تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3924-X

الصفحات: ٥٣٣
الجزء ١ الجزء ٢

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلى التوبة والتوحيد (لَيْلاً وَنَهاراً (٥)) فى الليل والنهار (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) إياهم إلى التوبة والتوحيد (إِلَّا فِراراً (٦)) تباعدا عن الإيمان والتوبة (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى التوبة والتوحيد (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بالتوبة والتوحيد (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لكى لا يسمعوا كلامى ودعوتى (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) غطوا رؤوسهم بثيابهم لكى لا يسمعوا صوتى ولا يرونى (وَأَصَرُّوا) أقاموا وسكنوا على الكفر وعبادة الأوثان ، ويقال : صاحوا جميعا أن لا نؤمن بك يا نوح (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان والتوبة (اسْتِكْباراً (٧)) تجبرا (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ) إلى التوبة التوحيد (جِهاراً (٨)) علانية بغير سر (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) أظهرت لهم دعوتى وأوضحت لهم (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)) دعوتهم فى السر خفية (فَقُلْتُ) لهم (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) وحدوا ربكم بالتوبة من الكفر والشرك (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠)) لمن تاب من الكفر وآمن به (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١)) مطر دائما دريرا ، كلما تحتاجون إليه ، فكان قد حبس الله عنهم المطر أربعين سنة.

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) يعطيكم أموالا إبلا وبقرا وغنما ، وبنين الذكور والإناث ، وقد كان الله قطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢)) تجرى لمنافعكم ، وقد كان الله أهلك جناتهم وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣)) لا تخافون لله عظمة وسلطانا ، ويقال : ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته فتوحدونه (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)) أصنافا حالا بعد حال النطفة والعلقة والمضغة والعظام ، (أَلَمْ تَرَوْا) ألم تخبروا يا كفار مكة (كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥)) بعضها فوق بعض مثل القبة ملتزقة أطرافها (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) معهن (نُورٍ أَ) مضيئا (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦)) ضياء لبنى آدم (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧)) خلقكم من آدم ، وآدم من تراب والتراب من الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) يقبركم فى الأرض (وَيُخْرِجُكُمْ) من القبور يوم القيامة (إِخْراجاً (١٨)).

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ

٤٤١

أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)) فراشا ومناما (لِتَسْلُكُوا مِنْها) لتأخذوا فيها (سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)) طرقا واسعة (قالَ نُوحٌ رَبِ) يا رب (إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم من التوبة والتوحيد (وَاتَّبَعُوا) أطاعوا (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ) كثرة ماله (وَوَلَدُهُ) كثرة أولاده (إِلَّا خَساراً (٢١)) غبنا بالآخرة وهم الرؤساء (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢)) وقالوا قولا عظيما من الفرية (وَقالُوا) يعنى الرؤساء للسفلة : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) عبادة آلهتكم (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) عبادة الود (وَلا سُواعاً) ولا عبادة سواع (وَلا يَغُوثَ) ولا عبادة اليغوث (وَيَعُوقَ) ولا عبادة يعوق (وَنَسْراً (٢٣)) ولا عبادة النسر ، وكل هؤلاء آلهتهم التى كانوا يعبدونها (١).

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) يقول : قد أضلوا بهن كثيرا من الناس ، ويقال : ضل بهن كثير من الناس (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) الكافرين والمشركين بعبادة الأوثان (إِلَّا ضَلالاً (٢٤)) خسارا وضلالة وهلاكا (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) يقول : بخطيئاتهم (٢)(أُغْرِقُوا) بالطوفان فى الدنيا (فَأُدْخِلُوا) فى الآخرة (ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) من عذاب الله (أَنْصاراً (٢٥)) أعوانا يمنعون عذاب الله عنهم (وَقالَ نُوحٌ) بعدما قال له ربه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ رَبِ) يا رب (لا تَذَرْ) لا تترك (عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦)) أحدا (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) تتركهم (يُضِلُّوا عِبادَكَ) عن دينك من آمن بك ، ومن أراد أن يؤمن بك (وَلا يَلِدُوا) لا يلد منهم (إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)) إلا من يكون فاجرا كافرا بعد الإدراك ، ويقال : إلا من قدرت عليه الكفر والفجور بعد البلوغ ، ويقال : لم يكن فيهم صبى ، لأن الله قد حبس عنهم الولد أربعين سنة ، فلم يكن فيهم غير مدرك ، ولم يولد فيهم أربعين سنة ، وكلهم كانوا مدركين فجارا كفارا ، (رَبِ) يا رب (اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) لآبائى المؤمنين (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) دينى ، ويقال : مسجدى ، ويقال : سفينتى (مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المصدقين من الرجال (وَالْمُؤْمِناتِ) المصدقات من النساء

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى (٦ / ٦٣) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ٦٢).

(٢) انظر : السبعة لابن مجاهد (٦٥٣) ، والكشف لمكى (٢ / ٣٣٧).

٤٤٢

بالإيمان الذين يكونون من بعدى (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) الكافرين المشركين (إِلَّا تَباراً (٢٨)) خسارا وهلاكا كخسار.

* * *

٤٤٣

سورة الجن

ومن سورة الجن ، وهى كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) يقول : قل لهم يا محمد : أوحى إلى جبريل فأخبرنى (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) تسعة نفر (مِنَ الْجِنِ) من جن نصيبين باليمن (١)(فَقالُوا) بعدما آمنوا ورجعوا إلى قومهم يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١)) تلاوة قرآن عجيب كريم شريف يشبه كتاب موسى ، وكانوا أهل توراة (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) إلى الحق والهدى والصواب لا إله إلا الله (فَآمَنَّا بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢)) يعنون إبليس (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ملك ربنا ، ويقال : ارتفع عظمة ربنا ، وسلطان ربنا ، وغنى ربنا ، وصفة ربنا (٢)(مَا اتَّخَذَ)

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى (٦ / ٧٣) ومسلم (٤٤٩ ، ١ / ٣٣١) ، والترمذى (٤ / ٢٠٧) ، وأحمد (١ / ٢٥٢) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ٦٤) ، ولباب النقول (٢٢٠) ، والدر المنثور (٦ / ٣٧٠).

(٢) انظر : المجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٧٢) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ٦٥) ، وزاد المسير (٨ / ٣٧٨).

٤٤٤

من أن يتخذ (صاحِبَةً) زوجة (وَلا وَلَداً (٣)) كما يجعله الكفار.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) جاهلنا ، يعنون إبليس (عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤)) كذبا وزورا (وَأَنَّا ظَنَنَّا) حسبنا (أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥)) أن ما يقول الإنس والجن على الله ليس بكذب ، واستبان لنا أنه كذب ، وكل هذا من أول السورة إلى هاهنا حكاية من الله عن كلام الجن ، ثم قال : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ) يتعوذون (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ) بذلك (رَهَقاً (٦)) عظمة وتكبرا وفتنة ، وفساد ، وذلك أنهم إذا سافروا سفرا ، أو اصطادوا صيدا من صيدهم ، أو نزلوا واديا خافوا منهم ، فقالوا : نعوذ بسيد هذا الوادى من سفهاء قومه ، فيأمنون بذلك منهم فيزيد رؤساء الجن بذلك عظمة وتكبرا على سفلتهم ، والجن هم ثلاثة أجزاء جزء فى الهواء ، وجزء ينزلون ويصعدون حيثما يشاؤون ، وجزء مثل الكلب والحيات (وَأَنَّهُمْ) يعنى كفار الجن قبل أن آمنوا (ظَنُّوا) حسبوا (كَما ظَنَنْتُمْ) حسبتم يا أهل مكة (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧)) بعد الموت ، ويقال : أن لن يبعث الله أحدا رسولا.

ثم رجع إلى كلام الجن ، فقال : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) انتهينا إلى السماء قبل أن آمنا (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) من الملائكة (شَدِيداً) كثيرا (وَشُهُباً (٨)) نجما مضيئا يدحرهم عن الاستماع (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) للاستماع قبل أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) بعدما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَجِدْ لَهُ شِهاباً) نجما مضيئا (رَصَداً (٩)) من الملائكة يدحرونهم عن الاستماع (وَأَنَّا لا نَدْرِي) لا نعلم (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) حين منعنا عن الاستماع (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)) هدى وصوابا وخيرا ، ويقال : وأنا لا ندرى لا نعلم أشر أريد بمن فى الأرض حيث بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لم يؤمنوا به فيهلكهم الله ، أم أراد بهم رشدا هدى وصوابا وخيرا ، إذ آمنوا به.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) الموحدون هم الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) كافرون وهم كفرة الجن (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١)) أهواء مختلفة اليهودية والنصرانية قبل أن آمنا بالله (وَأَنَّا ظَنَنَّا) علمنا وأيقنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أن لن نفوت من الله فى الأرض حيثما كنا يدركنا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢)) أن لا نفوت منه بالهرب (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) تلاوة القرآن من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَّا بِهِ) بالقرآن ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) ذهاب عمله كله (وَلا

٤٤٥

رَهَقاً (١٣)) نقصان عمله (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) المخلصون بالتوحيد ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) العاصون المائلون عن الحق والهدى ، وهم كفرة الجن (فَمَنْ أَسْلَمَ) أخلص بالتوحيد (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)) نووا صوابا وخيرا.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) الكافرون (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)) شجرا (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) طريقة الكفر ، ويقال : طريقة الإسلام (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦)) لأعطيناهم مالا كثيرا وعيشا رغدا واسعا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه حتى يرجعوا إلى ما قدرت عليهم (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن توحيد ربه ، وكتاب ربه القرآن ، وهو الوليد بن المغيرة المخزومى (يَسْلُكْهُ) يكلفه (عَذاباً صَعَداً (١٧)) الصعود على جبل أملس من صخرة ، ويقال : من نحاس فى النار (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) بنيت لذكر الله (فَلا تَدْعُوا) فلا تعبدوا (مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨)) فى المساجد ، ويقال : المساجد مساجد الرجل الجبهة والركبتان ، واليدان والرجلان (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل (يَدْعُوهُ) يعبد ربه بالصلاة (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩)) كاد الجن يركبون عليه جميعا لحبهم القرآن ، ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمعوا قراءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا) أعبد (رَبِّي) وأدعوا الخلق إليه (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ) يا محمد لأهل مكة : (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) دفع الضر والخذلان والعذاب (وَلا رَشَداً (٢١)) ولا أجر النفع والهدى.

٤٤٦

(قُلْ) يا محمد : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ) من عذاب الله (أَحَدٌ) إن عصيته (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ) من عذاب الله (مُلْتَحَداً (٢٢)) ملجأ وسربا فى الأرض (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) يقول : لا ينجينى إلا التبليغ عن الله ورسالاته (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) فى التوحيد (وَرَسُولَهُ) فى التبليغ (فَإِنَّ لَهُ) فى الآخرة (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) مقيمين فى النار لا يموتون ولا يخرجون منها (أَبَداً (٢٣) حَتَّى) يقول : انظرهم يا محمد حتى ، (إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من العذاب ، (فَسَيَعْلَمُونَ) وهذا وعيد من الله لهم ، (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) مانعا (وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)) أعوانا.

(قُلْ) يا محمد حين تعجلوا بالعذاب : (إِنْ أَدْرِي) ما أدرى (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥)) أجلا (عالِمُ الْغَيْبِ) بنزول العذاب يعلم ذلك (فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) إلا من اختار من الرسل ، فإنه يطلعه على بعض الغيب (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) يجعل (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من بين يدى الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)) حرسا من الملائكة يحفظونه من الجن والشياطين والإنس ، لكى لا يستمعوا قراءة جبريل ، عليه‌السلام (١) (لِيَعْلَمَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) عن الله ، يعنى الرسل ، (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) هكذا تحفظ الملائكة كما حفظت ، ويقال : ليعلم الرسل ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره أن قد أبلغوا ، يعنى الملائكة رسالات ربهم عن الله ، ويقال : ليعلم ، لكى يعلم الجن والإنس ، أن قد أبلغوا ، يعنى الرسل ، رسالات ربهم ، قبل أن علمنا (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) بما عندهم من الملائكة (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)) حفظا ، ويقال : عالم بعددهم.

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ٧٧) ، وزاد المسير (٨ / ٣٨٦) ، ومعانى القرآن للفراء (٣ / ١٩٦) ، والقرطبى (١٩ / ٢٩).

٤٤٧

سورة المزمّل

ومن سورة المزمل ، وهى كلها مكية

غير قوله : (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) فإنها مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) المتزمل ، يعنى به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد تزمل بثيابه ليلبسها للصلاة (قُمِ اللَّيْلَ) بالصلاة ، ثم قال : (إِلَّا قَلِيلاً (٢)) ثم بين فقال (١) : (نِصْفَهُ) أى قم نصف الليل للصلاة (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣)) من النصف (قَلِيلاً (٣)) إلى الثلث (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) على النصف إلى الثلثين فخيره فى قيام الليل.

ثم قال : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)) اقرأ القرآن على رسلك وهينتك وتؤده ووقار تقرأ آية وآيتين وثلاثا ، ثم كذلك حت تقطع (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) سننزل عليك جبريل (قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)) بكلام شديد بالأمر والنهى والوعد والوعيد والحلال والحرام ، ويقال : عظيما ، ويقال : ثقيلا على من خالفه ، ويقال : ثقيلا بصلاة الليل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قيام الليل بالصلاة (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) نشاطا للرجل إذا كان محتسبا للصلاة ، ويقال : أرق وأرفق للقلب (وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)) أبين قراءة للقرآن وأثبت (إِنَّ لَكَ)

__________________

(١) روى أبو داود بسنده ، عن ابن عباس ، رضى الله عنهما ، قال : لما نزلت أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم فى شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أولها وآخرها سنة. والحديث رجاله ثقات ، رجال الصحيح إلا أحمد بن محمد المروزى أبو الحسن بن شبوبة ، وهو ثقة (١ / ٥٠٣). انظر : البحر المحيط (٨ / ٣٦١) والكشاف للزمخشرى (٤ / ١٧٥).

٤٤٨

يا محمد (فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)) فراغا طويلا لقضاء حوائجك (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) صل بأمر ربك ، ويقال : اذكر توحيد ربك (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨)) أخلص لله إخلاصا فى صلاتك ودعائك وعبادتك (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) هو الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)) فاعبده ربا ، ويقال : فاتخذه كفيلا فيما وعدك من النصرة والدولة والثواب (وَاصْبِرْ) يا محمد (عَلى ما يَقُولُونَ) من الشتم والتكذيب (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠)) اعتزلهم اعتزلا جميلا بلا جزع ولا فحش.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) بالقرآن وهذا وعيد من الله لهم وهم المطعمون يوم بدر (أُولِي النَّعْمَةِ) ذوى المال لهم والغنى (وَمَهِّلْهُمْ) أجلهم (قَلِيلاً (١١)) إلى يوم بدر (إِنَّ لَدَيْنا) عندنا لهم فى الآخرة (أَنْكالاً) قيودا تقيد بها أرجلهم أغلالا تغل بها أيمانهم إلى أعناقهم وسلاسل توضع فى أعناقهم (وَجَحِيماً (١٢)) نارا يدخلونها (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) يستمسك فى حلقهم وهو الزقوم (وَعَذاباً أَلِيماً (١٣)) وجيعا يخلص وجعه إلى قلوبهم.

ثم بين متى يكون ، فقال : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) تزلزل الأرض (وَالْجِبالُ) وتزلزل الجبال (وَكانَتِ) وصارت (الْجِبالُ كَثِيباً) ترابا (مَهِيلاً (١٤)) وهو الشىء الذى إذا رفعت أسفله سقط عليك أعلاه مثل الرمل (إِنَّا أَرْسَلْنا) بعثنا (إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) بالبلاغ (كَما أَرْسَلْنا) بعثنا (إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)) يعنى موسى (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) يعنى موسى لم يجيبه (فَأَخَذْناهُ

٤٤٩

أَخْذاً وَبِيلاً (١٦)) فعاقبناه عقوبة شديدة وهى الغرق (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) الكفر والشرك وتؤمنون بالله يا أهل مكة (إِنْ كَفَرْتُمْ) إذا كفرتم فى الدنيا (يَوْماً) يوم القيامة (يَجْعَلُ) ذلك اليوم (الْوِلْدانَ شِيباً (١٧)) شمطا إذا سمعوا حيث يقول الله لآدم : «يا آدم أبعث بعثا من ذريتك إلى النار» قال آدم : «يا رب من كم» قال الله تعالى : «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة» (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ) منشق (بِهِ) بذلك الزمان الذى يجعل الولدان شيبا ، ويقال : بنزول أمر الرب والملائكة (كانَ وَعْدُهُ) فى البعث (مَفْعُولاً (١٨)) كائنا (إِنَّ هذِهِ) السورة (تَذْكِرَةٌ) عظة وبيان لكم (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)) طريقا يأتى به إلى ربه ، ويقال : فمن شاء وحد واتخذ بذلك إلى ربه سبيلا مرجعا (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أقل (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى النصف (وَنِصْفَهُ) وتقوم نصف الليل (وَثُلُثَهُ) وتقوم ثلث الليل ، ويقال : ونصف أقل من نصق الليل وثلثه إذا قرأت بالخفض (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) وجماعة من المؤمنين معك فى الصلاة (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يعلم ساعات الليل والنهار (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أن لن تحفظوا ساعات الليل ، ويقال : ما أمرتم فى الليل من الصلاة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فتجاوز عنكم صلاة الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) عليكم (مِنَ الْقُرْآنِ) فى الصلاة مائة آية فصاعدا ، ويقال : ما شئتم من القرآن (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) جرحى لا يستطيعون الصلاة بالليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ) يسافرون (فِي الْأَرْضِ) بالتجارة وغيرها (يَبْتَغُونَ) يطلبون (مِنْ فَضْلِ اللهِ) من رزق الله وغيره يشق عليهم صلاة الليل (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ) يجاهدون (فِي سَبِيلِ اللهِ) فى طاعة الله يشق عليهم صلاة الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) عليكم (مِنْهُ) من القرآن فى الصلاة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وما يجب فيها من مواقيتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) أعطوا زكاة أموالكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ) فى الصدقة ، ويقال : فى العمل الصالح (قَرْضاً حَسَناً) محتسبا صادقا فى قلوبكم (وَما تُقَدِّمُوا) تسلفوا (لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) من صدقة أو عمل صالح (تَجِدُوهُ) تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ) فى الجنة محفوظا لكم لا سرق ولا غرق ولا حرق ولا يأكل السوس (هُوَ خَيْراً) مما بقى عندكم فى الدنيا (وَأَعْظَمَ أَجْراً) ثوابا مما عندكم (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من الذنوب (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)) لمن مات على التوبة لرحمة المدثر بثيابه.

* * *

٤٥٠

سورة المدثّر

ومن سورة المدثر ، وهى كلها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)) يعنى به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تدثر بثيابه ونام (١) (قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)) فخوف الناس وادعهم إلى التوحيد (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)) فعظم عما يقوله عبدة الأوثان (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)) قلبك من الغدر والخيانة والضجر ، أى كن طاهر القلب ، ويقال : ثيابك فطهر فقصر ، ويقال : وثيابك فطهر من الدنس (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)) المآثم فاترك ولا تقربنه (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)) لا تعط شيئا قليلا فتعطى أقل من ذلك ، وأكثر منه فى الدنيا ، ويقال : ولا تمنن بعملك على الله تستكثر (وَلِرَبِّكَ) على طاعة ربك وعبادة ربك (فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨)) فإذا نفخ فى الصور ، وهو نفخة البعث

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى (٦ / ٧٤) ، ومسلم (٢٥٧ ، ١ / ١٤٤) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ٩٠) ، والتاريخ له (٢ / ٢٠٨ ، ٢٠٩) ، والدر المنثور (٦ / ٣٨٠) ، وزاد المسير (٨ / ٣٩٩).

٤٥١

(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ) يعنى يوم القيامة (يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)) شديد (عَلَى الْكافِرِينَ) هوله وعذابه (غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)) غير هين عليهم (ذَرْنِي) يا محمد (وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١)) بلا مال ولا ولد ولا زوج ، وهذا وعيد من الله للوليد بن المغيرة المخزومى (وَجَعَلْتُ لَهُ) بعد ذلك (مالاً مَمْدُوداً (١٢)) كثيرا من كل نوع لم يزل فى الزيادة ، فكان ماله نحو تسعة آلاف مثقال فضة (وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣)) حضورا لا يغيبون وكان بنوه عشرة (وَمَهَّدْتُ لَهُ) المال بعضه على بعض (تَمْهِيداً (١٤)) مثل الفرش بعضها على بعض (ثُمَّ يَطْمَعُ) الوليد (أَنْ أَزِيدَ (١٥)) فى ماله وهو يعصينى ويكفر به (كَلَّا) حقا لا أزيده ، فلم يزل بعد ذلك فى نقصان ماله (إِنَّهُ) يعنى الوليد بن المغيرة (كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦)) لكتابنا ورسولنا عنيدا معرضا مكذبا بهما.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧)) سأكلفه الصعود على جبل أملس فى النار من الصخرة كلما وضع يده ذاب ، ثم عاد كما كان ، ويقال : من نحاس يجذب من أمامه ويضرب من خلفه (إِنَّهُ) يعنى الوليد بن المغيرة (فَكَّرَ) يعنى تفكر فى نفسه فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقَدَّرَ (١٨)) أوله ، قال : حتى إنه ساحر (فَقُتِلَ) لعن (كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)) قوله فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ قُتِلَ) ثم لعن (كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)) قوله فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ نَظَرَ (٢١)) فى قوله حتى قال : إنه ساحر ، ويقال : نظر إلى أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالوا له هلم إلى الخير يا ابن المغيرة (ثُمَّ عَبَسَ) كلح وجهه (وَبَسَرَ (٢٢)) قبض جبينه (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهله (وَاسْتَكْبَرَ (٢٣)) تعظم عن الإيمان أن يجيبهم.

(فَقالَ إِنْ هذا) ما هذا الذى يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤)) يأثره ويرويه عن مسيلمة الكذاب الذى يكون باليمامة ، ويقال : عنى به جبرا ويسارا (إِنْ هذا) ما هذا الذى يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)) قول جبر ويسار (سَأُصْلِيهِ) سأدخله فى الآخرة ، يعنى الوليد بن المغيرة (سَقَرَ (٢٦)) وهو الباب الرابع من النار (وَما أَدْراكَ) يا محمد (ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي) لهم لحما إلا أكلته (وَلا تَذَرُ (٢٨)) إذا أعيدوا خلقا جديدا أكلتهم أيضا (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)) شواهة لأبدانهم ، ويقال : مسودة لوجوههم (عَلَيْها) على النار (تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)) ملكا خزان النار.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) ما سلطنا على أهل النار (إِلَّا مَلائِكَةً) يعنى الزبانية

٤٥٢

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) ما ذكرنا قلتهم قلة خزان (إِلَّا فِتْنَةً) بلية (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) كفار مكة ، لقول كلدة بن أسيد ، حيث قال : أنا أكفيكم سبعة عشر تسعة على ظهرى ، وثمانية على صدرى ، فاكفوا أنتم عنى اثنين (لِيَسْتَيْقِنَ) لكى يستيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أعطوا الكتاب التوراة ، يعنى عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، لأن فى كتابهم كذلك عدة خزان النار (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) يقينا إذا علموا أن ما فى كتابنا مثل ما فى التوراة (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ) لا يشك الذين (أُوتُوا الْكِتابَ) عبد الله بن سلام وأصحابه إذ لم يكن خلاف ما فى كتابهم التوراة (وَالْمُؤْمِنُونَ) أيضا إذ لم يكن خلاف ما فى التوراة (وَلِيَقُولَ) لكى يقول (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق (وَالْكافِرُونَ) يعنى اليهود والنصارى ، ويقال : كفار مكة (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) بهذا المثل إذ ذكر قلة الملائكة (كَذلِكَ) هكذا (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) بهذا المثل من كان أهلا لذلك (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بهذا المثل من كان أهلا لذلك (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) من الملائكة (إِلَّا هُوَ وَما هِيَ) يعنى سقر (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١)) عظة للخلق أنذرتهم.

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

(كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢)) أقسم بالقمر (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣)) ذهب (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤)) أقبل ، ويقال : استضاء (إِنَّها) يعنى سقر (لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)) باب من أبواب النار منها جهنم ، وسقر ، ولظى ، والحطمة ، والسعير ، والجحيم ، والهاوية (نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦)) أنذرتهم ، ويقال : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير للبشر يرجع إلى أول السورة إلى قوله : (قُمْ فَأَنْذِرْ) نذيرا للبشر مقدم ومؤخر (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ) إلى خير فيؤمن (أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)) عن شر ، فيترك ، ويقال : أو يتأخر عن خير فكيفر ، وهذا وعيد لهم (كُلُ

٤٥٣

نَفْسٍ) كافرة (بِما كَسَبَتْ) فى الكفر (رَهِينَةٌ (٣٨)) مرتهنة فى النار أبدا (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩)) أهل الجنة ، فإنهم ليسوا كذلك ولكنهم (فِي جَنَّاتٍ) فى بساتين (يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١)) يسألون أهل النار ، ويقولون : يا فلان (ما سَلَكَكُمْ) ما الذى أدخلكم (فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا) يعنى أهل النار : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣)) من أهل الصلوات الخمس المسلمين (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤)) لم نحث على صدقة المساكين ، ولم نك من أهل الزكاة والصدقة (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥)) مع أهل الباطل (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)) بيوم الحساب أن لا يكون (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧)) الموت.

(فَما تَنْفَعُهُمْ) يقول الله : لا تنالهم (شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)) يعنى شفاعة الملائكة ، والأنبياء والصالحين (فَما لَهُمْ) لأهل مكة (عَنِ التَّذْكِرَةِ) عن القرآن (مُعْرِضِينَ (٤٩)) مكذبين به (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠)) مذعورة ، ويقال : ذاعرة إن قرأت بالخفض (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)) من أسد ، ويقال : من الرماة ، ويقال : من عصبة الرجال (١) (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى) أن يعطى (صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)) كتابا فيه جرمه وتوبته حيث قالوا : ائتنا بكتاب فيه جرمنا وتوبتنا حتى نؤمن بك (٢) (كَلَّا) حقا لا يؤتى ذلك (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)) عذاب الآخرة (كَلَّا) حقا يا محمد (إِنَّهُ) يعنى القرآن (تَذْكِرَةٌ (٥٤)) عظة من الله (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥)) فمن شاء الله أن يتعظ بالقرآن اتعظ (وَما يَذْكُرُونَ) وما يتعظون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) أهل أن يتقى فلا يعصى (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)) أهل أن يغفر لمن اتقى وتاب اللهم اغفر لنا يا أرحم الراحمين.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٨ / ٤١٢) والسبعة (٦٦٠).

(٢) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ١٠٧) ، ولباب النقول (٢٢٤).

٤٥٤

سورة القيامة

ومن سورة القيامة ، وهى كلها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩))

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)) عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١)) يقول : أقسم بيوم القيامة أنها كائنة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)) وأقسم بكل نفس برة أو فاجرة ، أنها تلوم نفسها يوم القيامة ، أما المحسنة ، فتقول : يا ليتنى ازددت إحسانا ، وأما المسيئة ، فتقول : يا ليتنى تركت ، وذلك عند معاينة الثواب ، والعقاب ، ويقال : هى النفس النادمة ، ويقال : هى النفس اللائمة النادمة التى تتوب من الذنوب ، ولامت نفسها على ذلك ، ويقال : هى النفس الكافرة والفاجرة (١) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أيظن الكافر عدى ابن

__________________

(١) انظر أقوال العلماء فى (لا) : مشكل ابن قتيبة (٢ / ٤٢٨) ، والنكت والعيون للماوردى (٤ / ٣٥٥) ، والتبيان للعكبرى (٢ / ٢٧٤) ، والبحر المحيط (٨ / ٣٨٤).

٤٥٥

ربيعة إنكارا منه للبعث (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣)) أن لن نقدر أن نجمع عظامه بعد بلائها وتبديلها وتفريقها (بَلى قادِرِينَ) يقول : أنا قادر على ذلك ، (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)) نجمع أصابعه فيكون كفه كخف البعير ، أو كحافر الدواب ، يقول : إنا قادرون على أن نجعل كفه كخف البعير ، فكيف لا نقدر على أن نجمع عظامه (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) الكافر عدى بن ربيعة (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)) ليقدم شره ويؤخر توبته ، ويقال : ليعمل بالفسق والفجور فيما يستقبله (يَسْئَلُ) عدى بن ربيعة إنكارا منه للبعث (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦)) متى يكون يوم القيامة؟.

فقال الله : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧)) أعجب البصر ، ويقال : شخص البصر (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨)) ذهب ضوء القمر (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)) كالثورين المقرونين العقيرين الأسودين ، فيرمى بهما فى حجاب النور (يَقُولُ الْإِنْسانُ) الكافر عدى بن ربيعة وأصحابه (يَوْمَئِذٍ) إذا رأوا النار (أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)) من النار والمهرب والملجأ (كَلَّا) حقا (لا وَزَرَ (١١)) لا جبل يواريه من النار ، وهى بلغة حمير يسمون الجبل وزرا ، ويقال : لا وزر ، ولا شجر ، ولا ستر ، ولا حرز ، ولا حصن ، ولا ملجأ ، ولا منجى لهم من الله (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (الْمُسْتَقَرُّ (١٢)) مستقر الخلائق والمرجع (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) يخبر عدى بن ربيعة وغيره (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)) بما قدم من الطاعة وأخر من الخير ، ويقال : بما قدم من الطاعة وآخر من المعصية (بَلِ الْإِنْسانُ) الكافر عدى بن ربيعة وغيره (عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)) يقول : من نفسه شاهد.

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)) ولو تكلم بالعذر ما فعلت ذلك وما قلت ، ويقال : هى بصيرة بعيون غيرها جاهلة غافلة عن عيوب نفسها (لا تُحَرِّكْ بِهِ) بقراءة القرآن يا محمد (لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)) بقراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك ، وكان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزل جبريل عليه بشىء من القرآن لم يفرغ جبريل من آخره ، حتى تكلم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوله مخافة أن ينساه ، فنهاه الله عن ذلك (١) (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) جمع حفظه فى قلبك (وَقُرْآنَهُ (١٧)) وحفظ قراءة جبريل عليك ، ويقال : تأليفه بالحلال

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى (٦ / ٧٦) ، ومسلم (٤٤٨ ، ١ / ٣٣٠) ، والترمذى (٤ / ٢٠٩) ، والنسائى (٢ / ١١٥) ، وأحمد (١ / ٣٥٣) ، والطيالسى (٢ / ٢٥) ، والحميدى (١ / ٢٤٢) ، والطبرى (٢٩ / ١١٧).

٤٥٦

والحرام (فَإِذا قَرَأْناهُ) قرأه جبريل عليك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)) فاقرأ أنت يا محمد خلفه ، ويقال : إذا ألفناه بالحلال والحرام فاتبع تأليفه (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)) بالحلال والحرام ، والأمر والنهى.

(كَلَّا) حقا (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)) العمل للدنيا (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)) تتركون العمل لثواب الآخرة (وُجُوهٌ) وجوه المؤمنين المصدقين فى إيمانهم (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (ناضِرَةٌ (٢٢)) حسنة جميلة ناعمة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) ينظرون إلى وجه ربهم لا يحجبون عنه (وَوُجُوهٌ) وجوه الكافرين والمنافقين (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (باسِرَةٌ (٢٤)) كالحة يحجبون عن رؤية ربهم لا ينظرون إليه (تَظُنُ) تعلم تلك الوجوه (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)) شدة ومنكرة من العذاب (كَلَّا) حقا (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦)) إذا بلغت نفس الجسد إلى التراقى (وَقِيلَ) قال من بحضرته من أهله وغيرهم : (مَنْ راقٍ (٢٧)) هل من طبيب فيداويه ، ويقال : قال الملائكة بعضهم لبعض : من راق بروحه إلى الله (وَظَنَ) علم الميت (أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨)) أن له الفراق من الدنيا (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩)) الشدة بالشدة ، شدة آخر يوم من الدنيا ، وأول يوم من الآخرة ، ويقال : والتفت الساق بالساق ، أى يلتوى ساقه بالساق.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (الْمَساقُ (٣٠)) المرجع مرجع الخلائق (فَلا صَدَّقَ) يعنى أبا جهل بتوحيد الله (وَلا صَلَّى (٣١)) ولا أسلم ، أى لم يكن مسلما من أهل الصلاة (وَلكِنْ كَذَّبَ) بتوحيد الله (وَتَوَلَّى (٣٢)) عن الإيمان (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ) فى الدنيا (يَتَمَطَّى (٣٣)) يتبختر ويتبطر فاستقبله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذه فهزه مرة ، أو مرتين ، وقال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤)) وعيدا لك يا أبا جهل وعيدا لك (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)) احذر يا أبا جهل ، فنزل القرآن كذلك (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) الكافر ، يعنى أبا جهل (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)) مهملا بلا أمر ولا نهى ولا عظة (أَلَمْ يَكُ) أبو جهل (نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍ) منى الرجل (يُمْنى (٣٧)) يهراق فى رحم المرأة ، ويقال : يخلق (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) ثم صار دما عبيطا (فَخَلَقَ) نسمة (فَسَوَّى (٣٨)) خلقه باليدين والرجلين والعينين والأذنين وسائر الأعضاء ، وجعل فيه الروح (فَجَعَلَ مِنْهُ) بعد ذلك (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩)) وكان له ابن عكرمة بن أبى جهل ، وابنة جويرة بنت أبى جهل (أَلَيْسَ ذلِكَ) أى فعل ذلك (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)) للبعث ، بلى قادر ربنا على ذلك.

* * *

٤٥٧

سورة الإنسان

ومن السورة التى يذكر فيها الإنسان ، وهى كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) يقول : قد أتى على آدم (١)(حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) أربعون سنة مخلوقا مصورا (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١)) يذكر ولا يدرى ما هو ما اسمه ، وما يراد به إلا الله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعنى ولد آدم (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) من نطفة آدم وحواء ، مختلطا ماء الرجل المرأة (نَبْتَلِيهِ) نختبره بالشدة والرخاء ، ويقال : نختبره بالخير والشر (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢)) فجعلنا له السمع لكى يسمع به الحق والهدى ، والبصر لكى يبصر به الحق والهدى ، ويقال : نبتليه نختبره بالخير والشر ، والكفر والإيمان مقدم ومؤخر (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) بينا له طريق الإيمان والكفر ، والخير والشر (إِمَّا شاكِراً) مؤمنا (وَإِمَّا كَفُوراً (٣)) كافرا ، ويقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)) يقول : بينا له سبيل شاكر أو كفور.

__________________

(١) وقيل : الإنسان جميع الناس. انظر : زاد المسير (٨ / ٤٢٨).

٤٥٨

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أبى جهل وأصحابه (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً) فى النار (وَسَعِيراً (٤)) نارا وقودا (إِنَّ الْأَبْرارَ) المصدقين فى إيمانهم المطيعين لله (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) يشربون فى الجنة من خمر (كانَ مِزاجُها) خلطها (كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها) منها (عِبادُ اللهِ) أولياء الله (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)) يمزوجونها تمزيجا ، ويقال : يفجرون عين الكافور حيثما يشاؤون فى الجنة إلى منازلهم وقصورهم.

ثم وصف نعتهم إذا كانوا فى الدنيا ، فقال الله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) بالعهد والحلف بالله ، ويقال : يتمون الفرائض (وَيَخافُونَ يَوْماً) عذاب يوم (كانَ شَرُّهُ) عذابه (مُسْتَطِيراً (٧)) فاشيا (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) على قلته وشهوته (مِسْكِيناً وَيَتِيماً) من المسلمين (وَأَسِيراً (٨)) من المسلمين فى أيدى المشركين ، ويقال : أهل السجن (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) فيما بينهم وبين ربهم ، ولم يتكلموا به لكن أخبر الله عن صدق قلوبهم ، فقال : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) لثواب الله وكرامته (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) مكافأة تجازوننا به (وَلا شُكُوراً (٩)) محمدة تحمدوننا به (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) من عذاب ربنا (يَوْماً عَبُوساً) كلوحا (قَمْطَرِيراً (١٠)) شديدا ، يقول : شديد عذاب ذلك اليوم ، وهوله ، ويقال : هو تعيس الوجه.

(فَوَقاهُمُ اللهُ) دفع عنهم (شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) عذاب ذلك اليوم (وَلَقَّاهُمْ) أعطاهم (نَضْرَةً) حسن الوجوه والبهاء (وَسُرُوراً (١١)) فرحا فى القلب (وَجَزاهُمْ) أعطاهم (بِما صَبَرُوا) فى الدنيا على الفقر والمرازى (جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها) جالسين ناعمين فى الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) على السرر فى الحجال فلا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا ، فإذا تفرقا فليس بأريكة (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣)) يقول : لا يصيبهم حر الشمس ولا برد الزمهرير (وَدانِيَةً) قريبة (عَلَيْهِمْ ظِلالُها) ظلال الشجر (وَذُلِّلَتْ) سخرت وقربت (قُطُوفُها) ثمرها (تَذْلِيلاً (١٤)) تسخيرا (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) فى الخدمة (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) كيزان بلا آذان ولا عرى (كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها) يقول : قدروها على أكف الغلمان (تَقْدِيراً (١٦)) ويقال : قدروا الشراب فيها تقديرا لا يفضل ولا يعجز (وَيُسْقَوْنَ فِيها) فى الجنة (كَأْساً) خمرا (كانَ مِزاجُها) خلطها (زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها) فى الجنة (تُسَمَّى) تلك العين (سَلْسَبِيلاً (١٨)) ويقال : سل الله إليها سبيلا.

٤٥٩

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) فى الخدمة (وِلْدانٌ) وصفاء (مُخَلَّدُونَ) فى الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها ، ويقال : محلون (إِذا رَأَيْتَهُمْ) لو رأيتهم يا محمد (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)) فى الصفاء ، ويقال : كثيرا قد نثر عليهم (وَإِذا رَأَيْتَ) يا محمد (ثَمَ) فى الجنة (رَأَيْتَ) لأهلها (نَعِيماً) دائما (وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠)) لا يدخل عليهم أحد إلا بالسلام والاستئذان (عَلَيْهِمْ) على ظهورهم ، ويقال : على أكتافهم إن قرأت بالألف (١)(ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) ما لطف من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٌ) ما ثخن من الديباج (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) ألبسوا أقبية من فضة (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)) من الدنس ، ويقال : يطهرهم من الغل والغش والعداوة (إِنَّ هذا) الذى وصفت من الطعام والشراب واللباس (كانَ لَكُمْ جَزاءً) ثوابا من الله (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)) عملكم مقبولا (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) جبريل بالقرآن (تَنْزِيلاً (٢٣)) متفرقا آية وآيتين وسورة (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) على قضاء ربك ، ويقال : على تبليغ رسالة ربك (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) من كفار قريش (آثِماً) فاجرا كذابا ، يعنى الوليد بن المغيرة (أَوْ كَفُوراً (٢٤)) كافرا بالله ، وهو عتبة بن ربيعة.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) صل بأمر ربك (بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥)) غدوة وعشيا ، يعنى صلاة الفجر والظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) فصل له صلاة المغرب والعشاء (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)) صل له فى الليل وهو التطوع ، ويقال : كان خاصة عليه دون أصحابه صلاة الليل (إِنَّ هؤُلاءِ) أهل مكة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) العمل

__________________

(١) انظر : البحر المحيط (٨ / ٣٩٩) ، وزاد المسير (٨ / ٤٣٩).

٤٦٠