فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كونه من مشايخ الإجازة ، لما حكي عن الشهيد من أنّ مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص على تزكيتهم. وعن الشيخ محمّد : عادة المصنّفين عدم توثيق الشيوخ. وعن المعراج : أنّ التزكية بهذه الجهة طريقة كثير من المتأخّرين. وعن العلّامة البحراني : مشايخ الإجازة في أعلى درجات الوثاقة ، فتأمّل. وحكي عن غير واحد أيضا التصريح بأنّ كون الراوي من مشايخ الإجازة من أسباب التوثيق. وهو غير بعيد ، بل قويّ بعد إحراز استقامة العقيدة ، بل قيل بأنّ ظاهر الشيخيّة حسن العقيدة إلى أن يثبت الخلاف ، فتأمّل.

وأمّا عدم كون تصحيح العلّامة للسند من أسباب التوثيق ، فهو إنّما يتمّ مع عدم إكثاره من تصحيح حديثه ، وإلّا فلا يبعد ظهوره في التوثيق ، كما صرّح به بعضهم. وعن الوسيط : «أنّه من المشايخ المعتبرين ، وقد صحّح العلّامة كثيرا من الروايات وهو في الطريق بحيث لا يحتمل الغفلة ، ولم أر إلى الآن ولم أسمع من أحد يتأمّل في توثيقه» انتهى.

وأمّا توقّف الجماعة في توثيق العلّامة وابن طاوس فليس في محلّه ، كما صرّح به بعضهم ، لكونه شهادة عدل ، سيّما مع الاكتفاء بمطلق الظنّ في باب التوثيق. هذا مع أنّ مجرّد توثيق الشهيد ـ كما عرفته ـ كاف في المقام ، ولا يصغى إلى احتمال ابتنائه على كونه لأجل كونه من المشايخ على ما عرفت ، مع ما عرفت من كفاية ذلك أيضا. مضافا إلى ما عرفته من صاحب المعالم وغيره من الحكم بصحّة الرواية.

وأمّا عدم إضرار إضمارها فمن وجوه :

أحدها : أنّ الإضمار من مثل زرارة في حكم الإظهار ، لغاية بعد أن يروي مثله عن غير الإمام عليه‌السلام.

وثانيها : أنّ الرواية وإن كانت مضمرة في التهذيب ، إلّا أنّها مستندة إلى الباقر عليه‌السلام في الوافية والفوائد المدنيّة للأمين الأسترآبادي.

١٠١

" قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء. قلت : فإن حرّك إلى جنبه شيء ، وهو لا يعلم؟ قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجئ من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر". (٢٠)

وتقرير الاستدلال (٢١٠٩):

______________________________________________________

وثالثها : ما أشار إليه في المنتقى على ما حكاه عنه في الوسائل ، قال : «يتّفق في بعض الأحاديث عدم التصريح باسم الإمام الذي يروى الحديث عنه ، بل يشار إليه بالضمير. وظنّ جمع من الأصحاب أنّ مثله قطع ينافي الصحّة. وليس ذلك على إطلاقه بصحيح ، لأنّ القرائن في تلك المواضع تشهد بعود الضمير إلى المعصوم عليه‌السلام ، بنحو من التوجيه الذي ذكرناه في إطلاق الأسماء. وحاصله : أنّ كثيرا من رواة حديثنا ومصنّفي كتبه كانوا يروون عن الأئمّة عليهم‌السلام مشافهة ، ويوردون ما يروونه في كتبهم جملة ، وإن كانت الأحكام التي في الروايات مختلفة ، فيقول في أوّل الكتاب : سألت فلانا ، ويسمّي الإمام الذي يروي عنه ، ثمّ يكتفي في الباقي بالضمير ، فيقول : وسألته أو نحو هذا إلى تنتهى الأخبار التي رواها عنه. ولا ريب أنّ رعاية البلاغة تقتضي ذلك ، فإنّ إعادة الاسم الظاهر في جميع تلك المواضع تنافيها في الغالب قطعا. ولمّا أن نقلت تلك الأخبار إلى كتاب آخر صار لها ما صار في إطلاق الأسماء بعينه ، فلم يبق للضمير مرجع. لكنّ الممارسة تطلع على أنّه لا فرق في التعبير بين الظاهر والضمير» انتهى. وذكر في إطلاق الأسماء المشتركة في الأسانيد نحو ذلك.

٢١٠٩. لا يخفى أنّ الشبهة العارضة للراوي التي أوجب السؤال عن بقاء الوضوء مع الخفقة والخفقتين يحتمل وجوها :

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : أن تكون الشبهة في مانعيّة العارض من جهة الشبهة في مفهوم المانع ، بأن يعلم يكون النوم ناقضا للطهارة ، ويشكّ في اندراج الخفقة والخفقتين في مفهومه ، فتكون الشبهة في نقضهما للطهارة للشبهة في اندراجهما تحت ما علم نقضها به ، فتكون الشبهة حينئذ موضوعيّة من حيث بقاء الطهارة وعدمه ، وتكون هذه الشبهة ناشئة من الشبهة في الموضوع المستنبط.

وثانيها : أن تكون الشبهة في مانعيّة العارض ، بأن يعلم بعدم كون الخفقة والخفقتين من أفراد النوم ، ويقع الشكّ في نقضهما للطهارة كالنوم وعدمه ، فتكون الشبهة حينئذ حكميّة من حيث الشكّ في ناقضيّة العارض شرعا.

وثالثها : أن تكون الشبهة في تحقّق مصداق النوم عند حصولهما مع القطع بخروجهما من مفهومه ، بأن يشكّ في كون الحالة العارضة للنفس في حال ميل الرأس تارة بعد اخرى حالة نعاس أو نوم ، مع العلم بكون مفهوم الخفقة هي الحالة العارضة بسبب النعاس.

ولكن ظاهر الرواية بملاحظة سياقها هو الأوّل ولا دلالة لهذه الفقرة على اعتبار الاستصحاب على الوجهين الأوّلين ، لأنّ الإمام عليه‌السلام قد بيّن أنّ الخفقة والخفقتين ليستا من أفراد النوم ، وأنّ النوم نوم الثلاثة جميعا. فعلى الوجهين قد بيّن حكمهما الواقعي من عدم كونهما ناقضتين للطهارة ، وعدم كونهما من أفراد النوم ، بل على الوجه الثالث أيضا ، لأنّ غايته الحكم ببقاء الطهارة مع الشكّ في عروض الناقض لا اعتبار الاستصحاب مطلقا.

نعم ، يدلّ على اعتباره في الامور الخارجة أيضا ، كما أشار إليه المحقّق القمّي رحمه‌الله قائلا : «ثمّ إنّك إذا تأملت في فقه الحديث تعلم أنّ نظر الإمام عليه‌السلام إلى نفي تحقق النوم في الخارج ، ليس أقلّ من نظره إلى إثبات الطهارة وتوجّهه إلى بيان ما به يتحقّق النوم ، وغلبته باستيلائه على القلب والأذن دون العين فقط ، يفيد أنّه اعتبر اليقين في الامور الخارجيّة أيضا ، وإن كان من أسباب الامور الشرعيّة ، فلا

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وجه بتخصيص دلالة الحديث باستصحاب الأحكام الشرعيّة دون الخارجيّة ، لأنّ ذلك إنّما هو من شأنهم ، ومن قبيل حصول النوم في الخارج حصول الجفاف للرطوبة ، وأمثال ذلك ممّا يتعلّق بها الأحكام الشرعيّة» انتهى.

ولكن يرد عليه أوّلا : أنّ حمل الصحيحة على الوجه الثالث خلاف الظاهر كما عرفت.

وثانيا : أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الفقرة اعتبار الاستصحاب في باب الوضوء إذا كانت الشبهة في الموضوع ، نظير سائر الأخبار الخاصّة الآتية الواردة في الموارد الخاصّة ، فلا تدلّ على اعتباره في مطلق الامور الخارجة.

وقوله : «فإن حرّك إلى جنبه ...» ، الظاهر أنّ الشبهة العارضة هنا إنّما هي في تحقّق وجود المانع ، لأنّه لمّا علم من كلامه عليه‌السلام السابق أنّ النوم عبارة عن نوم الثلاثة ، فأراد أن يسأله هنا عمّا اشتبه عليه فيه نوم الثلاثة ، وأنّه هل يصحّ تشخيص ذلك بالأمارات الظنّية مثل عدم علمه بما يحرّك إلى جنبه؟ فأجاب باعتبار اليقين بتحقّق النوم الذي هو عبارة عن نوم الأذن والعين والقلب.

ويرشد إليه قوله «فإن حرّك» وقوله «حتّى يستيقن أنّه نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن» لظهورهما في كون الشكّ في وجود المانع ، لا في كون الأمر الموجود من مصاديق المانع المعلوم المانعيّة ، بأن يشكّ في كون الحالة العارضة ، وهي حالة عدم إحساسه لما يحرّك إلى جنبه من مصاديق النوم. مع أنّ المعيار في الشبهة المصداقيّة صحّة حمل العنوان الكلّي الذي يشكّ في مصداقه على الموضوع المشتبه على تقدير كونه من أفراده في الواقع ، وهنا ليس كذلك ، إذ لا ريب في عدم كون حالة عدم الإحساس من أفراد النوم. نعم ، هي من الأمارات الكاشفة عنه ظنّا ومن هنا تظهر صراحة الصحيحة في اعتبار الاستصحاب مطلقا ، حتّى مع الظنّ بخلاف الحالة السابقة.

وممّا ذكرناه قد ظهر فساد ما اعترض به في الضوابط على السبزواري ، و

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تبعه صاحب الفصول ، لأنّه بعد ذكر وجه الاستدلال بالصحيحة تارة بكلّية الكبرى ، واخرى بالعلّة المنصوصة على ما ستقف عليه ، قال : «والعجب من صاحب الذخيرة حيث نفي حجّية الاستصحاب فيما شكّ في مانعيّة شيء كالمذي للوضوء ، أو شكّ في كون شيء فردا من المانع المعلوم المانعيّة ، كالخفقة والخفقتين إذا شككنا في صدق النوم عليهما. مع أنّ مورد الرواية إمّا القسم الأوّل أو الأخير ، ولا يخلو عن هذين القسمين اللذين منعهما هذا المحقّق. والحاصل : أنّ الرواية مثبتة في الجملة لحجّية الاستصحاب» انتهى.

لأنّه إن أراد بمورد الرواية مورد الفقرة الاولى منها ، أعني : قوله : «أتوجب الخفقة والخفقتان» كما هو ظاهر تمثيله أيضا ، ففيه : منع انحصار موردها في القسمين اللّذين ذكرهما أوّلا ، ومنع دلالة هذه الفقرة على تقدير تسليم الانحصار على اعتبار الاستصحاب ثانيا كما تقدّم. وإن أراد به مورد الفقرة الثانية ، أعني قوله : «وإن حرّك إلى جنبه ...» ، ففيه : أنّك قد عرفت أنّ موردها صورة الشكّ في تحقّق المانع ، وستعرف في محلّه أنّ المحقّق السبزواري لا ينكر اعتبار الاستصحاب فيها ، بل يخصّ مورد اعتباره بها.

نعم ، يرد عليه أنّ المحقّق المذكور ـ كما سيجيء في محلّه ـ قد قسّم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه إلى ما كان الشكّ فيه في وجود الرافع ، وإلى ما كان الشكّ فيه في واقعيّة الشيء ، من جهة إجمال ذلك الشيء وما كان الشكّ فيه في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، وما كان الشكّ فيه في كون الشيء رافعا مستقلّا. ولم يعتبر الاستصحاب فيما عدا القسم الأوّل ، استنادا إلى كون الباء في قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» للسببيّة ، فيفيد حرمة النقض بسبب الشكّ.

وقال : «وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من الأقسام الأربعة دون غيره». ثم بيّن ذلك بما حاصله : أنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، واستناد نقض اليقين في الأقسام الثلاثة الأخيرة ليس إلى الشكّ ، بل إلى اليقين

١٠٥

أنّ جواب الشرط في قوله عليه‌السلام : " وإلّا فإنّه على يقين" محذوف ، قامت العلّة (٢١١٠) مقامه لدلالتها عليه ، وجعلها نفس الجزاء يحتاج إلى تكلّف ، وإقامة العلّة مقام الجزاء لا تحصى كثرة في القرآن وغيره ، مثل قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) ، و (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، و (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ) ، إلى غير ذلك. فمعنى الرواية : إن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ؛

______________________________________________________

بوجود ما شكّ في كونه رافعا ، أو إلى اليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه ، فهو في الحقيقة نقض يقين بيقين آخر مثله لا بالشكّ ، لكون الشكّ في هذه الصور حاصلا قبل حصول اليقين بوجود ما ذكر ، فلا يستند النقض إليه ، فلا تكون هذه الأقسام مشمولة للرواية ، بخلاف القسم الأوّل ، لكون النقض فيه مستندا إلى نفس الشكّ.

وهذا كما ترى في غاية من الضعف ، لأنّك قد عرفت أنّ الشبهة العارضة للسائل في مورد الرواية إنّما كانت ناشئة من عروض حالة يشكّ معها في تحقّق النوم ، وهي حالة عدم إحساسه ما يحرّك إلى جنبه ، ومع ذلك لم يعتبرها الإمام عليه‌السلام ، وحكم بعدم نقض اليقين بالشكّ ، فيظهر منه أنّ العلم بوجود ما هو منشأ الشّكّ لا يعتنى به في نقض اليقين السابق ، بل المعتبر نقضه بنفس الشكّ ، فاليقين بوجود ما شكّ في كونه رافعا أو بوجود ما شكّ في استمرار الحكم معه لا يصير قادحا في شمول الرواية للأقسام الثلاثة الأخيرة ، ودلالتها على حرمة نقض اليقين بالشكّ فيها ، لصراحة الرواية في عدم الاعتناء بوجود ما هو منشأ للشكّ. وبالجملة ، إنّه لا إشكال في دلالتها على اعتبار الاستصحاب في الأقسام الأربعة ، كما هو واضح.

٢١١٠. أي : وإن لم يجئ من جانبه أمر بيّن فهو على وضوئه ، فإنّه ....

١٠٦

لأنّه على يقين من وضوئه في السابق ، وبعد إهمال تقييد (٢١١١)

______________________________________________________

فأقيمت العلّة مقام الجزاء ، لعدم استقامة جعل قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» جواب الشرط ، لأنّ الجزاء لا بدّ أن يرتبط بشرطه ، بمعنى ترتّبه على وجود الشرط ، لكون الشرط علّة له وهنا ليس كذلك ، لأنّ عدم مجيء أمر بيّن من جانبه ليس علّة لحصول اليقين بالوضوء. اللهمّ إلّا أن يجعل قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» جملة خبريّة في معنى الإنشاء ، والمعنى : فليأخذ بيقين من وضوئه. وهو تكلّف مستغنى عنه. ومن أمثلة إقامة العلّة مقام الجزاء ـ مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ـ قوله سبحانه : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ). وقوله عزوجل : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ). وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ). وقوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) إلى غير ذلك. ومع شيوع هذا الاستعمال يظهر ضعف تجشّم تكلّف جعل العلّة في الصحيحة جزاء ، غاية الظهور.

٢١١١. لعدم مدخليّة المحلّ في العلّة ، فكما أنّ الطبيب إذا قال للمريض : لا تأكل الرمّان لحموضته ، فالعلّة هي نفس الحموضة من دون مدخليّة التقييد بالرمّان ، كذلك التقييد بالوضوء فيما نحن فيه.

ثمّ إنّ الاستدلال ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ـ مبنيّ على تحقيق كون اللام في اليقين والشكّ في قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ» للجنس أو العهد ، فتقول : إنّ لفظة «لا» في هذه الفقرة تحتمل النفي والنهي ، واللام في الموضعين ظاهر في الجنس ، فمن توجّه النفي أو النهي إلى الجنس يثبت العموم ، لكون الجنس المنفيّ مفيدا له ، بل هو أصرح من النكرة المنفيّة ، مثل : ليس في الدار رجل ، لاحتمال كون المنفيّ فيه الوحدة المعيّنة في مقابل إثبات التثنية والجمع ، ولذا يصحّ في

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المثال : بل رجلان أو رجال ، ولذا قالوا : الجنس المنفيّ نصّ في العموم ، والنكرة المنفيّة ظاهرة فيه. والعموم كما عرفت مستفاد من توجّه النفي إلى الطبيعة ، لا من باب السراية ، ولا دليل الحكمة ، حتّى يلتجئ في دفع الإشكال الوارد من جهة كون مقتضى نفي العام هو نفي العموم لا عموم النفي ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله إلى دعوى ورود هذا الكلام على خلاف القياس ، كما ارتكبه المحقّق القمّي رحمه‌الله.

قال : «اليقين والشكّ في الحديث محمولان على العموم. أمّا على ما اخترناه في محلّه من كون المفرد المحلّى باللام حقيقة في تعريف الجنس ، وجواز تعلّق الأحكام بالطبائع فواضح ، لعدم انفكاك الطبيعة عن الأفراد. وأمّا على القول بالاشتراك أو عدم تعلّق الأحكام بالطبائع ، فعدم القرينة على الفرد الخاصّ المعيّن ، واستلزام إرادة فرد ما الإغراء بالجهل ، يعيّن الحمل على الاستغراق. ولا يرد عليه أنّه حينئذ من باب دفع الإيجاب الكليّ ، لوقوعه في حيّز النفي ، لأنّه بعيد عن اللفظ ، وينفيه التأكيد بقوله «أبدا» فيصير من باب (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). مع أنّ قوله : «لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» في قوّة الكبرى الكلّية لإثبات المطلوب يعيّن ذلك أيضا. وجعل الكبرى منزلة على إرادة يقين الوضوء بعيد ، لإشعار قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» على ذلك ، فتكون الكبرى حينئذ بمنزلة التكرار» انتهى.

وفيه : مع ما عرفت أنّه على تقدير حمل اللام على الجنس ، واستفادة العموم من باب السراية أو دليل الحكمة ، نمنع كونه من باب رفع الإيجاب الكلّي ، للفرق الواضح بين وقوع لفظ «كلّ» في حيز النفي ووقوع المفرد المعرّف فيه ، لأنّ النفي كما صرّح به علماء البيان إنّما يتوجّه إلى القيد الزائد في الكلام ، فإذا قلت : ما رأيت زيدا راكبا ، فالنفي إنّما يفيد عدم الرؤية في حال الركوب لا أصل الرؤية. وكذا العموم المستفاد من لفظ «كلّ» في مثل قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) وقوله سبحانه :

١٠٨

(لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) لكونه قيدا زائدا في الكلام ، فالقياس أن يتوجّه النهي إليه ، فيفيد نفي العموم ، وهو لا ينافي ثبوت الحبّ في الجملة ، وجواز الإطاعة كذلك ، إلّا أنّهم قد حملوها على إرادة عموم النهي ، لأجل وجود القرينة على ذلك ، فهو على خلاف القياس ، وخلاف ما يتفاهم منها عرفا.

بخلاف المفرد المعرّف باللام ، لأنّه على القول بكونه حقيقة في الجنس ومجازا في الاستغراق ، إنّما يفيد تعريف الماهيّة. والنفي الداخل عليه أيضا إنّما يفيد نفي الماهيّة المعيّنة من حيث هي لا من حيث تحقّقها في ضمن جميع أفرادها ، لأنّ العموم المستفاد من باب السراية أو دليل الحكمة إنّما استفيد من تعليق الحكم على الطبيعة من باب الالتزام العقلي ، والنفي إنّما يفيد سلب الحكم عن الطبيعة من حيث هي لا باعتبار لازمها العقلي ، فالعموم حينئذ ليس قيدا زائدا في الكلام ليتوجّه النفي إلى سلبه.

وكذا على القول بكون المفرد المعرّف حقيقة في الاستغراق ، لأنّ القائل به إنّما يقول بكون اللام موضوعة للإشارة إلى طبيعة مدخولها ، إلّا أنّ الطبيعة تراد تارة من حيث هي ، واخرى في ضمن فرد ما ، وثالثة في ضمن جميع الأفراد ، والموضوع له على كلّ تقدير هي الطبيعة ، فيكون مشتركا معنويّا بين هذه المعاني ، وحينئذ يكون العموم الاستغراقي من لوازم تحقّق الطبيعة في ضمن جميع أفرادها ، لا معنى وضعيّا له بالخصوص. فإذا وقع المفرد المعرّف في حيّز النفي أو النهي ، واريد به نفي الطبيعة في ضمن جميع الأفراد ، فالنفي إنّما يتوجّه إلى الطبيعة التي وضعت اللام للإشارة إليها ، لا إلى ما هو لازم المراد كما يشهد به العرف ، لأنّ المفهوم من مثله عرفا عموم النفي لا نفي العموم. ولذا ترى أنّ التفتازاني مع قوله بكون المعرّف باللام حقيقة في المعاني الثلاثة على نحو ما ذكرناه ، قد ارتضى ما حكاه عن صاحب الكشّاف من حمل الجمع المعرّف باللام ـ الواقع في حيّز النفي وغير الواقع فيه ـ على العموم الأفرادي ، مثل قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً

١٠٩

لِلْعالَمِينَ). وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). وقوله سبحانه : (رَبِّ الْعالَمِينَ). والمفرد المعرّف أولى بذلك.

وأمّا على القول بكون المفرد المعرّف باللام على هيئته التركيبيّة موضوعا للاستغراق والعهد الخارجي والذهني على سبيل الاشتراك اللفظي ، فنفيه على تقدير إرادة الاستغراق منه وإن استلزم نفي العموم ، إلّا أنّ هذا قول نادر ، بل لم أتحقّق هذا قولا لأحد ، إلّا ما يدّعى من إشعار بعض العبارات به.

وبالجملة ، إنّه فرق بيّن بحسب متفاهم العرف بين وقوع لفظ «كلّ» في حيّز النفي ووقوع المفرد المعرّف ، وسلب العموم إنّما يستفاد من الأوّل دون الثاني. وما وقع في كلمات بعض النحاة من أنّ اللام المراد بها الاستغراق هي ما يصلح قيام لفظ «كلّ» مقامها مبنيّ على المسامحة تقريبا للأفهام ، كيف لا ولو حمل على حقيقته لزمت منه صحّة قيام الاسم مقام الحرف ، وهو بيّن الفساد ، لاختلاف معناهما.

وكيف كان ، فقد ظهرت ممّا ذكرناه صحّة ما ادّعيناه من ظهور قوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ» في إفادة العموم من دون تحمّل وتكلّف. مضافا إلى ما أشار إليه المحقّق القمّي رحمه‌الله من التأييد كما عرفت ، وإلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من ظهور قرينة المقام والتعليل.

أمّا الأوّل فإنّه لو حمل على إرادة نفي العموم صار المستفاد من قوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ» عدم جواز نقض بعض أفراد اليقين ببعض أفراد الشكّ ، وهو لإجماله وإبهامه غير مفيد للسائل ، ومناف لمقام البيان.

وأمّا الثاني فإنّ المستفاد من قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» بعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء ، أنّ العلّة هي نفس اليقين مطلقا لا في الجملة. ولكنّه ضعيف ، لما ستعرفه من أنّ العلّة هو اليقين المقيّد بالوضوء لا المجرّد عنه. فالعلّة إنّما تقتضي العموم والتسرية في أفراد المقيّد دون المطلق ، وهو لا ينافي حمل قوله

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

«لا ينقض اليقين بالشكّ» على إرادة نفي العموم كما هو واضح. وأمّا احتمال كون اللام في الموضعين ـ أعني : اليقين والشكّ ـ للعهد الذكري ، لسبق حكاية يقين الوضوء كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، فستعرف ضعفه.

وإذا عرفت هذا نقول : إنّ تقريب الاستدلال بوجهين :

أحدهما : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله وغيره من أنّ قوله عليه‌السلام «فإنّه على يقين من وضوئه» بمنزلة صغرى ، وقوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشكّ» بمنزلة كبرى كليّة ، وإذا أتيتهما على هيئة الشكل الأوّل تقول : إنّه على يقين من وضوئه ، وكلّ من كان كذلك فهو لا ينقض اليقين بالشكّ ، فينتج عدم جواز نقض اليقين بالوضوء بالشكّ. وعلى تقدير إهمال قيد الوضوء ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ـ قلت : إنّه كان على يقين فشكّ في بقاء متيقّنه ، وكلّ من كان كذلك لا ينقض يقينه بالشكّ. وقد حكي عن المصنّف رحمه‌الله التصريح بعدم الحاجة في ترتيب القضيّتين إلى اعتبار كون العلّة نفس اليقين ، وتماميّة البرهان مع أخذ قيد الوضوء في الصغرى.

فإن قلت : على تقديره لا بدّ من أخذه في الكبرى أيضا على نحو ما قدّمناه ، ليتكرّر الحدّ الوسط ، وحينئذ يكون اللام في قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» للعهد ، فلا يفيد اعتبار الاستصحاب مطلقا ، ولذا قد التجأ في المتن إلى إلغاء قيد الوضوء في العلّة.

قلت : إنّ الكبرى للصغرى المذكورة ـ أعني قولنا : إنّه كان على يقين من وضوئه حينئذ ـ ليس قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشكّ» بل قولنا : كلّ من كان على يقين من وضوئه فهو لا ينقض يقينه بالشكّ ، وقوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشكّ» دليل على إثبات هذه الكبرى. وإن شئت في ترتيب القضيّتين قلت : الوضوء يقينيّ ، وكلّ يقينيّ لا ينقض بالشكّ. وستقف على تتمّة الكلام في ذلك.

وثانيهما : ما ذكره في الضوابط من التمسّك بالعلّة المنصوصة ، أعني قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» من دون حاجة إلى أخذ الكبرى من قوله عليه‌السلام

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

«لا ينقض اليقين بالشكّ» لأنّه بعد إهمال المحلّ في العلّة أفادت كون اليقين السابق مطلقا علّة للحكم بالبقاء ، بتقريب : أنّ المولى إذا قال لعبده : لا تلبس هذا اللباس لأنّه أسود أو لسواده ، يفهم منه مبغوضيّة كلّ لباس أسود له من دون مدخليّة المحلّ فيها ، نظير قول الطبيب : لا تأكل الرمّان لحموضته ، فإنّه يفيد عدم جواز أكل كلّ حامض. وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء فيما نحن فيه أيضا يثبت كون العلّة في عدم جواز نقض اليقين بالشكّ هو مجرّد اليقين السابق من دون اعتبار تعلّقه بالوضوء.

وفيه أوّلا : أنّ العلّة المنصوصة إنّما تقتضي إلغاء المحلّ على حسب ما ثبت من الخصوصيّة في موردها ، والمحلّ فيما نحن فيه هو الشخص الخاصّ ، وكونه على وضوء خاصّ الذي هو مرجع الضمير في قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» والعلّة هي اليقين بالوضوء لا مطلق اليقين ، وبعد إلغاء خصوصيّة المحلّ يبقى عمومها بالنسبة إلى أفراد اليقين بالوضوء لا غير ، كما أنّ العلة في المثال الذي ذكره على ما اعترف به كون اللباس أسود ، والمحلّ هي خصوصيّة هذا اللباس لا مطلق السواد ، وإن تحقّق في ضمن غير اللباس أيضا. فالعلة في الصحيحة لا تقتضي عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ. نعم ، مقتضاها عدم جواز نقض مطلق اليقين بالوضوء بمطلق الشكّ فيه ، فيثبت به قاعدة كلّية في باب الوضوء لا مطلقا. وأمّا المثال الثاني فلا دخل له فيما نحن فيه ، لأنّ المحلّ فيه مطلق الرمّان ، وبعد إلغائه تبقى علّية مطلق الحموضة ، فلا يقاس عليه ما نحن فيه.

وثانيا : أنّ مطلق اليقين لو كان علّة لعدم جواز نقضه بالشكّ ، كان قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» تكرارا محضا. والعجب أنّه قد فرض قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» بمنزلة صغرى ، وقوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» بمنزلة كبرى كلّية. ثمّ أورد على نفسه بأنّ اليقين في الكبرى لا بدّ أن يحمل على يقين الوضوء ، ليتكرّر الحدّ الوسط. وأجاب عنه أوّلا : بأنّ ذلك يستلزم تكرار المطلب الواحد ، لأنّ هذا المعنى قد علم من قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» فلا يحتاج إلى إعادته.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : بمنع عدم تكرّر الحدّ الوسط ، لأنّ التقدير حينئذ : أنّ الوضوء يقينيّ ، وكلّ يقينيّ لا ينقض بالشكّ ، فالوضوء لا ينقض بالشكّ.

وفساد الجوابين غير خفيّ على المتأمّل ، لأنّه مع الغضّ عن عدم تماميّة الأوّل مع الإغماض عن الثاني ، أنّه إذا حمل قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» على إرادة علّية مطلق اليقين لعدم جواز نقضه بالشكّ ، كانت الصغرى مساوية للكبرى في الكلّية ، إذ المستفاد منه حينئذ كون اليقين علّة لعدم جواز نقضه بالشكّ ، لا كون السائل متيقّنا بالوضوء ، حتّى يجعل كون وضوئه يقينا صغرى ، وعدم جواز نقض اليقين بالشكّ كبرى لها. فعلى ما ذكره لا يتحقّق شرط إنتاج الشكل الأوّل ، وهي جزئيّة الصغرى وكلّية الكبرى.

وممّا ذكرناه يظهر أنّ قول المصنّف رحمه‌الله : «بعد إهمال تقييد اليقين ...» ، لا يخلو من نظر من وجهين : أحدهما : أنّه يلزم حينئذ اتّحاد الصغرى والكبرى كما تقدّم. وثانيهما : أنّ العلّة ـ كما عرفت ـ هو اليقين بالوضوء لا مطلق اليقين.

فإن قلت : إنّ الحاجة إلى اعتبار أخذ العلّة هي نفس اليقين إنّما هي للفرار عن أحد محذورين ، لأنّه إن جعلت العلّة هو اليقين بالوضوء ، وحينئذ إن اعتبرت الكبرى عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ، وقيل في ترتيب القضيّتين : إنّه كان على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ ، لزم منه عدم تكرّر الحدّ الوسط ، وإن اعتبرت الكبرى عدم جواز نقض اليقين بالوضوء بالشكّ ، لا تفيد الصحيحة اعتبار الاستصحاب مطلقا.

قلت : إنّه على تقدير كون العلّة هو اليقين بالوضوء يمكن أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ» بناء على كون اللام فيه في الموضعين للجنس ـ كما تقدّم ـ دليل على إثبات كبريات متعدّدة يستدلّ بها على عدم جواز نقض اليقين السابق بالشكّ في الموارد الخاصّة ، فيقال في مورد الرواية مثلا : إنّه كان على يقين من وضوئه ، وكلّ من كان كذلك فهو لا ينقض يقينه بالوضوء بالشكّ. وكذا في

١١٣

اليقين بالوضوء وجعل العلّة نفس اليقين ، يكون قوله عليه‌السلام : " ولا ينقض اليقين" بمنزلة كبرى كلّية للصغرى المزبورة.

هذا ، ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في" اليقين" للجنس ؛ إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى المنضمّة إلى الصغرى : " ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشكّ" ، فيفيد قاعدة كلّية في باب الوضوء ، وأنّه لا ينقض إلّا باليقين بالحدث ، و" اللام" وإن كان ظاهرا في الجنس ، إلّا أنّ سبق يقين (٢١١٢)

______________________________________________________

صورة الشكّ في نقض المذي للطهارة : إنّه كان متيقّنا للطهارة وشكّ في انتقاضها بالمذي ، وكلّ من كان كذلك لا ينقض يقينه بالطهارة بالشكّ فيها ، وهكذا. وإن شئت في ترتيب القضيّتين قلت : إنّه على يقين من وضوئه ، وكلّ يقين لا ينقض بالشكّ. فعلى تقدير كون العلّة هو اليقين بالوضوء لا يلزم منه تساوي الصغرى والكبرى في الكلّية ، ولا عدم تكرّر الوسط كما عرفت.

٢١١٢. حاصله : الاعتراض على الاستدلال بالصحيحة بأنّه مبنيّ على كون اللام في اليقين والشكّ للجنس حتّى يفيد نفي الطبيعة للعموم ، لتكون دليلا على اعتبار الاستصحاب مطلقا. وليس كذلك ، لأنّ سبق اليقين بالوضوء يعيّن كون اللام في الموضعين للعهد الذكري ، نظير قوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ). ومن هنا ربّما يقال : إنّه كان للمصنّف رحمه‌الله الجزم به لا نفي البعد عنه.

وفيه أوّلا : أنّ مجرّد سبق الذكر إنّما يصحّح المقام لإرادة العهد منه ، وليس هو معيّنا له ، لأنّ المعيّن له هو فهم العرف بعد سبق الذكر ، والعهديّة في الصحيحة غير مفهومة بحسب العرف ، ولذا لم يجزم المصنّف رحمه‌الله بها في المقام.

فإن قلت : إنّ عدم الانفهام العرفي إنّما يتمّ إن قرئ قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» مبنيّا للمفعول ، وإن قرئ مبنيّا للفاعل فلا مجال لإنكاره.

قلت : مع تسليم بنائه على الفاعل نمنع ظهوره حينئذ في العهديّة ، بحيث تصير

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

إرادة الجنس مبنيّة العدم ، أو يصير الكلام معه مجملا. نعم ، احتمال العهديّة على تقدير البناء على الفاعل أقرب منها على تقدير البناء على المفعول ، وأمّا الظهور فيها فلا. وأمّا الآية فالقرينة قائمة فيها على عدم إرادة الجنس كما لا يخفى.

وثانيا : إنّ السابق إن كان هو اليقين المتعلّق بالوضوء الخاصّ الذي سأل الراوي عن انتقاضه عند عروض حالة يشكّ معها في تحقّق النوم بقوله «وإن حرّك إلى جنبه ...» ، ففيه : أنّ المراد باليقين والشكّ حينئذ لا بدّ أن يكون هو اليقين والشكّ المتعلّقين بالوضوء الشخصيّ المعهود ، ولم يقل به أحد ، إذ لا أقلّ من إرادة اليقين بنوع الوضوء.

وإن كان هو نوع الوضوء المستفاد من العلّة بعد إلغاء خصوصيّة المحلّ كما أسلفناه سابقا ، ففيه : أنّ حمل اليقين والشكّ في قوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ» على النوع المعهود منهما ـ وهو المتعلّق بنوع الوضوء ـ يستلزم إلغاء هذا الكلام ، لكونه إعادة لما استفيد من العلّة من دون فائدة ، بخلافه على تقدير الحمل على إرادة الجنس ، لكون الصحيحة حينئذ متضمّنة لكلّيتين ، إحداهما : ما استفيد من العلّة ، وهو كون اليقين بالوضوء علّة لعدم جواز نقضه بالشكّ. والاخرى : ما استفيد من قوله «ولا ينقض اليقين بالشكّ» وهو سند العلّة المذكورة كما أسلفناه في الحاشية السابقة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ لو كانت العلّة هو اليقين بالوضوء كما اخترناه. أمّا على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله من كون العلّة هو مطلق اليقين ، فمحذور اللغويّة باق على تقدير حمل اللّام على الجنس أيضا.

فإن قلت : إنّ الإعادة لفائدة التأكيد لا تستلزم اللغوية ، كيف لا والتأكيد من جملة فوائد الكلام في كلمات البلغاء ، سيّما مع اشتمال الصحيحة على التأكيد من جهات أخر أيضا كما هو واضح.

قلت : إنّا لا نمنع من التأكيد في مطلق كلام الحكيم ، بل نقول : إنّ خصوصيّة

١١٥

الوضوء ربّما يوهن الظهور المذكور ، بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ ، مع احتمال أن لا يكون قوله عليه‌السلام : " فإنّه على يقين" علّة قائمة مقام الجزاء ، بل يكون الجزاء مستفادا (٢١١٣)

______________________________________________________

المقام مانعة منه ، لما برهن في علم البلاغة أنّ الكلام المعلّل آكد من الخالي منها في تأدية المراد ، وإن اشتمل على سائر وجوه التأكيد ، لتضمّنه تأدية المراد ببيّنة وبرهان. وحينئذ فعلى المختار من كون العلّة هو اليقين بالوضوء لا مطلق اليقين ، إن حملت اللام على العهد يلزم تأكيد الكلام بإعادة العلّة ، وهو مستهجن عرفا ، بخلاف ما لو حملت على إرادة الجنس ، لصيرورة الكلام حينئذ من قبيل بيان العلّة في علّة الحكم ، وهو أبلغ في التأكيد ، وأحسن الطرق في تأدية المراد ، فكأنّه قال : إنّه إذا لم يستيقن أنّه قد نام يبني على وضوئه السابق ، لأنّه على يقين من وضوئه ، ومن كان على يقين من وضوئه يبني على وضوئه ما لم يستيقن بالناقض ، لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

وهذا وجه آخر لإرادة العموم من قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» سوى ما قدّمناه سابقا من إفادة الجنس المنفيّ للعموم. اللهم أن يقال : إنّ مراعاة محسّنات الكلام إنّما تتأتّى في الكلام الوارد في مقام الإعجاز ، أو الكلام المبنيّ على مراعاة البلاغة فيه ، والأخبار الواردة في بيان الأحكام الشرعيّة ليست كذلك ، لورودها على مقتضى فهم أهل السوق. ولعلّه من هنا لم يجزم المصنّف رحمه‌الله ببطلان حمل اللام على العهد ، فتدبّر.

٢١١٣. إنّما لم يحتمل كون الجزاء نفس قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» لعدم معهوديّة كون الجزاء مصدّرا بالواو. وحاصل ما ذكره : أنّ مبنى الاستدلال على حمل قوله عليه‌السلام «فإنّه على يقين من وضوئه» على بيان العلّة وإقامتها مقام الجزاء ، وقوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشكّ» على بيان الكبرى الكلّية للصغرى المستفادة من العلّة المنصوصة ، بتقريب ما ذكره المصنّف رحمه‌الله وشرحنا ما يتعلّق به.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن يمكن منع كون قوله عليه‌السلام «فإنّه على يقين من وضوئه» واردا لبيان العلّة وإقامة العلّة مقام الجزاء ، لاحتمال كون الجزاء مستفادا من قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشكّ» بأن كان ذلك واردا في مقام جواب السائل ، وقوله عليه‌السلام «فإنّه على يقين من وضوئه» توطئة لهذا الجواب ، فكأنّه عليه‌السلام أراد أن يقرّر السائل على معتقده ويثبّته عليه ، حتّى يكون الجواب أوقع في نفسه. والمعنى : أنّه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقن لوضوئه السابق ، فيثبت على وضوئه السابق ، ولا ينقضه بالشكّ. فيخرج حينئذ قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشكّ» من كونه كبرى كلّية ، لتعيّن حمل اللام حينئذ على العهد ، لوجود المقتضي وعدم المانع. أمّا الأوّل فلسبق اليقين بالوضوء.

وأمّا الثاني فإنّ المانع ـ كما تقدّم في الحاشية السابقة ـ إمّا عدم الانفهام العرفي ، أو لزوم اللغويّة والتكرار. والأوّل ممنوع بعد حمله قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» على إرادة التوطئة. والثاني إنّما يلزم إن حمل قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» على بيان كون مطلق اليقين بالوضوء علّة لعدم جواز نقضه بالشكّ ، لكون حمل اللام حينئذ في قوله «ولا ينقض اليقين بالشكّ» على العهد مستلزما للتكرار ، بخلاف ما لو حمل قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» على إرادة التوطئة ، لكونه حينئذ واردا لمجرّد تقرير السائل على معتقده ، فلا يستفاد منه حينئذ كون مطلق اليقين بالوضوء علّة لعدم جواز نقضه بالشكّ ، حتّى يستلزم حمل اللام في الفقرة الثانية على العهد للتكرار واللغويّة.

ولكنّك خبير بأنّه إنّما يتمّ إن صحّ حمل قوله عليه‌السلام «فإنّه على يقين من وضوئه» على إرادة التوطئة ، وليس كذلك ، لأنّ المنساق منه بيان علّة وجوب البناء على اليقين السابق وعدم نقضه بالشكّ ، ولذا جعل المصنّف رحمه‌الله قضيّة التوطئة مجرّد احتمال في المقام غير قادح في الاستدلال.

١١٧

من قوله عليه‌السلام : " ولا ينقض" ، وقوله عليه‌السلام : " فإنّه على يقين" توطئة له ، والمعنى : أنّه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقن لوضوئه السابق ، ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه ؛ فيخرج قوله : " لا ينقض" عن كونه بمنزلة الكبرى ، فيصير عموم اليقين وإرادة الجنس منه أوهن.

لكنّ الإنصاف : أنّ الكلام مع ذلك لا يخلو عن ظهور ، خصوصا بضميمة الأخبار الأخر الآتية المتضمّنة لعدم نقض اليقين بالشكّ.

وربّما يورد على إرادة العموم من اليقين : أنّ النفي الوارد على العموم لا يدلّ على السلب الكليّ. وفيه : أنّ العموم مستفاد من الجنس في حيّز النفي ؛ فالعموم بملاحظة النفي كما في" لا رجل في الدار" ، لا في حيّزه كما في" لم آخذ كلّ الدراهم" ، ولو كان اللام لاستغراق الأفراد كان الظاهر بقرينة المقام والتعليل وقوله : " أبدا" هو إرادة عموم النفي ، لا نفي العموم. وقد اورد على الاستدلال بالصحيحة (٢١١٤) بما لا يخفى جوابه على الفطن.

______________________________________________________

٢١١٤. من جملته منع عموم الصحيحة ، لدوران الأمر فيها بين تخصيصين ، لأنّها بإطلاقها شاملة للعمل بالاستصحاب في الأحكام الكلّية قبل الفحص عن أدلّتها ، وهو خلاف الإجماع ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حملها على الموضوعات وإخراج الأحكام منها ، وإمّا من تخصيص جواز العمل بها في الأحكام بما بعد الفحص عن أدلّتها ، ولا ترجيح لأحدهما ، فتعود الصحيحة مجملة ، والمتيقّن منها الموضوعات خاصّة.

وفيه : أنّ لها عموما بحسب اللفظ من حيث وقوع الجنس في حيّز النهي أو النفي ، وإطلاقا أحواليّا من حيث شمولها لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ في الأحكام قبل الفحص عن أدلّتها وبعده ، ولا ريب أنّ التقييد ـ سيّما إذا كان الإطلاق بحسب إطلاق أحوال الحكم ـ أولى من تخصيص العامّ ، لعدم استلزامه تصرّفا في مدلول اللفظ.

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : أنّ التمسّك بالصحيحة مستلزم لعدم جواز التمسّك بها ، لعدم العلم بصدورها عن الإمام عليه‌السلام ، فاستصحاب عدم صدورها عنه مستلزم لعدم جواز التمسّك بها ، وما يستلزم وجوده عدمه محال.

وفيه : مع ما يدّعى من تواتر الأخبار الواردة في هذه المسألة بحسب المعنى ، أنّها لا تشمل نفسها ، نظير ما ذكرناه في الاستدلال على حرمة العمل بالظنّ بالآيات الناهية عنه.

ومنها : أنّها مضمرة. وقد تقدّم عدم إضرار إضمارها.

ومنها : عدم الاعتداد بأخبار الآحاد في المسائل الاصوليّة ، كما أشار إليه المحقّق الخونساري.

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت ، وإلى منع كون المسألة اصوليّة كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا ـ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسائل الاصوليّة ، سواء قلنا باعتبارها من باب الظنون الخاصّة أم المطلقة.

ومنها : عدم إمكان اجتماع اليقين والشكّ في مورد واحد حتّى يصحّ النهي عن نقضه به.

وفيه : أنّ المراد باليقين آثار المتيقّن السابق ، كما سيجيء في محلّه إن شاء الله تعالى.

تكميل : إنّه يستفاد ممّا قدّمناه في الحواشي السابقة أنّ الاستدلال بالصحيحة من وجوه : أحدها : التمسّك بالعلّة المنصوصة. وقد عرفت ما فيه. وثانيها : التمسّك بالعموم الناشئ من وقوع الجنس في حيّز النفي أو النهي. وثالثها : التمسّك بالعموم الناشئ من لزوم اللغويّة والتكرار لولاه. لكنّها مع ذلك غير صريحة في المدّعى ، لما عرفت ممّا يرد عليها من وجوه الإيراد ، لأنّها وإن ضعفت في نفسها إلّا أنّ مجموعها تسقطها عن الصراحة. نعم ، لها مع ذلك كلّه ظهور في العموم ، وهو كاف في التمسّك بالأدلّة اللفظيّة.

١١٩

والمهمّ في هذا الاستدلال إثبات إرادة الجنس من اليقين ، ومنها صحيحة اخرى لزرارة ـ مضمرة أيضا ـ (٢١١٥): " قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فأصبت ، فحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إني ذكرت بعد ذلك؟ قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليه‌السلام : تغسله وتعيد. قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا فصلّيت ، فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ، ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها ، حتّى تكون على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شىء ، أن انظر فيه؟ قال : لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع في نفسك. قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه (٢١١٦)

______________________________________________________

٢١١٥. رواها الشيخ عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : «قلت له» الحديث. وقد تقدّم ما يتعلّق بهذا السند في الصحيحة السابقة. ورواها الصدوق أيضا في العلل عن أبيه ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام. وعليّ ثقة ، وأبوه إبراهيم بن هاشم ربّما تعدّ أخباره في الصحاح ، كما يظهر من العلّامة في الخلاصة والمختلف وغيره. وفي الذخيرة حسن كالصحيح. وكيف كان ، لا إشكال في اعتبارها. ولا يضرّ إضمارها على رواية الشيخ ، كما تقدّم في الصحيحة الاولى.

٢١١٦. أتى بهذا الشرط تنبيها على اعتبار تعلّق الرؤية بنجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الرؤية ، في مقابل احتمال وقوعها حين الرؤية.

إيقاظ : تستفاد من الصحيحة قواعد شريفة وفوائد منفية :

١٢٠