ريب في صلاحيّته لصيرورته منشأ لإجمال الأخبار ، لأنّ عدم فهم الأصحاب للعموم منها يكشف عن خلل في إفادتها له ، فتدبّر.

٥٨٣

أنّ المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعها مناط واحد ؛ فإنّ مناط الاستصحاب هو اتّحاد متعلّق الشكّ واليقين مع قطع النظر عن الزمان ؛ لتعلّق الشكّ ببقاء ما تيقّن سابقا ، ولازمه كون القضيّة المتيقّنة أعني عدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة حين الشكّ أيضا من غير جهة الزمان. ومناط هذه القاعدة اتّحاد متعلّقيهما من جهة الزمان ، ومعناه كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما تيقّنه سابقا بوصف وجوده في السابق. فإلغاء الشكّ في القاعدة الاولى عبارة عن الحكم ببقاء المتيقّن سابقا حيث إنّه متيقّن من غير تعرّض لحال حدوثه ، وفي القاعدة الثانية هو الحكم بحدوث ما تيقّن حدوثه من غير تعرّض لحكم بقائه ، فقد يكون بقاؤه معلوما أو معلوم العدم أو مشكوكا.

واختلاف مؤدّى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد ، بأن يقول الشارع : إذا حصل بعد اليقين بشيء شكّ له تعلّق بذلك الشيء فلا عبرة به ، سواء تعلّق ببقائه أو بحدوثه ، واحكم بالبقاء في الأوّل وبالحدوث في الثاني ، إلّا أنّه مانع عن إرادتهما من قوله عليه‌السلام : «فليمض على يقينه» ، فإنّ المضيّ على اليقين السابق المفروض تحقّقه في القاعدتين ـ أعني عدالة زيد يوم الجمعة ، بمعنى الحكم بعدالته في ذلك اليوم من غير تعرّض لعدالته فيما بعده كما هو مفاد القاعدة الثانية ـ يغاير المضيّ عليه بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة من غير تعرّض لحال يوم الجمعة كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب ، فلا يصحّ إرادة المعنيين منه.

فإن قلت : إنّ معنى المضيّ على اليقين عدم التوقّف من أجل الشكّ العارض وفرض الشكّ كعدمه ، وهذا يختلف باختلاف متعلّق الشكّ ، فالمضيّ مع الشكّ في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث ، ومع الشكّ في البقاء بمعنى الحكم به. قلت : لا ريب في اتّحاد متعلّقي الشكّ واليقين وكون المراد المضيّ على ذلك اليقين المتعلّق بما تعلق به الشكّ ، والمفروض أنّه ليس في السابق إلّا يقين واحد وهو اليقين بعدالة زيد ، والشكّ فيها ليس له هنا فردان يتعلّق أحدهما بالحدوث والآخر بالبقاء.

٥٨٤

وبعبارة اخرى : عموم أفراد اليقين باعتبار الامور الواقعيّة كعدالة زيد وفسق عمرو ، لا باعتبار تعدّد ملاحظة اليقين بشيء (*) واحد حتّى ينحلّ اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلّق بكلّ منهما شكّ. وحينئذ ، فإن اعتبر المتكلّم في كلامه الشكّ في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة ، فالمضيّ على هذا اليقين عبارة عن الحكم باستمرار هذا المتيقّن ، وإن اعتبر الشكّ فيه مقيّدا بذلك اليوم ، فالمضيّ على ذلك المتيقّن الذي تعلّق به الشكّ عبارة عن الحكم بحدوثه من غير تعرّض للبقاء ، كأنّه قال : من كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشكّ فيها ، فليمض على يقينه السابق.

وقس على هذا سائر الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشكّ ، فإنّ الظاهر اتحاد متعلّق الشكّ واليقين ، فلا بدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك غير مقيّدين بالزمان ، وإلّا لم يجز استصحابه ، كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد.

والمفروض في القاعدة الثانية كون الشكّ متعلّقا بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق. ومن المعلوم عدم جواز إرادة الاعتبارين من اليقين والشكّ في تلك الأخبار.

ودعوى : أنّ اليقين بكلّ من الاعتبارين فرد من اليقين ، وكذلك الشكّ المتعلّق فرد من الشكّ ، فكل فرد لا ينقض بشكّه. مدفوعة : بما تقدّم من أنّ تعدّد اللحاظ والاعتبار في المتيقّن به السابق ، بأخذه تارة مقيّدا بالزمان السابق واخرى بأخذه مطلقا ، لا يوجب تعدّد أفراد اليقين. وليس اليقين بتحقّق مطلق العدالة في يوم الجمعة واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة فردين من اليقين تحت عموم الخبر ، بل الخبر بمثابة أن يقال : من كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته فشك فيه ، فليمض على يقينه بذلك ، فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة.

ثمّ إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ، فلا بدّ أن يخصّ مدلولها بقاعدة الاستصحاب ؛ لورودها في موارد تلك القاعدة ، كالشكّ في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوّال.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بشيء» ، لشيء.

٥٨٥

هذا كلّه ، لو اريد من القاعدة الثانية إثبات نفس المتيقّن عند الشكّ ، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة مثلا ، أمّا لو اريد منها إثبات عدالته من يوم الجمعة مستمرّة إلى زمان الشكّ وما بعده إلى اليقين بطروء الفسق ، فيلزم استعمال الكلام في معنيين أيضا ، حتّى لو اريد منه القاعدة الثانية فقط ، كما لا يخفى ؛ لأنّ الشكّ في عدالة زيد (٢٥٩٥) يوم الجمعة غير الشكّ في استمرارها إلى الزمان اللاحق. وقد تقدّم نظير ذلك في قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر".

ثمّ لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ؛ لأنّه إذا شكّ فيما

______________________________________________________

٢٥٩٥. حاصله : أنّ الحدوث موضوع والبقاء موضوع آخر ، فلا يصحّ أن يراد بقوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» وقوله «فليمض على يقينه» وغيرهما إنشاء حكمين : أحدهما : وجوب البناء على الحدوث عند الشكّ فيه ، وثانيهما : وجوب البناء في الظاهر على بقاء هذا الشيء المبنيّ على حدوثه إلى زمان الشكّ في بقائه ، لأنّ هذين المعنيين مختلفان محتاجان إلى موضوعين وإنشاءين ، والمفروض أنّه ليس في الخارج إلّا يقين واحد وشكّ واحد متعلّقان بحدوث مشكوك الحدوث. وليس لأحد أن يقول : إنّ هذا إنّما يتمّ إذا اريد به إنشاء حكمين ، وأمّا إذا اريد به إنشاء حكم واحد ، بأن اريد به وجوب ترتيب آثار الحدوث والبقاء إلى زمان اليقين بالخلاف عند الشكّ في الحدوث ، فلا يلزم عليه استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ آثار الحدوث والبقاء قائمة بنفس موضوع الحدوث والبقاء ، فجعل آثارهما في الظاهر عند الشكّ في الحدوث وكذا في البقاء على تقدير الحدوث ، لا بدّ أن يكون بإنشاءين وإن كان بلفظ واحد ، نظير إنشاء وجوبين بصيغة واحدة إن قلنا بجواز مثله. ولا معنى لإنشاء آثار الحدوث والبقاء عند الشكّ في الحدوث خاصّة ، إذ البقاء على تقدير الحدوث قد يكون معلوما ، وقد يكون عدمه معلوما ، وقد يكون مشكوكا ، فلا معنى لجعل آثاره بمطلق الشكّ في الحدوث.

٥٨٦

تيقّن سابقا أعني عدالة زيد في يوم الجمعة ، فهذا الشكّ معارض لفردين من اليقين ، أحدهما : اليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ، الثاني : اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة ، فتدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان ، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة ، فكلّ من طرفي الشكّ معارض لفرد من اليقين.

ودعوى : أنّ اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة ، والقاعدة الثانية تثبت وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق. مدفوعة : بأنّ الشك الطارئ في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمها ، عين الشكّ في انتقاض ذلك اليقين السابق. واحتمال انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ، فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه.

ثمّ إنّ هذا من باب التنزّل والمماشاة ، وإلّا فالتحقيق ما ذكرناه من منع الشمول بالتقريب المتقدّم ، مضافا إلى ما ربما يدّعى من ظهور الأخبار في الشكّ في البقاء.

بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية غير عموم هذه الأخبار (*) ، فنقول : إنّ المطلوب من تلك القاعدة إمّا أن يكون إثبات حدوث المشكوك فيه وبقائه مستمرّا إلى اليقين بارتفاعه ، وإمّا أن يكون مجرّد حدوثه في الزمان السابق بدون إثباته بعده ، بأن يراد إثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ، وإمّا أن يراد مجرّد إمضاء الآثار التي ترتبّت عليها سابقا وصحّة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه ، فإذا تيقّن الطهارة سابقا وصلّى بها ثمّ شكّ في طهارته في ذلك الزمان ، فصلاته ماضية.

فإن اريد الأوّل ، فالظاهر عدم دليل يدلّ عليه ؛ إذ قد عرفت أنّه لو سلّم اختصاص الأخبار المعتبرة لليقين السابق بهذه القاعدة ، لم يمكن أن يراد منها إثبات حدوث العدالة وبقائها ؛ لأنّ لكلّ من الحدوث والبقاء شكّا مستقلّا. نعم ، لو فرض القطع ببقائها على تقدير الحدوث ، أمكن أن يقال : إنّه إذا ثبت حدوث العدالة بهذه

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : لها.

٥٨٧

القاعدة ثبت بقاؤها ؛ للعلم ببقائها على تقدير الحدوث. لكنّه لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت ، فهو تقدير على تقدير.

وربّما يتوهّم الاستدلال لإثبات هذا المطلب بما دلّ على عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد تجاوز محلّه. لكنّه فاسد ؛ لأنّه على تقدير الدلالة (٢٥٩٦) لا يدلّ على استمرار المشكوك ؛ لأنّ الشكّ في الاستمرار ليس شكّا بعد تجاوز المحلّ. وأضعف منه الاستدلال (٢٥٩٧) له بما سيجيء من دعوى أصالة الصحّة في اعتقاد المسلم ، مع أنّه كالأوّل في عدم إثباته الاستمرار. وكيف كان ، فلا مدرك لهذه القاعدة بهذا المعنى.

______________________________________________________

٢٥٩٦. فيه إشارة إلى منع الدلالة على الصحّة أوّلا ، ومنع الدلالة على الاستمرار ثانيا. والوجه في الأوّل ما سيشير إليه في الموضع السابع من المواضع التي تكلّم فيها على قاعدة الفراغ ، فانتظره.

٢٥٩٧. وجه الأضعفيّة : أنّ الحمل على الصحّة فرع قابليّة المحمول للصحّة والفساد ، وصفة الاعتقاد ليست كذلك ، لأنّ المدار في جواز العمل به وعدمه على حصول نفس الصفة وعدمه ، وليس له قسم صحيح يجوز العمل به وقسم فاسد لا يجوز العمل به كالظنّ الخبري والقياسي ، حتّى يجب الحمل على الصحيح عند دوران الأمر بين الصحيح والفاسد منه. ومثله الكلام في الظنّ على القول بالظنون المطلقة. ومن هنا قد خصّصنا النزاع في مسألة الصحيح والأعمّ بما كان قابلا للوصفين ، احترازا عمّا لا يقبل إلّا أحدهما كالزنا وشرب الخمر ، إذ لا صحيح لهما.

فإن قلت : إذا حصل اليقين من الأمارات الشرعيّة التعبّدية مثل البيّنة والسوق ، فنفس صفة اليقين وإن لم تكن قابلة للصحّة والفساد ، إلّا أنّ مدركها قابل لذلك ، فيجوز حمله على الصحيح بعد زوال الاعتقاد.

قلت : إنّ المدار حينئذ على صفة اليقين ، وخصوصيّة المدرك غير ملحوظة ، لأنّ العمل بالبيّنة حينئذ من حيث كونها أحد أسباب اليقين لا من حيث خصوصيّتها ، حتّى

٥٨٨

وربّما فصّل بعض الأساطين (١١) (٢٥٩٨) : بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله وأنّه غير قابل للاستناد إليه وبين ما إذا لم يذكره ، كما إذا علم أنّه اعتقد في

______________________________________________________

تحمل على الصحيح عند الشكّ في مطابقة العمل الواقع على طبقها. مع أنّ هذا ليس حملا للاعتقاد على الصحيح على ما هو مفروض المقام.

نعم ، قضيّة الحمل إنّما يتأتّى في الظنون الخاصّة والعلوم الشرعيّة ، سواء كانت في الموضوعات أو الأحكام الكلّية ، كما إذا قامت البيّنة على طهارة ثوب أو دلّ الخبر على حكم كلّي فعمل على طبقهما ، فإذا زال هذا الاعتقاد وشكّ في صحّة المعتقد السابق من جهة عدم العلم بفساد مدركه ولا صحّته ، أمكن حمل الاعتقاد السابق على الصحّة. ولكنّ الشأن في إثبات هذه القاعدة. وقد يفرّع على قاعدة الشكّ الساري عدم وجوب تجديد النظر على المجتهد إذا شكّ في صحّة مدارك اجتهاده السابق ، من جهة عدم تذكّر مداركه ، فعلى عدم تماميّة هذه القاعدة ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ لا بدّ من القول بوجوب تجديد النظر.

وقد يستدلّ على عدم الوجوب أيضا بوجوه ضعيفة مقرّرة في محلّها. مع أنّ تفريع المسألة على القاعدة على إطلاقها غير صحيح ، لأنّ مستند وجوب النظر إن كان احتمال الخطأ في الاجتهاد ، كما إذا ظنّ عبارة الفقيه حديثا كما قد يتّفق ، أو الضعيف صحيحا ، أو غير ذلك من وجوه احتمال الخلل والخطأ في الاجتهاد السابق ، فهو متّجه. وإن كان احتمال زيادة القوّة الاستنباطيّة ، لأجل كثرة الممارسة وتتّبع أقوال العلماء وأدلّتهم أو نحو ذلك ، كما ربّما يعلّل وجوب النظر بذلك ، فلا مسرح للقاعدة فيه حينئذ أصلا ، بناء على كون مدركها قاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة في الاعتقاد كما هو الفرض ، إذ لا شكّ في صحّة الاجتهاد السابق على هذا التقدير بالنسبة إلى حالته الاولى ، لأنّ الشكّ إنّما هو في حجّية اجتهاد السابق بالنسبة إلى الحالة اللاحقة ، فتدبّر.

٢٥٩٨. هو صاحب كشف الغطاء في مسألة الوضوء وتوضيح الحال في ذلك :

٥٨٩

زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته ، ثمّ غاب المستند وغفل زمانا ، فشكّ في طهارته ونجاسته فيبني على معتقده هنا ، لا في الصورة الاولى. وهو وإن كان أجود من الإطلاق ، لكن إتمامه بالدليل مشكل.

______________________________________________________

أنّ الشاكّ في صحّة الاعتقاد السابق لا يخلو : إمّا أن يتذكّر مدرك اعتقاده السابق أو لا. وعلى الأوّل : إمّا أن يتبيّن فساده عنده أو لا. وعلى التقادير الثلاثة : إمّا أن يكون عاملا على طبقه أو لا. وعلى الأوّل : إمّا أن يكون متذكّر صورة العمل أو لا. فهذه صور تسع.

أمّا صورة عدم تذكّر مدركه مع عدم عمله أصلا ، فلا إشكال في عدم جواز ترتيب الآثار عليه في اللاحق ، لأنّ الدليل عليه إمّا الاستصحاب ، أو قاعدة الفراغ ، أو أصالة الصحة في الاعتقاد. والكلّ ضعيف. أمّا الأوّل ، فلفرض كون الشكّ ساريا. وأمّا الثاني ، فلفرض عدم تحقّق عمل منه في حال الاعتقاد ، وعدم شمول القاعدة لنفس الاعتقاد. وأمّا الثالث ، فلعدم الدليل على هذا الأصل. وأمّا مع العمل به في السابق فلا ريب أنّ قاعدة الفراغ تقتضي صحّة الأعمال السابقة مع عدم تذكّر صورتها. وأمّا معها فهو مبنيّ على جريانها في صورة التذكّر ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله في محلّه.

وأمّا صورة تبيّن فساد المدرك مع عدم العمل ، فهي كصورة عدم التذكّر مع عدم العمل. وأمّا مع العمل وعدم التذكّر فالظاهر صحّة العمل السابق ، لقاعدة الفراغ ، لأنّ فساد المدرك لا يستلزم فساد المدرك. وأمّا مع التذكّر ففيه ما عرفت. وأمّا ترتيب الآثار عليه في الأزمنة المتأخّرة فلا دليل عليه كما عرفت.

وأمّا صورة عدم تبيّنه مع عدم العمل فهي كسابقتها. وأمّا مع العمل فأولى بالصحّة مع عدم التذكّر. وأمّا معه ففيه ما عرفت. وأمّا ترتيب الآثار عليه في اللاحق فهو أيضا كما تقدّم. ولا يختلف الكلام على جميع التقادير بين الأحكام والموضوعات. وأمثلة الجميع واضحة.

٥٩٠

وإن اريد بها الثاني ، فلا مدرك له بعد عدم دلالة أخبار الاستصحاب ، إلّا ما تقدّم من أخبار عدم الاعتناء بالشكّ بعد تجاوز المحلّ ، لكنّها لو تمّت فإنّما تنفع في الآثار المترتّبة عليه سابقا ، فلا يثبت بها إلّا صحّة ما ترتّب عليها ، وأمّا إثبات نفس ما اعتقده سابقا ، حتّى يترتّب عليه بعد ذلك الآثار المترتّبة على عدالة زيد يوم الجمعة وطهارة ثوبه في الوقت السابق فلا ، فضلا عن إثبات مقارناته الغير الشرعيّة ، مثل كونها على تقدير الحدوث باقية.

وإن اريد بها الثالث ، فله وجه ؛ بناء على تماميّة قاعدة" الشكّ بعد الفراغ وتجاوز المحلّ" ، فإذا صلّى بالطهارة المعتقدة ، ثمّ شكّ في صحة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان ، بنى على صحّة الصلاة ، لكنّه ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق ؛ ولذا لو فرض في السابق غافلا غير معتقد بشيء من الطهارة والحدث بنى على الصحّة أيضا من جهة أنّ الشكّ في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به على المشهور بين الأصحاب ، خلافا لجماعة من متأخّري المتأخّرين كصاحب المدارك وكاشف اللثام (١٢) ، حيث منعا البناء على صحّة الطواف إذا شكّ بعد الفراغ في كونه مع الطهارة.

والظاهر كما يظهر من الأخير أنّهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل. ولعلّ بعض الكلام في ذلك سيجيء في مسألة أصالة الصحّة في الأفعال ، إن شاء الله.

وحاصل الكلام في هذا المقام هو أنّه إذا اعتقد المكلّف قصورا أو تقصيرا بشيء في زمان ـ موضوعا كان أو حكما ، اجتهاديّا أو تقليديّا ـ ثمّ زال اعتقاده ، فلا ينفع اعتقاده السابق في ترتّب آثار المعتقد ، بل يرجع بعد زوال الاعتقاد إلى ما يقتضيه الاصول بالنسبة إلى نفس المعتقد (٢٥٩٩) وإلى الآثار المترتبة عليه سابقا أو لاحقا.

______________________________________________________

٢٥٩٩. فإذا اعتقد فسق المجتهد قبل يوم الجمعة ، ثمّ اعتقد عدالته يوم الجمعة فصلّى معه وعمل بفتاواه ، ثمّ شكّ في يوم السبت في عدالته في ذلك اليوم ، لا يجوز له الصلاة معه والعمل بفتاواه ، في زمان الشكّ استصحابا لفسقه السابق ، ولكن يحكم بصحّة أعماله في يوم الجمعة ، لقاعدة الفراغ ، لحكومتها على استصحاب الفسق.

٥٩١

الثالث : أن يكون كلّ من بقاء ما احرز حدوثه سابقا وارتفاعه غير معلوم ، فلو علم أحدهما فلا استصحاب ، وهذا مع العلم بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعيّ واقعيّ واضح ، وإنّما الكلام فيما أقامه الشارع (٢٦٠٠) مقام العلم

______________________________________________________

٢٦٠٠. لا يخفى أنّ الدليل في مورد الاستصحاب ـ موافقا له أو مخالفا ـ إمّا فقاهتي أو اجتهاديّ. وسيجيء الكلام في الأوّل عند بيان تعارض الاصول.

وأمّا الثاني فالظاهر انعقاد الإجماع على تقديم الدليل الاجتهاديّ على الاستصحاب ، سواء قلنا باعتباره من باب التعبّد أو الظنّ نوعا أو شخصا. وفي وجه تقديمه وجوه أشار إليها المصنّف رحمه‌الله :

أحدها : وروده عليه إن أفاد العلم ، لرفعه موضوعه حقيقة ، وحكومته عليه إن لم يفده ، لأنّ معنى الحكومة ـ كما سيجيء في محلّه ـ حكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل المحكوم لو لا الحاكم ، كأدلّة العسر بالنسبة إلى سائر العمومات المثبتة للتكليف ، لأنّها مفسّرة ومبيّنة للمراد بسائر العمومات ، ومخصّصة لموضوعاتها بغير موارد العسر. فقول الشارع : صلّ وصم ونحوهما بعد ضمّها إلى أدلّة العسر بمنزلة أن يقال : يجب عليك الصلاة والصوم اللتين لا تستلزمان العسر. أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله المحكوم لو لا الحاكم ، مثل البيّنة القائمة في الموضوعات المشتبهة على طبق العمومات ، فإذا ورد : أكرم العدول ، واشتبه فرد بين كونه عادلا وفاسقا ، فإذا قامت البيّنة على عدالته ، يدخل هذا الموضوع المشتبه في جملة موضوعات عموم وجوب الإكرام ، فهي مبيّنة لموضوع وجوب الإكرام ، ومعمّم له لمعلوم العدالة والمشكوك الذي قامت عليه البيّنة.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الحكومة تارة بعنوان التخصيص في موضوع دليل ، واخرى بالتعميم فيه. وفيما نحن فيه إذا ورد خبرا وقامت البيّنة على طبق الحالة

٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

السابقة أو على خلافها ، فهما من حيث تنزيل مؤدّاهما منزلة الواقع ، وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف في مدلولها شرعا ، رافع لموضوع الاستصحاب وهو الشكّ ، فكأنّ الشارع قال في أدلّة الاستصحاب : لا تنقض اليقين بالشكّ ، بل تنقضه بيقين آخر مثله ، أو ما قامت عليه البيّنة أو ورد عليه الخبر مثلا.

وثانيها : تخصّصه به ، بمعنى ورود الأدلّة الاجتهاديّة ـ وإن كانت ظنّية ـ عليه. والتقريب فيه تصحيحا وتزييفا واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ، إلّا أنّ في إطلاق التخصّص على الورود نوع مسامحة ، لأنّ الظاهر من التخصص عدم شمول موضوع الدليل للآخر كما ستعرفه ، لا رفع أحدهما لموضوع الآخر ، كالأدلّة العلميّة بالنسبة إلى الاصول ، والفرق بينهما واضح.

وربّما يقال في تقريب التخصّص : إنّ الظاهر أنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وارد في مقام النهي عن النقض بترتيب آثار الشكّ عليه من البراءة والتخيير والاحتياط ، فلا دلالة فيه على النهي عن النقض بمثل خبر الواحد مثلا.

ويرد عليه : أنّ قوله عليه‌السلام : «بل تنقضه بيقين آخر مثله» قرينة على كون المراد بالشكّ في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» مقابل اليقين. مضافا إلى أنّ الشكّ أعمّ من الظنّ والاحتمال المساوي باتّفاق من أهل اللغة ، كما ادّعاه بعضهم ، فيشمل الأدلّة الاجتهاديّة الظنّية ، فلا بدّ أن يكون تقديمها على الاستصحاب إمّا من باب الحكومة كما عرفت أو التخصيص كما ستعرفه.

وثالثها : مع تسليم المعارضة بينهما بالعموم من وجه ، أنّ الترجيح للأدلّة الاجتهاديّة دون الاستصحاب ، فتخصّص بأدلّتها أخبار الاستصحاب ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أنّ من مرجّحات الدلالة كون أحد العامّين أقلّ أفرادا من الآخر ، ولا ريب أنّ خصوص كلّ من الأدلّة الاجتهاديّة أقلّ موردا من أدلّة الاستصحاب ، فتخصّص بها.

٥٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيهما : أنّ من جملة المرجّحات أيضا استلزام تقديم أحد الدليلين على الآخر إلغائه ، فيقدّم الآخر عليه حينئذ. ولا ريب أنّ تقديم الاستصحاب فيما نحن فيه مستلزم لذلك ، وذلك لأنّ الاستصحاب من حيث حكم المعارضة مع سائر الأدلّة مساو لسائر الاصول من البراءة والتخيير والاحتياط ، فلو قدّم عليها لزم تقديمها عليها أيضا ، فيلزم إلغاء سائر الأدلّة حينئذ لا محالة.

هذا كلّه إن قلنا باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد والأخبار. وإن قلنا باعتباره من باب الظنّ ، فيدلّ على تقديم الأدلّة الاجتهاديّة عليه ـ مضافا إلى الإجماع كما تقدّم ـ أنّ الدليل عليه حينئذ إمّا الغلبة والاستقراء ، أو بناء العقلاء. والأوّل في مورد معارضة الدليل الاجتهادي ممنوع ، لمنع غلبة اعتباره حينئذ. وكذا الثاني ، كيف لا وقد عرفت الإجماع على خلافه ، والعلماء من جملة العقلاء ، فكيف يدّعى بنائهم على خلاف ما أجمعوا عليه ، فتدبّر. مضافا إلى منع إفادة الاستصحاب للظنّ ولو نوعا مع قيام الدليل الظنّي على خلافه ، كما يظهر ممّا نقله المصنّف رحمه‌الله عن العضدي هنا من تعريفه. لكنّه ربّما يشكل بأنّ مقتضاه تقديم جميع الأمارات الظنّية غير المعتبرة عليه ، وهو خلاف طريقة العلماء طرّا ممّن لا يقول بالظّنون المطلقة. نعم ، لو قلنا باعتباره من باب الظنّ الشخصي ـ كما حكي عن شيخنا البهائي في الحبل المتين ـ اتّجه تقديمها عليه ، لانتفاء مناط اعتباره حينئذ.

هذا كلّه إن قلنا باعتبار الأخبار مثلا من باب الظنون الخاصّة. وإن قلنا باعتبارها من باب الظّنون المطلقة ففيه تفصيل ، لأنّ القائلين بالظنون المطلقة منهم من يقول مع ذلك باعتبار شطر من الظّنون من باب الخصوصيّة ، كظواهر الكتاب والخبر الصحيح الأعلائي ، لثبوت اعتبارهما بأدلّة خاصّة ، وإن قال في غيرهما بالظنون المطلقة ، وهذا هو المعروف بين أرباب هذا القول ، ومنهم من يقول باعتبار الجميع ـ حتّى ظواهر الكتاب ـ من باب الظّنون المطلقة ، كما يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله ، وإن لم أعرف سابقا له ولا لاحقا به في ذلك. وعلى

٥٩٤

بالواقع ؛ فإنّ الشكّ الواقعيّ في البقاء والارتفاع لا يزول معه ، ولا ريب في العمل به دون الحالة السابقة.

لكنّ الشأن في أنّ العمل به من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب أو من باب التخصّص؟ الظاهر أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور على أدلّة الاستصحاب ، وليس تخصيصا بمعنى رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض موارده ، كما ترفع

______________________________________________________

الأوّل ، فالدليل المخالف إن كان ثابتا من باب الظّنون الخاصّة فتقديمه على الاستصحاب على نهج ما عرفت ، وإن كان ثابتا بدليل الانسداد فهو كالطريقة الثانية. وعلى الثاني ، فالمدار على وصف الظنّ ، فيقدّم ما كان مفيدا له ، سواء كان هو الاستصحاب أو معارضه ، لفرض كون مناط اعتبار كلّ منهما هو الظنّ. اللهمّ إلّا أن يقال بعدم إفادة الاستصحاب للظنّ مع معارضة الدليل الاجتهادي ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما قدّمناه من الإجماع ربّما يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله منعه ، كما يظهر ممّا نقله عنه المصنّف رحمه‌الله. وهو ضعيف كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ الأخبار الواردة في المفقود من قبيل الأدلّة الفقاهيّة ، وما ذكرناه من الإجماع إنّما هو على تقديم الأدلّة الاجتهاديّة على الاستصحاب ، فلا تغفل.

ثمّ إنّ جميع ما قدّمناه إنّما هو فيما كان الدليل المقابل للاستصحاب دالّا على ارتفاع الحالة السابقة أو بقائها ، كما هو الغالب في الأدلّة الاجتهاديّة. وأمّا إن كان دالّا على عدم العمل بالحالة السابقة مع فرض الشكّ في بقائها وارتفاعها ، كالأخبار الدالّة على البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد ركعات الصلاة ، وكأخبار المفقود ، فلا إشكال في كونه مخصّصا لعموم أخبار الاستصحاب ، ولا تتأتّى فيه الوجوه المتقدّمة.

وبالجملة ، ما دلّ من الأدلّة الاجتهاديّة على بقاء الحالة السابقة أو ارتفاعها فهو في مقابل نفس الاستصحاب ، وما دلّ على عدم العمل على طبق الحالة السابقة مع فرض الشكّ فيها فهو في مقابل عموم أدلّة الاستصحاب.

٥٩٥

اليد عنها في مسألة الشكّ بين الثلاث والأربع ونحوها بما دلّ على وجوب البناء على الأكثر ، ولا تخصّصا بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب ؛ لأنّ هذا مختصّ بالدليل العلميّ المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب ، ومعنى الحكومة على ما سيجيء في باب التعادل والتراجيح : أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم (*) ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى. ففي ما نحن فيه ، إذا قال الشارع : " اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك" ـ والمفروض أنّ الشكّ موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ، فإنّ الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبيّنة برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبيّنة التي منها استصحاب الطهارة ، فكانّه قال : لا تحكم على هذا الشكّ بحكمه المقرّر في قاعدة الاستصحاب وأفرضه كالمعدوم.

وربّما يجعل العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص (**) ، بناء على أنّ المراد من" الشكّ" عدم الدليل والطريق ، والتحيّر في العمل ، ومع قيام الدليل الاجتهاديّ لا حيرة. وإن شئت قلت : إنّ المفروض دليلا قطعيّ الاعتبار ؛ فنقض الحالة السابقة به نقض باليقين.

وفيه : أنّه لا يرتفع التحيّر ولا يصير الدليل الاجتهاديّ قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلّا بعد إثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب ، وإلّا أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة أم لا ، ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة أم لا. ولا يندفع مغالطة هذا الكلام إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة ، كما لا يخفى.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : «وحاصله : تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه ، أو داخل في موضوعه منزلة الخارج منه في عدم ترتيب أحكام عليه. وقد اجتمع كلا الاعتبارين في حكومة الأدلّة الغير العلميّة على الاستصحاب مثلا».

(**) في بعض النسخ : بدل «التخصّص» ، التخصيص.

٥٩٦

وكيف كان ، فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب لا يخلو عن مسامحة (٢٦٠١) ؛ لأنّ مرجع ذلك بظاهره إلى عدم المعارض لعموم" لا تنقض" ، كما في مسألة البناء على الأكثر ، لكنّه ليس مراد هذا المشترط قطعا ، بل مراده عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.

ولعلّ ما أورده عليه المحقّق القمي قدس‌سره ـ من أنّ الاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فقد يرجّح عليه الدليل وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدهما على الآخر ، قال قدس‌سره : ولذا ذكر بعضهم في مال المفقود أنّه في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند بعضهم بل عند جمع من المحقّقين ، الدالّة على وجوب الفحص أربع سنين ـ مبنيّ على ظاهر كلامه من إرادة العمل بعموم" لا تنقض".

______________________________________________________

٢٦٠١. توضيحه : أنّ الدّليل على خلاف الحالة السابقة على وجهين :

أحدهما : أن يكون مقتضى الدّليل وجوب البناء على خلاف الحالة السابقة في مورد الشكّ ، بمعنى وجوب البناء على خلافها مع كون القضيّة مشكوكة ، مثل ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر عند الشكّ في ركعات الصلاة ، والأخبار الواردة في الفحص عن المفقود أربع سنين.

وثانيهما : أن يكون مقتضاه ارتفاع الحالة السابقة تنزيلا لمؤدّاه منزلة الواقع بحكم الشارع ، كمؤديات الأدلّة الاجتهاديّة المعتبرة شرعا القائمة على خلاف الحالة السابقة.

ثمّ إنّ شروط الاستصحاب على قسمين : قسم شرط لصحّة العمل به بعد فرض تحقّق موضوعه ، كاشتراط عدم معارضته بمثله. وقسم شرط لتحقّق موضوعه ، كاشتراط بقاء الموضوع. والوجه الأوّل من قبيل الأوّل والثاني من قبيل الثاني. ومن هنا يظهر أنّ جعل عدم الدليل على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب ، لا يتمّ إلّا أن يتسامح في التعبير عن شرط الجريان والتحقّق بشرط العمل.

٥٩٧

وأمّا على ما جزمنا به من أنّ مراده عدم ما يدلّ علما أو ظنّا على ارتفاع الحالة السابقة ، فلا وجه لورود ذلك ؛ لأنّ الاستصحاب إن اخذ من باب التعبّد ، فقد عرفت حكومة أدلّة جميع الأمارات الاجتهاديّة على دليله ، وإن اخذ من باب الظنّ ، فالظاهر أنّه لا تأمّل (٢٦٠٢) لأحد في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ عدم وجود أمارة في مورده على خلافه ؛ ولذا ذكر العضديّ في دليله : أنّ ما كان سابقا ولم يظنّ عدمه فهو مظنون البقاء (*). ولما ذكرنا لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له مع اعترافه بحجّيتها لو لا الاستصحاب ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات.

وأمّا ما استشهد به قدس‌سره من عمل بعض الأصحاب بالاستصحاب في مال المفقود وطرح ما دلّ على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده ، فلا دخل له بما نحن فيه (٢٦٠٣) ؛ لأنّ تلك الأخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب

______________________________________________________

٢٦٠٢. إن أراد بالظنّ الذي هو مناط اعتبار الاستصحاب الظنّ النوعي كما هو الظاهر ، فما ذكره هنا مناف لما ذكره في الأمر الثاني عشر من عدم منافاة الظنّ النوعي للظنّ بخلافه. وإن أراد به الشخصيّ منه فهو خلاف ظاهر العلماء كما اعترف به سابقا. وإن أراد به النوعي وبالأمارة الأمارة المعتبرة خاصّة ، ففيه : أنّ التفصيل في إفادة الاستصحاب للظنّ بين الأمارة المعتبرة وغيرها غير واضح المأخذ. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ما ذكره في الأمر الثاني عشر مبنيّ على التحقيق ، وما ذكره هنا مبنيّ على ظاهر المشهور من عدم عملهم بالاستصحاب في مقابل الأمارات المعتبرة بخلاف غيرها ، مع قولهم به من باب الظنّ.

٢٦٠٣. من اعتبار عدم قيام دليل على خلاف الحالة السابقة في جريان الاستصحاب ، وقد عرفت توضيحه قبل الحاشية السابقة ، فراجع.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : ونظيره في الأمارات الاجتهادية (الغلبة) ، فإنّ إلحاق الشيء بالأعمّ الأغلب أنّما يكون غالبا إذا لم تكن أمارة في موردها على الخلاف ، لكنّها أيضا واردة على الاستصحاب ، كما يعرف بالوجدان عند المتتبّع في الشرعيّات والعرفيّات.

٥٩٨

حياة المفقود ، وإنّما المقابل له قيام دليل معتبر (*) على موته ، وهذه الأخبار على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلّة الاستصحاب دالّة على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ، نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشك في عدد الركعات ، فمن عمل بها خصّص بها عمومات الاستصحاب ، ومن طرحها لقصور فيها (٢٦٠٤) بقي أدلّة الاستصحاب عنده على عمومها.

ثمّ المراد بالدليل الاجتهاديّ : كلّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث إنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة ، وتسمّى في نفس الأحكام" أدلّة اجتهادية" وفي

______________________________________________________

٢٦٠٤. الأولى في وجه الطّرح ـ بعد الاعتراف باعتبار الأخبار في نفسها وعمل جماعة بها ، كما تقدّم في كلام المحقّق القمّي رحمه‌الله ـ أن يقال : إنّ مقتضى إعمال قانون تعارض العامّ والخاصّ مطلقا وإن كان تقديم الأخبار المذكورة على عمومات الاستصحاب ، إلّا أنّ بعض الاصول والقواعد من اليقينيّات عند الفقهاء ، فلا يرفعون اليد عنها بورود خبر أو خبرين على خلافها ، ولذا طرحوا ما ورد من الأخبار في جواز تزويج أمة الزّوجة من دون إذنها ، وما ورد في جواز بيع الوقف ، وليس الوجه فيه إلّا أنّ عدم جواز التصرّف في ملك الغير من دون إذنه ، وكذا عدم جواز بيع الوقف ، في الجملة من المسلّمات المفروغ منها عندهم ، ولذا ذكر صاحب كشف الغطاء ـ فيما حكي عنه ـ في الأخبار الواردة في جواز بيع الوقف : أنّ تخصيص مثل هذه القاعدة بخبر أو خبرين خروج من مذاق الفقاهة.

وبالجملة إنّ ما ذكرناه في وجه عدم عمل المشهور بالأخبار المذكورة في مقابل الاستصحاب ، أولى ممّا ذكره صاحب الفصول ـ وتبعه المصنّف رحمه‌الله في ظاهر كلامه ـ في مقام الجواب عمّا ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله من أنّ عدم عملهم بالأخبار في مقابل الاستصحاب من أجل ضعف في سندها ، فلا تغفل.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : كالبيّنة.

٥٩٩

الموضوعات" أمارات معتبرة" ، فما كان ممّا نصبه الشارع غير ناظر إلى الواقع أو كان ناظرا ، لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ، فليس اجتهاديّا بل هو من الاصول ، وإن كان مقدّما على بعض الاصول الأخر. والظاهر أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل.

ومصاديق الأدلّة والأمارات في الأحكام والموضوعات واضحة غالبا. وقد يختفي ، فيتردّد الشيء بين كونه دليلا وبين كونه أصلا ، لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا إلى الواقع أو من حيث هو ، كما في اليد المنصوبة دليلا على الملك ، وكذلك أصالة الصحّة عند الشكّ في عمل نفسه بعد الفراغ ، وأصالة الصحّة في عمل الغير.

وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنّه من القواعد التعبّدية ، لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب ، لأنّا قد ذكرنا أنّه قد يكون الشيء الغير الكاشف منصوبا من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع ، إلّا أنّ الاختفاء في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه.

ثمّ إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة ، أعني : البراءة والاحتياط والتخيير ، إلّا أنّه قد يختفي وجهه على المبتدي ، فلا بدّ من التكلّم هنا في مقامات : الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاصول ، كاليد ونحوها. الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها. الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فيقع في مسائل : الاولى أنّ اليد (٢٦٠٥) مما لا يعارضها

______________________________________________________

٢٦٠٥. اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله وإن أتى من الكلام فيما يتعلّق بقاعدة اليد ما يناسب المقام ، إلّا أنّه لم يستوفه في فروعها وسائر ما يتعلّق بها ، فبالحريّ أن نقدّم الكلام أوّلا في بيان اعتبار القاعدة ومقدار عمومها ودلالتها وما يتبع ذلك ، ثمّ نشير إلى حكم تعارضها مع الاستصحاب. فالكلام هنا في مقامين :

٦٠٠