فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا ذكرناه سلامة إطلاقات أدلّة الاستصحاب في نفي وجوب الفحص في العمل به في الموضوعات من معارضة الوجوه المتقدّمة لوجوب الفحص في الأحكام ، فيبقى الإجماع المدّعى عليه شاهدا له.

لكنّ الإنصاف أنّ التأمّل الصادق في كلماتهم فروعا واصولا يقضي بعدم تحقّق هذا الإجماع ، لإيجابهم الفحص في بعض الموارد ، كما في صورة الشكّ في بلوغ المال حدّ النصاب في الزكاة والخمس وحدّ الاستطاعة في الحجّ ، وفيما شكّت المرأة في كون دم الاستحاضة قليلا أو كثيرا أو متوسّطا ، فيوجبون الاعتبار بوضع القطنة ، وفي استبراء المرأة عند الشكّ في انقطاع دم الحيض ، حيث لم يحكموا باستصحاب العدم في أمثال هذه الموارد. وادّعى بعضهم في اصوله ـ وببالي أنّه صاحب المعالم ـ أنّه إذا قال المولى لعبده : أكرم علماء البلد ، يجب عليه الفحص عن العلماء الموجودين في البلد ، ويذمّه العقلاء لو اكتفي بإكرام من علم بوجوده من العلماء في البلد من دون فحص ، إذا كان في البلد عالم سوى من أكرمه ويمكن الوصول إليه بالفحص. وهذا متّجه في الجملة.

والميزان في ذلك بحيث يكون ضابطا في الخروج من الأصل الذي قدّمناه. وهو عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة ـ لا يخلو من أحد وجوه :

أحدها : أن يكون العمل بالأصل مستلزما للمخالفة الكثيرة ، فيجب الفحص في مثله ، لمنافاتها لغرض الشارع من جعل الأحكام ، ولعلّ إيجابهم للفحص في الموارد المذكورة من جهة ذلك ولا ينتقض ذلك بباب الطهارة والنجاسة ، حيث اكتفى الشارع في الحكم بالطهارة بمجرّد احتمالها مطلقا (*) ، وإن استلزم محظور المخالفة الكثيرة ، وذلك لأنّ الشارع قد وسّع على الأمّة في باب الطهارة لمصلحة اقتضته.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : سواء كان مسبوق الطهارة أم لا. منه.

٥٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ معرفة ما ذكرناه في كثير من الموارد ممكنة. والمعيار الكلّي أن يعرض المورد الذي يراد إجراء الأصل فيه على العرف ، فيتبع حكمهم بوجوب الفحص وعدمه فيه ، لأنّ مرجع الفحص إلى طريق إطاعة أحكام الشارع ، والعرف هو المتّبع في كيفيّة امتثال أحكامه.

وثانيها : أن يكون الموضوع الذي يراد استصحابه من الامور الخفيّة التي لا طريق واضحة إلى معرفتها غالبا ، فيجب في مثله الفحص. ولعلّه من هذا القبيل إيجابهم الفحص عن الاستحاضة المتردّدة بين القليلة والكثيرة والمتوسّطة. والوجه فيه إمّا حكم العرف الذي هو المتّبع في باب الإطاعة على ما عرفت ، أو رجوع هذا المعيار إلى الأوّل ، أعني : لزوم المخالفة الكثيرة في العمل بالأصل من دون فحص.

وثالثها : أن يكون من الامور التي لا طريق إلى معرفته من دون فحص ، كمعرفته سبحانه والتصديق بنبيّه المرسل من قبله ، إذ لا طريق إلى معرفة معبود بالحقّ وإلى تصديق من يدّعي كونه مرسلا من قبله إلّا النظر في آثار قدرته تعالى وفي معجزة مدّعي النبوّة ، فلا يجوز نفي وجوب المعرفة والتصديق بأصالة عدم وجوب النظر ، أو أصالة عدم وجود معبود بالحقّ أو نبيّ مرسل من قبله ، حتّى تجب المعرفة والتصديق. والدليل على ما ذكرناه هو العقل.

ثمّ إنّ جميع الموارد التي يجب فيها الفحص من الشبهات الموضوعيّة لا يخلو من أحد الوجوه المذكورة. وعليك بالتأمّل والإذعان بما تجده حقيقا بالقبول ، والله المعوّل والمسئول.

ثمّ إنّ الكلام في عدم وجوب الفحص للمقلّد في الشبهات الموضوعيّة ، والإشكال فيه من جهة عدم تمكّنه من تمييز موارد الاصول الحاكمة والمعارضة ، على النحو الذي قرّره المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه ، فلاحظ ولا تغفل ، والله أعلم.

٥٤٢

وتوضيح ذلك : أنّك قد عرفت أنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شكّ في بقائه ، وهذا لا يتحقّق إلّا مع الشكّ في بقاء القضيّة المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللاحق. والشكّ على هذا الوجه لا يتحقّق إلّا بامور : الأوّل بقاء الموضوع في الزمان اللاحق ، والمراد به معروض المستصحب (٢٥٧١).

______________________________________________________

٢٥٧١. توضيحه : أنّ الفرق بين المستصحب وموضوعه أنّ المستصحب هو الأمر العارض الذي يقع موردا للاستصحاب ، وهو المحمول في القضيّة المتيقّنة السابقة. والموضوع هو المعروض لهذا المحمول القائم به مع جميع القيود المعتبرة في قيامه به ، من زمان أو مكان أو وصف ، أو نحو ذلك ممّا يكون له مدخل في عروض المحمول لموضوعه وقيامه به. ولا ريب أنّ المحمول قد يقوم بموضوعه باعتبار وجوده الخارجي ، مثل قولنا : زيد قائم ، لأنّ قيام القيام بزيد إنّما هو بوصف وجوده الخارجي وقد يقوم به باعتبار تقرّره الذاتي الملحوظ على وجه قابل لأن يحمل عليه بالوجود تارة وبالعدم اخرى ، مثل قولنا : زيد موجود ، لأنّ قيام الوجود به إنّما هو بهذا الاعتبار ، لا باعتبار الوجود الخارجي وإلّا لزم تكرار المحمول ، لأنّه حينئذ يكون في قوّة أن يقال : زيد الموجود موجود ، وهو ليس بمقصود قطعا ، بل غير صحيح ، بخلاف المثال الأوّل ، لما عرفت من كون عروض القيام لزيد باعتبار وجوده الخارجي ، فكأنّه قيل : زيد الموجود قائم.

وإذا عرفت هذا فاعلم : أنّ المراد ببقاء الموضوع في زمان الشكّ المشروط في جريان الاستصحاب ليس بقائه بوجوده الثانوي ، إذ مع العلم بوجود زيد كذلك في الزمان اللاحق لا يفرض الشكّ في وجوده حتّى يصحّ استصحابه ، بل المراد وجوده في الزّمان اللّاحق على النّحو الذي كان معروضا ومحمولا عليه في القضيّة المتيقّنة السابقة. فإن كان معروضا بالوجود الخارجي ، فلا بدّ من بقائه كذلك ، بأن كان وجوده الخارجي في الزمان اللّاحق معلوما وشكّ في اتّصافه بمحموله

٥٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

العارض ، له بأن علم وجود زيد وشكّ في بقائه على صفة القيام. وإن كان معروضا بالتقرّر الذاتي ، فلا بدّ من بقائه كذلك ، ولا ريب في بقاء زيد كذلك في زمان الشكّ في وجوده.

ومن هنا صحّ أن يقال ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «وهذا لا يتحقّق مع الشكّ في بقاء القضيّة ...» ـ : يعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة من جميع الوجوه ، إلّا من حيث اختلافهما في إدراك النسبة الخارجيّة باليقين في الاولى والشكّ في الثانية. وبعبارة اخرى : يعتبر اتّحادهما في جميع وحدات التناقض إلّا من حيث اختلاف زمان النسبة باليقين والشكّ.

ومن هنا يتّضح اندفاع ما نقله المصنّف رحمه‌الله من استشكال بعضهم في أمر كلّية اشتراط بقاء الموضوع بالاستصحاب في الموضوعات الخارجة.

فإن قلت : إنّ بقاء الأمر الخارجي بتقرّره الذاتي دائميّ ، لعدم قابليّته للارتفاع ، فما وجه اشتراط البقاء حينئذ؟ لأنّه فرع احتمال الارتفاع.

قلت : إنّ اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب كلّيا لا يقدح فيه العلم بالبقاء في بعض موارده. مع أنّا نمنع عدم قابليّته للارتفاع ، لأنّ بقاء الأمر الخارجي بتقرّره الذاتي فرع بقاء استعداده له ، وإلّا فبعد انقضاء استعداده ـ كانقضاء العمر الطبيعي للإنسان ـ لا يفرض له بقاء ولو بتقرّره الذاتي. نعم ، يرد على المقام أنّ الشيء في ظرف الواقع لا يخلو : إمّا أن يتّصف بالوجود أو العدم ، ففرضه قابلا للأمرين لا تحقّق له إلّا بمجرّد الاعتبار ، والأمر الاعتباري لا يكون معروضا لأمر واقعي.

فإن قلت : إنّ الممكن في مرتبة إمكانه وإن لم يخل من أحد الأمرين ، إلّا أنّ قطع النظر عن وجوده وعدمه لا يجعله أمرا اعتباريّا ، وإلّا لزم عدم الممكن رأسا ، لأنّه قبل وجوده ممتنع وبعده واجب ، ولذا ذكروا أنّ الشيء ما لم يمتنع لم ينعدم ، وما لم يجب لم يوجد.

٥٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قلت : إنّ ظاهر القضيّتين نفي وجود الممكن في الخارج ، لأنّ الشيء إن وجد فهو واجب وإلّا فهو ممتنع. واتّصاف الشيء بالإمكان إنّما هو في العقل لا في الخارج.

وتحقيقه على ما ذكره بعض أهل المعقول : أنّ الإمكان إنّما يعرض الماهيّة من حيث هي ، لا مأخوذة مع وجودها ولا مأخوذة مع عدمها ، وكذا غير مأخوذة مع وجود علّتها وعدمها ، فإنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي وبين الوجود والعدم أمّا إذا أخذت الماهيّة مع الوجود ، فإنّ نسبتها حينئذ إلى الوجود بالوجوب لا بالإمكان ، ويسمّى ذلك وجوبا لاحقا. وإذا أخذت مع العدم تكون نسبتها إلى العدم بالامتناع لا بالإمكان ، ويسمّى ذلك امتناعا لاحقا. وكلاهما يسمّى ضرورة بشرط المحمول وأمّا إذا أخذت الماهيّة مع وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة ، ويسمّى ذلك وجوبا سابقا. وإن أخذت مع عدم علّتها كانت ممتنعة ما دامت العلّة معدومة ، ويسمّى ذلك امتناعا سابقا. وكلّ موجود محفوف بوجوبين سابق ولاحق ، وكلاهما وجوب بالغير. وكلّ معدوم محفوف بامتناعين سابق ولاحق ، وكلاهما بالغير.

هذا ، ويمكن دفع الإيراد بأنّ الأشياء في الخارج وإن لم يخرج من كونه واجبا أو ممتنعا ، إلّا أنّ قطع النظر عن الوجود والعدم لا يوجب كون الشيء أمرا اعتباريّا ، وإلّا لم يصدق قولنا : زيد موجود ، لأنّ نسبة الوجود إلى زيد تقتضي أخذه معرّى عن قيدي الوجود والعدم ، وإلّا لزم حمل الشيء على نفسه أو اجتماع النقيضين ، وكلاهما باطلان. ومع تعريته عن القيدين فهو معروض للوجود في الخارج ، فلو كان أمرا اعتباريّا لم يصلح أن يكون معروضا للوجود في الخارج.

وتوضيحه : أنّ العقل قد يلاحظ الشيء معرّى عن القيدين ، بحيث يصلح أن يخبر عنه بالوجود أو العدم ، فتارة يخبر عنه باعتبار وقوعه في الخارج فيقول : زيد موجود ، واخرى يخبر عنه باعتبار عدمه في الخارج فيقول : زيد ليس بموجود. وعلى التقديرين فالملحوظ عند العقل أمر صالح للوجود والعدم ، ولكن معروض

٥٤٥

فإذا اريد استصحاب قيام زيد أو وجوده ، فلا بدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا ، فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي ، وللوجود بوصف تقرره ذهنا ، لا وجوده الخارجيّ.

وبهذا اندفع ما استشكله بعض (١) في كليّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، بانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائها ؛ زعما منه أنّ المراد ببقائه وجوده الخارجيّ الثانويّ ، وغفلة عن أنّ المراد وجوده الثانويّ على نحو وجوده الأوّلي الصالح لأن يحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ، وإلّا لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في الزمان السابق. فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت اخرى ، وهذا المعنى لا شكّ في تحقّقه عند الشكّ في بقاء حياته.

______________________________________________________

الوجود أمر واقعيّ في الخارج ومرادهم باشتراط بقاء الموضوع في قضيّة جريان الاستصحاب ليس ما هو المستفاد من ظاهر لفظ البقاء ، أعني : الوجودات المتأخّرة للشيء كما أشرنا إليه آنفا ، وإلّا لم يصحّ استصحاب وجود زيد مع العلم ببقائه بوجوداته المتأخّرة كما هو واضح. بل المراد كون معروض المستصحب موضوعا في القضيّة الثانية المشكوكة على نحو كونه موضوعا في القضيّة الاولى المتيقّنة. فزيد في مثل قولنا : زيد قائم مأخوذ بوجوده الخارجي ، فعند الشكّ في قيامه وإرادة استصحابه لا بدّ من العلم بتحقّقه في زمان الشكّ بوجوده الخارجي ليصحّ وقوعه موضوعا في القضيّة المشكوكة كذلك ، لفرض وقوعه كذلك في القضيّة المتيقّنة. وفي مثل قولنا : زيد موجود مأخوذ بوجوده التقرّري الذاتي الصالح للوجود والعدم ، وهو ممكن في القضيّة المشكوكة.

وممّا ذكرناه يظهر أنّ مراد المصنّف رحمه‌الله بكون زيد معروضا للوجود بوجوده التقرّري الذهني ليس كون معروض الوجود هو الوجود الذهني الظلّي ، لوضوح أنّ الوجود أمر خارجي وإن لم يكن موجودا خارجيّا كما قرّر في محلّه ، فلا يصلح الوجود

٥٤٦

ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط (٢٥٧٢)

______________________________________________________

الظلّي أن يكون معروضا للأمر الخارجي ، بل المقصود كون الموضوع في قولنا : زيد موجود ملحوظا ذهنا على وجه يصلح للوجود والعدم ، وإن كان الوجود محمولا في القضيّة على الذات المتقرّرة واقعا على ما عرفت.

٢٥٧٢. توضيح هذا الدليل العقلي : أنّ مقتضى أخبار الباب ـ بحكم التعبير بالنقض فيها ـ هو كون الحكم الثابت في زمان الشكّ هو عين الحكم الثابت في زمان اليقين. وحينئذ فإن كان موضوع الحكم الأوّل باقيا على سبيل القطع فهو ، وإلّا فإن كان معلوم الانتفاء فالحكم الثابت حينئذ في زمان الشكّ إن كان عين الحكم الأوّل فلا يخلو : إمّا أن يقوم بلا موضوع ، أو بموضوع آخر. والأوّل يستلزم قيام العرض بلا معروض. والثاني يستلزم انتقال العرض. وكلّ منهما محال. مضافا في الثاني ـ مع تسليم إمكانه ـ إلى أصالة عدم العروض للموضوع الآخر ، لفرض كونه مسبوقا بالعدم. ومع تسليم الوقوع فلا ريب أنّ نسبة المستصحب إلى موضوعه الآخر مغايرة لنسبته إلى موضوعه الأوّل ، كنسبة لون الحناء إلى اليد بالنسبة إلى نسبته إلى نفس الحناء وإن قلنا بانتقاله عنه إلى اليد.

وتعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد النسبة في القضية المتيقّنة والمشكوكة ، بل قد أشرنا في الحاشية السابقة إلى اعتبار وحدات التناقض في القضيّتين ، بأن لم تكن بينهما مغايرة أصلا إلّا من حيث كون النسبة الحكميّة في إحداهما متيقّنة وفي الاخرى مشكوكة.

والسرّ فيه : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو إبقاء القضيّة الثابتة في زمان اليقين إلى زمان الشكّ ، وعدم نقض الحكم الثابت للموضوع في حال اليقين بالشكّ في ثبوته له في الزمان اللاحق. ولا شكّ في عدم صدق هذا المعنى مع تغاير النسبتين الناشئ من تغاير الموضوعين. وإن كان غيره فهو مخالف لمقتضى الأخبار. وإن كان مشكوك الانتفاء فلا يمكن الحكم بالعينيّة ، لما عرفت من

٥٤٧

في جريان الاستصحاب واضح ؛ لأنّه لو لم يعلم تحقّقه لاحقا ، فإذا اريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به : فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع ، وهو محال ، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق ، ومن المعلوم أنّ هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض ، وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ، فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم ، فهو المستصحب دون وجوده. وبعبارة اخرى : بقاء المستصحب لا في موضوع محال ، وكذا في موضوع آخر ؛ إمّا

______________________________________________________

كونه فرع العلم ببقاء الموضوع ، حتّى يكون الحكم ببقاء المستصحب إبقاء والحكم بعدمه نقضا. فما حكي عن الوحيد البهبهاني وصاحبي الرياض والقوانين من جواز التمسّك بالاستصحاب مع الشكّ في بقاء موضوعه ضعيف.

وممّا ذكرناه يندفع ما ربّما يورد على المصنّف رحمه‌الله من منع عدم قيام الحكم في غير موضوعه ، لأنّ ذلك إنّما يتّجه في الأحكام الواقعيّة بالنسبة إلى موضوعاتها الواقعيّة ، دون الأحكام الظاهريّة التعبّدية ، ولذا حكم الشارع بطهارة المائع المردّد بين الخمر والخلّ وحلّيته وإن كان خمرا في الواقع. ووجه الاندفاع : هو عدم اعتبار العينيّة بين الحكم الواقعي والظاهري في جريان قاعدة الطهارة وغيرها ، بخلاف ما نحن فيه على ما عرفت.

هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد. وأمّا على القول باعتباره من باب الظنّ فأوضح ، لعدم حصول الظنّ ببقاء المستصحب من دون بقاء موضوعه. نعم ، قد يفرّق بينهما بجواز الاكتفاء بالظنّ ببقاء الموضوع على الثاني دون الأوّل ، لكفايته في حصول الظنّ ببقاء حكمه ، وهو واضح.

وربّما يتمسّك في المقام بالإجماع على اشتراط بقاء الموضوع. وهو لا يخلو من نظر ، لما عرفت من كون الشرط عقليّا ، فلا يتحقّق فيه الإجماع المصطلح ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في أول حجّية القطع. اللهمّ إلّا أن يراد به مجرّد الاتّفاق.

٥٤٨

لاستحالة انتقال العرض (٢٥٧٣) ، وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا وجوده في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقّن السابق.

وممّا ذكرنا يعلم : أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ولا يكفي احتمال البقاء ؛ إذ لا بدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء ، والحكم بعدمه نقضا.

فإن قلت : إذا كان الموضوع (٢٥٧٤) محتمل البقاء فيجوز إحرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب.

قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه في بعض الصور ، إلّا أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه : إمّا أن يكون مسبّبا عن سبب غير الشكّ في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ، مثل أن يشكّ في عدالة مجتهده مع الشك في حياته ، وإمّا أن يكون مسبّبا عنه. فإن كان الأوّل ، فلا إشكال في استصحاب الموضوع عند الشكّ ، لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ؛ لأنّ موضوع العدالة : زيد على تقدير الحياة ؛ إذ لا شكّ فيها إلّا على فرض الحياة ، فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة. وبالجملة : فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة : حياة زيد ، وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة.

وعلى الثاني ، فالموضوع إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهريّة هو الماء بوصف الكريّة والإطلاق ، ثمّ شكّ في بقاء تغيّر الماء الأوّل وكريّة الماء الثاني أو إطلاقه. وإمّا أن

______________________________________________________

٢٥٧٣. يظهر من المحقّق الطوسي رحمه‌الله ابتنائه على كون الموضوع مشخّصا للعرض. والكلام في المبنى والمبنيّ عليه محرّر في محلّه.

٢٥٧٤. هذا إشارة إلى ما ذكره صاحب الفصول بقوله : «يشترط في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ولو بالاستصحاب».

٥٤٩

يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما إذا لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو الماء الذي حدث فيه التغيّر آناً ما ، أو الماء المتلبّس فعلا بالتغيّر. وكما إذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب أو المشترك بين الكلب وبين ما يستحال إليه من الملح أو غيره.

أمّا الأوّل ، فلا إشكال (٢٥٧٥)

______________________________________________________

٢٥٧٥. لا يخفى أنّ هذا القسم على قسمين ، لأنّ ترتّب الحكم الشرعيّ على موضوعه إمّا بلا واسطة أمر عقليّ أو عادي أو مقارن له في الوجود اتّفاقا ، أو معها.

أمّا الأوّل فحاصل ما ذكره المصنّف رحمه‌الله فيه يرجع إلى وجوه :

أحدها : أنّه إذا فرض كون الشكّ في الحكم مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ، فمع إجراء الأصل في الموضوع لا يبقى شكّ في الحكم حتّى يكون هو أيضا موردا للأصل ، إذ معنى استصحاب الموضوع ترتيب أحكامه عليه في الظاهر ، فلا تبقى حاجة إلى استصحاب نفس الأحكام.

فإن قلت : لا مانع من وجود دليلين على أمر بحيث كانت دلالة أحدهما موقوفة على قطع النظر عن الآخر ، كما أنّهم كثيرا ما يستدلّون على المسألة الفقهيّة بمثل ذلك ، فيقولون : يدلّ عليها الأصل والكتاب والسنّة ، مع توقّف دلالة الأوّل على عدم الأخيرين.

قلت : فرق واضح بينه وبين ما نحن فيه ، لجريان الاصول مع قطع النظر عن الأدلّة الاجتهاديّة ، بخلاف الاستصحاب الحكمي ، لعدم جريانه مع قطع النظر عن الاستصحاب الموضوعي أيضا ، لفرض كون استصحاب الحكم مشروطا بالعلم ببقاء الموضوع الذي فرض الشكّ في بقائه في المقام.

٥٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّه مع تسليم جريان استصحاب كلّ من الموضوع والحكم ، فلا ريب أنّ المقصود من استصحاب الموضوع في مقام إحراز شرط جريان الاستصحاب الحكمي ترتيب الحكم الثابت بالاستصحاب عليه ، والموضوع الثابت بالاستصحاب لا يترتّب عليه الحكم الثّابت باستصحاب آخر ، لأنّ استصحاب الموضوع بمقتضى قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» إدراج الموضوع المشكوك فيه في الموضوع الواقعي في ترتيب أحكامه عليه ، وكما أنّ الحكم الظاهري لا يترتّب على الموضوع الواقعي ، كذلك على الموضوع المنزّل بمنزلة الواقع ، لأنّ مقتضى التنزيل ترتيب آثار الواقع عليه ، بمعنى جعل آثار الواقع فيه في الظاهر ، لا ترتيب الآثار الظاهريّة كما هو المقصود.

وثانيها : أنّ المقصود من استصحاب الموضوع في مقام إحراز شرط جريان الاستصحاب الحكمي إثبات صحّة الاستصحاب الحكمي ، ولا ريب أنّ صحّة ذلك ليست من الآثار الواقعيّة للموضوع المستصحب حتّى تثبت باستصحابه. وبعبارة اخرى : أنّ مقتضى قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» في الموضوعات المشكوكة هو ترتيب آثارها الواقعيّة عليها في مقام الشكّ ، والاستصحاب الحكم ليس من الأحكام الواقعيّة لها حتّى يثبت باستصحابها ، لأنّ حكم التغيّر الواقعي مثلا هي النجاسة دون استصحابها.

وثالثها : مع التسليم أنّ اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ـ كما يظهر من دليله ـ عقليّ ، فإثبات الشرط العقلي ـ وهو بقاء الموضوع باستصحابه ـ لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة. وبالجملة ، إنّ هنا امورا ثلاثة : استصحاب الموضوع ، وبقائه ، واستصحاب الحكم. وإثبات الثاني بالأوّل لترتيب الثالث عليه لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة. ولعلّ أمر المصنّف رحمه‌الله بالتأمّل هنا إشارة إلى خفاء الواسطة.

٥٥١

في استصحاب الموضوع (٢٥٧٦) ، وقد عرفت ـ في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجيّة ـ أنّ استصحاب الموضوع ، حقيقته ترتيب الأحكام الشرعيّة المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا ، فحقيقة استصحاب التغيّر والكريّة والإطلاق في الماء ترتيب أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل والمطهّرية في الأخيرين.

______________________________________________________

فإن قلت : على ما ذكرت من عدم تعقّل استصحاب الحكم مع الشكّ في موضوعه ، وكذا استصحاب الموضوع لتصحيح استصحاب الحكم ، ما وجه التفصيل بين الأحكام والموضوعات بالقول باعتبار الاستصحاب في الاولى دون الثانية؟ كما حكي عن بعضهم ، لأنّ استصحاب الحكم مع القطع ببقاء الموضوع لا معنى له ، لكون العلم بالموضوع الواقعي مستلزما للعلم بحكمه الواقعي أيضا ، وأنّ مع الشكّ فيه قد عرفت عدم تعقّل استصحاب الحكم مطلقا ، سواء استصحب معه موضوعه أيضا أم لا. فلا بدّ أن يكون هذا المفصّل منكرا للاستصحاب إلّا فيما لا يكون الشكّ فيه ناشئا من الشكّ في موضوعه ، مثل الطهارة والنجاسة ونحوهما ، فلا تترتّب عليه ثمرة في مقابل المثبت مطلقا.

قلت : قد أوضحنا الكلام في وجه ترتّب الثمرة عند نفي المصنّف رحمه‌الله للفائدة عن استصحاب الامور الخارجة ، عند بيان القول بالتفصيل المذكور ، فراجع.

وأمّا الثاني فكالطعام المسموم إذا شكّ في بقاء السمّ فيه ، فإنّه موضوع للحرمة بواسطة كونه مهلكا ، فاستصحاب وجود السمّ فيه لا يثبت كونه مهلكا إلّا على القول بالاصول المثبتة. وعلى هذا القول إذا اريد استصحاب الموضوع مقدّمة لاستصحاب حكمه ـ أعني : الحرمة ـ يرد عليه بعض ما تقدّم في القسم الأوّل ، مضافا إلى ضعف القول المذكور وإن نوقش في المثال المذكور بإمكان استصحاب وجود السمّ المهلك ، لا استصحاب وجود السمّ لإثبات كونه مهلكا وحراما ، فالمثال غير عزيز على المتأمّل.

٢٥٧٦. ربّما يشكل بأنّ استصحاب الحياة إن كان بدون استصحاب العدالة ،

٥٥٢

فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب إجراء الأحكام ، فلا مجال لاستصحاب الأحكام حينئذ ، لارتفاع الشكّ ، بل لو اريد استصحابها لم يجر (*) ؛ لأنّ صحّة استصحاب النجاسة مثلا ليس من أحكام التغيّر الواقعيّ ليثبت باستصحابه ؛ لأنّ أثر التغيّر الواقعيّ هي النجاسة الواقعيّة ، لا استصحابها ؛ إذ مع فرض التغيّر لا شكّ في النجاسة ، مع أنّ قضيّة ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب حكم العقل باشتراط بقائه فيه ، فالمتغيّر (**) الواقعيّ إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل ، فهذا الحكم ـ أعني ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ـ ليس أمرا جعليّا حتّى يترتّب على وجوده الاستصحابيّ ، فتأمّل.

وعلى الثاني ، فلا مجال (٢٥٧٧)

______________________________________________________

يرد عليه : أنّ الأثر الشرعيّ ـ أعني : جواز التقليد مثلا مرتّب على الحياة على تقدير العدالة. وإن كان معه ، يرد عليه : أنّه لا أثر للانضمام بعد عدم ثبوت الحياة بنفسها بالأصل. وإن كان على تقدير العدالة ، يرد عليه : أنّ الحياة مع العدالة التقديريّة لا يترتّب عليه أثر شرعيّ حتّى يصحّ استصحابها.

فإن قلت : فكيف يصحّ استصحاب العدالة على تقدير الحياة؟ وما وجه الفرق بينهما؟

قلت : إنّ الفرق بينهما أنّ موضوع العدالة ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله هو زيد على تقدير الحياة ، إذ لا شكّ في العدالة إلّا على هذا التقدير ، فلا يصحّ استصحاب العدالة إلّا مع القطع بالحياة أو مع فرضها ، بخلاف استصحاب الحياة ، لعدم توقّفه على فرض العدالة.

٢٥٧٧. لا يخفى أنّ عدم تعيّن الموضوع تارة ينشأ من إجمال مفهومه ، كالأفراد الخفيّة للمطلقات بحيث يشكّ في شمول الحكم لها ، فتتعيّن النادرة إذا علم

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «لم يجر» ، لم يجز.

(**) في بعض النسخ : بدل «فالمتغيّر» ، فالتغيّر.

٥٥٣

لاستصحاب الموضوع ولا الحكم. أمّا الأوّل ؛ فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة ، إلّا بناء على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة لكريّة المشكوك بقاؤه على الكرّية ، وعلى هذا القول فحكم هذا القسم حكم القسم الأوّل. وأمّا أصالة بقاء الموضوع (٢٥٧٨) بوصف كونه موضوعا فهو في معنى استصحاب الحكم ؛ لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه.

______________________________________________________

بارتفاع الشائعة ، كما إذا وجب عليه عتق رقبة مع تمكّنه من أفرادها الشائعة والنادرة ثمّ تعذّرت عليه الشائعة. واخرى من اشتباه أحد الفردين بالآخر ، كما إذا وجب إكرام واحد معيّن من زيد وعمرو ، بأن اشتبه الخطاب في تعلّقه بخصوص أحدهما ، ثمّ مات أحدهما وثالثة من تردّد عنوان موضوع الحكم بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء ، كما إذا شكّ في أنّ موضوع النجاسة في الكلب هو الجسم أو عنوان كونه كلبا ، وفرض صيرورته ملحا بوقوعه في المملحة.

واستصحاب الموضوع الواقعي في الأوّل والثالث لا يثبت كون الموضوع هو المحتمل الباقي. وفي الثاني لا يثبت كون الباقي هو الموضوع أوّلا إلّا على القول بالاصول المثبتة. ولا يصحّ استصحاب الحكم أيضا ، لعدم العلم ببقاء موضوعه ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

٢٥٧٨. دفع لتوهّم منع كون الأصل مثبتا ، بتقريب أنّه فرق واضح فيما أخذ من الكرّ شيء فشكّ في بقائه على الكريّة ، بين استصحاب وجود الكرّ لإثبات كون الموجود كرّا ، وبين استصحاب بقاء الموجود في زمان الشكّ على صفة الكريّة الثابتة له في السابق. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وإثبات الأصل إنّما يلزم على الأوّل ، وهو واضح. وأمّا كون ما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإنّه كما يقال : إنّ هذا الموجود كان في السابق كرّا ، والأصل بقائه على صفة الكريّة ، كذلك يقال في الكلب الواقع في المملحة : إنّ هذا الموجود كان موضوعا للنجاسة ، فالأصل بقائه على هذه الصفة.

٥٥٤

وأمّا استصحاب الحكم ، فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه ، وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ليس قياما بنفس ما قام به اوّلا ، حتّى يكون إثباته إبقاء ونفيه نقضا.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : أنّه كثيرا ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته حتى يكون الحكم مرتفعا ، أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، فلو فرض شكّ في الحكم كان من جهة اخرى غير الموضوع ، كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر ، موضوعه نفس الماء ، والتغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشكّ في علّيته للبقاء.

فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ، وهو أحد امور : الأوّل : العقل ، فيقال : إنّ مقتضاه (٢٥٧٩) كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد يجمعها ؛ وذلك لأنّ كلّ قضيّة وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة إلى موضوع واحد ومحمول واحد ، فإذا شكّ في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء علم كونه

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ المتيقّن من كونه على صفة الموضوعيّة في السابق إنّما هو بعنوان الكلبيّة ، فلم يعلم بقاء الموصوف حتّى يصحّ استصحاب صفته.

قلت : إنّ الأمر في الكرّ أيضا كذلك ، لعدم العلم بكون الموجود في زمان الشكّ كرّا في السابق ، وإلّا لم يقع موردا للاستصحاب ومحلّا للشكّ ، فكما أنّ استصحاب الصفة هنا مبنيّ على المسامحة في موضوعها ، كذلك فيما نحن فيه.

ولكنّك خبير بأنّ هذه المسامحة العرفيّة ـ على تقدير تسليمها في مثال الكلب ـ لا تتمّ في جميع موارد ما نحن فيه ، كما يظهر من ملاحظة الأقسام المتقدّمة في الحاشية السابقة. مضافا إلى عموم ما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله.

٢٥٧٩. توضيحه : أنّ الاستصحاب هو إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، والحكم بالعينيّة لا يتمّ عقلا إلّا بعد إحراز جميع القيود المحتمل أخذها في موضوع الحكم السابق ، فتكون جميع القيود المحتملة كذلك ، في ظاهر حكم العقل في حكم القيود المعلوم أخذها في الموضوع ، في وجوب إحرازها في

٥٥٥

قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم أحدهما ، فلا يجوز الاستصحاب ؛ لأنّه إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع الشكّ في أحدهما. نعم ، لو شكّ بسبب تغيّر الزمان (٢٥٨٠) المجعول ظرفا للحكم كالخيار ، لم يقدح في جريان الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب مبنيّ على إلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل.

______________________________________________________

جريان الاستصحاب. والظاهر أنّ هذا هو المراد ، لا ما يتوهّم من ظاهر العبارة من استقلال العقل بكون جميع القيود المحتملة داخلة في الموضوع الأوّلي للحكم حتّى يمنع ذلك. وهو واضح بعد التأمّل في العبارة.

ثمّ إنّ جميع القيود المذكورة في الكلام ـ سواء كانت قيودا للموضوع أو المحمول ـ راجعة في الحقيقة إلى قيود الموضوع. فإذا قيل : الماء ينجس إذا تغيّر ، فهو في معنى قولنا : الماء المتغيّر ينجس بالملاقاة. وكذا في الأمثلة العرفيّة إذا قيل : إن جاءك زيد فأكرمه ، فهو في معنى قولنا : يجب إكرام زيد الجائي ، وهكذا. ولذا اشتهر اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، مع أنّ الشرط بقاء كلّ من الموضوع والمحمول بقيودهما المأخوذة فيهما في السابق ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

ثمّ إنّ هذا الدليل لعلّه ظاهر مستند الأخباريّين في نفي حجّية الاستصحاب في الأحكام الكلّية ، نظرا إلى أنّ الشكّ في بقاء الحكم لا بدّ أن ينشأ من تغيّر بعض القيود المأخوذة في الموضوع في ظاهر الأدلّة. وقد تقدّم كلام للأمين الأسترآبادي في فوائده المكيّة ، عند بيان قول من فصّل بين الحكم الكلّي والجزئي في جريان الاستصحاب من أقوال المسألة ، فراجع.

٢٥٨٠. حاصله : دعوى صحّة إلغاء خصوصيّة الزّمان فيما اعتبر من باب الظرفيّة خاصّة للمتيقّن السابق ، وكانت سببيّة تغيّر الزمان للشكّ في بقاء الحكم ، لأجل احتمال انقضاء استعداده بسبب طول الزّمان ، كما يظهر من تمثيله بالخيار ، لأنّ ثبوته للمغبون لأجل الضّرر المتوجّه إليه ، وهو منجبر بثبوت خيار الفسخ له في أوّل زمان اطّلاعه.

٥٥٦

فالاستصحاب في الحكم الشرعيّ لا يجري إلّا في الشكّ من جهة الرافع ذاتا أو وصفا ، وفيما كان من جهة مدخليّة الزمان. نعم ، يجري في الموضوعات الخارجيّة (٢٥٨١) بأسرها.

ثمّ لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع كفى في عدم جريان الاستصحاب الشكّ في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلا.

الثاني : أن يرجع في معرفة (٢٥٨٢)

______________________________________________________

نعم ، لو احتملت خصوصيّة الزمان في موضوع الحكم أو ثبوته له لم يكن محلّ للاستصحاب ، لعدم صدق البقاء حينئذ إلّا على بعض الوجوه ، كما تقدّم عند بيان الاستصحاب في الأزمان والزمانيّات.

٢٥٨١. لعلّ الوجه فيه ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله من دعوى بقاء الموضوع دائما في استصحاب وجود الموضوعات. ولكنّك خبير بأنّه أخصّ من المدّعى ، لأنّ المراد بالموضوعات هنا أعمّ من ذواتها وأعراضها. وبعبارة اخرى : أنّ المراد باستصحاب الموضوعات هنا أعمّ من استصحاب وجود الموضوع الخارجي كاستصحاب حياة زيد ، ومن استصحاب ما يعرضه كاستصحاب قيامه. وما ذكره هناك إنّما يتأتّى في الأوّل دون الثاني ، كما يظهر ممّا ذكره هناك.

وقوله : «بأسرها» يعني : أعمّ ممّا كان الشكّ فيه في المقتضي ، كما إذا كان الشكّ في حياة زيد من جهة الشكّ في انقضاء استعداده للبقاء ، وممّا كان الشكّ في الرافع ، كما إذا شكّ في حياته من جهة الشك في عروض مانع منها من قتل ونحوه.

وأنت خبير بأنّا قد أشرنا هناك إلى أنّ ما ذكره في فرض بقاء الموضوع في استصحاب الموضوعات ، إنّما يتمّ فيما كان الشكّ فيه في الرافع دون المقتضي ، فراجع ولا تغفل.

٢٥٨٢. توضيح المقام على هذا الميزان : أنّ موضوع الحكم ـ إطلاقا وتقييدا ـ قد يكون مبيّنا في الكتاب والسنّة ، فيفرّق بين قوله : الماء المتغيّر نجس ، و

٥٥٧

الموضوع للأحكام إلى الأدلّة ، ويفرّق بين قوله : " الماء المتغيّر نجس" وبين قوله : " الماء ينجس إذا تغيّر" ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ، فيزول الحكم بزواله ، وفي الثاني نفس الماء فيستصحب النجاسة لو شكّ في مدخليّة التغيّر في بقائها ، وهكذا. وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع إذا كان الدليل غير لفظيّ لا يتميّز فيه الموضوع ؛ لاحتمال مدخليّة القيد الزائل فيه.

______________________________________________________

قوله : الماء ينجس إذا تغيّر. فيستصحب النجاسة بعد زوال التغيّر على الثاني دون الأوّل ، لأنّ الموضوع على الأوّل هو الماء بوصف تغيّره ، وقد زال بزوال قيده. وعلى الثاني هو الماء من حيث هو ، والتغيّر سبب لعروض الحكم وحدوثه ، فإذا شكّ في كون العلّة المحدثة مبقية وعدمه تستصحب النجاسة.

وقد لا يكون الموضوع مذكورا في الكتاب والسنّة ، أو يكون مجملا فيهما ، بأن ثبت الحكم بدليل لبّي من إجماع ونحوه أو لفظيّ مجمل ، بأن ثبتت بالإجماع مثلا نجاسة الماء المتغيّر أو الكلب ، وشكّ في أنّ موضوع النجاسة هو الماء بوصف التغيّر والكلب بعنوان كونه كلبا ، أو ذات الماء في الأوّل ومطلق الجسم في الثاني ، إلّا أنّ الوصف والعنوان سببان لحدوث الحكم دون بقائه ، فإذا زال التغيّر وصار الكلب ملحا بوقوعه في المملحة لم يجز استصحاب النجاسة ، لعدم العلم ببقاء موضوعها.

ومن هنا يسقط الاستصحاب عن درجة الاعتبار في كثير من الموارد التي تمسّك به فيها القوم ، لعدم تعيّن موضوع الحكم فيها بالكتاب والسنّة ، لعدم وروده فيهما ، كمسائل الاجتهاد والتقليد. فإذا صار المجتهد المطلق متجزّيا أو الأعلم مساويا لغيره أو للعامي ، لأجل عدم ممارسة الكتب في زمان طويل ، أو صار الحيّ ميّتا أو نحو ذلك ، لا يجوز استصحاب جواز العمل له ولغيره برأيه في الأوّل ، ووجوب البقاء على تقليده في الأخيرين ، لاحتمال تقيّد الموضوع في الأوّل بالإطلاق ،

٥٥٨

الثالث : أن يرجع في ذلك إلى العرف (٢٥٨٣) ،

______________________________________________________

وفي الأخيرين بوصف الأعلميّة والحياة.

٢٥٨٣. توضيحه أن يقال : إنّ المعيار في تمييز القيود المأخوذة في الموضوع من غيرها هو حكم العرف باتّحاد القضيّتين المعتبرتين في الاستصحاب وإن تغايرتا في الواقع فإذا ثبتت نجاسة الماء المتغيّر شرعا ، فمع زوال التغيّر إن حكم العرف بأنّ هذا الماء ـ أعني : ما زال تغيّره ـ هو الذي كان نجسا في السابق ، يحكم بجريان الاستصحاب فيه وإلّا فلا.

وبعبارة أوضح : إذا ثبتت نجاسة الماء المتغيّر شرعا ، فإذا ثبتت نجاسته بعد زوال تغيّره أيضا بخطاب جديد آخر ، فإن كان هذا الخطاب الجديد محمولا عند العرف على إمضاء الحكم الأوّل ، بأن قالوا بأنّ هذا الخطاب تأكيد لبيان النجاسة السابقة ، فهو مورد للاستصحاب لو لا الخطاب الجديد. وإن كان محمولا على بيان إنشاء جديد مغاير للإنشاء الأوّل ، لنجاسة الماء قبل زوال تغيّره ، فهو ليس بمورد له أصلا.

وبعبارة ثالثة : أنّه إذا كان المورد بحيث لو ورد في الشرع زوال الحكم أو عدمه بعد زوال بعض قيود موضوعه ، فإن كان يعدّ ذلك رفعا أو بقاء للحكم الأوّل كما في مثال الإنسان والكلب ، حيث إنّهما إذا ماتا حكم العرف بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، فهو مورد للاستصحاب ، وإن لم يصدق الارتفاع والبقاء بالمداقّة العقليّة ، وكذا في مثال الزوجيّة وغيره ممّا أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، وإلّا لا يكون موردا له ، مثل المنيّ إذا صار إنسانا ، لأنّ حكم الشارع بطهارة الإنسان لا يعدّ رفعا لنجاسة المنيّ ، وهكذا ممّا ستعرفه.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يثبت موضوع الحكم في الكتاب والسنّة وكان مبيّنا فيهما إطلاقا وتقييدا ، أم كان ثابتا بالإجماع ونحوه ، لأنّ المدار في جميع الموارد على صدق بقاء الموضوع عرفا. فإذا حكم العرف بعد زوال التغيّر أنّ هذا

٥٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الماء كان نجسا تستصحب نجاسته ، وإلّا فلا ، سواء كان الموضوع في الأدلّة الماء المطلق ، بأن كان التغيّر سببا لحدوث الحكم ، أو المقيّد بالتغيّر ، أو لم يكن الموضوع مذكورا في الأدلّة.

فلنا هنا من الكلام مقامان : أحدهما : أنّ العرف هل يسامح في الموضوع ، بأن يقول : إنّ هذا الماء مشيرا إلى ما زال عنه التغيّر ، كان نجسا في السابق أو لا؟ وثانيهما : بيان الدليل على اعتبار هذه المسامحة العرفيّة.

أمّا المقام الأوّل فهو ممّا يشهد به العيان ، ويقضي به الوجدان في الجملة. ولذا ترى أنّهم لا يفرّقون بين قولنا : الماء المتغيّر نجس ، وقولنا : الماء ينجس إذا تغيّر ، فيزعمون كون الموضوع على التقديرين هو مطلق الماء ، والتغيّر سببا لحدوث الحكم ، فيقولون بعد زوال التغيّر : إنّ هذا الماء كان نجسا. وكذا يزعمون طهارة السمك ـ بعد موته في خارج الماء ـ هي الطهارة الثابتة في حال حياته ، من دون التفات إلى اختلاف الموضوعين.

وبالجملة ، إنّ الأمر في ذلك تابع للمقامات ، وليس في حكمهم باتّحاد القضيّتين ضابط يؤخذ به. ولعلّ الأغلب في باب الطهارة والنجاسة هو ذلك ، لزعمهم قيامهما بالأجسام من دون مدخليّة الأوصاف فيهما ، ولذا حكم الفاضلان ـ كما نقل عنهما المصنّف رحمه‌الله ـ ببقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة ، كما إذا صار الكلب ملحا إذا وقع في المملحة ونحوه ، والمشهور بنجاسة الأجزاء التي لا تحلّها الحياة من نجس العين كالعظم والشعر ، خلافا للمرتضى فحكم بطهارتها.

نعم ، في بعض الموارد لا يساعد العرف اتّحاد القضيّتين ، كما عرفته من مثال المنيّ الذي خلق منه الإنسان. وقد أفرط الوحيد البهبهاني ـ فيما حكي عنه ـ فحكم بنجاسة أولاد الكفّار استصحابا للنجاسة. وهو كما ترى بمكان من الضعف ، لعدم مساعدة العرف لدعوى اتّحاد القضيّتين بعد الاطّلاع على الانقلابات الكثيرة

٥٦٠