فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

الحكم الوضعيّ حكم مستقل مجعول ـ كما اشتهر في ألسنة جماعة ـ أو لا ، وإنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي؟ فنقول : المشهور كما في شرح الزبدة (٢٢٤٨)

______________________________________________________

الاشتغال ثبت وجوبها الغيري وارتفع الشكّ عنه.

ومنها : أنّ المحقّق الخوانساري ـ كما سيجيء عند بيان قوله ـ قد نقل عن القائل بعدم كفاية الحجر ذي الشعب الثلاث في الاستنجاء التمسّك باستصحاب بقاء النجاسة إلى أن يعلم بطروّ مطهّر شرعيّ ، وبدون الأحجار الثلاثة والماء لا يعلم ذلك. وحينئذ إن قلنا بكون النجاسة أمرا شرعيّا مجعولا من قبل الشارع ، فاستصحابها يكون حاكما على أصالة البراءة عن وجوب الاستنجاء بأكثر من حجر ذي شعب ثلاث ، بناء على كون المقام من مواردها ، نظرا إلى دوران الأمر بين الأكثر والأقلّ الاستقلاليّين ، لكون الشكّ في وجوب الزائد مسبّبا عن الشكّ في زوال النجاسة بذي الشعب الثلاث.

وأمّا إذا قلنا بكون النجاسة أمرا اعتباريّا منتزعا من حكم طلبي ، أعني : وجوب الهجر عن امور مخصوصة في الصلاة والأكل والشرب مثلا ، فتبقى أصالة البراءة حينئذ سليمة من المعارض ، فإنّ القدر المتيقّن من التكليف على ما حقّقه المحقّق المذكور ـ كما سيجيء ـ هو وجوب الاستنجاء بالحجر ذي الشعب الثلاث أو بثلاثة أحجار ، وترتّب العقاب على تركهما معا ، وأمّا تعيّن الثلاث بالخصوص فمدفوع بالأصل السالم من المعارض. وكذا لو تردّد زوال النجاسة في غير البول بالغسل مرّة أو مرّتين ، وفي ولوغ الكلب بثلاث غسلات أو سبع ، إذ لو قلنا بكون النجاسة أمرا شرعيّا فاستصحابها يقتضي المرّتين والسبع ، وإن قلنا بكونها أمرا اعتباريّا تبقى أصالة البراءة عن الزائد سليمة من المعارض ، إلى غير ذلك من الموارد غير الخفيّة على المتتبّع في الفقه.

٢٢٤٨. ببالي أنّه في شرح الزبدة للفاضل الجواد. وكيف كان ، فقد نسب في الإشارات والمناهج أيضا القول بالجعل إلى المشهور.

٢٤١

بل الذي استقرّ عليه رأي المحققين ـ كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين ـ : أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعيّ ، وأنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ، فمعنى قولنا : " إتلاف الصبيّ سبب لضمانه" ، أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها ، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله : " اغرم ما أتلفته في حال صغرك" ، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببية الإتلاف للضمان ، ويقال : إنّه ضامن ، بمعنى أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف. ولم يدّع أحد إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف الفعلي المنجّز حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص ، حتّى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين : من أنّه قد يتحقّق الحكم الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي ، كالصبيّ والنائم وشبههما.

وكذا الكلام في غير السبب ؛ فإنّ شرطيّة الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغاير لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة ، وكذا مانعيّة النجاسة ليست إلّا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس ، وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركّب.

والعجب ممّن ادّعى بداهة بطلان ما ذكرنا ، مع ما عرفت من أنّه المشهور والذي استقرّ عليه رأي المحققين. فقال قدس‌سره في شرحه على الوافية ـ تعريضا على السيّد الصدر ـ : وأمّا من زعم أنّ الحكم الوضعي عين الحكم التكليفي على ما هو ظاهر قولهم : " إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء" ، فبطلانه غنيّ عن البيان ؛ إذ الفرق بين الوضع والتكليف ممّا لا يخفى على من له أدنى مسكة ، والتكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع ، والكلام إنّما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير.

وبالجملة : فقول الشارع : " دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة" و" الحيض مانع منها" ، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو إيجاب الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض ، كما أنّ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) (١٤) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " دعي الصلاة أيّام أقرائك" ، خطاب تكليفي وإن استتبع وضعا ، وهو كون الدلوك

٢٤٢

سببا والإقراء مانعا. والحاصل : أنّ هناك أمرين متباينين ، كلّ منهما فرد للحكم ، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام. انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : لو فرض نفسه (٢٢٤٩) حاكما بحكم تكليفي ووضعيّ بالنسبة إلى عبده ، لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا ؛ فإنّه إذا قال لعبده : " أكرم زيدا إن جاءك" ، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشاءين وجعل أمرين : أحدهما : وجوب إكرام زيد عند مجيئه ، والآخر : كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه؟ أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه ؛ ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء" سببية الدلوك" و" مانعية الحيض" ، ولم يرد من الشارع إلّا إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل وطلب تركها عند الثاني؟ فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى ، كيف! وهما محمولان مختلفا الموضوع.

______________________________________________________

٢٢٤٩. لا يذهب عليك أنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله إلى هنا متعلّق بتصوير القول بكون أحكام الوضع اعتباريّة منتزعة من الأحكام الطلبيّة ، مع الإشارة إلى جملة من أدلّة مدّعي الجعل وتضعيفها ، وما ذكره بعده توضيح لدليل القول المختار.

وأقول في توضيح جميع ما ذكره : إنّهم قد احتجّوا للقول بالجعل بوجوه :

أحدها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن بعض الغافلين من تخلّف الوضعيّ عن التكليفي في بعض الموارد ، إذ لو كان الوضعيّ منتزعا منه لم يمكن التخلّف عنه. وجوابه واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير إلى زيادة توضيح له.

وثانيها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله أيضا عن المحقّق الكاظمي رحمه‌الله بقوله : «والعجب ممّن ادّعى ...» من دعوى البديهة والوجدان. والجواب عنه أيضا واضح ممّا ذكره.

وثالثا : أنّ كثيرا من الخطابات ظاهر في الوضع خاصّة ، فلا دليل على صرفه عن ظاهره ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و «الماء كلّه طاهر» وهكذا. وفيه ـ مع تسليم ظهور هذه الأخبار في إنشاء الشرطيّة

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والجزئيّة والطهارة ، لا إخبار عن كون الأمر بالصلاة متعلّقا بالمركّب والمقيّد ، وعن صفة الطهارة في الماء ، بناء على كون الطهارة صفة واقعيّة لا مجعولة كما ستعرفه ـ أنّ الدليل ما ستعرفه من عدم تعقّل جعل أحكام الوضع.

وأمّا دليل القول بالانتزاع فوجوه مستفادة من كلام المصنّف رحمه‌الله :

أحدها : أنّه خلاف الوجدان بالتقريب الذي ذكره. وحاصله : أنّه لا ريب أنّ خطابات الشارع منزّلة على الخطابات العرفيّة في كيفيّة استفادة ما يستفاد منها ، لكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرسلا بلسان قومه. وأظهر ما يستفاد منه الحكم الوضعي من الخطابات هي الجملات الشرطيّة التي تفيد سببيّة الشرط للجزاء. ولا ريب أنّ المولى إذا قال لعبده : أكرم زيدا إن جاءك ، لا يفهم منه إلّا إيجاب الإكرام عند تحقّق المجيء ، لا إنشاء الوجوب والسببيّة معا بإنشاءين مختلفين أو بإنشاء واحد. وكذا إذا أمر بمركّب فليس هنا إلّا إنشاء الوجوب المتعلّق بالمركّب. وعلى الخصم أن يقول : إنّه متضمّن لإنشاءات : أحدها إنشاء الوجوب ، والآخر إنشاء جزئيّة الجزء ، والثالث إنشاء كلّية الكلّ. وهو مع ما عرفت من مخالفته للوجدان أنّي لم أر من عدّ الكلّية من أحكام الوضع ، وليس ذلك إلّا لكون كلّية الكلّ كجزئيّة الجزء منتزعتين من الأمر بالمركّب.

وثانيها : أنّه قد اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعيّة الحيض ، ولم يرد فيهما إلّا خطاب متضمّن للحكم التكليفي خاصّة. وهذا دليل الانتزاع ، إذ لا دليل على الجعل مع عدم دلالة الدليل عليه. وتصريحهم مع ذلك بالسببيّة والمانعيّة دليل على كون الوضعيّ منتزعا من التكليفي عندهم.

وثالثها : عدم تعقّل كونها مجعولة ، وهو يقرّر بوجهين :

أحدهما : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من أنّا لا نتعقّل من سببيّة الدلوك مثلا إلّا إنشاء وجوب الصلاة عنده ، لا أن يكون ذلك صفة زائدة فيه تقتضي إنشاء الوجوب عنده ، لأنّه إن اريد بها صفة ذاتيّة فيه فهو مع بطلانه مناف للقول بالجعل ، وإن

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

اريد بها صفة أوجدها الشارع فيه ، فنحن لا نتعقّلها سوى ما ذكرناه من إنشاء الوجوب عند تحقّقه.

وثانيهما : أنّ المراد بجعل أحكام الوضع اختراع الشارع وإنشائه لها ، بحيث لو لا هذا الجعل والإنشاء لم يكن لها وجود في الخارج ولا عند العقل إلّا بالاعتبار والانتزاع من شيء ، إذ ما لا وجود له في الواقع لا وجود له عند العقل أيضا إلّا بالاعتبار والانتزاع ، وهذا المعنى غير معقول في أحكام الوضع ، لأنّ الشارع إذا علّق وجوب الصلاة على تحقّق الدلوك مثلا من دون إنشاء السببيّة له ، فنحن نتعقّل ترتّب وجوب الصلاة على تحقّق الدلوك ، الذي هو معنى السببيّة التي يدّعي الخصم كونها مجعولة بإنشاء مغاير لإنشاء الوجوب عند تحقّقه. وكذا إذا نهى عن الصلاة في حال الحيض بقوله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» أو في مكان مغصوب بقوله : «لا تصلّ في الدار المغصوبة» ، من دون إنشاء المانعيّة ولو لأجل الغفلة عنه كما في الخطابات العرفيّة ، فنحن نتعقّل عدم تحقّق الصلاة في حال الحيض أو في المكان المغصوب ، الذي هو معنى المانعيّة التي تخيّل الخصم كونها مجعولة ، وهكذا. فمع فرض وجود صفة السببيّة والمانعيّة من دون إنشاء الشارع لا يعقل كونهما من المجعولات الشرعيّة. ومن هنا يظهر أنّه لو صرّح الشارع بأنّ شيئا سبب لكذا أو مانع منه أو شرط له ، وجب صرفه إلى إرادة تقيّد موضوع الطلب بوجود الشيء المذكور أو عدمه ، لما عرفت من عدم معقوليّة الجعل والإنشاء فيه.

ويؤيّد ما ذكرناه من كون أحكام الوضع منتزعة من الأحكام التكليفيّة عدم انفكاكها عنها أصلا وعدم تعقّلها بدونها.

وفذلكة المقام : أنّ الأحكام الوضعيّة موضوعات للأحكام الطلبيّة كما ستعرفه ، وهي إمّا امور لها واقعيّة إمّا في الواقع وقد كشف عنها الشارع ، أو بحسب نظر أهل العرف ، وإمّا امور اعتباريّة منتزعة من الأحكام الطلبيّة. وعلى التقديرين لا دخل لجعل الشارع فيها.

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والأوّل مثل الطهارة والنجاسة ، بناء على ما ادّعاه بعض مشايخنا من كونهما من قبيل الأوصاف الواقعيّة للأعيان الخارجة قد كشف عنهما بيان الشارع ، وإن كنّا قبل بيانه غير مطّلعين عليهما. نعم ، قد حكي عن الشهيد تفسير النجاسة بوجوب الهجر عن امور مخصوصة في الصلاة والأكل والشرب. وعلى هذا التفسير تكونان من الامور الانتزاعيّة الاعتباريّة ، فتكونان حينئذ مثل الملك والرقيّة والحرّية والإسلام والإيمان والضمان ونحوها ممّا له وجود في نظر أهل العرف حتّى في سائر الملل ، لأنّ لهذه الامور وجودات عرفيّة قد جعلها الشارع موضوعات لأحكام خاصّة لا دخل لجعل الشارع فيها ، لأنّ أهل العرف إنّما يزعمون الملكيّة مثلا شيئا متأصّلا قد رتّب عليها جواز التصرّف ، وكذا يزعمون الرقيّة والحرّية أمرين موجودين قد رتّب الشارع عليهما حكما خاصّا ، وهكذا. ولذا حكي عن صاحب الرياض في كتاب المضاربة الحكم بكون الدين مملوكا مع أنّ الملك عرض يقتضي محلّا يقوم به ، والذمة ليست محلّا له.

وبالجملة ، إنّ هذه الامور متأصّلة في نظر أهل العرف ، وإن كانت راجعة إلى الأحكام الطلبيّة عند التحقيق ، غير متأصّلة في الواقع.

والثاني مثل السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والبطلان والكلّية والجزئيّة ونحوها ، لأنّها امور اعتباريّة محضة ينتزعها العقل من الأحكام الطلبيّة على اختلافها. فإذا تعلّق الطلب بموضوع مقيّد ينتزع منه تارة الشرطيّة ، واخرى السببيّة ، وثالثة المانعيّة ، على اختلاف الموارد ، ومرجع الجميع إلى الأمر بموضوع مقيّد من دون تعلّق إنشاء من الشارع به مغاير لإنشاء الطلب. وكذا إذا تعلّق الأمر بالمركّب ، فتارة ينتزع منه الكلّية ، واخرى الجزئيّة. وكذلك الصحّة والفساد من موافقة الأمر وعدمها في العبادات ، ومن ترتّب الآثار الشرعيّة من جواز التصرّف ونحوه على صدور الألفاظ المخصوصة مثلا وعدمه في المعاملات.

ولمّا كان انتزاع هذه الامور من الأحكام الطلبيّة مختلفا في الوضوح والخفاء ،

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فاختلفوا في الصحّة والفساد على أقوال ، فقيل : بكونهما اعتباريّين مطلقا ، كالحاجبي والعضدي وجمال العلماء ، مع قولهم بالجعل في غيرهما. وفصّل بعضهم فيهما بين العبادات والمعاملات ، بدعوى كونهما من الامور الاعتباريّة في الاولى ، نظرا إلى كون الصحّة والفساد فيها بمعنى موافقة الأمر وعدمها ، وهما من الامور العقليّة المحضة ، ومن الامور المجعولة في المعاملات ، لكونهما فيها بمعنى ترتّب الأثر وعدمه ، وهما شرعيّان كما يظهر من صاحب الفصول.

وأنت خبير بأنّ الأثر ـ وهو جواز الاستمتاع بعد عقد النكاح مثلا ـ وإن كان شرعيّا إلّا أنّ ترتّبه عليه عقلي ، يحكم به العقل بعد الاطّلاع على جعل هذا الأثر عند تحقّق موضوعه. وهذا إذا كان الأثر حكما طلبيّا. وإن كان وضعيّا ـ كالأمثلة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله ـ فالأمر فيه واضح ممّا ذكره.

هذا كلّه في الأحكام الوضعيّة الواقعيّة. وأمّا الظاهريّة فالقول بالجعل فيها أوهن منه في الواقعيّة ، وذلك بأنّ يقال بأنّ العقد الفاسد سبب ظاهري لإفادة الملك وإباحة التصرّف عند اعتقاد صحّته. ومن هنا يقال : إنّ الملك لا يزول بتغيّر الاجتهاد ، لأنّ العقد سبب شرعيّ إذا وقع لا يزول أثره إلّا بناقل شرعيّ ، وتبدّل رأي المجتهد ليس منه. وأنت خبير بأنّ دعوى الجعل في الوضعيّة الواقعيّة خالية من الدليل ، بل قد عرفت الأدلّة على خلافها فضلا عن الظاهريّة منها.

فإن قلت : كيف تنكر كون أحكام الوضع مجعولة وتدّعي رجوعها إلى الأحكام الطلبيّة ، مع اختلافهما مفهوما وشرطا ومحلّا ودليلا؟ لأنّ حرمة شرب الخمر مباينة لمانعيّتها من الصلاة ، وكذا وجوب الطهارة ينفكّ عن شرطيّتها للصلاة ، لأنّ شرطيّتها تجتمع مع الوجوب والندب ، والتكليف بما لا يطاق يجري في التكليفي دون الوضعي ، واختلاف اللوازم يدلّ على اختلاف الملزومات ، كيف لا والتكليفيّة مشروطة بالعلم والقدرة والعقل والبلوغ ، بخلاف الوضعيّة ، ولذا يثبت الضمان في حال الصغر والجنون والنوم ، بخلاف وجوب الأداء ، وكذا

٢٤٧

وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين ، فالحوالة على الوجدان لا البرهان.

وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد ؛ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان ، كالمسببية والمشروطية والممنوعية ، مع أنّ قول الشارع : " دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة" ليس جعلا للإيجاب استتباعا ـ كما ذكره ـ بل هو إخبار عن تحقّق الوجوب عند الدلوك.

______________________________________________________

الجنابة تثبت في هذه الأحوال دون وجوب الغسل.

قلت : إنّ غاية ما ذكرت اختلاف الحكم الوضعي والتكليفي مفهوما وموضوعا وشرطا ، وعدم صحّة رجوعه إلى التكليف الفعلي المنجّز. وهذا كلّه إنّما يسلّم على تقدير تسليم كونه مجعولا ، ولا ينافي كونه أمرا منتزعا من الحكم التكليفي ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله عند بيان مراد القائل بالانتزاع ، والتنبيه على غفلة من غفل عن مراده.

ونزيد هنا توضيحا ونقول : إنّ الأحكام التكليفيّة على أقسام ، منها ما يتعلّق بالمكلّف ابتداء ، مثل الأمر بالصلاة والصوم. ومنها ما يتعلّق به على تقدير وقوع أمر. وعلى الثاني : إمّا أن يتعلّق بنفس الفاعل ، أو بالغير. ومن قال بانتزاع الأحكام الوضعيّة من التكليفيّة لا يريد به انتزاعها من التكليفيّة الفعليّة المنجّزة ، بل أعمّ منها ومن المعلّقة. فإذا أتلف شخص مال الغير توجّه إليه التكليف فعلا بأداء عوض التالف إن استجمع شرائط التكليف ، وإلّا فعلى تقدير استجماعه لها. فإذا أتلفه في حال النوم يكون التكليف بالأداء معلّقا على الانتباه من النوم. وإذا أتلفه في حال الجنون أو الصّغر يتوجّه التكليف بالأداء إلى الوليّ ، بمعنى الأداء من مال الصغير والمجنون إن كان له وليّ ، وإلّا فإلى حاكم الشرع ، لعموم أدلّة ولايته ، وإلّا فإلى عدول المؤمنين ، وإلّا فإلى صاحب المال ، بأن يجوز له الأخذ من مالهما عوض التألّف. وإن كان هو أيضا صغيرا ولم يكن له وليّ ، كان المتلف مكلّفا بالأداء ، ولكن معلّقا على استجماعه لشرائط التكليف من البلوغ والرشد وغير

٢٤٨

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه حتّى يتكلّم أنّه بجعل مستقلّ أو لا ؛ فإنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب ـ خصوصا عند من لا يرى كالأشاعرة (٢٢٥٠) ، الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال ـ إلّا إنشاء الوجوب عند الدلوك ، وإلّا فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته ، بأن (*) يكون فيه معنى يقتضي إيجاب الشارع فعلا عند حصوله ، ولو كانت لم تكن مجعولة من الشارع ، ولا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه باعتبار الفصول المنوّعة ولا الخصوصيّات المصنّفة والمشخّصة.

هذا كلّه في السبب والشرط والمانع والجزء. وأمّا الصحّة والفساد ، فهما في العبادات : موافقة الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به أو مخالفته له ، ومن المعلوم أنّ هاتين الموافقة والمخالفة ليستا بجعل جاعل (٢٢٥١). وأمّا في المعاملات ، فهما : ترتّب الأثر عليها وعدمه ، فمرجع ذلك إلى سببيّة هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك (**).

فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفيّ ـ كالبيع لإباحة التصرّفات ، و

______________________________________________________

هما. وحينئذ لا جدوى لفرض تغاير الوضعي والتكليفي من الجهات المذكورة ، إذ اعتبار اختلافهما من الجهات المزبورة إنّما يجدي على تقدير تسليم كونه مجعولا لا مطلقا على ما عرفت.

٢٢٥٠. لأنّ الحسن عند الأشاعرة ما أمر به الشارع ، والقبيح ما نهى عنه ، من دون أن يكون ذلك ناشئا من مصلحة أو مفسدة كامنة. ووجه الخصوصيّة حينئذ أنّه لا معنى لسببيّة الدلوك إلّا الأمر بالصلاة عند تحقّقه ، بخلافه على مذهب الإماميّة والمعتزلة ، إذ لمتوهّم أن يتوهّم حينئذ كون نفس المصلحة معنى السببيّة ، وإن كان فساده غنيّا عن البيان.

٢٢٥١. بل هما أمران عقليّان محضان.

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «بأن» ، بل.

(**) في بعض النسخ زيادة : له.

٢٤٩

النكاح لإباحة الاستمتاعات ـ فالكلام فيها يعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها. وإن لوحظت سببا لأمر آخر ـ كسببية البيع للملكيّة ، والنكاح للزوجيّة ، والعتق للحريّة ، وسببية الغسل للطهارة ـ فهذه الامور بنفسها ليست أحكاما شرعيّة. نعم ، الحكم بثبوتها شرعيّ (٢٢٥٢).

وحقائقها إمّا امور اعتباريّة منتزعة من الأحكام التكليفية ـ كما يقال : الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب والصلاة ، نقيض النجاسة ـ وإمّا امور واقعية كشف عنها الشارع.

فأسبابها على الأوّل في الحقيقة أسباب للتكاليف ، فتصير سببية تلك الأسباب (*) كمسبباتها امورا انتزاعية. وعلى الثاني ، يكون أسبابها (٢٢٥٣) كنفس المسبّبات امورا واقعية مكشوفا عنها ببيان الشارع. وعلى التقديرين فلا جعل في سببية هذه الأسباب.

______________________________________________________

٢٢٥٢. لا يقال : إنّ بعض الامور المذكورة إذا كان اعتباريّا ـ كما صرّح به ـ فكيف يكون ثبوته شرعيّا؟ إذ الأمر الاعتباري لا يكون ثبوته شرعيّا ، بل يكون بحسب اعتبار العقل لا محالة.

لأنّا نقول : إنّ المراد بثبوته ليس ثبوت نفس الأمر الاعتباري ، بل ما انتزع منه الأمر الاعتباري ، أعني : الحكم التكليفي الذي هو شرعيّ.

٢٢٥٣. الأولى أن يقول : تكون سببيّتها ، لأنّ السبب والمسبّب إذا كانا واقعيّين تكون سببيّة السبب أيضا واقعيّة لا محالة. والإشكال في المقام إنّما هو في سببيّة السبب من حيث كونها انتزاعيّة أو واقعيّة أو مجعولة ، لا في نفس الأسباب. اللهمّ إلّا أن تمنع الملازمة المذكورة ، لأنّ المراد بالأسباب الشرعيّة ليس ما كان فيه معنى يقتضي التأثير في المسبّب كما هو المعتبر في الأسباب الحقيقيّة ، بل هي معرّفات وعلامات لوجود شيء آخر عند وجودها ، وإن لم يكن فيها مقتضى التأثير ، بل

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فى العادة.

٢٥٠

وممّا ذكرنا تعرف الحال في غير المعاملات من أسباب هذه الامور ، كسببية الغليان في العصير للنجاسة ، وكالملاقاة لها ، والسبي للرقيّة ، والتنكيل للحريّة ، والرضاع لانفساخ الزوجية ، وغير ذلك. فافهم وتأمّل في المقام ؛ فإنّه من مزالّ الأقدام.

قوله : " وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا".

أقول فيه : أنّ الموقّت قد يتردّد (٢٢٥٤) وقته بين زمان وما بعده فيجري الاستصحاب. واورد عليه تارة : بأنّ الشك قد يكون في النسخ ، واخرى بأنّ الشك قد يحصل في التكليف كمن شكّ في وجوب إتمام الصوم لحصول مرض يشكّ

______________________________________________________

كان وجودها كاشفا مطلقا عن وجود صاحبها ، فلا تكون سببيّتها حينئذ واقعيّة كما هو واضح. اللهمّ إلّا أن يدفع ذلك بأنّ المراد بسببيّتها حينئذ مجرّد كشفها عن وجود شيء آخر ، وصفة الكشف أيضا أمر واقعيّ ، فتدبّر.

٢٢٥٤. لأنّ الأمر قد يتردّد في الموقّت بين المضيّق والموسّع ، كما في الجمعة التي قيل باختصاصها بأوّل الزوال ، وقيل بامتداد وقتها إلى أن يصير ظلّ الشاخص مثله ، وقيل بامتداده إلى الغروب. وقد يتردّد في الموسّع في مقدار زمان التوسعة ، كما إذا علم عدم اختصاص الجمعة بأوّل الوقت ، وتردّد الأمر بين الأخيرين. وكذا في الظهرين ، حيث قيل بامتداد وقتهما إلى استتار القرص ، وقيل إلى ميل الحمرة المشرقيّة. والشبهة في المقامين ناشئة إمّا من إجمال النصّ أو فقدانه أو تعارضه كما في سائر الشبهات الحكميّة ، فأين الإطلاق حتّى ندفع الشبهة به؟ واستصحاب الحكم في المقامين وإن لم يكن جاريا على التحقيق ، إلّا أنّ النقض من جهته وارد على الفاضل التوني ، كما سنشير إليه عند شرح قوله : «انحصر الأمر حينئذ في إجراء استصحاب التكليف ، فتأمّل». وإلى وجه عدم صحّة استصحاب الوقت فيهما ، فانتظره.

٢٥١

في كونه مبيحا للإفطار ، وثالثة : بأنّه قد يكون أوّل الوقت وآخره معلوما ولكنّه يشكّ (٢٢٥٥) في حدوث الآخر والغاية ، فيحتاج المجتهد في الحكم بالوجوب أو الندب أو الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشكّ إلى دليل عقلي أو نقلي غير ذلك الأمر.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم ورود شيء من ذلك عليه : أمّا الشكّ في النسخ ، فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلامه في الموقّت (٢٢٥٦) من حيث الشك في بعض أجزاء الوقت ، كما إذا شكّ في جزء ممّا بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله : " اجلس في المسجد من الظهر إلى العصر" ، وهو الذي ادّعى أنّ وجوبه في الجزء المشكوك ثابت بنفس الدليل. وأمّا الشكّ في ثبوت هذا الحكم الموقّت لكلّ يوم أو نسخه في هذا اليوم ، فهو شكّ لا من حيث توقيت الحكم ، بل من حيث نسخ الموقّت.

فإن وقع الشكّ في النسخ الاصطلاحي لم يكن استصحاب عدمه من الاستصحاب المختلف فيه ؛ لأنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني لعموم الأمر الأوّل للأزمان ، ولو كان فهم هذا العموم من استمرار طريقة الشارع ، بل كلّ شارع على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة ، لا من (*) عموم لفظي زماني.

______________________________________________________

٢٢٥٥. من جهة الامور الخارجة ، كما إذا علم أنّ غاية الصّوم استتار القرص أو ميل الحمرة المشرقيّة ، لكن وقعت الشبهة في حصول الغاية ، إمّا للعمى أو الغيم أو نحوهما ، فتكون الشبهة حينئذ موضوعيّة.

٢٢٥٦. أنت خبير بأنّ ظاهر الفاضل التوني هو دعوى عدم فرض حصول الشكّ في الموقّت على وجه لا يشمله إطلاق دليله بوجه من الوجوه ، زعما منه انحصار جهة الشبهة فيه في حيثيّة توقيت الحكم ، لأجل الغفلة عن أنّ الشبهة قد تقع من حيث نسخ الموقّت ، فالنقض غير مندفع بما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

والحاصل : أنّ الظاهر أنّ مراد الفاضل المذكور نفي جريان الاستصحاب من رأس في الأحكام التكليفيّة الثابتة من دون تبعيّة الأحكام الوضعيّة ، كوجوب الصلاة

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : حيث.

٢٥٢

وكيف كان ، فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال حصول التخصيص (*) في الأزمان ، كاستصحاب عدم التخصيص لدفع احتمال المخصّص في الأفراد ، واستصحاب عدم التقييد لدفع إرادة المقيّد من المطلق. والظاهر : أنّ مثل هذا لا مجال لإنكاره ، وليس إثباتا للحكم في الزمان الثاني لوجوده في الزمان الأوّل ، بل لعموم دليله الأوّل ، كما لا يخفى.

وبالجملة : فقد صرّح هذا المفصّل بأنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري في التكليفيّات ، ومثل هذا الاستصحاب ممّا انعقد على اعتباره الإجماع بل الضرورة ، كما تقدّم في كلام المحدّث الأسترآبادي.

ولو فرض الشكّ في النسخ في ارتفاع حكم لم يثبت له من دليله ولا من الخارج عموم زماني ، فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي ، داخل فيما ذكره : من أنّ الأمر إذا لم يكن للتكرار يكفي فيه المرّة ، ولا وجه للنقض به في مسألة الموقّت ، فتأمّل (٢٢٥٧).

وأمّا الشك في تحقق المانع ـ كالمرض المبيح للإفطار ، والسفر الموجب له وللقصر ، والضرر المبيح لتناول المحرّمات ـ فهو الذي ذكره المفصّل في آخر كلامه بجريان الاستصحاب في الحكم التكليفي تبعا للحكم الوضعي ، فإنّ السلامة من المرض

______________________________________________________

والصوم والحجّ والزكاة والخمس ونحوها ، غفلة عن موارد النقض ، وتسليم جريانه فيها بتبعيّة جريانه في موضوعات الأحكام الوضعيّة. وما ذكره المصنّف رحمه‌الله لا يدفع النقض المذكور.

٢٢٥٧. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى أنّه وإن لم يرد نقضا على مسألة الموقّت ، إلّا أنّه يرد نقضا على مسألة كون الأمر للطبيعة أو التكرار لأنّه على القول بالطبيعة إذا شكّ في نسخ الأمر المتعلّق بالطبيعة ، فإثباته في زمان الشكّ ليس إلّا بالاستصحاب.

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «حصول التخصيص» ، خصوص المخصّص.

٢٥٣

الذي يضرّ به الصوم شرط في وجوبه ، وكذا الحضر ، وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرّم ، فإذا شكّ في وجود شيء من ذلك استصحب الحالة السابقة له وجودا أو عدما ، ويتبعه بقاء الحكم التكليفي السابق ، بل قد عرفت فيما مرّ عدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلّا مع قطع النظر عن استصحاب موضوعه ، وهو الحكم الوضعي في المقام. مثلا : إذا أوجب الشارع الصوم إلى الليل على المكلّف بشرط سلامته من المرض الذي يتضرّر بالصوم ، فإذا شكّ في بقائها وحدوث المرض المذكور وأحرز الشرط أو عدم المانع بالاستصحاب أغنى عن استصحاب المشروط ، بل لم يبق مجرى له ؛ لأنّ معنى استصحاب الشرط وعدم المانع ترتيب آثار وجوده ، وهو ثبوت المشروط مع فرض وجود باقي العلل الناقصة ، وحينئذ فلا يبقى الشكّ في بقاء المشروط.

وبعبارة اخرى : الشكّ في بقاء المشروط مسبّب عن الشكّ في بقاء الشرط ، والاستصحاب في الشرط وجودا أو عدما مبيّن لبقاء المشروط أو ارتفاعه ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لا معارضا لاستصحاب الشرط ، لأنّه مزيل له ، ولا معاضدا ، كما فيما نحن

______________________________________________________

لا يقال : إنّ إثباته فيه إنّما هو بإطلاق الدليل الناشئ من دليل الحكمة ، إذ لو كان مراد الشارع امتثاله في زمان معيّن لبيّنه لئلّا يلزم الإغراء ، وكذا في جميع الأزمنة ، مع أنّه خلاف مقتضى الصيغة بالفرض ، وإلّا كانت للتكرار. وكذلك لو كان مراده الامتثال في الجملة أو مكرّرا إلى زمان معيّن ، فتعيّن أن يكون مراده الامتثال ولو بالمرّة في تمام الأزمنة.

لأنّا نقول : إنّ دليل الحكمة إنّما يتمّ فيما حصل القطع بعدم البيان ، أو ثبت ذلك بالاصول. والأوّل خلاف الفرض. والثاني لا يتمّ إلّا بضميمة الاستصحاب. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مرجع أصالة عدم البيان إلى أصالة عدم تقييد إطلاق الدليل ولو بحسب أحواله ، وهي ـ كأصالة عدم التخصيص وسائر قرائن المجاز ـ من الاصول المجمع عليها ، فيخرج من الاستصحاب المختلف فيه ، كما هو محلّ كلام الفاضل المذكور.

٢٥٤

فيه. وسيتّضح ذلك في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجية ، وفي بيان اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن النقض الثالث عليه ـ بما إذا كان الشكّ في بقاء الوقت المضروب للحكم التكليفي ـ فإنّه إن جرى معه استصحاب الوقت أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي كما عرفت في الشرط ، فإنّ الوقت شرط أو سبب ، وإلّا لم يجر استصحاب الحكم التكليفي ؛ لأنّه كان متحققا بقيد ذلك الوقت (*). فالصوم المقيّد وجوبه بكونه في النهار لا ينفع استصحاب وجوبه في الزمان المشكوك كونه من النهار ، وأصالة بقاء الحكم المقيّد (٢٢٥٨) بالنهار في هذا الزمان لا يثبت كون هذا الزمان نهارا ، كما سيجيء توضيحه في نفي الاصول المثبتة إن شاء الله.

______________________________________________________

٢٢٥٨. هذا واضح ، لأنّ استصحاب وجوب الصّوم المقيّد بوقوعه في النهار لا يثبت كون الزمان المشكوك فيه نهارا إلّا من باب الملازمة العقليّة ، لعدم بقاء الحكم بلا موضوعه. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الحكم إذا كان معلّقا على شرط ، وكان الحكم متحقّقا ، لأجل وجود شرطه ، فمع ارتفاع الشرط بعده وإن لم يصدق ارتفاع الحكم ، وكذا مع الشكّ في ارتفاعه لا يصدق الشكّ في ارتفاع الحكم عند التحقيق والمداقّة ، لتوقّف صدق الارتفاع والبقاء والشكّ فيهما على القطع ببقاء الموضوع مع قيوده المأخوذة فيه ، إلّا أنّ أهل العرف يتسامحون في ذلك ، ويطلقون ارتفاع الحكم عند ارتفاع شرطه بعد تحقّقه ، زعما منهم كون ارتفاع الشّرط الذي هو من قيود الموضوع من قبيل تبدّل حالات الموضوع لا من قبيل تغيّر نفسه ، فيزعمون ارتفاع الوجوب عند ارتفاع الاستطاعة المعلّق عليها بعد تحقّقها ، وإن كانت القضيّة التعليقيّة صادقة مع ارتفاع المعلّق عليه ، لوضوح عدم توقّف صدق كون وجوب الحج معلّقا على الاستطاعة على تحقّقها في الخارج ، ولذا قلنا في

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وبقائه على هذا الوجه من التقييد لا يوجب تحقّق القيد وإحرازه ، والشكّ فى القيد يوجب الشكّ فى المقيّد ، فلا يجرى الاستصحاب فيه.

٢٥٥

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا وإن كان لتعليقه على أمر حاصل ، فيقال عرفا إذا ارتفع الاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحجّ : إنّ الوجوب ارتفع ، فإذا شكّ في ارتفاعها يكون شكّا في ارتفاع الحكم المتنجّز وبقائه وإن كان الحكم المعلّق لا يرتفع بارتفاع المعلّق عليه ؛ لأنّ ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع الشرطية ، إلّا أنّ استصحاب (٢٢٥٩) وجود ذلك الأمر المعلّق عليه كاف في عدم جريان الاستصحاب المذكور ، فإنّه حاكم عليه ، كما ستعرف.

نعم لو فرض في مقام عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في الوقت ، كما لو كان الوقت مردّدا بين أمرين ـ كذهاب الحمرة واستتار القرص ـ انحصر

______________________________________________________

مبحث المقدّمة بوجوب مقدّمات المشروط أيضا على نحو وجوب ذيها.

نعم ، تنجّز القضيّة موقوف عليه لا أصل صدقها ، لصدق الشرطيّة مع عدم الشرط ووجوده. وبهذا قد ضعّفنا قول المحقّق القمّي رحمه‌الله في محلّه بصيروريّة الواجب المشروط مطلقا عند تحقّق شرطه ، لما عرفت من صدق الشرطية مع وجود الشرط أيضا ، فلا يخرج بوجوده من كونه مشروطا. نعم ، يصير به منجّزا ، وهو لا ينافي المشروطيّة. نعم ، ما ذكره مبنيّ على الخلط بين المنجّز والمطلق.

وكيف كان ، فإذا صدق ارتفاع الحكم المعلّق على وجود شرط عند ارتفاع شرطه ، كما فيما نحن فيه من وجوب الصوم المعلّق على تحقّق كون الزمان نهارا ، وكذا صدق الشكّ في الارتفاع عند الشكّ في ارتفاعه ، صحّ فيما نحن فيه استصحاب الوجوب إلى زمان الشكّ ، وإن كان صدق الشكّ في الارتفاع عند المداقّة موقوفا على إحراز كون الزمان المشكوك فيه نهارا ، لعدم صدق الشكّ في ارتفاع الحكم مع عدم القطع بتحقّق موضوعه ، لاختصاصه بموارد الشكّ في الرافع ، ولذا اختار المصنّف رحمه‌الله اختصاص مؤدّى الأخبار بهذه الموارد ، إلّا في موارد مسامحة أهل العرف ، كما فيما نحن فيه بناء على ما عرفت.

٢٢٥٩. استثناء من قوله : «إلّا أن يقال ...».

٢٥٦

الأمر (٢٢٦٠) حينئذ في إجراء استصحاب التكليف ، فتأمّل (٢٢٦١).

والحاصل : أنّ النقض عليه بالنسبة إلى الحكم التكليفي المشكوك بقاؤه من جهة الشكّ في سببه أو شرطه أو مانعة غير متّجه ؛ لأنّ مجرى الاستصحاب في هذه الموارد اوّلا وبالذات هو نفس السبب والشرط والمانع ، ويتبعه بقاء الحكم التكليفي ، ولا يجوز إجراء الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداء ، إلّا إذا فرض انتفاء استصحاب الأمر الوضعي.

قوله : " وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار ...".

ربّما يورد عليه : أنّه قد يكون التكرار مردّدا (٢٢٦٢) بين وجهين ، كما إذا علمنا بأنّه

______________________________________________________

٢٢٦٠. لأنّ ما يمكن استصحابه هنا هو أصالة عدم خروج الوقت المقرّر للموقّت في الواقع في زمان الشكّ. ولكنّه إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، لعدم إثباتها كون الزمان المشكوك في كونه وقتا للحكم وقتا له إلّا على القول المذكور ، لعدم إثبات استصحاب الكلّي لخصوص بعض أفراده.

٢٢٦١. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع جريان استصحاب الحكم هنا أيضا ، لكون مرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في شرطيّة الزمان المشكوك فيه في المأمور ، به وعدمها ، والمرجع عند الشكّ في الأجزاء والشرائط هي البراءة على المختار وفاقا للمصنّف رحمه‌الله ، بل المشهور أو الاحتياط على قول آخر ، كما سيشير إليه عند بيان قوله : «وإلّا فذمّة المكلّف مشغول ...» ، إلّا أنّ النقض مع ذلك وارد على الفاضل التوني ، حيث حصر وجه عدم جريان الاستصحاب في الأوامر الموقّتة ـ من دون تبعيّة جريانه في الأحكام الوضعيّة ـ في عدم حصول الشكّ في التكليف بالنسبة إلى أجزاء الوقت. وحاصل النقض حينئذ إمكان حصول الشكّ حينئذ في الأجزاء الوقت ، مع عدم إمكان دفعه بإطلاق الأمر أو عمومه.

٢٢٦٢. توضيح المقام إلى قوله : «يرجع إلى مسألة الشكّ في الجزئيّة وعدمها» : أنّه إن قلنا بكون الأمر للتّكرار أو الفور أو الطبيعة فلا كلام حينئذ ، إلّا

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

من حيث الشكّ في نسخ الحكم أو عروض المانع ، الذي قد عرفت دعوى المصنّف رحمه‌الله عدم ورود النقض من جهته على الفاضل التوني.

نعم ، يرد عليه أنّ الأمر قد يدور بين المرّة والتكرار ، وقد يتردّد الأمر في التكرار بين العرفي والعقلي ، بأن يجب تكرار الفعل بحسب الإمكان. وقد يتردّد في التكرار بين التقييدي ، بأن يقيّد كلّ واحدة من مرّات الفعل بالاخرى ، بأن يشترط الإتيان بالفعل في المرّة الاولى الإتيان به في المرّة الثانية ، وهكذا ، بحيث لو أخلّ بواحدة منها لم يحصل المطلوب ، فيكون المجموع حينئذ تكليفا واحدا ، وبين كونه من قبيل تعدّد المطلوب ، بأن كان كلّ واحدة من المرّات تكليفا مستقلّا.

وعلى تقدير كونه من قبيل تقييد المطلوب أو تعدّده ، قد يدور الأمر بين الزائد والناقص ، بأن يدور الأمر بعد العلم بعدم كون المطلوب التكرار مطلقا بين مرّتين وثلاث أو أكثر. وعلى تقدير العلم بعدم كونه للتكرار ، قد يتردّد الأمر بين الطبيعة والفور. وعلى تقدير إرادة الفور ، وعدم سقوط التكليف في الزمان الثاني على تقدير المخالفة في الزمان الأوّل ، قد يتردّد الأمر بين إرادة الفور على الفور ، بأن تجب المبادرة في الزمان الأوّل ، ومع المخالفة ففي الزمان الثاني ، وهكذا ، كما قيل في وجوب ردّ السلم ، وبين التوسعة في الأزمنة المتأخّرة ، بأن كان المراد وجوب المبادرة في الزمان الأوّل ، والتوسعة في الأزمنة المتأخّرة على تقدير المخالفة في الزمان الأوّل ، كما حكي عن المقدّس الأردبيلي في وجوب ردّ السلم.

ثمّ إنّه قد يتردّد الأمر أيضا بين الفور والتكرار ، وبينهما والطبيعة. وعلى تقدير إرادة الطبيعة قد يقيّد الأمر بقيد مجمل. وعلى تقدير إرادة الفور قد يتردّد الأمر بين الفور العرفي ، بأن جاز التأخير بما تصدق معه المسارعة عرفا ، وبين الحقيقي بأن لا يجوز التأخير أصلا.

ولا يمكن دفع الشكّ في شيء من هذه الصور بإطلاق الأمر ، لفرض كون الشبهة فيها ناشئة إمّا من إجمال النصّ أو فقدانه أو تعارضه ، كما في سائر الشبهات

٢٥٨

ليس للتكرار الدائمي ، ولكنّ العدد المتكرّر كان مردّدا بين الزائد والناقص. وهذا الإيراد لا يندفع بما ذكره قدس‌سره : من أنّ الحكم في التكرار كالأمر الموقّت ، كما لا يخفى.

فالصواب أن يقال : إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشكّ في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشكّ في مقدار التكرار ؛ لتردّده بين الزائد والناقص ، ولا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّ كلّ واحد من المكرّر : إن كان تكليفا مستقلا فالشكّ في الزائد شكّ في التكليف المستقلّ ، وحكمه النفي بأصالة البراءة ، لا الإثبات بالاستصحاب ، كما لا يخفى. وإن كان الزائد على تقدير وجوبه جزءا من المأمور به ـ بأن يكون الأمر بمجموع العدد المتكرّر من حيث إنّه مركّب واحد ـ فمرجعه إلى الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به وعدمها ، ولا يجري فيه أيضا الاستصحاب ؛ لأنّ ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء لا يثبت وجوب هذا الشيء المشكوك في جزئيّته ، بل لا بدّ من الرجوع إلى البراءة أو قاعدة الاحتياط.

قوله : " وإلّا فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان". قد يورد عليه النقض بما عرفت (٢٢٦٣) حاله في العبارة الاولى.

______________________________________________________

الحكميّة ، فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول.

نعم ، إنّ المرجع فيها هي البراءة أو الاحتياط دون الاستصحاب ، لدوران الأمر فيها إمّا بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أو الارتباطيّين أو التعيين والتخيير ، والمرجع عند المصنّف رحمه‌الله في جميع ذلك هي أصالة البراءة ، كما تقدّم في مسألة البراءة.

ولكن هذا لا يدفع عن الفاضل التوني رحمه‌الله ضيما ، لأنّ صريحه دعوى عدم إمكان فرض الشكّ في الأوامر على وجه لا يدفعه إطلاق الأمر. وما ذكرناه أيضا هو المراد بما ذكره المصنّف رحمه‌الله بقوله : «فالصواب أن يقال ...» ، لأنّ مقصوده أيضا التنبيه على أنّ حصول الشكّ في الأوامر وإن كان ممكنا ، إلّا أنّ الصواب في منع جريان الاستصحاب فيها هو دعوى كونها موردا لأصالة البراءة دون إطلاق الأمر ، كما زعمه الفاضل المذكور.

٢٢٦٣. من الإيرادات الثلاثة المتقدّمة ، أعني : الإيراد الأوّل والثاني. وورود

٢٥٩

ثمّ إنّه لو شكّ في كون الأمر لتكرار أو المرّة كان الحكم كما ذكرنا في تردّد التكرار بين الزائد والناقص. وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرار في الجملة ـ كالجلوس في المسجد ـ ولم يعلم مقدار استمراره ، فإنّ الشكّ بين الزائد والناقص يرجع ـ مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلّا على تقدير وجوبه ـ إلى أصالة البراءة ، ومع فرض كونه جزءا ، يرجع إلى مسألة الشكّ في الجزئيّة وعدمها ، فإنّ (*) فيها البراءة أو وجوب الاحتياط.

قوله : " وتوهّم : أنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباه غير خفيّ على المتأمّل". الظاهر أنّه دفع اعتراض على تسويته (٢٢٦٤) في ثبوت الوجوب في كلّ جزء من الوقت بنفس الأمر بين كونه للفور وعدمه ، ولا دخل له بمطلبه وهو عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري ؛ لأنّ كونه من قبيل الموقّت المضيّق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الفور المنزل ـ عند المتوهّم ـ منزلة الموقّت المضيّق : إمّا أن يراد به المسارعة في أوّل أزمنة الإمكان ، وإن لم يسارع ففي ثانيها وهكذا ، وإمّا أن يراد به خصوص الزمان الأوّل فإذا فات لم يثبت بالأمر وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا ولا متراخيا ، وإمّا أن يراد به ثبوته في الآن الثاني متراخيا.

______________________________________________________

الأوّل واضح. وأمّا الثاني فإنّه قد يعرض ما يشكّ معه في بقاء التكليف في غير الموقّت أيضا ، بخلاف الثالث ، لأنّ الشكّ في عروض الغاية لا يتصوّر في غير الأوامر الموقّتة وما في معناها.

٢٢٦٤. تقريب الاعتراض : أنّ التسوية في الحكم بين كون الأمر للفور وعدمه غير صحيحة ، لأنّ الأمر إذا كان للفور كان من قبيل الموقّت ، فلا تكون توسعة في وقت الفعل حتّى يكون ثبوت الحكم في كلّ جزء من الوقت بنفس الأمر. ولا مدخليّة لدفع كونه من قبيله في مطلبه ، بأن كان مراده بدفعه دفع توهّم أنّه لو كان من قبيله كان ثبوت الحكم فيما بعد الوقت بالاستصحاب لا بإطلاق الأمر ،

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فإنّ» ، فالمرجع.

٢٦٠