فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

أقول : معنى الاستصحاب الجزئيّ (٢٠٣٦) في المورد الخاصّ ـ كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ـ ليس إلّا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ، وهل هذا إلّا نفس الحكم الشرعيّ؟! وهل الدليل عليه إلّا قولهم عليهم‌السلام : " لا تنقض اليقين بالشكّ"؟! وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات. هذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكميّة المثبت للحكم الظاهري الكلّي.

______________________________________________________

بشيء فكذا هذا».

ثمّ استشهد بجملة من كلمات العلماء وقال : «ولو لا أنّ الاستصحاب دليل خاصّ يجب تقديمه على الأصل. والعمومات لم يصحّ شيء من ذلك ، وهذا من نفائس المباحث فاحتفظه» انتهى. ومحلّ النظر في كلامه غير خفيّ على الناظر فيه.

٢٠٣٦. حاصله : أنّ قياس دليل الاستصحاب على دليل أخبار الآحاد قياس مع الفارق ، لأنّ آية النبأ لا تشمل بنفسها مؤدّيات أخبار الآحاد ، فلا بدّ أن تكون الأخبار واسطة في إثبات مؤدّياتها ، فيقال : هذا ممّا دلّ عليه خبر الواحد ، وكلّ ما هو كذلك فهو ثابت شرعا لآية النبأ ، بخلاف قاعدة الاستصحاب ، لأنّها ليست شيئا مغايرا لمؤدّى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ». فهذا الخبر بنفسه دليل على إثبات مؤدّاه في موارده الجزئيّة من دون توسّط شيء آخر.

وأنت خبير بما فيه ، لأنّ هنا امورا ثلاثة :

أحدها : وجوب البناء على الحالة السابقة ، وحرمة نقضها بغير يقين.

والثاني : الحكم في الموضوع الخاصّ ببقاء الحكم السابق فيه ، بملاحظة ثبوته فيه سابقا مع الشكّ في بقائه ، بحيث يكون مناط الحكم بالبقاء هو الشكّ في بقاء ما كان ، مثل الحكم ببقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه ، بملاحظة الشكّ في بقاء النجاسة السابقة منه.

والثالث : هو الحكم باتّصاف الموضوع المذكور بما كان متّصفا به سابقا ، كالحكم

٤١

وأمّا الجاري في الشبهة الموضوعيّة ـ كعدالة زيد ونجاسة ثوبه وفسق عمرو وطهارة بدنه ـ فلا إشكال في كونه حكما فرعيّا ، سواء كان التكلّم فيه من باب الظنّ أم كان من باب كونها قاعدة تعبديّة مستفادة من الأخبار ؛ لأنّ التكلّم فيه على

______________________________________________________

بنجاسة الماء المفروض.

والأوّل هو مفاد القاعدة المستفادة من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله». والثاني هو معنى الاستصحاب الجزئي. والثالث هو الحكم الشرعيّ المرتّب على الاستصحاب الجزئي.

لا يقال : إنّ هذا الحكم الشرعيّ هو عين الاستصحاب الجزئي ، وليس مرتّبا عليه.

لأنّا نقول : إنّ الاستصحاب الجزئي هو الحكم بنجاسة الماء المتغيّر مثلا إذا زال تغيّره من قبل نفسه بلحاظ كونه متغيّرا في السابق ، على أن تكون هذه الملاحظة علّة لحكم الحاكم ، والحكم الشرعيّ المتفرّع عليه هو البناء في مقام الظاهر على نجاسة الماء المذكور مع قطع النظر عن الملاحظة المزبورة ، وهذا هو الذي يفتي به المقلّد ، ويشترك هو والمجتهد في العمل به ، والأوّل هو الذي يختصّ العمل به بالمجتهد ، إذ لا اعتداد لشكّ المقلّد وملاحظته فيه.

ومن هنا يظهر ضعف قياسه على سائر القواعد الشرعيّة ، إذ الحكم الشرعيّ المرتّب عليها ليس إلّا مواردها الجزئيّة ، بخلاف ما نحن فيه ، ولذا قلنا بكون الاستصحاب الجاري في الأحكام الكلّية من المسائل الاصوليّة التي يختصّ العمل بها بالمجتهد ، فلو كان الحكم الشرعيّ هو نفس الاستصحاب الجزئي ، فلا بدّ أن يكون العمل به مشتركا بين المجتهد والمقلّد ، وليس كذلك.

ويحتمل أن يكون مراد بعض السادة أنّ اليقين بوجود شيء ثمّ الشكّ في بقائه أمارة نوعيّة على بقائه ، وأنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وارد في مقام إثبات اعتبار هذه الأمارة ، فيكون الخبر حينئذ دليلا على الدليل لا محالة. وهذا

٤٢

الأوّل ، نظير التكلّم في اعتبار سائر الأمارات (٢٠٣٧) ، ك" يد المسلمين" و" سوقهم" و" البيّنة" و" الغلبة" ونحوها في الشبهات الخارجيّة. وعلى الثاني ، من باب أصالة الطهارة وعدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ ونحو ذلك.

الرابع : أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ، هو مجرّد عدم العلم (٢٠٣٨) بزوال الحالة السابقة. وأمّا على القول بكونه من باب (٢٠٣٩) الظنّ ، فالمعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار إفادة الظنّ في خصوص المقام ؛ كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كلّية مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ظانّا ببقاء الحالة السابقة ، ويظهر ذلك بأدنى تتّبع في أحكام العبادات والمعاملات والمرافعات والسياسات.

______________________________________________________

غير بعيد بناء على تحديد المحقّق القمّي رحمه‌الله ، كما تقدّم سابقا.

٢٠٣٧. يعني : من باب الظنّ النوعي الحاصل من الغلبة.

٢٠٣٨. لأنّ جملة من الأخبار الآتية ناصّة بعدم جواز نقض اليقين إلّا بيقين مثله ، واخرى بعدم جواز نقضه بالشكّ ، والشكّ لغة أعمّ من الظنّ ، فيشمل الظنّ بلا خلاف ، ففي القول باعتباره من باب الأخبار لا مناص من القول باعتباره مطلقا حتّى مع الظنّ بالخلاف.

٢٠٣٩. يظهر منه أنّ القول باعتبار الاستصحاب من باب العقل منحصر في قولين : أحدهما : اعتباره من باب الظنّ النوعي ، وهو الظاهر من الأكثر. والآخر : اعتباره من باب الظنّ الشخصي ، وهو الظاهر ممّا نقله عن الجماعة. وأمّا احتمال اعتباره مطلقا ما لم يحصل الظنّ بالخلاف فلم يظهر به قول من العلماء.

وأمّا قول العضدي في تعريف الاستصحاب بأنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء ، وكذا ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن شارح الدروس ، فلا دخل له فيما ذكرناه. بل قوله : «ولم يظنّ عدمه» إشارة بأنّ الاستصحاب إذا قلنا باعتباره من باب الظنّ شخصا أو نوعا ، فهو إنّما يفيد ذلك مع عدم الظنّ بخلافه. ومرجعه إلى دعوى كون الاستصحاب على هذا التقدير

٤٣

نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس‌سره (٢٠٤٠) في الحبل المتين ـ في باب الشكّ في الحدث بعد الطهارة ـ ما يظهر منه اعتبار الظنّ الشخصيّ ، حيث قال : لا يخفى أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث ، لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربّما يصير الراجح مرجوحا ، كما إذا توضّأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثمّ شكّ عند المغرب في صدور الحدث منه ، ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت. والحاصل : أنّ المدار على الظنّ ، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف (٩). انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

ويظهر من شارح الدروس ارتضاؤه ؛ حيث قال بعد حكاية هذا الكلام : ولا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ لو بنى المسألة على أنّ ما تيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله ، يحصل الظنّ ببقائه ، والشكّ في نقيضه (٢٠٤١) لا يعارضه ؛ إذ

______________________________________________________

أدنى الأدلّة والأمارات الظنّية ، فهو لا يقاوم شيئا من الأدلّة الظنيّة ، لأنّ اعتباره من باب الظنّ ، وهو إنّما يفيده مع عدم وجود دليل ظنّي على خلافه ، وهو كذلك ، لأنّ منشأ إفادته للظنّ غلبة البقاء في موارده ، والغلبة إنّما تفيد الظنّ مع عدم قيام أمارة ظنّية على خلافها.

٢٠٤٠. يظهر منه كون اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ الحاصل في مورده من الغلبة والعادة ونحوهما. وربّما يتوهّم أنّ هذا ليس قولا باعتبار الاستصحاب ، لأنّ الحجّة حينئذ في الحقيقة هو الظنّ الحاصل ممّا ذكرناه. وفيه : أنّ شيخنا البهائي رحمه‌الله لعلّه يدّعي بناء العقلاء على اعتبار خصوص الظنّ الحاصل في مورده لا مطلقا ، وهذا القدر كاف في نسبة الحجّية إلى الاستصحاب ، كيف لا وإفادته للظنّ عند كلّ من قال باعتباره من باب الظنّ إنّما هو من جهة غلبة البقاء في مورده ، فالمفيد للظنّ هذه الغلبة لا مجرّد اليقين بالوجود السابق والشكّ في بقائه.

٢٠٤١. مراده بالشكّ هو الوهم المقابل للظنّ.

٤٤

الضعيف لا يعارض القويّ. لكن ، هذا البناء ضعيف جدّا ، بل بناؤها على الروايات مؤيّدة بأصالة البراءة في بعض الموارد ، وهي تشمل الشكّ والظنّ معا (٢٠٤٢) ، فإخراج الظنّ منها ممّا لا وجه له أصلا (١٠) ، انتهى كلامه.

ويمكن استظهار ذلك من الشهيد قدس‌سره في الذكرى حيث ذكر أنّ قولنا" اليقين لا ينقضه الشكّ" ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ ، بل المراد أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات (١١) ، انتهى كلامه. ومراده من الشكّ مجرّد الاحتمال ، بل ظاهر كلامه أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ ، هو الظنّ أيضا ، فتأمّل (٢٠٤٣).

______________________________________________________

٢٠٤٢. يعني : مطلقا ، سواء كان الظنّ حاصلا على طبق الحالة السابقة أم على خلافها. وقوله : «فإخراج الظنّ منه ممّا لا وجه له أصلا» ربّما يقال : إنّ الاولى أن يعطف عليه الشكّ أيضا ، لأنّ شيخنا البهائي رحمه‌الله قد أخرج الأمرين.

ويحتمل أن يكون مراده بالظنّ المخرج هو الظنّ الموافق ، بأن يريد أنّه إذا حصل اليقين بوجود شيء فزوال هذا الاعتقاد ربّما يحصل بعروض الشكّ في البقاء ، وتارة بعروض الظنّ به ، واخرى بعروض الظنّ بارتفاعه ، والقول باعتباره من باب الأخبار يشمل الأقسام الثلاثة ، فلا وجه على هذا التقدير لإخراج الظنّ الموافق للحالة السابقة بتخصيصه بالحجّية.

٢٠٤٣. الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان كون مراده بالظنّ هو الظنّ النوعي المجامع للشكّ ، بمعنى تساوي الطرفين ، وحينئذ لا يبقى في كلامه دلالة على اعتبار الظنّ الشخصي ، فلا يتمّ حينئذ ما استظهره منه أوّلا. وحمل الظنّ على النوعي منه وإن كان خلاف الظاهر ، إلّا أنّ حمل الشكّ على الوهم خلاف الظاهر أيضا ، ومع تعارضهما لا يتمّ الاستظهار المذكور.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى منع ما استظهره ثانيا بقوله : «بل ظاهر كلامه ...» ، لأنّ منشأ الاستظهار هو التعبير بقوله : «اليقين لا ينقضه الشكّ». ولكن يوهن هذا

٤٥

الخامس : أنّ المستفاد من تعريفنا (٢٠٤٤) السابق ـ الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرّد الوجود السابق ـ أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين : أحدهما : وجود الشيء في زمان ، سواء علم به في زمان وجوده أم لا ، نعم ، لا بدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعم أو الظنّ المعتبر ، وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ، فلا يتحقّق معه الاستصحاب الاصطلاحي وإن توهّم بعضهم جريان عموم" لا تنقض" فيه ، كما سننبّه عليه. والثاني : الشكّ في وجوده في زمان لا حق عليه ؛ فلو شكّ في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقرى مجازا.

______________________________________________________

الظهور نسبة هذا القول إلى نفسه بقوله : «قلنا اليقين لا ينقضه الشكّ».

٢٠٤٤. حاصله : أنّ المستفاد ممّا عرّف الاستصحاب به من قوله : «الاستصحاب إبقاء ما كان» أنّه إنّما يتقوّم بأمرين : أحدهما : اليقين بوجود شيء أو عدمه في السابق. وثانيهما : عروض الشكّ في بقاء المتيقّن السابق. ولكنّك قد عرفت سابقا عدم إفادة التعريف المذكور للأمر الثاني.

وكيف كان ، فهذان الأمران يرجعان إلى اعتبار امور في جريان الاستصحاب :

أحدها : حصول اليقين بالوجود السابق مثلا حين عروض الشكّ ، سواء كان اليقين حاصلا حين الوجود أيضا أم لا. فلا فرق في جريان الاستصحاب بين ما لو علم في الأمس بوجود شيء وشكّ اليوم في بقائه ، وبين ما لو علم اليوم بوجوده في الأمس وشكّ في زمان اليقين أيضا في بقائه إلى حينه. ومن هنا يخرج ما لو علم بوجود شيء في زمان ثمّ شكّ في وجوده في ذلك الزمان ، بأن شكّ في كون يقينه السابق جهلا مركّبا أو موافقا للواقع ، وهو المسمّى بالشكّ الساري ، لعدم جريان الاستصحاب فيه ، وإن زعم بعضهم عموم أخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ له أيضا. وسيأتي الكلام فيه.

قال كاشف الغطاء بعد كلام له في الاستصحاب : «ولو لم يبق علمه باليقين

٤٦

ثمّ المعتبر هو الشكّ الفعلي الموجود حال الالتفات إليه ، أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض الشكّ فيه على فرض الالتفات. فالمتيقّن للحدث إذا التفت (٢٠٤٥) إلى حاله في اللاحق فشكّ ، جرى الاستصحاب في حقّه ، فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته ؛ لسبق الأمر بالطهارة ، ولا يجري في حقّه حكم الشكّ

______________________________________________________

السابق مع علمه بأنّه كان عالما ، فلا يخلو : إمّا أن ينسى طريق علمه السابق ، أو يتردّد فيه ، أو يعلم عدم قابليّته. والأقوى جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين. وأمّا ما وقع منه من العمل فيحكم بصحّته ما لم يعلم بعدم مقتضى علمه» انتهى.

وثانيها : أن يكون الشكّ لا حقا باليقين ، بمعنى تقدّم المتيقّن على المشكوك ، وإلّا فقد عرفت عدم اعتبار تقدّم وصف اليقين في ماهيّة الاستصحاب. وإنّما قيّدنا بذلك احترازا عن الاستصحاب القهقرائي ، وهو ما كان فيه المشكوك فيه سابقا على المتيقّن ، على عكس الاستصحاب المتعارف ، فينسحب فيه المتيقّن اللاحق إلى زمان المشكوك فيه السابق ، كما في موارد أصالة عدم النقل. وقد اشتهرت تسميته بما ذكرناه في لسان الوحيد البهبهاني وتلميذه صاحب الرياض ، وسيشير إليه المصنّف رحمه‌الله في التنبيهات. فإذا ثبت كون لفظ حقيقة في عرفنا ، وشكّ في كونه كذلك في عرف الشارع أو اللغة أيضا ، يقال : إنّ مقتضى الاستصحاب القهقرائي أن يكون كذلك في عرف الشارع أو اللغة أيضا. والظاهر أنّ استنادهما في إثبات الحقيقة الشرعيّة أو اللغويّة ليس إلى مثل هذا الاستصحاب ، لعدم مساعدة دليل عليه ، بل إلى أمر آخر مثل غلبة تشابه الأزمان ونحوها ، وإن عبّروا به في مقام الإثبات.

وثالثها : فعليّة الشكّ ، فلا يكفي الشكّ الشأني والتقديري كما قرّره المصنّف قدس‌سره ، لأنّه المنساق من الشك المأخوذ في الأخبار.

٢٠٤٥. لا يخفى أنّ المتيقّن للحدث إمّا أن يلتفت فيحصل له الشكّ ويصلّي مع شكّه ، وإمّا أن يلتفت فيحصل له الشكّ ، ثمّ يغفل عن شكّه فيصلّي ، ويلتفت

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى شكّه بعد الفراغ. وحينئذ إمّا يحتمل تطهيره بعد عروض الشكّ له قبل الصلاة ، وإمّا لا يحتمل ذلك ، وإمّا أن لا يلتفت إلّا في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ ، فيحصل له الشكّ حينئذ. فهذه صور خمس.

أمّا الاولى ، فلا إشكال في بطلان الصلاة فيها وإن لم نقل بحجّية الاستصحاب ، لعدم تأتّي قصد القربة مع الشكّ في الطهارة.

وأمّا الثانية ، فالظاهر صحّة الصلاة فيها ، لقاعدة الشكّ بعد الفراغ. ولا يجري فيها ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من علّة عدم جريان القاعدة ، لأنّ احتماله بعد الفراغ لتطهيره بعد الشكّ قبل الصلاة محقّق لمورد القاعدة من حدوث الشكّ في الصحّة بعد الفراغ. ومن هنا يظهر أنّه كان على المصنّف رحمه‌الله أن يقيّد عدم جريان القاعدة بعدم احتماله لما ذكرناه.

نعم ، إنّ الحكم بصحّة صلاته التي أتى بها في حال الغفلة لا يستلزم الحكم بجواز الإتيان بصلاة اخرى بعد الالتفات من دون تطهير ، بل يجب عليه التطهير ـ بحكم استصحاب الحدث ـ لما يريد الإتيان به بعد الالتفات من الصلوات الأخر أو غيرها ممّا تشترط فيه الطهارة.

وأمّا الثالثة ، فهي كما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الحكم بالبطلان ، لأجل سبق الأمر بالطهارة بالاستصحاب ، وعدم جريان قاعدة الشكّ بعد الفراغ. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه في حال غفلته لا يجب عليه التطهير ، لفرض عدم جريان الاستصحاب في حال الغفلة. فإذا صلّى مع الغفلة ثمّ التفت ، فإن حصل له الشكّ فالحكم بالبطلان حينئذ ليس من جهة كونه محكوما بوجوب التطهير لأجل الاستصحاب كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله ، لفرض عدم جريانه في حال الغفلة ، بل إمّا للاستصحاب الجاري بعد الالتفات ، أو لقاعدة الاشتغال. وإن انكشفت له الحال وظهر كونه متطهّرا في حال الصلاة ، فلا بدّ من الحكم بصحّة الصلاة ، لمطابقتها للواقع بعد عدم

٤٨

في الصحّة بعد الفراغ عن العمل ؛ لأنّ مجراه الشكّ الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود من قبل.

نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلّى ، ثمّ التفت وشكّ في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهّرا ، جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد الفراغ ؛ لحدوث الشكّ بعد العمل وعدم وجوده قبله حتّى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها. نعم ، هذا الشكّ اللاحق يوجب الإعادة (٢٠٤٦) بحكم استصحاب عدم الطهارة ، لو لا حكومة قاعدة الشكّ بعد الفراغ عليه ، فافهم.

السادس : في تقسيم الاستصحاب إلى أقسام ؛ ليعرف أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب في كلّها أو في بعضها ، فنقول : إنّ له تقسيما باعتبار المستصحب (٢٠٤٧) وآخر باعتبار الدليل الدالّ عليه. وثالثا باعتبار الشكّ المأخوذ فيه.

______________________________________________________

جريان الاستصحاب ، وتأتّي قصد القربة من الغافل. فلا وجه لإطلاق حكم المصنّف رحمه‌الله بالبطلان بمجرّد كونه محكوما بوجوب التطهير في حال الشكّ قبل الصلاة.

وأمّا الرابعة ، فالظاهر هو الحكم بالبطلان ، لأنّ استصحاب بقاء الحدث يقضي بوقوع الأجزاء الباقية بلا طهارة. وقاعدة الفراغ أيضا غير جارية ، أمّا بالنسبة إلى الصلاة فلفرض عدم الفراغ منها ، وأمّا بالنسبة إلى الطهارة المشكوك فيها فلعدم صدق الفراغ بالنسبة إليها.

وأمّا الخامسة ، فهي كما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الحكم بالصحّة فيها.

٢٠٤٦. يرد عليه أنّ وجوب الإعادة حكم عقلي للإتيان بالصلاة بلا طهارة ، لعدم المشروط عند عدم شرطه ، فلا يثبت بالاستصحاب.

٢٠٤٧. اعلم أنّ الاولى للمصنّف رحمه‌الله أن يستوفي الكلام أوّلا في أقسام الاستصحاب بحسب كلّ من المستصحب والدليل الدالّ عليه والشكّ المأخوذ فيه ، ثمّ يشير إلى محلّ الخلاف منها ، لكون ذلك أتمّ في الإفادة للطالب.

فنقول : أمّا أقسامه باعتبار المستصحب ، وإن شئت قلت : باعتبار الحالة السابقة

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

على اختلاف تعبيرهم في ذلك ، فنقول : إنّ المستصحب إمّا أن يكون من قبيل الأحكام ، أو الموضوعات. والأوّل إمّا من قبيل الطلبيّات ، أو الوضعيّات. وعلى التقديرين : إمّا أن يكون الحكم كلّيا ، أو جزئيّا. والثاني إمّا أن يكون من قبيل الموضوعات المستنبطة ، أو الصرفة. والأوّل إمّا أن يكون في تعيين الأوضاع ، مثل أصالة عدم النقل والاشتراك ، أو تعيين المراد ، مثل أصالة عدم القرينة أو التخصيص أو التقييد أو الإضمار. والثاني مثل أصالة الكرّية أو اليبوسة أو الرطوبة. وقد يقسّم باعتبار أنّ المستصحب قد يكون وجوديّا ، وقد يكون عدميّا ، وأمثلتهما واضحة.

وأمّا أقسامه باعتبار الدليل الدالّ عليه فنقول : إنّ الدليل الدالّ عليه إمّا هو العقل ، ويسمّى الاستصحاب حينئذ باستصحاب حال العقل وبأصالة النفي والبراءة الأصليّة ، وسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى اعتراض صاحب الفصول على ذلك. أو الشرع ، ويسمّى الاستصحاب حينئذ باستصحاب الحال واستصحاب حال الشرع. والثاني أيضا إمّا لبّي كالإجماع ، أو لفظي كالكتاب والسنّة.

وأمّا أقسامه باعتبار الشكّ المأخوذ فيه ، فنقول : إنّ الشكّ إمّا أن يكون في المقتضي ، أو المانع ، أو الملفّق منهما. والمراد بالأوّل ما كان الشكّ فيه متعلّقا باستعداد الحكم للبقاء بحيث لو لم يعرض له مانع انقضى الحكم فيما بعد ، لانقضاء استعداده ، كخمود الفتيلة المشتعلة ، لانقضاء استعدادها للاشتعال الحاصل من جذب الدهن الذي معها. وبالثاني ما كان الشكّ فيه متعلّقا بعروض المانع من بقاء الحكم على حسب استعداده للبقاء ، بحيث لولاه لكان مستمرّا ، نظير خمود النار بالماء. وبالثالث ما كان الشكّ في البقاء فيه مردّدا بين انقضاء استعداده وعروض المانع.

والأوّل على ثلاثة أقسام ، لأنّ الشكّ إمّا أن يكون في مقدار الاستعداد بحسب الزمان ، مثل الشكّ في بقاء خيار الغبن للمشتري إلى الزمان الثاني بعد علمه

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بالغبن. وإمّا أن يكون في مبدأ الحكم بعد العلم بمقدار الاستعداد بحسب الزمان ، مثل خيار الحيوان ، لأنّه ثلاثة أيّام للمشتري ، ولكن إذا شكّ في ثبوت الخيار له من يوم السبت أو الأحد حصل الشكّ في أنّ آخره يوم الإثنين أو الثلاثاء فيستصحب. وإمّا أن يعلم استعداد كلّ نوع بحسب الزمان ، ويشكّ في استعداد فرد من أفراد هذه الأنواع لأجل الجهل بنوعه ، لأنّ الإنسان مثلا له استعداد خاصّ ، وهو البقاء إلى مائة سنة أو ما يقرب منها في أمثال زماننا ، وللبقّ والحشرات استعداد آخر ، فإذا علم بوجود حيوان في الدار وشكّ أنّه إنسان أو من الحشرات ، فإذا مضى من الزمان مقدار استعداد الحشرات شكّ في بقاء الموجود فيها لأجل الجهل بنوعه.

والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في عروض المانع ، مثل الشكّ في صدور الحدث الرافع للطهارة ، والطلاق من الزوج الرافع لعلاقة الزوجيّة. وإمّا أن يكون في مانعيّة الموجود وهو على أقسام ، لأنّ الشكّ في المانعيّة إمّا أن يكون من جهة الشكّ في حكمه الوضعي الكلّي ، وإمّا من جهة الشكّ في اندراجه تحت ما علم مانعيّته شرعا ، وإمّا من جهة اشتباهه بما ليس بمانع شرعا. والأوّل مثل الشكّ في ناقضيّة المذي للطهارة. والثاني مثل الشكّ في كون السنة ناقضة للطهارة ، من جهة الشكّ في دخولها في مفهوم النوم. والثالث مثل ما إذا رأى في أثناء صلاته رطوبة في ثوبه أو بدنه ، وشكّ في كونه بولا أو ماء ، أو علم أنّ البول ناقض والمذي ليس بناقض ، وشكّ في أنّ الخارج من أيّهما.

وإمّا أن يعلم بأنّ العارض ناقض في الجملة ، ويشكّ في رفعه للحكم الموجود ، من جهة الشكّ في موضوعه ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة ثوبه أو بدنه بالدم أو البول ، وفرض كفاية الغسلة الواحدة بعد زوال العين في الأوّل ، واعتبار الغسلتين في الثاني ، فإذا غسل ثوبه أو بدنه بغسلة واحدة حصل له الشكّ في ارتفاع النجاسة ، فتستصحب إلى زمان اليقين بحصول الرافع اليقيني.

٥١

أمّا بالاعتبار الأوّل فمن وجوه ، الوجه الأوّل : من حيث إنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديّا ـ كوجوب شىء أو طهارة شىء أو رطوبة ثوب أو نحو ذلك ـ وقد يكون عدميّا ، وهو على قسمين : أحدهما عدم اشتغال الذمّة بتكليف شرعيّ ، ويسمّى عند بعضهم ب : " البراءة الأصليّة" و" أصالة النفي". والثاني : غيره ، كعدم نقل اللفظ عن معناه ، وعدم القرينة ، وعدم موت زيد ورطوبة الثوب وحدوث موجب الوضوء أو الغسل ، ونحو ذلك. ولا خلاف في كون الوجوديّ محل النزاع.

وأمّا العدمي ، فقد مال الاستاذ قدس‌سره إلى عدم الخلاف فيه ، تبعا لما حكاه عن استاذه السيّد صاحب الرياض رحمه‌الله : من دعوى الإجماع على اعتباره في العدميّات. واستشهد على ذلك بعد نقل الإجماع المذكور ، باستقرار سيرة العلماء على التمسّك بالاصول العدميّة ، مثل : أصالة عدم القرينة والنقل والاشتراك وغير ذلك ، وببنائهم هذه المسألة (٢٠٤٨) على كفاية العلّة المحدثة للإبقاء.

______________________________________________________

والثالث مثل ما لو وجد المتيمّم ماء في أثناء صلاته ، فأريق قبل مضيّ زمان يتمكّن من التوضّؤ به فيه ، فإنّهم قد اختلفوا في كون الشكّ في انتقاض التيمّم من جهة الشكّ في استعداده للبقاء إلى زمان وجدان الماء ، بأن كان عدم وجدانه مأخوذا في صحّة التيمّم ، أو من جهة الشكّ في كون وجدانه رافعا لها ابتداء واستدامة.

ثمّ إنّ مجموع الأقسام المتقدّمة ترتقي إلى عشرين قسما ، تسعة باعتبار المستصحب ، وثلاثة باعتبار الدليل ، وثمانية باعتبار الشكّ المأخوذ في الاستصحاب. وهنا أقسام أخر أيضا ، إلّا أنّ العمدة منها التي تختلف بها الأدلّة والأقوال المعروفة ما ذكرناه ، فلا تغفل.

٢٠٤٨. بتقريب أنّ المحتاج إلى العلّة في البقاء هو الوجود دون العدم ، ولذا اشتهر أنّ الأعدام لا تعلّل ، فبنائهم الخلاف في المسألة على ما ذكر يكشف عن عدم الخلاف في الاستصحابات العدميّة.

٥٢

أقول : ما استظهره قدس‌سره لا يخلو عن تأمّل : أمّا دعوى الإجماع ، فلا مسرح لها في المقام (٢٠٤٩) مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثير بخلافها ، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني (٢٠٥٠) في شرح الشرح ؛ حيث قال : " إنّ خلاف الحنفيّة

______________________________________________________

ويمكن الاستشهاد لخروج الاستصحابات العدميّة من محلّ النزاع بوجهين آخرين أيضا ، أحدهما : عنوان المسألة في كلمات القدماء باستصحاب الحال ، سيّما مع صراحة كلام الفاضل الجواد في مقابلته باستصحاب النفي ، ولا سيّما مع تصريحه بعدم الخلاف في الثاني ، قال : «ولا كلام في حجّية استصحاب النفي» إلى أن قال : «وإنّما الكلام في استصحاب الحال ، ومحلّه أن يثبت حكم في وقت ...». والآخر : دعوى الاتّفاق من جماعة على اعتبار استصحاب النفي. ولكنّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار في طيّ كلامه إلى ضعف كلا الوجهين ، إلّا أنّ ما ذكره في وجه الضعف لا يتأتّى في كلام الفاضل المذكور.

٢٠٤٩. حاصله : منع اعتبار الإجماع في المقام أوّلا ، ومنع تحقّقه ثانيا. ولعلّ الوجه في الأوّل كون النزاع في المقام صغرويّا ، من حيث إفادة الاستصحاب للظنّ وعدمه ، كما يشير إليه قول المثبت بأنّ ما ثبت دام ، وقول المجيب بأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم. وقال شارح المختصر : اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادته الظنّ بالبقاء ، وعدمها لعدم إفادته إيّاه ، لعدم كشف الاتّفاق حينئذ عن رضا المعصوم.

نعم ، لو كان النزاع فيه بحسب الكبرى لم يكن وجه لمنع اعتبار الإجماع فيه ، إلّا أن يقال : إنّ المعروف بين العامّة والخاصّة في محلّ البحث هو اعتبار الاستصحاب من باب العقل دون الشرع ، ومرجع النزاع فيه على تقدير كونه كبرويّا إلى النزاع في اعتبار مطلق الظنّ ، ولا مسرح للإجماع في المسائل العقليّة ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في صدر الكتاب ، اللهمّ إلّا أن يريد به بناء العقلاء ، فتدبّر.

٢٠٥٠. أظهر منه ما تقدّم من كلام الفاضل الجواد رحمه‌الله.

٥٣

المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي الأصليّ" (١٢). وأمّا سيرة العلماء (٢٠٥١) ، فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسّك بالاصول الوجوديّة والعدميّة (٢٠٥٢) كلتيهما.

قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابيّة ـ بعد نقل القول بإنكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض وإثباته عن بعض والتفصيل عن بعض آخر ـ ما هذا لفظه : لكنّ الذي نجد من الجميع ـ حتّى من المنكر مطلقا ـ أنهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، فيقولون : الأمر حقيقة في الوجوب عرفا ، فكذا لغة ؛ لأصالة عدم النقل ، ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغويّ ، فينكرون الحقيقة الشرعيّة ، إلى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبّع ، انتهى. وحينئذ ، فلا شهادة في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميّات.

______________________________________________________

٢٠٥١. ممّا يوهنها ما ذكره الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ، لأنّه بعد أن عزى حجّية الاستصحاب إلى الأكثر قسّمه إلى أربعة أقسام : استصحاب النفي في الحكم الشرعيّ إلى أن يرد دليل ، واستصحاب العموم إلى أن يرد مخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد ناسخ ، واستصحاب حكم ما ثبت شرعا ، واستصحاب حكم الإجماع إلى موضع النزاع. ثمّ ذكر للخلاف فروعا من الاستصحابات الوجوديّة والعدميّة ، لأنّ ظاهره كون هذه الفروع بأسرها محلّ ثمرة بين قول الأكثر وغيره.

نعم ، ما ذكره في جملة الفروع من أنّه «لو شكّ في الطهارة مع تيقّن الحدث أو بالعكس ، فإنّه يستصحب حكم ما علمه ، ويطرح المشكوك فيه» انتهى ، ليس في محلّه ، لعدم الخلاف فيه. ويؤيّده أيضا أنّ الأمين الأسترآبادي في الفصل السادس من فوائده المدنيّة قد نسب القول باعتبار استصحاب نفي الحكم الشرعيّ إلى المتأخّرين من أصحابنا ، وهو مؤذن بوجود الخلاف بينهم.

٢٠٥٢. سنشير إلى أنّ هذه الاصول لا دخل له فيما نحن فيه. مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كونها أعمّ من الوجودي والعدمي.

٥٤

وأمّا استدلالهم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثّر الظاهر الاختصاص بالوجوديّ (٢٠٥٣) ـ فمع أنّه معارض باختصاص بعض أدلّتهم الآتي

______________________________________________________

٢٠٥٣. إمّا لأجل عدم حاجة العدم في البقاء إلى المؤثّر ، ولذا اشتهر أنّ العدم لا يعلّل ، وإمّا لظهور لفظ الباقي فيه. ويمكن منع الظهور على الوجهين.

أمّا الأوّل فلمنع عدم حاجة العدم في البقاء إلى المؤثّر ، لأنّ الممكن ما تساوى طرفاه ، ولو لم يحتج طرف العدم إلى المؤثّر خرج عن كونه ممكنا ، ولا ريب أنّ طرفي الممكن كما يحتاج كلّ منهما في الابتداء إلى المؤثّر ، كذلك في البقاء بناء على عدم استغناء الباقي عن المؤثّر ، غاية الأمر أنّه يكفي في علّة العدم عدم علّة الوجود. ولذا قال المحقّق الطوسي قدس‌سره : وعدم الممكن مستند إلى عدم علّة. نعم ، ما لا يحتاج إلى العلّة هو العدم المحض الذي يعبّر عنه بالنفي المحض والعدم المطلق ، لا العدم المضاف كما عرفت ، وهو محلّ الكلام في المقام.

وإلى ما ذكرناه أشار الفاضل اللاهيجي في الجواب عمّا قيل : إنّ الممكن لو احتاج في وجوده إلى المؤثّر لاحتاج عدمه أيضا ، لاستواء النسبة إليهما ، لكنّ العدم لكونه نفيا محضا لا يصلح لأن يكون أثر الشيء ، قال : «إنّا لا نسلّم أنّ عدم الممكن نفي محض ، إن اريد بالنفي المحض أن لا يكون له وجود أصلا لا ذهنا ولا خارجا. وإن اريد أن لا يكون له وجود في الخارج فقط ، فلا نسلّم أنّ العدم لا يصلح أن يكون أثر الشيء. ألا ترى أنّ عدم المعلول مستند إلى عدم علّته ، فإنّ معنى العلّية والتأثير ليس إلّا الترتّب العقلي ، وصحّة تخلّل الفاء. ولا شبهة في صحّة ذلك بين العدمين ، فإنّ العقل يحكم بأنّ العلّة ارتفعت فارتفع المعلول ، ولا يحكم بأنّ المعلول ارتفع فارتفعت العلّة وإن كانا متلازمين» انتهى.

ولا يخفى أنّ العدم إذا صلح لأن يكون أثرا لمثله ثبت أيضا كون العدم مؤثّرا في مثله ، فلا يرد حينئذ أنّ العدم لعدميّته لا يصلح للتأثير.

وأمّا الثاني ، فإنّ التعبير بالباقي لعلّه لأجل عدم لفظ جامع بين الوجود والعدم.

٥٥

بالعدمي ، وبأنّه يقتضي أن يكون النزاع مختصّا بالشكّ من حيث (٢٠٥٤) المقتضي لا من حيث الرافع ـ يمكن توجيهه : بأنّ الغرض الأصليّ هنا لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة (٢٠٥٥) ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجوديّ. مع أنّه يمكن أن يكون الغرض تتميم المطلب في العدميّ بالإجماع المركّب بل الاولويّة ؛ لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه إلى المؤثّر فالمعدوم كذلك بالطريق الاولى (٢٠٥٦). نعم ، ظاهر عنوانهم للمسألة ب" استصحاب الحال" ، وتعريفهم له (٢٠٥٧) ظاهر الاختصاص بالوجوديّ ، إلّا أنّ الوجه فيه بيان الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعيّة للأحكام ؛ ولذا عنونه بعضهم ـ بل الأكثر ـ ب" استصحاب حال الشرع".

وممّا ذكرنا يظهر عدم جواز الاستشهاد (٢٠٥٨) على اختصاص محلّ النزاع

______________________________________________________

مع أنّه إذا ثبت كون مبنى اعتبار الاستصحاب الوجودي وعدمه على استغناء الباقي عن المؤثّر وعدمه ، سرى ذلك إلى العدميّ أيضا ، لاشتراك العلّة ، وإن قصرت العبارة عن الشمول له.

٢٠٥٤. لأنّه مع الشكّ في الرّافع يحصل القطع بعلّة البقاء ، والشكّ في وجود المانع منه. والقول باحتياج الباقي إلى المؤثّر لا يمنع القول باعتبار الاستصحاب فيه.

٢٠٥٥. والاستصحاب العدمي لا يصلح دليلا لوجود حكم كلّي شرعيّ.

٢٠٥٦. ربّما تمنع الأولويّة بعد فرض تساوي نسبة الممكن إلى طرفيه. اللهمّ إلّا أن يراد بالتساوي تساوي نسبته في الحاجة إلى المؤثّر ، لا في كيفيّة الحاجة أيضا من حيث الشدّة والضعف وعدمهما.

٢٠٥٧. بإثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وقد تقدّم من المصنّف رحمه‌الله حكاية نسبته إلى القوم عن شارح الدروس.

٢٠٥٨. هذا الوجه لا يتأتى في كلام الفاضل الجواد المتقدّم عند شرح قوله : «ببنائهم هذه المسألة ...».

٥٦

بظهور قولهم في عنوان المسألة : " استصحاب الحال" ، في الوجوديّ ؛ وإلّا لدلّ تقييد كثير منهم العنوان ب" استصحاب حال الشرع" ، على اختصاص النزاع بغير الامور الخارجيّة. وممّن يظهر منه دخول العدميّات في محلّ الخلاف الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ، بل لعلّه صريح في ذلك بملاحظة ما ذكره قبل ذلك (٢٠٥٩) في تقسيم الاستصحاب.

______________________________________________________

٢٠٥٩. قال في رسالته المفردة في الاستصحاب : «وهو على قسمين : الأوّل : استصحاب متعلّق الحكم الشرعيّ ، أي : الامور الخارجة عنه التي لها مدخل في ثبوته ، مثل عدم نقل اللفظ عن المعنى ، ومثل عدم التذكية في الحيوانات الميتات في العدميّات ، ووجود الرطوبة في الثوب الواقع على النجس الذي وجد يابسا ، ومثل بقاء المعنى اللغوي على حاله في الوجودات.

الثاني : استصحاب نفس الحكم الشرعيّ ، وهو على ضربين :

الأوّل : أن يثبت به حكم شرعيّ لموضوع معلوم ، مثل أنّا لا ندري أنّ المذي المعلوم الوقوع ناقض للوضوء أم لا ، فيقال : قبل وقوعه كان متطهّرا ، فالطهارة مستصحبة ، فالمذي ليس بناقض شرعا. ومثل ذلك وجدان الماء حين الصلاة للمتيمّم الفاقد له قبلها ، فيحكم بعدم ناقضيّته للتيمّم شرعا.

والضرب الثاني عكس الضرب الأوّل ، وهو أنّ ثبوت الحكم الشرعيّ لموضوع معيّن معلوم جزما ، لكن لا ندري هل تحقّق ذلك الموضوع أم لا؟ مثلا ندري أنّ البول ناقض للوضوء البتّة ، لكن نشكّ أنّه بعد الوضوء هل حدث البول أم لا؟ فيقال : الأصل بقاء الوضوء ، فيحكم بعدم تحقّق البول ، فهو متطهّر.

ثمّ نقل القول بالحجّية مطلقا ، وبعدمها كذلك ، والتفصيل تارة بإنكار القسم الأوّل ، واخرى بإنكار الضرب الأوّل. ثمّ قال : «لكنّ الذي نجد من الجميع حتّى المنكر مطلقا أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، مثلا يقولون : الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، فكذلك لغة ، لأصالة عدم النقل. ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى

٥٧

وأصرح من ذلك في عموم محلّ النزاع ، استدلال النافين في كتب الخاصّة والعامّة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح بيّنة النافي ؛ لاعتضاده بالاستصحاب ، واستدلال المثبتين كما في المنية بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لا نسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلّة ؛ لتطرّق احتمالات (٢٠٦٠) فيها لا تندفع إلّا بالاستصحاب. وممّن أنكر الاستصحاب في العدميّات صاحب المدارك ؛ حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد المطروح.

وبالجملة : فالظاهر أنّ التتبّع يشهد بأنّ العدميّات ليست خارجة عن محلّ النزاع ، بل سيجيء عند بيان أدلّة الأقوال : أنّ القول بالتفصيل بين العدميّ والوجوديّ ـ بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلا عن اتّفاق النافين عليه ؛ إذ ما من استصحاب وجوديّ (٢٠٦١)

______________________________________________________

اللغوي ، فينكرون الحقيقة الشرعيّة إلى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبّع. والأخباريّون أيضا صرّحوا بحجّية الاستصحاب في موضوع الحكم الشرعيّ على ما ذكره الشيخ الحرّ ، فهم يقولون بحجّية القسم الأوّل والضرب الثاني. والفاضل صاحب الذخيرة صرّح بحجّية الضرب الثاني ، ولعلّه موافق للأخباريّين. والوحيد الأستاذ في شرح الدروس فصّل تفصيلا آخر» انتهى كلامه رفع في الخلد شأنه ومكانه.

٢٠٦٠. مثل احتمال النقل والاشتراك والمجازيّة والإضمار ونحوها.

٢٠٦١. إذ لا أقلّ من استصحاب عدم ضدّ المستصحب الوجودي ، لأنّ الطهارة مثلا لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة عن عدم الموت ، والوجوب عن عدم أضداده الأربعة.

فإن قلت : إنّ اعتبار الظنّ ببقاء شيء بسبب الظنّ بانتفاء أضداده إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، وهو خلاف التحقيق كما سيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى ، فكيف تدّعي الملازمة بين اعتبار الاستصحاب العدمي والوجودي؟

قلت : أوّلا : إنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم يكن الوجود من الآثار الشرعيّة للعدم ،

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كبقاء الطهارة المرتّب على عدم البول ، والقائل بعدم اعتبار الاستصحاب الوجودي لا يفرّق بين موارده.

وثانيا : إنّ عدم اعتبار الاصول المثبتة إنّما هو مبنيّ على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار كما سيجيء في محلّه ، وإلّا فعلى القول باعتباره من باب الظنّ وبناء العقلاء فلا فرق بين الآثار الشرعيّة للمستصحب وغيرها ، ولذا جعل المصنّف رحمه‌الله الإشكال مبنيّا على القول باعتباره من باب الظنّ.

اللهمّ إلّا أن يدفع هذا أوّلا : بأنّ المعروف بين القائلين باعتباره من باب الظنّ ـ كما هو المشهور ـ اعتباره من باب الظنون الخاصّة الثابت اعتبارها ببناء العقلاء ، كما يظهر من استدلال كثير منهم ، لا من باب الظنون المطلقة ، وإن توهّمه المحقّق القمّي. رحمه‌الله ويشهد بما ذكرناه أيضا ما أسلفه المصنّف رحمه‌الله في الأمر الرابع من كون المعهود من طريقة الفقهاء اعتباره من باب الظنّ النوعي. ولا ريب أنّ الأصل في باب الظنّ حرمة العمل به ، فيقتصر في الخروج منه على مقتضى الدليل المخرج. والقدر الثابت من بناء العقلاء في موارد الاستصحاب هو الظنّ الحاصل بنفس المستصحب وآثاره الشرعيّة المرتّبة عليه بلا واسطة ، لا الآثار غير الشرعيّة ، ولا الآثار الشرعيّة المرتّبة عليه بواسطة الآثار غير الشرعيّة. والتفكيك بين اللازم والملزوم في الشرع واقع ، ولذا يعتبر الظنّ بالقبلة دون الوقت ، وإن كان الأوّل مستلزما للثاني. وكذا بين لازمي ملزوم واحد ، كما سيجيء عند بيان الاصول المثبتة. ومن هنا يظهر الوجه في عدم عمل العلماء بالاصول المثبتة في كثير من الموارد ، بل ربّما عزي القول بعدم اعتباره إلى المشهور ، مع قولهم باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ.

وثانيا : أنّ العمدة في خروج الاصول العدميّة من محلّ النزاع هو الإجماع الذي ادّعاه صاحب الرياض ، كما تقدّم في كلام المستدلّ ، والمتيقّن منه عدم

٥٩

إلّا ويمكن معه فرض استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجوديّ ، فيسقط فائدة نفي اعتبار الاستصحابات الوجوديّة. وانتظر لتمام الكلام. وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات : اختلافهم في أنّ النافي يحتاج إلى دليل أم لا؟ فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما ادّعيناه.

نعم ، ربّما يظهر من بعضهم خروج بعض الأقسام (٢٠٦٢) من العدميات من محل النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى ب" البراءة الأصلية" ؛ فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ـ كالمحقّق والعلّامة والفاضل الجواد ـ الإطباق على العمل عليه ، وكاستصحاب عدم النسخ ؛ فإنّ المصرّح به في كلام غير واحد ـ كالمحدّث الأسترآبادي والمحدّث البحراني ـ : عدم الخلاف فيه ، بل مال الأوّل إلى كونه من ضروريات الدين ، وألحق الثاني بذلك استصحاب عدم المخصّص والمقيّد.

______________________________________________________

الخلاف في ثبوت نفس العدم المستصحب أو آثاره الشرعيّة بالاستصحاب ، لا مقارناته ولوازمه العقليّة أو العاديّة.

نعم ، وقع الإجماع على اعتبار الاصول المثبتة في مباحث الألفاظ في مقام تعيين الأوضاع والمرادات بمثل أصالة عدم النقل والاشتراك ، وأصالة عدم قرينة المجاز والتخصيص والتقييد وعدم الإضمار ونحو ذلك ، ولا يجوز التعدّي عن موارد الإجماع كما هو واضح.

٢٠٦٢. لأنّ للاستصحاب العدمي باعتبار المستصحب أقساما ، لأنّ المستصحب العدمي إمّا أن يكون من قبيل الأحكام ، أو الموضوعات.

والأوّل إمّا أن يكون من قبيل الطلبيّات ، أو الوضعيّات. وعلى التقديرين : إمّا أن يكون من قبيل الأحكام الكلّية ، كما في موارد استصحاب البراءة ، وإمّا أن يكون من قبيل الأحكام الجزئيّة ، كعدم وجوب صلاة الآيات أو الكفّارة أو نحو ذلك عند الشكّ في حدوث أسبابها ، بناء على جريان الاستصحاب الحكمي مع جريان الاستصحاب الموضوعي.

٦٠