تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3924-X

الصفحات: ٥٣٣
الجزء ١ الجزء ٢

(وَأَبْكاراً (٥)) مريم بنت عمران ، أم عيسى (١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (قُوا أَنْفُسَكُمْ) ادفعوا عن أنفسكم وقومكم (وَأَهْلِيكُمْ) وأولادكم ونسائكم (ناراً) يقول : أدبوهن وعلموهن الخير تقوهم بذلك نارا (وَقُودُهَا) حطبها (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) حجارة الكبريت ، وهى أشد الأشياء حرا (عَلَيْها) على النار (مَلائِكَةٌ) يعنى الزبانية (غِلاظٌ) عظماء (شِدادٌ) أقوياء (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) فيما أمرهم من عذاب أهل النار (وَيَفْعَلُونَ) يعنى الزبانية (ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فإنه لا يقبل معذرتكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)) وتقولون فى الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (تُوبُوا إِلَى اللهِ) من الذنوب (تَوْبَةً نَصُوحاً) خالصة صادقة من قلوبكم وهو الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن والضمير على أن لا يعود إليه أبدا (عَسى رَبُّكُمْ) وعسى من الله واجب (أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أن يغفر لكم ذنوبكم بالتوبة (وَيُدْخِلَكُمْ) فى الآخرة (جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت شجرها ومساكنها (الْأَنْهارُ) أنهار الخمر ، والماء ، والعسل ، واللبن (يَوْمَ) وهو يوم القيامة (لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) كما يخزى الكفار ، يقول : لا يعذب الله النبى (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ولا يعذب الذين آمنوا به ، مثل أبى بكر وأصحابه (نُورُهُمْ يَسْعى) يضئ (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) على الصراط (وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ) بعدما ذهب نور المنافقين (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا) على الصراط (نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من إتمام النور والغفران (قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) كفار مكة بالسيف حتى يسلموا (وَالْمُنْفِقِينَ) منافقى أهل المدينة باللسان بالزجر والوعيد (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) واشدد على كلا الفريقين بالقول والفعل (وَمَأْواهُمْ) مصير المنافقين والكفار (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)) صاروا إليه جهنم.

ثم خوف عائشة وحفصة لإيذائهما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بامرأة نوح ، وامرأة لوط ، فقال : (ضَرَبَ اللهُ) بين الله (مَثَلاً) صفة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالمرأتين الكافرتين (امْرَأَتَ نُوحٍ) وأهله (وَامْرَأَتَ لُوطٍ) وأهله (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) مرسلين (فَخانَتاهُما) فخالفتاهما فى الدين وأظهرتا الإيمان باللسان

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم (١٠ / ٨٢).

٤٢١

وأسرتا النفاق بالقلب ، ولم تخونا بالفجور لأنه لم تفجر امرأة نبى قط (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما) لم ينفعهما (مِنَ اللهِ) من عذاب الله (شَيْئاً) صلاح زوجيهما مع كفرهما (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ) فى الآخرة (مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)) فى النار ، ثم حثهما على التوبة والإحسان بامرأة فرعون آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) بين الله صفة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بامرأتين مسلمتين (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) آسية بنت مزاحم (إِذْ قالَتْ) فى عذاب فرعون لها (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) لكى يهون علىّ عذاب فرعون (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) من دين فرعون (وَعَمَلِهِ) عذابه (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)) الكافرين فلم يضرها كفر زوجها مع إيمانها وإخلاصها (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) حفظت جيب درعها من الفواحش (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) فنفخ جبريل فى جيب قميصها بأمرنا فحملت بعيسى (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) بما قال لها جبريل : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا وَكُتُبِهِ) وبكتبه التوراة والإنجيل وسائر الكتب ، ويقال : بكلمات ربها بعيسى ابن مريم ، أن يكون بكلمة من الله كن فصار مخلوقا ، وبكتابه الإنجيل (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)) من المطيعين لله فى الشدة والرخاء.

٤٢٢

سورة الملك

ومن السورة التى يذكر فيها الملك ، وهى كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

عن ابن عباس ، رضوان الله عليه ، فى قوله تعالى : (تَبارَكَ) يقول : ذو بركة ، ويقال : تعالى وتعظم وتقدس وارتفع وتبرأ عن الولد والشريك (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ملك العز والذل وخزائن كل شىء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من العز والذل (قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) شبه كبش أملح لا يمر على شىء ولا يشم ريحه شىء ، ولا يطأ على شىء حى إلا مات (وَالْحَياةَ) وخلق الحياة شبه فرس بلقاء أنثى ، لا تمر على شىء ، ولا يشم ريحها شىء ، ولا تطأ على شىء ، ولا يطرح من أثرها على شىء ، إلا يحيى وهى دابة دون البغل ، وفوق الحمار ، خطوها مد البصر ويركبها الأنبياء ، ويقال : (خَلَقَ الْمَوْتَ) يعنى النطفة ، (وَالْحَياةَ) يعنى النسمة ، ويقال : خلق الحياة والموت مقدم ومؤخر.

(لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم بين الحياة والموت (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أخلص عملا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْغَفُورُ (٢)) لمن تاب وآمن به (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ

٤٢٣

سَماواتٍ طِباقاً) مطبقة بعضها على بعض مثل القبة ملتزقة أطرافها (ما تَرى) يا محمد (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ) فى خلق السموات (مِنْ تَفاوُتٍ) من أعوجاج (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) رد البصر بالنظر إلى السماء (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣)) من شقوق وصدوع وعيوب ، وخلل (١) (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ) رد البصر إلى السماء ، وتفطر بالنظر إلى السماء (كَرَّتَيْنِ) مرتين (يَنْقَلِبْ) يرجع (إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) صاغرا ذليلا قبل أن ترى شيئا (وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)) على كليل منقطع (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) الأولى (بِمَصابِيحَ) بالنجوم (وَجَعَلْناها) يعنى النجوم (رُجُوماً) رميا (لِلشَّياطِينِ) يرجمون بها فبعضهم يخبل ، وبعضهم يقتل ، وبعضهم يحرق (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) للشياطين فى الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ (٥)) الوقود.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)) صاروا إليه جهنم (إِذا أُلْقُوا فِيها) طرحوا فى جهنم أمة من الأمم ممن يدخلونها ، يعنى اليهود والنصارى والمجوس ، ومشركى العرب (سَمِعُوا لَها) لجهنم (شَهِيقاً) صوتا كصوت الحمار (وَهِيَ تَفُورُ (٧)) تغلى (تَكادُ تَمَيَّزُ) تتفرق (مِنَ الْغَيْظِ) على الكفار (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها) طرح فى جهنم (فَوْجٌ) جماعة من الكفار ، يعنى اليهود والنصارى والمجوس ، وسائر الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) يعنى خزنة النار (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨)) رسول مخوف (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) رسول مخوف (فَكَذَّبْنا) الرسل (وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) من كتاب ولا بعث إلينا رسولا (إِنْ أَنْتُمْ) وقلنا للرسل ما أنتم (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)) خطأ عظيم الشرك بالله ، ويقال : تقول لهم الزبانية : (إِنْ أَنْتُمْ) ما كنتم فى الدنيا (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)) فى خطأ الشرك بالله (وَقالُوا) الخزنة (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) نستمع إلى الحق والهدى (أَوْ نَعْقِلُ) أو نرغب فى الحق فى الدنيا (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)) مع أهل الوقود فى النار اليوم.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) فأقروا بشركهم (فَسُحْقاً) فبعدا من رحمة الله ونكسا (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)) لأهل الوقود فى النار (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يعملون لربهم (بِالْغَيْبِ) وإن لم يروه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم فى الدنيا (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)) ثواب عظيم فى الجنة (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ) فى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمكر والخيانة

__________________

(١) انظر : المجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٦٢) ، ومعانى القرآن للفراء (٣ / ١٧٠) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ٣) ، وتفسير القرطبى (١٨ / ٢٠٨).

٤٢٤

(أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) أعلنوا به بالحرب والقتال (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣)) بما فى القلوب من الخير والشر (أَلا يَعْلَمُ) السر (مَنْ خَلَقَ) السر (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لطف علمه بما فى القلوب (الْخَبِيرُ (١٤)) بما فيها من الخير والشر ، ويقال : نافذ بكل شىء من الخير والشر الخبير بهما (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) مذللا لينها بالجبال (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) امضوا فى نواحيها وأطرافها ، ويقال : طرقها ، ويقال : فى جبالها وآكامها وفجاجها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وتأكلون من رزقه (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)) المرجع فى الآخرة.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

(أَأَمِنْتُمْ) يا أهل مكة إذ عصيتموه (مَنْ فِي السَّماءِ) عذاب من فى السماء على العرش (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)) تدور بكم إلى الأرض السابعة السفلى كما خسف بقارون (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) عذاب من فى السماء على العرش إذ عصيتموه (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) حجارة كما أرسل على قوم لوط (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)) كيف تغيرى عليكم بالعذاب (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل قومك يا محمد (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨)) انظر كيف كان تغيرى عليهم بالعذاب (أَوَلَمْ يَرَوْا) كفار مكة (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ) فوق رؤوسهم (صافَّاتٍ) مفتوحات الأجنحة (وَيَقْبِضْنَ) ويضممن (ما يُمْسِكُهُنَ) بعد البسط

٤٢٥

(إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من البسط والقبض (بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) منعة لكم (يَنْصُرُكُمْ) يمنعكم (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) من عذاب الرحمن (إِنِ الْكافِرُونَ) ما الكافرون (إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠)) فى أباطيل الدنيا وغرورها (أَمَّنْ هذَا الَّذِي) هو (يَرْزُقُكُمْ) من السماء بالمطر ، والأرض بالنبات (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) فمن ذا الذى يرزقكم (بَلْ لَجُّوا) تمادوا (فِي عُتُوٍّ) فى إباء عن الحق (وَنُفُورٍ (٢١)) تباعد عن الإيمان.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) ناكسا على ضلالته وكفره ، وهو أبو جهل بن هشام (أَهْدى) أصوب دينا (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) عادلا (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)) دين قائم يرضاه ، وهو الإسلام ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) خلقكم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لكى تسمعوا به الحق والهدى (وَالْأَبْصارَ) لكى تبصروا به الحق والهدى (وَالْأَفْئِدَةَ) يعنى القلوب لكى تعقلوا بها الحق والهدى (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣)) يقول : شكركم فيما صنع إليكم قليل ، ويقال : ما تشكرون بقليل ولا بكثير (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) خلقكم (فِي الْأَرْضِ) من آدم ، وآدم من تراب ، والتراب من الأرض (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)) فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم (وَيَقُولُونَ) يعنى كفار مكة (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذى تعدنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥)) إن كنت من الصادقين أن يكون ذلك (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّمَا الْعِلْمُ) علم قيام الساعة ونزول العذاب (عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) رسول مخوف (مُبِينٌ (٢٦)) للغة تعلمونها (فَلَمَّا رَأَوْهُ) يعنى العذاب فى النار (زُلْفَةً) قريبا ، ويقال : معاينة (سِيئَتْ) ساء العذاب (وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ويقال : حرقت وجوه الذين كفروا (وَقِيلَ) لهم (هذَا) العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) فى الدنيا (تَدَّعُونَ (٢٧)) تسألون وتقولون : إنه لا يكون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) يا أهل مكة (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) بالعذاب (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) فهو الذى يهلكنا ويرحمنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨)) وجيع (قُلْ) لهم يا محمد (هُوَ الرَّحْمنُ) ينجينا ويرحمنا (آمَنَّا بِهِ) صدقنا به (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) وثقنا (فَسَتَعْلَمُونَ) عند نزول العذاب (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩)) فى كفر بين (قُلْ) لهم يا محمد (أَرَأَيْتُمْ) ما تقولون يا أهل مكة (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ) إن صار ماؤكم ماء زمزم (غَوْراً) غائرا فى الأرض لا تناله الدلاء (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)) ظاهر تناله الدلاء.

* * *

٤٢٦

سورة القلم

ومن سورة ن ، وهى كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل : (ن) يقول : أقسم الله بالنون وهى السمكة التى نحمل الأرضين على ظهرها ، وهى فى الماء وتحتها الثور ، وتحت الثور الصخرة ، وتحت الصخرة الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله ، واسم السمكة : ليواش ، ويقال : لويهاء ، واسم الثور : بهموت ، وقال بعضهم : تلهوث ، ويقال : ليوتا ، وذلك فى بحر ، يقال له : عضواص وهو كالثور الصغير فى البحر العظيم وذلك فى صخرة جوفاء وفى تلك الصخرة أربعة آلاف خرق منها خرق يخرج المياه إلى الأرض ، ويقال : هو اسم من أسماء الرب وهو نون الرحمن ، ويقال : النون هو الدواة (١)(وَالْقَلَمِ) أقسم الله بالقلم وهو قلم من نور طوله ما بين السماء إلى الأرض ، وهو الذى كتب به الذكر الحكيم ، يعنى اللوح المحفوظ ، ويقال : القلم هو ملك من الملائكة أقسم الله به (وَما يَسْطُرُونَ (١)) وأقسم الله بما تكتب الملائكة من أعمال بنى آدم (ما أَنْتَ) يا محمد (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بالنبوة والإسلام (بِمَجْنُونٍ (٢)) يختنق ولهذا كان القسم (وَإِنَّ لَكَ) يا محمد (لَأَجْراً) ثوابا فى الجنة بالنبوة والإسلام (غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣)) غير منقوص ولا مكدر ، ولا يمن عليك بذلك (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)) على دين كريم شريف على الله ، ويقال : على منة عظيمة وهى الأخلاق الحسنة التى أكرمه الله بها إن قرأت بضم الخاء واللام.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥)) فسترى وتعلم ويرون ، ويعلمون عند نزول العذاب

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ١٣) ، والبحر المحيط (٨ / ٣٠٩) ، والمجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٦٤).

٤٢٧

بهم (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)) المجنون (١) (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) عن دينه وهو أبو جهل وأصحابه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧)) لدينه وهو أبو بكر وأصحابه (فَلا تُطِعِ) يا محمد (الْمُكَذِّبِينَ (٨)) بالله والكتاب والرسول ، يعنى رؤساء أهل مكة (وَدُّوا) تمنوا (لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)) تلين لهم فيليون لك ، ويقال : تطابقهم فيطابقونك وتصانعهم فيصانعونك (وَلا تُطِعْ) يا محمد (كُلَّ حَلَّافٍ) كذاب على الله (مَهِينٍ (١٠)) ضعيف فى دين الله ، هو الوليد بن المغيرة المخزومى (هَمَّازٍ) طعان لعان مغتاب للناس مقبلين ومدبرين.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠))

(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)) يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) للإسلام بينه وبين بنيه وبين أخيه وقرابته (مُعْتَدٍ) يا محمد للحق غشوم ظلوم عليهم (أَثِيمٍ (١٢)) فاجر (عُتُلٍ) شديد الخصومة بالباطل والكذب ، ويقال : عتل أكول وشروب صحيح الجسم رحيب البطن (٢)(بَعْدَ ذلِكَ) مع ذلك (زَنِيمٍ (١٣)) ملصق بالقوم ليس منهم ، ويقال : معروف فى الكفر والشرك والفجور والفسوق والشر ، ويقال : زنمة كزنمة العنز (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)) يقول : لا تطعه وإن كان ذامال وبنين ، وكان ماله نحو تسعة ألف مثقال من فضة وبنوه عشرة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ) يقرأ عليه (آياتُنا) القرآن بالأمر والنهى (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥)) أحاديث الأولين فى درهرهم وكذبهم (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)) سنضربه على الوجه ، ويقال : على الأنف ، ويقال : سيسود وجهه (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) اختبرنا أهل مكة بالقتل والسبى والهزيمة يوم بدر بتركهم الاستغفار وبالجوع والقحط سبع سنين لدعوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بعد يوم بدر (كَما بَلَوْنا) اختبرنا بالجوع وحرق البساتين (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أهل البساتين بنى ضروان (إِذْ أَقْسَمُوا) حلفوا بالله

__________________

(١) الباء زائدة. انظر أقوال العلماء فى الآية : البحر المحيط (٨ / ٣٠٩) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ١٣) ، والمجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٦٤) ، وزاد المسير (٨ / ٤٢٩).

(٢) انظر : المجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٦٤) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ١٦) ، وزاد المسير (٨ / ٣٣٢).

٤٢٨

(لَيَصْرِمُنَّها) ليجدنها (مُصْبِحِينَ (١٧)) عند طلوع الفجر (وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨)) لم يقولوا : إن شاء الله (فَطافَ عَلَيْها) على الجنة (طائِفٌ) عذاب (مِنْ رَبِّكَ) بالليل (وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ) فصارت الجنة محترقة (كَالصَّرِيمِ (٢٠)) كالليل المظلم.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠))

(فَتَنادَوْا) فنادى بعضهم بعضا (مُصْبِحِينَ (٢١)) عند طلوع الفجر (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) يعنى البساتين (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) جاذين قبل علم المساكين (فَانْطَلَقُوا) إلى البساتين (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣)) يتسارون فيما بينهم كلاما خفيا (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) يعنى الجنة (الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) على حقد ، ويقال : إلى بستانهم (قادِرِينَ (٢٥)) على غلتها (فَلَمَّا رَأَوْها) يعنى البساتين محترقة (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)) الطريق ظنوا أنهم ضلوا الطريق ثم قالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧)) حرمنا منفعة البستان لسواء نياتنا (قالَ أَوْسَطُهُمْ) فى السن ، ويقال : أعدلهم فى القول ، ويقال : أفضلهم فى العقل والرأى (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨)) هلا تستثنون ، وقد قال لهم ذلك عند ما أقسموا (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) نستغفر ربنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩)) ضارين لأنفسنا بمعصيتنا وتركنا الاستناء ومنعنا المساكين (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠)) يلوم بعضهم بعضا ، يقول : واحد منهم أنت فعلت هذا يا فلان بنا ، ويقول الآخر : أنت فعلت هذا بنا.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠))

(قالُوا) بالجملة (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)) عاصين بمنعنا المساكين (عَسى

٤٢٩

رَبُّنا) وعسى من الله واجب (أَنْ يُبْدِلَنا) أن يعوضنا ربنا فى الآخرة (خَيْراً مِنْها) من هذه الجنة (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢)) رغبتنا إلى الله (كَذلِكَ الْعَذابُ) فى الدنيا لمن منع حق الله من ماله كما كان لهم حرق البستان والجوع بعد ذلك ، ويقال : كذلك العذاب هكذا عذاب الدنيا كما كان لأهل مكة بالقتل والجوع (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) لمن يتوب (أَكْبَرُ) من عذاب الله فى الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)) أهل مكة لا يعلمون ذلك ولا يصدقون به (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الكفر والشرك والفواحش (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فى الآخرة (جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤)) نعيمها دائم لا يغنى ، ويقال : قال عتبة بن ربيعة : لئن كان ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه من الجنة والنعيم حقا لنحن أفضل منهم فى الآخرة كما نحن أفضل فى الدنيا فنزل (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ) ثواب المسلمين فى الجنة (كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)) كثواب المشركين ، وهم أهل النار ، ويقال : أفتجعل ثواب المشركين فى الآخرة كثواب المسلمين (ما لَكُمْ) يا أهل مكة (كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)) بئس ما تقضون لأنفسكم (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)) تقرؤون (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ) فى الكتاب (لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)) تشتهون فى الآخرة من الجنة (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) عهود (عَلَيْنا) بالأيمان (بالِغَةٌ) وثيقة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩)) تقضون لأنفسكم فى الآخرة من الجنة (سَلْهُمْ) يا محمد (أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)) بما يقولون.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) عن أمر كانوا فى عمى منه فى الدنيا ، ويقال : عن أمر شديد فظيع ، ويقال : عن علامة بينهم وبين ربهم (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) بعد ما قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ولا منافقين (فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)) السجود وبقيت صلاتهم كالصياص كثل حصون الحديد (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ذليلة أبصارهم لا

٤٣٠

يرون خيرا (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تعلوهم كآبة وكسوف وهو السواد على الوجوه (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) فى الدنيا (إِلَى السُّجُودِ) إلى الخضوع لله بالتوحيد فلم يخضعوا لله بالتوحيد (وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)) أصحاء معافون (فَذَرْنِي) يا محمد (وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) بهذا الكتاب (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنأخذهم ، يعنى المستهزئين بالقرآن (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤)) لا يشعرون فأهلكهم الله فى يوم وليلة وكاوا خمسة نفر (وَأُمْلِي لَهُمْ) أمهلهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)) عذابى شديد (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) تسأل أهل مكة (أَجْراً) جعلا ورزقا على الإيمان (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) من الغرم (مُثْقَلُونَ (٤٦)) بالإجابة (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) اللوح المحفوظ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)) منه ما يخاصمونك به (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) على تبليغ رسالة ربك ، ويقال : ارض بقضاء ربك (وَلا تَكُنْ) ضجورا ضيق القلب فى أمر الله (كَصاحِبِ الْحُوتِ) كضجر يونس بن متى (إِذْ نادى) دعا ربه فى بطن الحوت (وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨)) مجهود مغموم (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) رحمة من ربه (لَنُبِذَ) لطرح (بِالْعَراءِ) على الصحراء (وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩)) ملوم مذنب (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) فاصطفاه ربه بالثواب (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)) من المرسلين (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) كفار مكة (لَيُزْلِقُونَكَ) ليصرعونك (بِأَبْصارِهِمْ) ويقال : بعينونك بأعينهم (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) قراءتك القرآن (وَيَقُولُونَ) يعنى كفار مكة (إِنَّهُ) يعنون محمدا (لَمَجْنُونٌ (٥١)) يختنق (وَما هُوَ) يعنى القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) عظة (لِلْعالَمِينَ (٥٢)) للجن والإنس (١).

__________________

(١) انظر : المصفى لابن الجوزى (٢١٤) ، وزاد المسير (٨ / ٣٤٢) ، وبصائر ذوى التمييز (١ / ٤٧٦) ، ومعانى القرآن للفراء (٣ / ١٧٩) ، وتفسير الطبرى (٢٩ / ٣٠).

٤٣١

سورة الحاقة

ومن سورة الحاقة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله جل وعلا : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢)) يقول الساعة ما الساعة يعجبه بذلك (١) (وَما أَدْراكَ) يا محمد (مَا الْحَاقَّةُ (٣)) وإنما سميت للحاقة لحقائق الأمور تحق للمؤمن بإيمانه الجنة ، وتحق للكافر بكفره بالنار (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) قوم صالح (وَعادٌ) قوم هود (بِالْقارِعَةِ (٤)) بقيام الساعة وإنما سميت القارعة لأنها تقرع قلوبهم (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥)) بطغيانهم وشركهم أهلكوا ، ويقال : طغيانهم حملهم على التكذيب حتى أهلكوا (وَأَمَّا عادٌ) قوم هود (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) بارد (عاتِيَةٍ (٦)) شديد عتت عصت وأبت على خزانها (سَخَّرَها) سلطها (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) دائما متتابعا لا يفتر عنهم (فَتَرَى الْقَوْمَ) قوم هود (فِيها) فى الأيام ، ويقال : فى الريح (صَرْعى) هلكى مطروحين (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) أوراك نخل (خاوِيَةٍ (٧)) ساقطة (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)) يقول : لم يبق منهم أحد إلا أهلكته الريح (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) من معه من جنوده إلى البحر فغرقوا فى البحر ، ويقال : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ) تكلم فرعون بكلمة الشرك (وَمَنْ قَبْلَهُ) ومن كان من قبل فرعون من الأمم الماضية (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) المنخسفات أيضا قريات لوط وائتفكها خسفها (بِالْخاطِئَةِ (٩)) تكلموا كلمة الشرك (فَعَصَوْا رَسُولَ

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ٣٠) ، وزاد المسير (٨ / ٣٤٥) ، وتفسير القرطبى (١٨ / ٢٥٧).

٤٣٢

رَبِّهِمْ) موسى (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠)) فعاقبهم عقوبة شديدة.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠))

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) ارتفع الماء فى زمان نوح (حَمَلْناكُمْ) يا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الخلق فى أصلاب آباءكم (فِي الْجارِيَةِ (١١)) فى سفينة نوح (لِنَجْعَلَها لَكُمْ) يعنى سفينة نوح ، ويقال : هذه القصة لكم (تَذْكِرَةً) عظة تتعظون بها (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)) يحفظها قلب حافظ ، ويقال : تسمع هذا الأمر أذن سامعة فتشفع بما سمعت (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣)) لا تثنى وهى نفخة البعث (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) يقال : ما على الأرض من البنيان والجبال (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤)) فكسر تاكسرة واحدة (فَيَوْمَئِذٍ) يوم حملت الأرض والجبال (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥)) قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) لهيبة الرحمن ونزول الملائكة (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦)) منشقة ضعيفة (وَالْمَلَكُ) يعنى الملائكة (عَلى أَرْجائِها) حرفها وجوابنها ونواحيها وأطرافها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) سرير ربك (فَوْقَهُمْ) على أعناقهم (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (ثَمانِيَةٌ (١٧)) يقول : ثمانية رهط من الملائكة لكل ملك أربعة وجوه ، وجه إنسان ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، ووجه ثور ، ويقال : ثمانية صفوف ، ويقال : ثمانية أجزاء من الكروبين ، وهم أهل السماء السابعة (يَوْمَئِذٍ) وهو يوم القيامة (تُعْرَضُونَ) على الله ثلاث عرضات عرض للحساب والمعاذير ، وعرض للخصومات والقصاص ، وعرض لتطاير الكتب والقراءة (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)) لا يترك منكم أحد ، ويقال : لا تخفى على الله منكم خافية أحد ، ويقال : لا يخفى على الله من أعمالكم شىء (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) أعطى (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهو أبو سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة وكان مسلما (فَيَقُولُ) لأصحابه (هاؤُمُ) تعالوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)) انظروا ما فى كتابى من الثواب والكرامة (إِنِّي ظَنَنْتُ) علمت وأيقنت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠)) معاين حسابى.

٤٣٣

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠))

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١)) فى عيش قد رضيه لنفسه أى مرضية (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)) مرتفعة (قُطُوفُها) ثمرها واجتناؤها (دانِيَةٌ (٢٣)) قريبة يناله القاعد والقائم (كُلُوا) يقول الله لهم : كلو من الثمار (وَاشْرَبُوا) من الأنهار (هَنِيئاً) بإرداء ولا موت (بِما أَسْلَفْتُمْ) بما قدمتم من العمل الصالح ، ويقال : من الصوم والصلاة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)) الماضية ، يعنى أيام الدنيا (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) أعطى (كِتابَهُ بِشِمالِهِ) وهو الأسود بن عبد الأسد أخوا أبى سلمة وكان كافرا (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥)) لم أعط كتابى هذا (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦)) لم أعلم حسابى (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)) يتمنى الموت ، يقول : بالتنيى بقيت على موتى الأول (ما أَغْنى عَنِّي) من عذاب الله (مالِيَهْ (٢٨)) مالى الذى جعلت فى الدنيا (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)) بطل عنى حجتى وعذرى ، فيقول الله للملائكة : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠)).

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠))

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١)) أدخلوه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) طولها وباعها (سَبْعُونَ ذِراعاً) بذراع الملك ، ويقال : باعا (فَاسْلُكُوهُ (٣٢)) فأدخلوه فى دبره وأخرجوه من فمه ، والواو ما فضل على عنقه (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣)) إذ كان فى الدنيا (وَلا يَحُضُ) لا يحث (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)) على صدقة المسكين (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥)) قريب ينفعه (وَلا طَعامٌ) فى النار (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦)) من عصارة أهل النار ، وهى ما يسبل من بطونهم ودجلودهم من القيح والدم والصديد (لا يَأْكُلُهُ) يعنى الغسلين (إِلَّا الْخاطِؤُنَ (٣٧)) المشركون (فَلا أُقْسِمُ) يقول : أقسم (بِما تُبْصِرُونَ (٣٨)) من شىء (وَما لا تُبْصِرُونَ

٤٣٤

(٣٩)) من شىء يا أهل مكة ، ويقال : بما تبصرون يعنى السماء والأرض وما لا تبصرون ، يعنى الجنة والنار ، ويقال : بما تبصرون ، يعنى الشمس والقمر ولا تبصرون العرش والكرسى ، ويقال : بما تبصرون ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما لا تبصرون ، يعنى جبريل ، أقسم الله بهذه الأشيئاء (إِنَّهُ) يعنى القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)) يقول : القرآن قول الله نزل به جبريل على رسول كريم ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

(وَما هُوَ) يعنى القرآن (بِقَوْلِ شاعِرٍ) بنشئه (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١)) يقول ما تؤمنون بقليل ولا كثير (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) بخبر ما فى الغد (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)) ما تتعظون بقليل ولا بكثير (تَنْزِيلٌ) يقول : القرآن تنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) ولو اختلق علينا محمد (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤)) من الكذب ، فقال : علينا ما لم نقله (لَأَخَذْنا) لانتقمنا (مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)) بالحق والحجة ، ويقال : أخذناه بالقوة (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ) من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْوَتِينَ (٤٦)) عرق قلبه ، وهو نياط قلبه (١) (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)) يقول : فليس منكم أحد يحجزنا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّهُ) القرآن (لَتَذْكِرَةٌ) عظة (لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)) الكفر والشرك والفواحش (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)) بالقرآن ومصدقين به (وَإِنَّهُ) يعنى القرآن (لَحَسْرَةٌ) ندامة (عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)) يوم القيامة (وَإِنَّهُ) القرآن (لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)) حقا يقينا إنه كلامى نزل به جبريل على رسول كريم ، ويقال : إنه الذى ذكرت من الحسرة والندامة على الكافرين لحق اليقين ، يقول : حقا يقينا أن يكون عليهم الحسرة والندامة يوم القيامة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فصل بأمر ربك (الْعَظِيمِ (٥٢)) ويقال : أذكر توحيد ربك العظيم أعظم من كل شىء.

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ٤٢) ، والمجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٦٨) ، والبحر المحيط (٨ / ٣٢٩) ، والنكت والعيون للماوردى (٤ / ٣٠٠).

٤٣٥

سورة المعارج

ومن سورة المعارج ، وهى مكية كلها

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠)) عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل : (سَأَلَ سائِلٌ) يقول : دعا داع وهو النضر بن الحارث (١)(بِعَذابٍ واقِعٍ (١)) نازل (لِلْكافِرينَ) على الكافرين ، وهو من الكافرين (لَيْسَ لَهُ) للعذاب (دافِعٌ (٢)) مانع قتل يوم بدر صبرا (مِنَ اللهِ) يأتى هذا العذاب على الكافرين (ذِي الْمَعارِجِ (٣)) خالق السموات (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) يعنى جبريل (إِلَيْهِ) إلى الله (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) مقدار الصعود على غير الملائكة (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)) ويقال : من الله يأتى هذا العذاب على الكافرين يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ويقال : لو ولى محاسبة الخلائق إلى أحد غير الله لم يفرغ منه خمسين ألف سنة (فَاصْبِرْ) على أذاهم يا

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ٤٣) ، والدر المنثور (٦ / ٣٦٣) ، ولباب النقول (٢١٩) ، والسبعة (٦٥٠) ، وزاد المسير (٨ / ٣٥٨) ، والحجة فى القراءات لأبى زرعة (٧٢٠).

٤٣٦

محمد (صَبْراً جَمِيلاً (٥)) بلا جزع ولا فحش ، ويقال : فاعتزل عنهم اعتزالا جميلا بلا جزع ، ولا فحش ، فأمر بعد ذلك بالقتال (إِنَّهُمْ) كانوا ، يعنى كفار مكة (يَرَوْنَهُ) يعنى العذاب يوم القيامة (بَعِيداً (٦)) غير كائن (وَنَراهُ قَرِيباً (٧)) كائنا ، لأن كل آت كائن قريب.

ثم بين عذابهم متى يكون ، فقال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) تصير السماء (كَالْمُهْلِ (٨)) كدردى الزيت ، ويقال : كالفضة المذابة (وَتَكُونُ) تصير (الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)) كالصوف المندوف (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠)) قرابة عن قرابة (يُبَصَّرُونَهُمْ) يرونهم ولا يعرفونهم اشتغالا بأنفسهم (يَوَدُّ) يتمنى (الْمُجْرِمُ) يعنى المشرك أبا جهل وأصحابه ، ويقال : النضر وأصحابه (لَوْ يَفْتَدِي) يفادى نفسه (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) يوم القيامة (بِبَنِيهِ (١١)) أولاده.

(وَصاحِبَتِهِ) زوجته (وَأَخِيهِ (١٢)) من أبيه وأمه (وَفَصِيلَتِهِ) وبقرابته وعشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣)) ينتمى إليها (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وبمن فى الأرض جميعا (ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)) أى الله من العذاب (كَلَّا) حقا ، وهو رد عليه لا ينجيه الله من العذاب (إِنَّها لَظى (١٥)) يعنى اسما من أسماء النار (نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦)) قلاعة لأعضاء اليدين والرجلين وسائر الأعضاء ، ويقال : حراقة للبدن (تَدْعُوا) إلى نفسها إلى أيها الكافر ، وإلىّ أيها المنافق (مَنْ أَدْبَرَ) عن التوحيد (وَتَوَلَّى (١٧)) عن الإيمان ، ولم يتب من الكفر (وَجَمَعَ) المال فى الدنيا (فَأَوْعى (١٨)) جعله فى الوعاء ، فمنع حق الله منه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ) يعنى الكافر (خُلِقَ هَلُوعاً (١٩)) ضجورا بخيلا حريصا ممسكا (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) الفقر والشدة (جَزُوعاً (٢٠)) جازعا لا يصبر (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) المال والسعة (مَنُوعاً (٢١)) منع حق الله منه ، ولا يشكر (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢)) أهل الصلوات الخمس ، فإنهم ليسوا كذلك ، ثم بين نعتهم ، فقال : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) المكتوبة (دائِمُونَ (٢٣)) يديمون عليها بالليل والنهار ، فلا يدعونها (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤)) يرون فى أموالهم حقا معلوما غير الزكاة.

(لِلسَّائِلِ) الذى يسأل مالك (وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) الذى حرم أجره وغنيمته ، ويقال : هو المحترف الذى لا تفى حرفته بمعيشته وقوته ، ويقال : هو الفقير الذى لا يسأل

٤٣٧

ولا يعطى ، ولا يفطن به (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦)) بيوم الحساب بما فيه (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧)) خائفون (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)) لم يأتهم الأمان من ربهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩)) يعفون عن الحرام (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) الأربع (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الولائد بغير عدد (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠)) ولا آثمين بذلك لا يلومون بذلك الحلال.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) طلب سوى ما ذكرت من الأزواج والولائد (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١)) المعتدون من الحلال إلى الحرام (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) لما ائتمنوا عليه من أمر الدين وغيره (وَعَهْدِهِمْ) فيما بينهم وبين ربهم ، أو فيما بينهم ، وبين الناس ، ويقال : بحلفهم بالله (راعُونَ (٣٢)) حافظون له بالوفاء والتمام إلى أجله (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)) عند الحكام إذا دعوا ولا يكتمونها (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤)) على أوقات صلاتهم الخمس يحافظون (أُولئِكَ) أهل هذه الصفة (فِي جَنَّاتٍ) بساتين (مُكْرَمُونَ (٣٥)) بالثواب والتحف والهدايا (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) كفار مكة المستهزئين وغيرهم (قِبَلَكَ) حولك (مُهْطِعِينَ (٣٦)) ناظرين إليك لا يدنون (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧)) حلقا حلقا.

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا) وهو رد عليهم لا يدخلهم الجنة ، ويقال : كلا حقا (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) يعنى كفار مكة (مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩)) يعنى النطفة (فَلا أُقْسِمُ) يقول : أقسم (بِرَبِّ الْمَشارِقِ) مشارق الشتاء والصيف (وَالْمَغارِبِ) مغارب الشتاء والصيف ، وهما مشرقان ومغربان ، لمشرق الشتاء والصيف مائة وثمانون منزلا ، وكذلك للمغربين ، ويقال : لمشرق الشتاء والصيف مائة وسبعة وسبعون منزلا ، وكذلك المغربين ، تطلع الشمس فى سنة يومين فى منزل

٤٣٨

واحد ، وكذلك تغرب فى يومين فى منزل واحد ، (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)) ولهذا كان القسم (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) يقول : نهلكهم ونأتى بغيرهم خيرا منهم ، وأطوع لله منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١)) بعاجزين على أن نبدل خيرا منهم (فَذَرْهُمْ) اتركهم يا محمد ، يعنى المستهزئين وغيرهم (يَخُوضُوا) فى الباطل (وَيَلْعَبُوا) يهزؤوا فى كفرهم (حَتَّى يُلاقُوا) يعاينوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢)) فيه العذاب.

ثم بين متى يكون ، فقال : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) من القبور (سِراعاً) يقول : خروجهم من القبور سريعا (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) إلى غاية وعلم (يُوفِضُونَ (٤٣)) يمضون وينطلقون (١) (خاشِعَةً) ذليلة (أَبْصارُهُمْ) لا يرون خيرا (تَرْهَقُهُمْ) تعلوهم وتغشاهم (ذِلَّةٌ) كآبة وكسوف وهو السواد على الوجوه (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)) فيه العذاب ، وهو يوم القيامة.

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ٥٦) ، وزاد المسير (٨ / ٣٦٦) ، وتفسير غريب ابن قتيبة (٤٨٦).

٤٣٩

سورة نوح

ومن سورة نوح ، عليه‌السلام ، وهى مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قول الله جل وعز : (إِنَّا أَرْسَلْنا) بعثنا (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ) خوف (قَوْمَكَ) من السخط والعذاب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١)) وجيع ، وهو الغرق ، فلما جاءهم (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) رسول مخوف (مُبِينٌ (٢)) بلغة تعلمونها (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحدوا الله (وَاتَّقُوهُ) اخشوه وتوبوا من الكفر والشرك (وَأَطِيعُونِ (٣)) اتبعوا أمرى ودينى ووصيتى واقبلوا نصيحتى (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يغفر ذنوبكم بالتوبة والتوحيد (١)(وَيُؤَخِّرْكُمْ) يؤجلكم بلا عذاب (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى الموت (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) عذاب الله (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) لا يؤجل (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)) تصدقون بما أقول لكم ، فلما أيس منهم بعدما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمنوا ولم يقبلوا نصيحته.

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٩ / ٥٧) ، والقرطبى (١٨ / ٢٥٩).

٤٤٠