فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

الغليان ، فهناك لازم وملزوم وملازمة.

أمّا الملازمة وبعبارة اخرى : سببية الغليان لتحريم ماء العصير ، فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق. وأمّا اللازم وهي الحرمة ، فله وجود مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديريّ أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه ، وحينئذ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ، فلا أثر (٢٤٢٣) للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ، فأيّ

______________________________________________________

وثانيهما : مع التسليم أنّ الملازمة بين الحرمة والغليان ـ وكذا بين غيرهما في سائر موارد الاستصحاب التعليقيّة ـ موجودة فعلا في الزمان السابق ، فتستصحب إلى زمان الشكّ ، فيحكم بالحرمة الفعليّة على تقدير تحقّق الغليان.

فإن قلت : إنّ ترتّب اللازم على بقاء الملازمة على تقدير وجود الشرط ـ وهو الغليان ـ عقلي ، فلا يثبت بالاستصحاب.

قلت : هذا إنّما يتمّ على تقدير كون الملازمة عقليّة لا شرعيّة ، وإلّا فلا غرو في ترتيب اللازم على ملزومه الثابت بالأصل ، وإن كان ترتّبه عليه عقليّا ، ولذا يحكم بجواز الدخول في الصلاة باستصحاب (*) بعد ثبوت الطهارة ، وإن كان جواز الدخول بعد ثبوت الطهارة عقليّا.

نعم ، يرد عليه : أنّ ملازمة العصير على تقدير الغليان للحرمة عبارة عن حكم الشارع بالحرمة على تقدير الغليان ، وإلّا فنفس الملازمة أمر اعتباري منتزع عن حكم الشارع بالحرمة على تقدير الغليان ، سيّما على مذهب المصنّف رحمه‌الله من كون الأحكام الوضعيّة مطلقا اعتباريّة ، ولا معنى لاستصحاب الأمر الاعتباري ، وحينئذ ينحصر الأمر في استصحاب نفس الحرمة ، فيرجع الأمر بالاخرة إلى الجواب الأوّل.

٢٤٢٣. تفريع على ثبوت مدخليّة الوصف وتأثيره.

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، ولعلّه تصحيف : باستصحابه.

٤٠١

فرق (٢٤٢٤) بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شكّ في بقائها بعد صيرورته زبيبا؟

نعم ربّما يناقش في الاستصحاب المذكور تارة بانتفاء الموضوع (٢٤٢٥) وهو العنب ، واخرى بمعارضته باستصحاب الإباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه عليه بمثل

______________________________________________________

٢٤٢٤. جواب الشرط.

٢٤٢٥. في جميع موارد الاستصحابات التعليقيّة ، إذ الشكّ في بقاء اللازم التعليقي لا بدّ أن ينشأ من تغيّر في بعض أوصاف ملزومه وحالاته. وبالجملة ، إنّ المقصود ليس المناقشة في خصوص المثال ، وإلّا فهي غير قادحة في القول باعتبار الاستصحاب التعليقي بقول مطلق ، كعدم قدح انتفاء الموضوع في بعض الموارد في القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، بل المقصود دعوى وجود المانع في جميع موارده ، ومن جملتها ما هو المعروف من أنّ المسافر إذا دخل عليه الوقت قبل وصوله إلى حدّ الترخّص من وطنه أو محلّ إقامته ، وكان متمكّنا من الإتيان بالصلاة قبل الوصول إلى حدّ الترخّص ، فقد اختلفوا في أنّ تكليفه الإتمام نظرا إلى حال الأداء كما هو المشهور ، أو القصر نظرا إلى حال الوجوب كما اختاره غير واحد ، ومنهم صاحب المناهل ، قال في محكيّ كلامه : «إنّ تكليفه القصر ، نظرا إلى الاستصحاب التعليقي». وقال : «إنّ استصحاب التكليف المنجّز بالقصر لا يجوز ، لأنّ الشكّ في بقائه إنّما هو لأجل الشكّ في الموضوع ، لاحتمال كون الموضوع في التكليف بالقصر هو كونه مسافرا ، وقد انتفى في المقام. وأمّا الاستصحاب التعليقي فلا مانع منه ، فيحكم بكونه قصرا».

وأنت خبير بأنّ محذور انتفاء الموضوع مشترك بين كون الاستصحاب تنجيزيّا أم تعليقيّا. مضافا إلى منافاة ما ذكره هنا لما ذكره في مثال عصير الزبيب ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله. مع أنّ المسافرة عنوان في الأدلّة ، والحضر عنوان آخر قد رتّب الشارع على كلّ منهما حكما مغايرا للآخر ، فمع صدق عنوان الحضر يترتّب عليه

٤٠٢

الشهرة والعمومات (٢٤٢٦) ، لكنّ الأوّل لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر ، والثاني فاسد ؛ لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل الغليان.

فالتحقيق : أنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في اعتباره من حيث الأخبار أو من حيث العقل بين أنحاء تحقّق المستصحب ، فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب وشكّ في ارتفاعه ، فالأصل بقائه ، مع أنّك عرفت : أنّ الملازمة وسببيّة الملزوم للّازم موجود بالفعل ، وجد الملزوم أم لم يوجد ؛ لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ، وهذا الاستصحاب غير متوقّف على وجود الملزوم. نعم ، لو اريد إثبات وجود الحكم فعلا في الزمان الثاني اعتبر إحراز الملزوم فيه ؛ ليترتّب عليه

______________________________________________________

حكمه ، فلا يبقى للاستصحاب مجال حينئذ ، سواء كان تنجيزيّا أم تعليقيّا.

وكيف كان ، يرد على المناقشة المذكورة ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ أنّ الشكّ في بقاء اللازم قد ينشأ من الشكّ في وجود المانع أو مانعيّة الموجود ، لوضوح عدم انحصار منشأ الشكّ فيه في الشكّ في الموضوع. ومع التسليم يمكن تصحيح بقاء الموضوع بالمسامحة العرفيّة على مذاق المشهور ، لمسامحتهم فيه في كثير من الموارد.

٢٤٢٦. الدالّة على الطهارة والحلّية. ولا يخفى أنّ الترجيح في تعارض الاصول غير صحيح ، سواء كان المرجّح من سنخها أم لا ، بأن كان المرجّح أيضا تعبّديا كالاصول ، أم كان ظنّيا كما سيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى. ومنه يظهر ضعف الترجيح بالعمومات أيضا ، سواء أراد بها العمومات الاجتهاديّة ، مثل قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً). وقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أم فقاهيّة مثل قوله عليه‌السلام «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». وأمّا الترجيح بالشهرة فهو أضعف من الترجيح بالعمومات ، لعدم ثبوت اعتبارها مطلقا ، لا في مقام الترجيح كما عرفت ، ولا في مقام الاستدلال ، وهو واضح.

٤٠٣

بحكم الاستصحاب لازمه ، وقد يقع الشكّ (٢٤٢٧) في وجود الملزوم في الآن اللاحق ؛ لعدم تعيّنه واحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يتراءى أنّه ملزوم.

الأمر الخامس : أنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة (٢٤٢٨) ؛ إذ المقتضي موجود وهو جريان

______________________________________________________

٢٤٢٧. كما إذا غلى العصير بنفسه أو بالشمس ، وشكّ في اشتراط كون الغليان بالنار في الحرمة وحينئذ لا بدّ في الحكم ، بترتّب اللازم على ملزومه فعلا من إثبات وجود الملزوم في الخارج.

٢٤٢٨. لا يخفى أنّ طريق ثبوت الحكم في الشريعة السابقة حتّى يكون موردا للاستصحاب ، إمّا الكتاب أو الخبر المتواتر أو الآحاد ، بناء على شمول أدلّة اعتبارها لإثبات اعتبارها بالنسبة إلى إثبات أحكام الشرائع السابقة ، وعدم انصراف إطلاقها إلى إثبات أحكام شرعنا. وأمّا سائر الكتب السماويّة من الإنجيل والتوراة والزبور فلا اعتداد بها اليوم ، لدسّهم فيها ما ليس منها ، وتحريفهم لها عمّا نزلت عليه. وأمّا أخبار اليهود والنصارى فلا يفيد العلم. ولا اعتداد بالظنّ ، مع أنّه لا يفيده أيضا.

ثمّ إنّ محلّ الكلام إنّما هو ما لم يثبت بقائه أو ارتفاعه في شرعنا ، وإلّا لم يكن موردا للاستصحاب ، وهو واضح. فلو كان الخطاب المثبت للحكم في الشريعة السابقة شاملا بعمومه لشرعنا أيضا لم يكن من محلّ النزاع في شيء ، كما إذا ورد الخطاب لا لمجرّد الحكاية عن الشريعة السابقة ، بل في مقام مدح الفعل وحسنه بالذات الكاشف عن حسنه مطلقا حتّى في شرعنا ، كما مدح الله تعالى يحيى بترك التزويج في قوله إنّه كان (سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). قيل : الحصور من لم يأت النساء. ومن هنا يظهر أنّ ما يتوهّم في المقام من تثليث الأقوال في المسألة : القول بالموجب مطلقا ، والنفي كذلك ، والتفصيل بين ما كان الخطاب عامّا لشرعنا أيضا وعدمه ، بالقول باعتبار الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ،

٤٠٤

دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا ، عدا امور (٢٤٢٩):

______________________________________________________

خروج من المتنازع فيه فالأصحّ انحصار القول في النفي والإثبات المطلقين.

والأوّل يظهر من المحقّق في الشرائع ، فإنّه بعد أن حكم باستحباب النكاح لمن طاقت نفسه من الرجال والنساء ذكر الخلاف فيمن لم يتق ، ونسب إلى المشهور استحبابه بوجوه مذكورة فيها. ثمّ ذكر احتجاج المانع بأنّ وصف يحيى عليه‌السلام بكونه حصورا يؤذن باختصاص هذا الوصف بالرجحان ، فحمل على ما إذا لم تتق النفس. وقال : «ويمكن الجواب بأنّ المدح بذلك في شرع غيرنا لا يلزم منه وجوده في شرعنا». وهو كما ترى ظاهر في عدم حكمه ببقاء الحكم بالاستصحاب. وظاهره عدم جريان الاستصحاب من حيث هو في المقام ، لا من جهة قيام الدليل على الاستحباب المانع من استصحابه.

والثاني منسوب إلى بعض العلماء. ويظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله ابتناء القولين على كون حسن الأشياء ذاتيّا وعدمه ، فيصحّ التمسّك بالاستصحاب على الأوّل دون الثاني. وسيجيء الكلام فيه عند شرح أدلّة المانعين.

٢٤٢٩. منها : ما حكي عن الفاضل النراقي من تعارض استصحاب الوجود والعدم ، بالتقريب الذي تقدّم في الأمر الثاني مع تضعيفه.

ومنها : ما حكي عن بعضهم من دعوى انصراف أخبار الباب إلى إثبات أحكام شرعنا دون غيره. هذا إن قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار. وإن قلنا باعتباره من باب الظنّ وبناء العقلاء ، فربّما يدّعى أيضا أنّ المتيقّن من بنائهم هو استصحاب أحكام شرعنا دون غيره.

وفيه : أنّ منشأ انصراف المطلقات إلى بعض أفرادها إمّا كثرة استعمالها في الأفراد الشائعة ، أو كثرة وجودها. وكلا الأمرين غير متحقّقين في المقام وأمّا بناء العقلاء ، فمع عدم تماميّته في نفسه كما تقدّم عند بيان أدلّة القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، نمنع اختصاصه باستصحاب أحكام شرعنا.

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : ما ذكره في الفصول ، قال : «ويمكن أن يجاب أيضا بأنّ الظاهر من نسخ هذه الشريعة للشريعة السابقة عليها نسخها بالكلّية ، إلّا ما قام الدليل على عدم نسخه ، كوجوب المعارف. مع احتمال تعميم النسخ إلى الجميع ، بناء على أنّ وجوب المعارف وشبهه الثابت في شرعنا حادث مغاير للوجوب الثابت في الشرع السابق ، وأنّه مماثله ، فنحن مكلّفون بالمعارف وشبهها من حيث ثبوتها في شرعنا لا من حيث ثبوتها في الشرائع السابقة.

وفيه : أنّ احتمال نسخ هذه الشريعة للشرائع السابقة بالكلّية حتّى بالنسبة إلى وجوب المعارف ـ مع بعده في نفسه ـ مخالف للآيات الآمرة باتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام والاقتداء بهدى الأنبياء عليهم‌السلام. وأمّا دعوى نسخها للأحكام الفرعيّة للشرائع السابقة بالكلّية ، حيث ادّعي ظهور الأدلّة في نسخ الجميع إلّا ما أخرجه الدليل ، ففيها : منع وجود دليل ظاهر في نسخ الجميع. نعم ، الأخبار الدالّة على بيان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع الأحكام حتّى أرش الخدش موجودة ، إلّا أنّها لا تنافي عدم نسخ الجميع.

ومنها : أنّه لو جاز استصحاب أحكام الشرائع السابقة لم يجز العمل بأصالة البراءة في شرعنا إلّا بعد الفحص عن أحكام الشرائع السابقة ، لاشتراط العمل بها بالفحص عن الأدلّة ، ومقتضاه الرجوع إلى كتب أهل الكتاب ثمّ العمل بها إن لم يوجد فيها حكم مخالف لها ، وهو مخالف لطريقة الفقهاء طرّا في أبواب الفقه ، إذ لم يعهد ذلك من أحد منهم.

وفيه : أنّ وجوب الفحص مشروط بإمكانه ، وهو غير ممكن في المقام ، لتحريف الكتب المنزلة في زماننا ووضعها في غير موضعها ، فالعمل بها مستلزم للوقوع في خلاف الواقع غالبا.

فإن قلت : إنّه مع عدم إمكان الفحص فيما يجب ذلك فيه يجب فيه الاحتياط بحكم العقل ، كما أنّ المجتهد إذا لم يجد كتب الأخبار أو المقلّد إذا لم يجد المجتهد ،

٤٠٦

منها : ما ذكره بعض المعاصرين (١٢) (٢٤٣٠) ، من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن استصحابه في حقّ آخرين ؛ لتغاير الموضوع ، فإنّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه ، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين ، بالإجماع والأخبار الدالة على الشركة ، لا بالاستصحاب.

وفيه : أوّلا : أنّا نفرض الشخص الواحد (٢٤٣١) مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقّه شيء سابقا وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا ؛ فإنّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الاولى (*). وثانيا : أنّ اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلّا لم يجر استصحاب عدم النسخ.

______________________________________________________

يجب عليهما الاحتياط ، ومجرّد عدم التمكّن لا يوجب العمل بأصالة البراءة ، كذلك فيما نحن فيه أيضا إذا لم يمكن الرجوع إلى الكتب المنزّلة يجب الاحتياط في مورد الشكّ لا العمل بأصالة البراءة ، وهو غير معهود من طريقتهم أيضا.

قلت : إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو علم إجمالا بوجود الناسخ في أحكام شرعنا فيما لم يعلم حكمه من شرعنا بالتفصيل ، وهو ممنوع. والتقريب فيه يظهر ممّا أجاب به المصنّف رحمه‌الله عن الدليل الثاني من أدلّة المانعين ، فراجع ولا تغفل.

٢٤٣٠. هو صاحب الفصول.

٢٤٣١. ويتمّ المطلوب في غير المفروض بعدم القول بالفصل.

فإن قلت : إنّه يمكن قلب الإجماع ، بأنّ أصالة البراءة فيمن لم يدرك الشريعتين تقتضي عدم توجّه الحكم الثابت في الشريعة السابقة إليه. ويتمّ المطلوب فيمن أدرك الشريعتين بعدم القول بالفصل.

قلت : إنّ ضميمة الشطر الأوّل من الإجماع أقوى من ضميمة الشطر الآخر ، فلا يصحّ القلب كما قرّر في محلّه.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فإنّ الشريعة الى الشريعة الاولى» ، وفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد اللاحقة نادر بل غير واقع.

٤٠٧

وحلّه : أنّ المستصحب (٢٤٣٢) هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعا (*) ، غاية الأمر احتمال مدخليّة بعض (٢٤٣٣) أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم ، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات ، بل في جميع موارد الشكّ من غير جهة الرافع. وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين ، فليس مجرى للاستصحاب حتّى يتمسّك به ؛ لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين والغائبين ليس بالزمان (٢٤٣٤) ، ولعلّه سهو من قدس‌سره.

وأمّا التسرية من الموجودين إلى المعدومين ، فيمكن التمسّك فيها بالاستصحاب بالتقريب المتقدّم (٢٤٣٥) ، أو بإجرائه فيمن بقي (٢٤٣٦)

______________________________________________________

٢٤٣٢. توضيحه : أنّ موضوع الحكم المستصحب هو كلّي المكلّفين أو صنف خاصّ منهم ، كالرجال أو النساء أو المسافر أو الحاضر ونحو ذلك ، لا الأشخاص الموجودين حين صدور الحكم. نعم ، من يتجدّد منهم يندرج تحت هذا الكلّي ، لا أنّ المتجدّد موضوع آخر يحتاج إثبات الحكم في حقّه إلى إنشاء آخر ، وإلّا لم يصحّ استصحاب عدم النسخ عند الشكّ فيه.

٢٤٣٣. مثل كونهم أمّة للنبيّ السابق أو نحو ذلك.

٢٤٣٤. لاتّحاد زمان الحاضر والغائب ، لفرض وجودهما في زمان واحد. وقلمه قدس‌سره.

الحاصل : أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، وعدم اختلافهما إلّا من جهة الزمان ، حيث يعتبر في جريانه حصول اليقين بوجود المستصحب في السابق والشكّ في بقائه في اللّاحق. وتغاير الحاضر والغائب إنّما هو بالحضور والغيبة دون الزمان ، لفرض اتّحاد زمانهما على ما عرفت.

٢٤٣٥. من عدم مدخليّة أشخاص الجماعة في الحكم الكلّي.

٢٤٣٦. لا يخفى أنّ الثابت بالاستصحاب في حقّ من أدرك زمان الموجودين

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فإنّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الاولي.

٤٠٨

من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ، ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة.

ومنها : ما اشتهر من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء (١٣). وفيه : أنّه إن اريد نسخ كلّ حكم إلهيّ من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع (٢٤٣٧) ، وإن اريد نسخ البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب.

فإن قلت : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية ، فيعلم بوجود المنسوخ (٢٤٣٨) في غيره. قلت : لو سلّم ذلك ،

______________________________________________________

والمعدومين هو الحكم الظاهري في مورد الشكّ. وحينئذ إن اريد بإثبات الحكم في حقّ غيره بعدم القول بالفصل إثبات هذا الحكم الظاهري ، فهو ـ مع كونه أخصّ من المدّعى ـ فرع تحقّق موضوعه فيمن لم يدرك زمان الموجودين ، وهو غير معقول ، لأنّه فرع إدراك الزمانين حتّى يفرض كونه شاكّا في بقاء الحكم السابق ، فلا يعقل إسراء حكم المدرك للزمانين إلى غيره ، والإجماع على اتّحاد حكم أهل الشريعة الواحدة إنّما هو مع اتّحاد الصنف لا مطلقا. وإن اريد به إثبات سائر الأحكام الواقعيّة الثابتة للحاضرين فلا سبيل إليه ، لأنّه فرع إثباتها في حقّ مدرك الزمانين حتّى يتسرّى منه إلى المعدومين ، وطريق إثباتها في حقّه ليس إلّا الاستصحاب ، وقد عرفت عدم إمكان تسرية الحكم الظاهري الثابت في حقّه بواسطته إلى غيره ، فضلا عن تسرية الأحكام الواقعيّة منه إليه.

٢٤٣٧. يشهد به عدم صحّة النسخ بالنسبة إلى المستقلّات العقليّة مضافا إلى جملة من الآيات والأخبار ، مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

٢٤٣٨. فمع العلم الإجمالي بوجود المنسوخ في غير المعلوم تفصيلا لا يبقى مجرى للاستصحاب في المشكوكات ، إمّا لعدم شمول أدلّته لصورة العلم الإجمالي ، أو

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لكونه سببا لتعارضه بمثله على المسلكين في الشبهة المحصورة.

وحاصل ما أجاب به يرجع إلى وجهين :

أحدهما : منع وجود العلم بالنسخ في غير المعلوم نسخه تفصيلا ، لأنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو قبل مراجعة الأدلّة وتمييز الناسخ من أحكام شرعنا لأحكام الشريعة السابقة ، وإلّا فبعد المراجعة إليها وتمييز الناسخ منها لا يبقى لنا علم بالناسخ في المشكوكات ، نظير أنّا قد علمنا إجمالا بورود المخصّص على العمومات ، ولكن هذا العلم الإجمالي إنّما هو قبل الفحص عن مظانّ المخصّص ، وإلّا فبعد الفحص عنه والاطّلاع على جملة من المخصّصات ، وحصول العلم بعدم ورود المخصّص على جملة اخرى من العمومات ، لا يبقى علم إجمالي بوجود المخصّص في المشكوكات. فكما أنّ العلم الإجمالي هنا إنّما هو قبل الفحص ، وإلّا فهو بعده ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، كذلك فيما نحن فيه.

ولكنّك خبير بأنّ هذه الدعوى إنّما تتمّ لو حصل العلم بأحكام الشريعة السابقة ، حتّى يعرف بذلك الناسخ من أحكامنا لأحكامها ، ولكن سبيل العلم بذلك منسدّ غالبا في أمثال زماننا ، لعدم الاعتداد بالكتب السماويّة المنزّلة في سائر الشرائع في أمثال زماننا ، لما أشرنا إليه سابقا من وقوع التحريف فيها ، ولا اعتداد بأخبار اليهود والنصارى وغيرهم من أهل سائر الملل ، وما ورد من طرق شرعنا من أحكام سائر الشرائع المخالفة لأحكام شرعنا قليل جدّا لا يرتفع به العلم الإجمالي. ومن هنا يظهر أيضا أنّ قياس ما نحن فيه على مسألة الفحص عن المخصّص قياس مع الفارق.

وثانيهما : مع التسليم أنّ من مشكوكات النسخ ما علم حكمه في شرعنا موافقا أو مخالفا بالأدلّة الشرعيّة. وأمّا الباقي منها فليس فيه علم إجمالي بوجود الناسخ فيه حتّى يمنع من جريان الاستصحاب فيه.

٤١٠

لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات (٢٤٣٩) ؛ لأنّ الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة واجبة العمل سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فأصالة عدم النسخ فيها غير محتاج إليها ، فيبقى أصالة عدم النسخ في محلّ الحاجة سليمة عن المعارض ؛ لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج إليه ، فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ، ولأجل ما ذكرنا استمرّ بناء المسلمين في أوّل البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتّى يطّلعوا على الخلاف.

إلّا أن يقال (٢٤٤٠) : إنّ ذلك كان قبل إكمال شريعتنا ، وأمّا بعده فقد جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها ، فنحن مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا أم مخالفا ؛ لأنّه مقتضى التدين بهذا الدين. ولكن يدفعه : أنّ المفروض حصول الظنّ المعتبر من الاستصحاب ببقاء حكم الله السابق في هذه الشريعة ، فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولو بنينا على الاستصحاب تعبّدا فالأمر أوضح ؛ لكونه حكما كلّيا في شريعتنا بإبقاء ما ثبت في السابق.

______________________________________________________

٢٤٣٩. يعني : الأحكام المشكوكة التي لم تثبت بالأدلّة الشرعيّة.

٢٤٤٠. الظاهر أنّ المراد أنّه بعد إكمال شرعنا ومجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع ما يحتاج إليه الامّة يجب الإذعان والتديّن به ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها ، فلا يبقى حينئذ مورد للاستصحاب ، لأنّه فرع حصول الشكّ في ثبوت الحكم المستصحب في شرعنا ، وقد فرضنا علمنا بمجيء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ واقعة بحكم مخصوص ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها.

وحاصل الدفع : أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ لو علمنا بأحكام جميع الوقائع في شرعنا. وأمّا مع الجهل بحكم بعضها مع علمنا بحكمه في الشريعة السابقة ، فالاستصحاب يقضي بكون حكم هذه الواقعة في شرعنا ما ثبت من حكمها في الشريعة السابقة.

٤١١

ومنها : ما ذكره في القوانين (٢٤٤١) من أنّ جريان الاستصحاب مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق : أنّه بالوجوه والاعتبارات (١٤). وفيه : أنّه إن اريد (٢٤٤٢) ب" الذاتيّ" المعنى الذي ينافيه النسخ وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ، فهذا المعنى ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع

______________________________________________________

وأنت خبير بأنّه لو قيل في تقريب المقام إنّه بعد إكمال شرعنا قد علمنا بكونه ناسخا لجميع أحكام الشرائع السابقة ، وغاية الأمر أنّ ما ثبت في شرعنا موافقا للشريعة السابقة فهو مثله لا عينه ، كما تقدّم سابقا عن صاحب الفصول لما يندفع بما ذكر ، لاشتراط اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها في جريان الاستصحاب ، فلا يجري مع المغايرة وإن تماثلتا. نعم ، يمكن دفعه مع عدم جريانه في المستقلّات العقليّة بما أجبنا به سابقا عن صاحب الفصول ، فراجع.

٢٤٤١. قال : «وهو مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا ، وهو ممنوع ومناف للقول بالنسخ. بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبارات ، وإن كنّا لا نمنع الذاتيّة في بعض الأشياء ، لكن إعمال الاستصحاب لا يمكن إلّا مع قابليّة المحلّ كما سيجيء» انتهى. ومراده بآخر كلامه أنّ حسن بعض الأشياء لمّا كان ذاتيّا وبعضها بالوجوه والاعتبار ، وكان جريان الاستصحاب في المقام مبنيّا على الأوّل ، ففي مورد لم يعلم كونه من أحد القبيلين لا يجوز التمسّك به ، لعدم العلم بقابليّة المحلّ.

وأنت خبير بأنّ دعوى عدم جريان الاستصحاب على القول بالوجوه والاعتبار ممّا لا وجه له ، إذ يمكن استصحاب نفس حسن الفعل الثابت في السابق. مضافا إلى أنّ القول بكون حسن بعض الأشياء ذاتيّا وبعض آخر بالوجوه والاعتبار ، لو منع جريان الاستصحاب لمنعه في جميع أحكام شرعنا إلّا فيما ثبت كون حسنه ذاتيّا ، إن سلّمنا جريانه على هذا التقدير ، مع أنّه فاسد أيضا كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله.

٢٤٤٢. توضيحه : أنّ الحسن الذاتي يطلق تارة على ما كانت الطبيعة فيه

٤١٢

عنه ؛ للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل الارتفاع. وإن اريد غيره فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات ؛ فإنّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة.

ثمّ إنّ جماعة (١٥) رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشك تبعا لتمهيد القواعد (١٦) ثمرات :

منها : إثبات وجوب نيّة الإخلاص في العبادة بقوله تعالى ـ حكاية عن تكليف أهل الكتاب ـ : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ (٢٤٤٣)

______________________________________________________

علّة تامّة له ، كحسن الصدق النافع وقبح الكذب المضرّ ، واخرى على ما كانت الطبيعة فيه مقتضية له ، بأن كانت فعليّة الحسن مشروطة بوجود شرط مفقود أو فقد مانع موجود. والفرق بينه وبين القول بالوجوه والاعتبار : أنّ الحسن على الثاني قد ينشأ من اقتران الفعل ببعض الامور الخارجة ، وإن لم تكن نفس الفعل من حيث هي مقتضية له. وعلى الأوّل لا معنى للاستصحاب ، للقطع ببقاء الحكم حينئذ. وعلى الثاني لا وجه لمنع جريانه ، لفرض صلاحيّة حسن الفعل للبقاء والارتفاع ببعض الامور الخارجة.

وإذا قلنا بجريانه على الثاني فلا بدّ أن نقول بجريانه على الثالث أيضا ، لاشتراك العلّة. وإذا قلنا بعدم جريانه على الثالث لم يتحقّق له مورد أصلا ، لأنّ حسن المستصحب إن كان ذاتيّا بالمعنى الأوّل ، فقد عرفت عدم جريان الاستصحاب معه ، وإن كان ذاتيّا بالمعنى الثاني ، فقد عرفت عدم الفرق بينه وبين القول بالوجوه من هذه الجهة ، فإذا كان القول بالوجوه مانعا منه ، فلا بدّ أن يكون القول بالذاتيّة بالمعنى المذكور أيضا كذلك ، فلا يبقى مورد للاستصحاب أصلا.

٢٤٤٣. قال الطريحي : «الحنيف المسلم المائل إلى الدين المستقيم ، والجمع حنفاء. والحنيف المسلم ، لأنّه يحنف ، أي : تحرّى الدين المستقيم. والحنف محرّكة الاستقامة ، ومنه قوله : دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حنيف ، أي : مستقيم لا عوج فيه. والحنيف

٤١٣

وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (١٧) (٢٤٤٤).

ويردّ عليه بعد الإغماض (٢٤٤٥) عن عدم دلالة الآية على وجوب الإخلاص بمعنى القربة في كلّ واجب ، وإنّما تدلّ على وجوب عبادة الله خالصة عن الشرك ، وبعبارة اخرى : وجوب التوحيد ، كما أوضحنا ذلك في باب النية من الفقه أنّ الآية إنّما تدلّ على اعتبار الإخلاص في واجباتهم ، لا على وجوب الإخلاص عليهم في كلّ واجب ، وفرق بين وجوب كلّ شىء عليهم لغاية الإخلاص وبين وجوب قصد الإخلاص عليهم في كلّ واجب. وظاهر الآية هو الأوّل ، ومقتضاه أنّ تشريع الواجبات لأجل تحقّق العبادة على وجه الإخلاص ، ومرجع ذلك إلى كونها لطفا. ولا ينافي ذلك كون بعضها بل كلّها توصليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة. ومقتضى الثاني : كون الإخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ، وهو المطلوب. هذا كلّه ، مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ، بناء على تفسيرها بالثابتة التي لا تنسخ.

______________________________________________________

عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه‌السلام وأصل الحنف الميل ، ومنه «بعثت بالحنيفيّة السمحة السهلة» أي : المستقيمة المائلة عن الباطل إلى الحقّ».

٢٤٤٤. قال الطريحي : «وقال الشيخ أبو علي : وقيل : دين الملّة القيّمة والشريعة القيّمة. وقال نضر بن شميل : سألت الخليل عن هذا فقال : القيّمة جمع قيّم ، والقيّم والقائم واحد ، فالمراد : وذلك دين القائمين لله بالتوحيد». ثمّ قال : «وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر ، لأنّ فيها تصريحا بأنّه تعالى إنّما خلق الخلق ليعبدوه. واستدلّ بهذه الآية أيضا على وجوب النيّة في الطهارة ، وأنّه تعالى أمر بالعبادة على وجه الإخلاص ، ولا يمكن الإخلاص إلّا بالنيّة والقربة ، والطهارة عبادة فلا تجزي بغير نيّة».

٢٤٤٥. لا يذهب عليك أنّه قد استدلّ بالآية تارة على أنّ الأصل في كلّ أمر أن يكون تعبّديا ، واخرى على اشتراط قصد القربة والإخلاص في العبادات ، و

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم صحّتها مع الرياء وغيره من الضمائم ، نظرا إلى دلالة الآية على كون الغاية في الأوامر مطلقا هي العبادة بقصد الإخلاص. هذا إن قلنا بعدم منافاة العبادة للرياء ونحوه من الضمائم ، وإلّا تكون الحال حينئذ ـ أعني : قوله مخلصين ـ مؤكّدة ، فيصحّ الاستدلال على المطلوب في المقامين بكلّ من الفقرتين ، أعني : قوله (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) وقوله (مُخْلِصِينَ) لفرض عدم انفكاك كون الفعل عبادة حينئذ عن قصد الإخلاص وبالعكس.

ولكن يرد على الأوّل أنّه مبنيّ على كون اللام للغاية ، ليفيد أنّ الغرض من الأوامر مطلقا إيقاعها على وجه العبادة ، وعليه يكون المفعول محذوفا ، والمعنى : وما أمروا بشيء لغاية من الغايات إلّا لغاية التعبّد. وعلى أن يكون المراد بالعبادة في الآية معناها المصطلح عليه ، أعني : ما يشترط في صحّته قصد التقرّب.

وليس كذلك. أمّا الأوّل فإنّ الظاهر كون اللام زائدة في المفعول به للتأكيد والتقوية على تقدير «أن» كما حكاه الطريحي في مادّة «خلص» و «طهر» عن نجم الأئمّة ، وذكره جلال الدين السيوطي في تفسيره ، مثل قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) وقوله تعالى : (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ). مضافا إلى أنّ أخذ اللام بمعنى الغاية ينافيه عطف قوله : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) على مدخول اللام ، لاختلال المعنى حينئذ.

وأمّا الثاني فإنّ العبادة لغة ـ كما في القاموس ـ مطلق الطاعة والانقياد. مضافا إلى أنّه لو كان المراد بها معناها المصطلح عليه لزم تخصيص الأكثر ، لوضوح كون أكثر الواجبات توصّليا لا تعبّديا. والمعنى : وما أمروا إلّا بالطاعة والانقياد. ومع تسليم ذلك كلّه يحتمل أن يكون المراد ـ كما سيجيء عن الفاضلين في المعتبر والمنتهى ـ وما أمروا إلّا بالإخلاص في العبادة ، فيدلّ على اعتبار الإخلاص

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فيما فرض كونه عبادة ، فلا يدلّ على كون الأصل في الأوامر أن تكون تعبّدية كما هو المدّعى.

ويرد على الثاني أوّلا : ما أغمض عنه المصنّف رحمه‌الله ، وأحال بيانه إلى ما أوضحه في باب النيّة ، قال في كتاب الطهارة في مقام الردّ على من استدلّ على اشتراط النيّة في الوضوء بالآية الشريفة : «والآية ظاهرة في التوحيد ونفي الشرك من وجوه ، منها لزوم تخصيص العموم بأكثر من الباقي. ومنها عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على العبادة الخالصة عن الشرك ، وهو التوحيد ، فالحصر إضافي بالنسبة إلى العبادة الغير الخالصة عن الشرك. وبما ذكرناه فسّره جماعة. فعن مجمع البيان (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : لا يخلطون بعبادته عبادة من سواه. وعن البيضاوي : أي : لا يشركون به. وعن النيشابوري تفسيره بالتوحيد. وجزم بذلك شيخنا البهائي في الأربعين.

وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ الآية لا تدلّ على انحصار المأمور به في العبادة ، ليستفاد منه أنّ الأصل في كلّ واجب أن يكون عبادة كما زعمه بعض ، لينفع فيما نحن فيه. وإنّما يمكن أن يدّعى دلالتها على أنّ العبادة لم يؤمر بها إلّا على جهة الإخلاص ، ولذا استدلّ الفاضلان ـ في ظاهر المعتبر وصريح المنتهى ـ بها على وجوب الإخلاص في الواجب المفروغ كونها عبادة.

لكنّه أيضا مبنيّ على كون المراد بالدين الطاعة أو الأعمّ منها ومن العبادة ، ليدلّ على وجوب إخلاص عبادة الله عن عبادة الأوثان وطاعته تعالى عن الرياء ونحوه. لكنّ الظاهر بقرينة عطف الصلاة والزكاة إرادة الإخلاص في العبادة ، وهو التوحيد ، فقد حكى الله سبحانه في الآية الشريفة عن تكاليف أهل الكتاب أهمّ اصول الدين وفروعه. ومن تأمّل نظائر الآية ممّا ذكر فيه العبادة على وجه الإخلاص ، مثل قوله تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي). وقوله تعالى : (فَاعْبُدِ

٤١٦

اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ). (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) إلى غير ذلك من الآيات ، ظهر له ما استظهرناه من إرادة التوحيد في مقابل الشرك» انتهى كلامه وزيد إكرامه.

وثانيا : ما أورده عليه بعد الإغماض من أنّه بعد تسليم جميع ما تقدّم أنّ الظاهر أنّ المقصود بيان الغاية في إيجاب ما أوجبه تعالى من الواجبات التعبّدية والتوصّلية ، فكأنّه تعالى قال : إنّما أوجبت ما أوجبته على عبادي ليترتّب على ذلك عبادتهم لي على وجه الإخلاص ، لا أنّي أوجبت الإخلاص في كلّ ما أمرتهم بالتعبّد به. فعلى الأوّل يكون إيجاب ما أوجبه سبحانه لطفا في تحقّق العبادة على وجه الإخلاص ، لأنّ اللطف ما كان مقرّبا للعبد إلى الطاعة ومبعّدا له عن المعصية ، نظير ما ذكره جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة من أنّ السمعيّات لطف في العقليّات. بل قول المصنّف رحمه‌الله : «ومرجع ذلك إلى كونها لطفا» لعلّه إشارة إلى ذلك ، لأنّ شكر المنعم لمّا كان واجبا بحكم العقل ، لما في تركه من احتمال سلبه تعالى بعض نعمه عنهم ، وكان الشكر حاصلا بإطاعته سبحانه ، فذكروا أنّ السمعيّات لطف في العقليّات.

ونقول في تقريب دلالة الآية أيضا : إنّ ما أوجبه تعالى من الواجبات لمّا كان سببا لتحقّق العبادة على وجه الإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، كذلك كانت تلك الواجبات لطفا فيما هو لطف في العقليّات. ويحتمل أن يكون إطلاق اللطف باعتبار كون العبادة مقرّبة إلى المحسّنات العقليّة ومبعّدة عن المقبّحات العقليّة ، على ما نصّ الله تعالى عليه في كتابه في خصوص الصلاة بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

وبالجملة ، إنّ إطلاق اللطف على الواجبات إنّما هو باعتبار كونها مقرّبة للعبد إلى العبادة ، إمّا بلحاظ كونها محصّلة للشكر ، أو بلحاظ كونها مجنّبة للعبد عن

٤١٧

ومنها : قوله تعالى حكاية عن مؤذّن يوسف عليه‌السلام : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (١٨) ، فدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة وعلى جواز ضمان ما لم يجب (٢٤٤٦). وفيه : أنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ، مع احتمال كونه مجرّد وعد لا جعالة ، مع أنّه لا يثبت الشرع بمجرّد فعل المؤذّن ؛ لأنّه غير حجّة ، ولم يثبت إذن يوسف ـ على نبينا وآله عليه‌السلام ـ في ذلك ولا تقريره.

ومنه يظهر عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان صوريّا قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف عليه‌السلام ، ولا بأس بذكر معاملة فاسدة يحصل به الغرض ، مع احتمال إرادة أنّ الحمل في ماله (٢٤٤٧) وأنّه الملتزم به ؛ فإنّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغة مطلق الالتزام ، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير ، فيكون الفقرة الثانية تأكيدا لظاهر الاولى ، ودفعا لتوهّم كونه من الملك فيصعب تحصيله.

ومنها : قوله تعالى حكاية عن أحوال يحيى عليه‌السلام : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٩). فإنّ ظاهره يدلّ على مدح يحيى عليه‌السلام بكونه حصورا ممتنعا عن مباشرة

______________________________________________________

الفحشاء والمنكر.

وثالثا : ما أشار إليه في آخر كلامه من أنّ النزاع في جواز التمسّك باستصحاب أحكام الشريعة السابقة إنّما هو فيما لم يدلّ دليل على بقاء الحكم المستصحب في شرعنا ، لوضوح عدم صحّة التمسّك بالأصل مع وجود الدليل على طبقه أو خلافه ، وقوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) دليل على بقاء الحكم المذكور في شرعنا.

٢٤٤٦. لعدم الاستحقاق لمال الجعالة قبل العمل وإن شرع فيه ، فيكون ضمانه ضمان ما لم يجب.

٢٤٤٧. يعني : في مال المؤذّن ، فلا تدلّ الآية حينئذ على الضمان الصوري أيضا لأنّه إنّما يتمّ على تقدير إرادة كون الحمل في مال يوسف عليه‌السلام.

٤١٨

النسوان ، فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج. وفيه : أنّ الآية لا تدلّ (٢٤٤٨) إلّا على حسن هذه الصفة لما فيها من المصالح والتخلّص عمّا يترتّب عليه ، ولا دليل فيها على رجحان هذه الصفة على صفة اخرى ، أعني : المباشرة لبعض المصالح الاخرويّة ؛ فإنّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الإفطار في النهار وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما. ومنها : قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ ...) دلّ على جواز بر اليمين على ضرب المستحقّ مائة بالضرب بالضّغث. وفيه : ما لا يخفى (٢٤٤٩).

ومنها : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...) (٢٠). استدلّ بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة.

ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه‌السلام : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ

______________________________________________________

٢٤٤٨. حاصله : أنّ حسن ترك التزويج ليس ذاتيّا ، بل باعتبار ما يترتّب عليه من المصالح ، كالاستعانة به في العبادة ونحوها. ولعلّ مدح يحيى أيضا إنّما هو بهذا الاعتبار فلا تدلّ على حسنه إذا انضمّت إلى التزويج صفة اخرى راجحة على صفة تركه.

٢٤٤٩. لعلّ الوجه فيه احتمال كون هذا الحكم المخالف للقاعدة من خواص أيّوب عليه‌السلام ، فلا يصحّ استصحابه إلى هذه الشريعة.

وأمّا مخالفته للقاعدة ، فإنّ مقتضاها أنّه مع الحلف على ضرب أحد مائة أن لا يحصل البرّ إلّا بالضرب بمثل السوط أو الخشبة بالعدد المذكور ، لا بمثل الضغث ضربة واحدة ، لعدم انصراف الضرب مائة إلى مثله ، فلعلّ الله تعالى قد ترحّم على امرأة أيّوب عليه‌السلام ، فرخّصه في ذلك بدلا عمّا يحصل به البرّ حقيقة ، كما ثبت مثله في حدود المرضى ، وورد به النصّ أيضا ، وأفتى به المحقّق في اليمين أيضا مع الاضطرار ، كالخوف على تلف النفس ، بل الشيخ مطلقا في المبسوط والتبيان والخلاف ، مدّعيا في صريح الأخير وظاهر الأوّلين الإجماع عليه ، والمسألة مقرّرة في محلّها.

٤١٩

هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) (٢١). وفيه : أنّ حكم المسألة (٢٤٥٠) قد علم من العمومات والخصوصات الواردة فيها ، فلا ثمرة في الاستصحاب. نعم في بعض تلك الأخبار إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لو لا المنع عنه ، فراجع وتأمّل.

الأمر السادس :

قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين (٢٤٥١) والمضيّ عليه ، هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن ، ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء ؛ لأنّها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقليّة والعادّية. فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشكّ ، هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ؛ لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع. نعم ، لو وقع نفس النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعادّية ، لكن المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب.

والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات

______________________________________________________

٢٤٥٠. من جواز جعل المنفعة صداقا. ثمّ إنّ المرتضى رضي الله عنه احتمل في تنزيه الأنبياء أن يكون من شريعة شعيب عليه‌السلام جواز العقد بالتراضي من غير صداق معيّن ، ويكون قوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) نفسك على غير وجه الصداق. وأجاب به مع وجهين آخرين عن إشكال دلالة الآية على جواز التخيير والتفويض في الصداق ، مع عدم عود نفع هذا الصداق إلى بنت شعيب عليه‌السلام ، فراجع ولاحظ.

٢٤٥١. توضيح المقام : أنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وارد في مقام إنشاء حرمة نقض المتيقّن السابق بالشكّ ، فيجب الحكم ببقائه في زمان الشكّ. وهذا من الشارع ـ بعد عدم إمكان إبقاء المتيقّن السابق ، لأجل الشكّ فيه ، حتّى

٤٢٠