تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3924-X

الصفحات: ٥٣٣
الجزء ١ الجزء ٢

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) يقول : إن رجعت واحدة من أزواجكم (إِلَى الْكُفَّارِ) ليس بينكم وبينهم العهد والميثاق (فَعاقَبْتُمْ) فغنمتم من العدو (فَآتُوا) فأعطوا (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) رجعت أزواجهم إلى الكفار (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) عليهن من المهر والغنيمة قبل الخمس (وَاتَّقُوا اللهَ) اخشوا الله فيما أمركم (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)) مصدقون وجميع من ارتدت من نساء المؤمنين ست نسوة منهن امرأة من نساء عمر بن الخطاب أم سلمة ، وأم كلثوم بنت جرول ، وأم الحكم بنت أبى سفيان ، كانت تحت عباد بن شداد الفهرى ، وفاطمة بنت أبى أمية بن المغيرة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان من بنى مخزوم ، وعبدة بنت عبد العزيز بن نضلة وزوجها عمرو بن عبدود ، وهند بنت أبى جهل بن هشام كانت تحت هاشم بن العاص بن وائل السهمى فأعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهر نسائهم من الغنيمة (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) يعنى محمدا (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) نساء أهل مكة بعد فتح مكة (يُبايِعْنَكَ) يشارطنك (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأصنام ولا يستحللن ذلك (وَلا يَسْرِقْنَ) ولا يستحللن ذلك (وَلا يَزْنِينَ) ولا يستحللن الزنا (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) ولا يدفن بناتهن أحياء ولا يستحللن ذلك (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) ولا يجئن بولد من الزنا (يَفْتَرِينَهُ) على الزوج ويضعنه (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) لتقول لزوجها هو منك وأنا ولدته (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فى جميع ما تأمرهن وتنهاهن من ترك النوح ، وجز الشعر وتمزيق الثياب وخمش الوجوه ، وشق الجيوب ، وحلق الرؤوس ، وأن لا يخلون مع غريب ، وأن لا يسافرن سفرا ثلاثة أيام ، أو أقل من ذلك مع غير ذى محرم منهن (فَبايِعْهُنَ) فشارطهن على هذا (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) فيما كان منهن فى الجاهلية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) متجاوز بعد فتح مكة بما كان منهن فى الجاهلية (رَحِيمٌ (١٢)) بما يكون منهن فى الإسلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى عبد الله بن أبى وأصحابه (لا تَتَوَلَّوْا) فى العون والنصرة وإفشاء سر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) سخط الله عليهم مرتين وهم اليهود حين قالوا يد الله مغلولة ومرة أخرى بتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) من نعيم الجنة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) كفار مكة (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)) من رجوع أهل المقابر ، ويقال : من سؤال منكر ونكير (١).

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٨ / ٥١) ، وزاد المسير (٨ / ٢٤٧).

وتفسير القرطبى (١٧ / ٧٥).

٤٠١

سورة الصّف

ومن سورة الصف ، وهى كلها مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ) يقول : صلّى الله ، ويقال : ذكر الله (ما فِي السَّماواتِ) من الخلق (وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق وكل شىء حى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمُ (١)) فى أمره وقضائه أمر أن يعبد غيره (١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)) لم تتكلمون بما لا تعلمون به ، وذلك أنهم قالوا : لو نعمل يا رسول الله أى عمل أحب إلى الله لفعلناه قد لهم الله على ذلك ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ

__________________

(١) انظر : سنن الدارمى (٢ / ٢٠٠) ، والترمذى (٤ / ١٩٩) ، وأحمد (٥ / ٤٥٢) ، والحاكم (٢ / ٦٩ ، ٢٢٩ ، ٤٨٧) ، والفتح للحافظ (١٠ / ٢٦٥).

٤٠٢

أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) فى الآخرة (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠)) وجيع يخلص وجعه إلى قلوبكم فمكثوا بعد ذلك ما شاء الله ولم يبين لهم ما هى ، فقالوا : ليتنا نعلم ما هى؟ لنبذل فيها أموالنا وأنفسنا وأهلينا ، فبين الله تعالى لهم فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تستقيمون على إيمانكم بالله ورسوله (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فى طاعة الله (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) الآية ، فابتلوا لذلك يوم أحد ففروا من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلامهم على ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)) لم تعدون ما لا توفون وتتكلمون بما لا تعلمون.

(كَبُرَ مَقْتاً) عظم بغضا (عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣)) أن تعدوا بما لا توفون وتتكلموا بما لا تعلمون ، ثم حرضهم على الجهاد فى سبيله ، فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) فى طاعته (صَفًّا) فى القتال (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)) ملتزق قد رض بعضه إلى بعض (وَ) اذكر يا محمد (وَإِذْ قالَ) قد قال (مُوسى لِقَوْمِهِ) المنافقين (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) بما تقولون على ، وكانوا يقولون : إنه آدر وقد بين قصته فى سورة الأحزاب (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا) مالوا عن الحق والهدى (أَزاغَ اللهُ) أمال الله (قُلُوبَهُمْ) عن الحق والهدى ، ويقال : (فَلَمَّا زاغُوا) كذبوا موسى (أَزاغَ اللهُ) صرف الله (قُلُوبَهُمْ) عن التوحيد ، ويقال : (فَلَمَّا زاغُوا) مالوا عن الحق والهدى (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) زاد الله زيغ قلوبهم (وَاللهُ لا يَهْدِي) لا يرشد إلى دينه (الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥)) الكافرين من كان فى علم الله انه لا يؤمن.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً) موافقا بالتوحيد وبعض الشرائع (لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) لما قبلى من التوراة (وَمُبَشِّراً) وجئتكم مبشرا أبشركم (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يسعى أحمد الذى لا يذم ، ومحمد الذى يحمد (فَلَمَّا جاءَهُمْ) عيسى ، ويقال : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْبَيِّناتِ /) بالأمر والنهى والعجائب التى أراهم (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)) بين السحر والكذب (وَمَنْ أَظْلَمُ) فى كفره (مِمَّنِ افْتَرى) اختلق (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فجعل له ولدا وصاحبة (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) إلى التوحيد ، وهم اليهود دعاهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التوحيد (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧)) لا يرشد إلى دينه اليهود من كان فى علم الله أنه يموت يهوديا (يُرِيدُونَ) يعنى اليهود والنصارى (لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) ليبطلوا دين الله ،

٤٠٣

ويقال : كتاب الله القرآن (بِأَفْواهِهِمْ) بألسنتهم وكذبهم (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مظهر نور كتابه ودينه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨)) وإن كره اليهود ، والنصارى ، ومشركوا العرب أن يكون ذلك (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى) بالتوحيد ، ويقال بالقرآن (وَدِينِ الْحَقِ) شهادة أن لا إله إلا الله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على الأديان كلها فلا تقوم الساعة حتى لا يبقى أحد إلا دخل فى الإسلام ، أو أدى إليهم الجزية (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)) وإن كره اليهود والنصارى ومشركو العرب أن يكون ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وقد بينهم فى أول السورة (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠)) وجيع فى الآخرة باللظى (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تصدقون بإيمانكم بالله ورسوله إن فسرت على المنافقين (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فى طاعة الله (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) بنفقة أموالكم وخروج أنفسكم (ذلِكُمْ) الجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من الأموال (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)) تصدقون بثواب الله (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) بالجهاد والنفقة فى سبيل الله (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت شجرها ومساكنها (الْأَنْهارُ) أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) دلالا لكم ، ويقال : طاهرة ، ويقال : حسنة جميلة ، ويقال : طيبة قد طيبها الله بالمسك والريحان (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) فى دار الرحمن (ذلِكَ) الذى ذكرت (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)) النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من النار (وَأُخْرى) وتجارة أخرى (تُحِبُّونَها) تتمنون وتشتهون أن تكون لهم (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كفار قريش (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل فتح مكة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)) المخلصين بالجنة إن كانوا كذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدوه ، ويقال : أعوان الله على أعدائه (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) لأصفيائه (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) من أعوانى مع الله على أعدائه (قالَ الْحَوارِيُّونَ) أصفياؤه (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أعوانك مع الله على أعدائه ، وكانوا اثنى عشر رجلا أول من آمنوا به ونصروه على أعدائه وكانوا قصارين (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ) جماعة (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى ابن مريم (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) جماعة بعيسى ابن مريم وهم الذين أضلهم بولس والذين لم يؤمنوا به (فَأَيَّدْنَا) أعنا وقوينا (الَّذِينَ آمَنُوا) بعيسى ابن مريم وهم الذين لم يخالفوا دين عيسى (عَلى عَدُوِّهِمْ) الذين خالفوا دين عيسى (فَأَصْبَحُوا) فصاروا (ظاهِرِينَ (١٤)) غالبين بالحجة على أعدائهم لصلاتهم لله ، ويقال : لأنهم ممن يسبح.

٤٠٤

سورة الجمعة

ومن سورة الجمعة ، وهى كلها مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ) يقول : يصلّى الله ، ويقال : يذكر الله (ما فِي السَّماواتِ) من الخلق (وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق وكل شىء حى (الْمَلِكِ) الدائم الذى لا يزول ملكه (الْقُدُّوسِ) الطاهر بلا ولد ولا شريك (الْعَزِيزِ) الغالب فى ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمِ (١)) فى أمره وقضائه أمر أن لا يعبد غيره (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) فى العرب (رَسُولاً مِنْهُمْ) من نسبهم ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا) يقرأ (عَلَيْهِمْ آياتِهِ) القرآن بالأمر والنهى (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم بالتوحيد من الشرك ، ويقال : بالزكاة والتوبة من الذنوب أى يدعوهم إلى ذلك (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يعنى القرآن (وَالْحِكْمَةَ) الحلال والحرام ،

٤٠٥

ويقال : العلم ومواعظ القرآن (وَإِنْ كانُوا) وقد كانوا يعنى العرب (مِنْ قَبْلُ) من قبل مجىء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالقرآن (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢)) فى كفر بين.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) وفى الآخرين منهم من العرب ، ويقال : من الموالى (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) بالعرب الأول ، يقول : لم يكونوا بعد فسيكونون ، يقول : بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إلى الأولين والآخرين من العرب والموالى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) بالنقمة لمن لا يؤمن به وبكتابه وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْحَكِيمُ (٣)) فى أمره وقضائه أمر أن لا يعبد غيره (ذلِكَ) الذى ذكرت من النبوة والكتاب والتوحيد (فَضْلُ اللهِ) من الله (يُؤْتِيهِ) يعطيه ويكرم به (مَنْ يَشاءُ) من كان أهلا لذلك (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ) المن (الْعَظِيمِ (٤)) بالإسلام والنبوة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقال : بالإسلام على المؤمنين ، ويقال : بالرسول والكتاب على خلقه (مَثَلُ الَّذِينَ) صفة الذين (حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أمروا أن يعملوا بما فى التوراة أى أمروا أن يظهروا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته فى التوراة (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) لم يعملوا بما أمروا فيها أى لم يظهروا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته فى التوراة (كَمَثَلِ الْحِمارِ) كشبه الحمار (يَحْمِلُ أَسْفاراً) كتبا لا ينتفع بحمله كذلك اليهود لا ينتفعون بالتوراة كما لا ينتفع الحمار بما عليه من الكتب (١)(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) صفة القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن يعنى اليهود (وَاللهُ لا يَهْدِي) لا يرشد إلى دينه (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)) اليهود من كان فى علم الله أنه يموت على اليهودية.

(قُلْ) يا محمد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) مالوا عن الإسلام وتهودوا وهم بنو يهوذا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أحباء الله (مِنْ دُونِ النَّاسِ) من دون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فأسألوا الموت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦)) أنكم أولياء الله من دون الناس ، فقال لهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا اللهم أمتنا فو الله ليس منكم أحد يقول ذلك إلا غص بريقه ويموت» فكرهوا ذلك ولم يسألوا الموت فقال الله (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) لا يسألون الموت يعنى اليهود أبدا (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما عملت أيديهم فى اليهودية (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)) باليهود على أنهم لا يسألون الموت (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) تكرهونه (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) نازل بكم لا محالة (ثُمَّ تُرَدُّونَ) فى الآخرة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) ما غاب من العباد وما يكون

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٨ / ٢٦١) ، وتفسير الطبرى (٢٨ / ٦٤).

٤٠٦

(وَالشَّهادَةِ) ما علمه العباد وما كان (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)) وتقولون من الخير والشر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) إذا دعيتم إلى الصلاة بالأذان (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا) فامضوا (إِلى ذِكْرِ اللهِ) إلى خطبة الإمام والصلاة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا البيع بعد الأذان (ذلِكُمْ) الاستماع إلى خطبة الإمام والصلاة معه (خَيْرٌ لَكُمْ) من الكسب والتجارة (إِنْ كُنْتُمْ) إذا كنتم (تَعْلَمُونَ (٩)) تصدقون بثواب الله ، ثم رخص لهم بعد ما حرم عليهم بقوله وذروا البيع ، فقال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) إذا فرغ الإمام من صلاة الجمعة (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) فتفرقوا فى المسجد إن شئتم (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) اطلبوا من رزق الله إن شئتم فهذه رخصة بعد النهى ولها وجه آخر يقول : فإذا قضيت الصلاة إذا فرغ الإمام من صلاة الجمعة فانتشروا فى الأرض فتفرقوا فى المسجد وابتغوا من فضل الله اطلبوا ما هو أفضل لكم يعنى على السر والتوحيد والزهد والتوكل (وَاذْكُرُوا اللهَ) بالقلب واللسان (كَثِيراً) على كل حال (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)) لكى تنجوا من السخط والعذاب (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) دحية بن خليفة الكلبى (١)(أَوْ لَهْواً) أو سمعوا صوت الطبل (انْفَضُّوا) تفرقوا وخرجوا من المسجد (إِلَيْها) غير ثمانية رهط ، ويقال : غير اثنى عشر رجلا وامرأتين لم يخرجوا إليها (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر تخطب (قُلْ) يا محمد لهم (ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ) لكم (مِنَ اللهْوِ) من صوت الطبل (وَمِنَ التِّجارَةِ) تجارة دحية الكلبى ، يقول : لو ثبتم مع نبيكم حتى صليتم الصلاة ، ودعوتم ، ثم خرجتم لكان خيرا لكم بالثواب والكرامة عند الله من الخروج (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)) أفضل المعطين.

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى (٥ / ٢٠٠ ، ١٠ / ٢٦٨) ، ومسلم (٦ / ١٥٠ ، ١٥١) ، والترمذى (٤ / ٢٠٠) ، وأحمد (٣ / ٣٧٠) ، وابن جرير فى التفسير (٢٨ / ٦٩).

٤٠٧

سورة المنافقون

ومن سورة المنافقين ، وهى كلها مدنية غير قوله : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) إلى آخر الآية ، فإنها نزلت عليه فى طريق بنى المصطلق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله جل وعلا : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) يقول إذا جاءك منافقوا أهل المدينة عبد الله بن أبى ، ومعتب بن قشير وجد بن قيس وكانوا بنى عم (١)(قالُوا نَشْهَدُ) نحلف بالله (إِنَّكَ) يا محمد (لَرَسُولُ اللهِ) نعلم ذلك

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى (٦ / ٦٣) ، ومسلم (٢٥٨٤) ، (٤ / ١٩٩٩) ، والترمذى ٠٤ / ٢٠١) ، وعزاه المبار كفورى إلى أحمد والنسائى وأخرجه الطبرى (٢٨ / ٧٢) ، ولباب النقول للسيوطى (٢١٤).

٤٠٨

وضميرنا على ذلك (وَاللهُ يَعْلَمُ) يشهد (إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) من غير شهادة المنافقين (وَاللهُ يَشْهَدُ) يعلم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) فى حلفهم لا يعلمون ذلك وضمير قلوبهم على غير ذلك (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) حلفهم بالله (جُنَّةً) من القتل (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فصرفوا الناس عن دين الله وطاعته فى السر (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢)) بئس ما كانوا يصنعون فى كفرهم ونفاقهم من المكر والخيانة وصد الناس (ذلِكَ) الذى ذكرت من أمر المنافقين (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بالعلانية (ثُمَّ كَفَرُوا) وثبتوا على الكفر فى السر (فَطُبِعَ) فختم (عَلى قُلُوبِهِمْ) عقوبة لكفرهم ونفاقهم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣)) الحق والهدى (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) يا محمد ، عبد الله بن أبى وصاحبيه (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) صور أجسامهم وحسن منظرهم (وَإِنْ يَقُولُوا) إنا لنعلم أنك لرسول الله (تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) تصدق قولهم وتظن أنهم صادقون وليسوا بصادقين (كَأَنَّهُمْ) يعنى كأن أجسامهم (خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) إلى الحائط ، يقول ليس فى قلوبهم نور ولا خير كما أن الخشب اليابس ليس فيه روح ولا رطوبة (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ) كل صوت فى المدينة (عَلَيْهِمْ) من الجبن (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)) كيف يكذبون ، ويقال : كيف يعرفون بالكذب.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) قال لهم عشائرهم بعد ما افتضحوا (تَعالَوْا) إلى رسول الله وتوبوا من الكفر والنفاق (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عكفوا وعطفوا وغطوا رؤوسهم (وَرَأَيْتَهُمْ) يا محمد (يَصُدُّونَ) يصرفون عن الاستغفار والتوبة والإتيان إليك (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)) متعظمون عن التوبة والاستغفار (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) على المنافقين (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) على ما أقاموا على ذلك (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) لا يغفر (الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦)) المنافقين من كان فى علم الله أنه يموت على النفاق (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) قال هذا عبد الله بن أبى خاصة لأصحابه فى غزوة تبوك (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من ذوى الحاجة والفقر (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا من عنده ويلحقوا بعشائرهم (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مفاتيح خزائن السموات بالرزق المطر والأرض النبات (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) عبد الله بن أبى وأصحابه (لا يَفْقَهُونَ (٧)) أن الله يرزقهم.

(يَقُولُونَ) قال هذا عبد الله بن أبى خاصة لأصحابه فى غزوة تبوك (لَئِنْ رَجَعْنا

٤٠٩

إِلَى الْمَدِينَةِ) من غزوتنا هذه (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) القوى يعنون عبد الله بن أبى (مِنْهَا) من المدينة (الْأَذَلَ) الذليل الضعيف منهم يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المنعة والقدرة على المنافقين عبد الله بن أبى وأصحابه (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)) ذلك ولا يصدقون وفيه قصة زيد بن أرقم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (لا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ) بمكة (وَلا أَوْلادُكُمْ) بمكة (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) عن الهجرة والجهاد (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) من يله بالمال والولد عن الهجرة والجهاد (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩)) المغبونون بالعقوبة (وَأَنْفِقُوا) تصدقوا فى سبيل الله (مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أعطيناكم من الأموال ويقال : أدوا زكاتكم (١)(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) سلطان الموت (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) هلا أجلتنى (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) مثل أجل الدنيا (فَأَصَّدَّقَ) من مالى وأزكى من مالى (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠)) أحج به وأكن من الحاجين (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)) من الخير والشر ، ويقال : نزل من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى هاهنا فى شأن المنافقين وأما قوله فأصدق فإن فسرت على المنافقين يقول : فأصدق إيمانى وأكن من الصالحين يقول : أفعل بمالى كفعل المؤمنين المصدقين بإيمانهم.

__________________

(١) انظر : زاد المسير لابن الجوزى (٨ / ٢٧٧).

٤١٠

سورة التغابن

ومن السورة التى يذكر فيها التغابن ، وهى مكية ومدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ) يقول : يصلى لله ، ويقال : يذكر الله (ما فِي السَّماواتِ) من الخلق (وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق وكل شىء حى (لَهُ الْمُلْكُ) الدائم لا يزول ملكه (وَلَهُ الْحَمْدُ) الشكر والمنة على أهل السموات والأرض ، ويقال : على أهل الدنيا والآخرة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أمر الدنيا والآخرة وتدبير أهل السموات والأرض (قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) من آدم وآدم من تراب (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) بالعلانية (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بالعلانية ، ويقال : فمنكم كافر يؤمن وهو تحضيض منه على الإيمان ومنكم مؤمن يكفر وهو تحذير منه عن الكفر ، ويقال : منكم كافر السريرة كافر العلانية ، وهو الكافر ومنكم مؤمن السريرة ، ومؤمن العلانية وهو المؤمن المخلص بإيمانه ، ومنكم كافر السريرة مؤمن العلانية ، وهو المنافق بإيمانه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الخير والشر (بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) لتبيان الحق والباطل ، ويقال : للزوال والفناء (وَصَوَّرَكُمْ) فى الأرحام

٤١١

(فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) من صور الدواب ، ويقال أحكم صوركم باليدين والرجلين والعينين والأذنين وسائر الأعضاء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)) المرجع فى الآخرة.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) من الخلق (وَالْأَرْضِ) من الخلق (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) ما تخفون من العمل (وَما تُعْلِنُونَ) وما تظهرون من العمل (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)) بما فى القلوب من الخير والشر (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا أهل مكة فى الكتاب (نَبَأُ) خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) من قبلكم من الأمم الماضية كيف فعل بهم (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) عقوبة أمرهم فى الدنيا بالعذاب والهلاك (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥)) وجيع فى الآخرة (ذلِكَ) العذاب (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالأمر والنهى والعلامات (فَقالُوا أَبَشَرٌ) آدمى مثلنا (يَهْدُونَنا) يدعوننا إلى التوحيد (فَكَفَرُوا) بالكتب والرسل والآيات (وَتَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان بالكتب والرسل والآيات (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم (وَاللهُ غَنِيٌ) عن إيمانهم (حَمِيدٌ (٦)) محمود فى فعاله ، ويقال : حميد لمن وحده.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كفار مكة (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) من بعد الموت (قُلْ) لهم يا محمد (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) بعد الموت (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) لتخبرن (بِما عَمِلْتُمْ) فى الدنيا من الخير والشر (وَذلِكَ) البعث (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧)) هين (فَآمِنُوا) يا أهل مكة (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالبعث بعد الموت (وَالنُّورِ) الكتاب (الَّذِي أَنْزَلْنا) جبريل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الخير والشر (خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ) وهو يوم القيامة (يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يغبن الكافر بنفسه وأهله وخدمه ومنازله فى الجنة ويرثه المؤمن ، ويقال : يغبن المؤمن الكافر بأهله ومنازله ، ويغبن فيه الكافر بنفسه فى الجنة ، ويرثه المؤمن دون الكافر ، ويغبن المظلوم الظالم بأخذ حسناته ووضع سيئاته على ظالمه (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (وَيَعْمَلْ صالِحاً) خالصا فيما بينه وبين ربه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) يغفر ذنوبه بالتوحيد (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت شجرها ومساكنها (الْأَنْهارُ) أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (خالِدِينَ فِيها) مقيمين فى الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها (أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)) النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من النار.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ

٤١٢

الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله كفار مكة (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أهل النار (خالِدِينَ فِيها) مقيمين فى النار لا يموتون ولا يخرجون منها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)) المرجع فى الآخرة الذى صاروا إليه النار (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) فى بدنكم وأهلكم وأموالكم (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وقضائه (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) يرى المصيبة من الله (يَهْدِ قَلْبَهُ) للرضا والصبر ، ويقال : إذا أعطى شكر ، وإذا ابتلى صبر ، وإذا ظلم غفر ، وإذا أصابته مصيبة استرجع يهد قلبه للاسترجاع (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) يصيبكم من المصيبة وغيرها (عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ) فى الفرائض (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فى السنن ، ويقال : أطيعوا الله فى التوحيد وأطيعوا الرسول بالإجابة (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن طاعتهما (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْبَلاغُ) التبليغ عن الله لرسالته (الْمُبِينُ (١٢)) يبين لكم بلغة تعلمونها (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ولد له ولا شريك له (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)) وعلى المؤمنين أن يتوكلوا على الله لا على غيره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) الذين بمكة (عَدُوًّا لَكُمْ) أن تقعدوا عن الهجرة والجهاد (فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا) عن صدهم إياكم (وَتَصْفَحُوا) تعرضوا فلا تعاقبوهم (وَتَغْفِرُوا) تجاوزا ذنوبهم هاجروا من مكة إلى المدينة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ (١٤)) لمن مات على التوبة.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ) الذين بمكة (فِتْنَةٌ) بلية لكم إذ منعوكم عن الهجرة

٤١٣

والجهاد (١)(وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ) ثواب (عَظِيمٌ (١٥)) لمن هاجر وجاهد فى سبيل الله ولم يله بماله وولده عن الهجرة والجهاد (فَاتَّقُوا اللهَ) فأطيعوا الله (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بالذى أطقتم (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون (وَأَطِيعُوا) ما أمركم الله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) تصدقوا بأموالكم فى سبيل الله (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) يقول : الصدقة خير لكم من إمساكها (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) من دفع عنه بخل نفسه ، ويقال : من أدى زكاة ماله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)) الناجون من السخط والعذاب (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ) فى الصدقة (قَرْضاً حَسَناً) محتسبا صادقا من قلوبكم (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) يقبله ويضاعفه لكم فى الحسنات ما بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ألفى ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بالصدقة (وَاللهُ شَكُورٌ) لصدقاتكم حين قبلها وأضعفها ، ويقال : شكور يشكر اليسير من صدقاتكم ويجزى الجزيل من ثوابه (حَلِيمٌ (١٧)) لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته أو يمنع (عالِمُ الْغَيْبِ) ما فى قلوب المتصدقين من المن والخشية (وَالشَّهادَةِ) عالم بصدقاتهم (الْعَزِيزُ) بالنقمة لمن يمن بصدقته أو لا يعطى الصدقة (الْحَكِيمُ (١٨)) فى أمره وقضائه ، ويقال : الحكيم فى قبول الصدقات وأضعافها.

__________________

(١) انظر : الترمذى (٤ / ٢٠٢) ، ومستدرك الحاكم (٢ / ٤٩٠) ، والطبرى (٢٨ / ٨٠) ، وابن كثير (٤ / ٣٧٦) ، ولباب النقول (٢١٤) ، وزاد المسير (٨ / ٢٨٤).

٤١٤

سورة الطّلاق

ومن سورة الطلاق ، وهى كلها مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) وأمته (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) يقول : قل لقومك إذا أردتم أن تطلقوا النساء (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) طواهر

٤١٥

من غير جماع (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واحفظوا طهرهن من ثلاث حيض والغسل منها بانقضاء العدة (١)(وَاتَّقُوا اللهَ) اخشوا الله (رَبَّكُمْ) ولا تطلقوهن غير طواهر بغير السنة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) التى طلقن فيها حتى تنقضى العدة (وَلا يَخْرُجْنَ) حتى تنقضى العدة (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) إلا أن يجئن بمعصية بينة وهى أن تخرج فى العدة بغير إذن زوجها فإخراجهن فى العدة معصية وخروجهن فى عدتهن معصية ، ويقال : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) الزنا (مُبَيِّنَةٍ) بأربعة شهود فتخرج فترجم (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) هذه أحكام الله وفرائضه فى النساء للطلاق من النفقة والسكنى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) يتجاوز أحكام الله وفرائضه ما أمر به من النفقة والسكنى (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ضر نفسه (لا تَدْرِي) لا تعلم يعنى به الزوج (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ) بعد التطليقة الواحدة ، وقبل الخروج من العدة (أَمْراً (١)) حبا ومراجعة.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) فإذا انقضت عدتهن من ثلاث قبل أن يغتسلن من الحيضة الثالثة (فَأَمْسِكُوهُنَ) فراجعوهن (بِمَعْرُوفٍ) بإحسان قبل الاغتسال وأن يحسن صحبتها ومعاشرتها (أَوْ فارِقُوهُنَ) أو اتركوهن (بِمَعْرُوفٍ) بإحسان لا تطولوا عليهن فى العدة وتؤدوا حقها (وَأَشْهِدُوا) على الطلاق والمراجعة (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) رجلين حرين مسلمين عدلين مرضيين (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وقوموا بالشهادة لله عند الحكام (ذلِكُمْ) الذى ذكرت من النفقة والسكنى وإقامة الشهادة وغيرها (يُوعَظُ بِهِ) يؤمر به (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بالبعث بعد الموت ، ويقال : نزلت من أول السورة إلى هاهنا فى شأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين طلق حفصة وفى ستة نفر من أصحابه ، ابن عمر وأصحابه طلقوا نساءهم غير طواهر فنهاهم الله عن ذلك لأنه لغير السنة وعلمهم طلاق السنة إذا طلقوا نساءهم كيف يطلقون (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) عند المعصية فيصبر (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢)) من الشدة ، ويقال : من المعصية إلى الطاعة ، ويقال : من النار إلى الجنة.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لا يأمل ، نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى الذى أسر العدو ابنا له فجاء بعد ذلك مع إبل كثيرة (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ومن يثق بالله فى الرزق (فَهُوَ حَسْبُهُ) كافية (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ماض أمره

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٨ / ٢٨٨) ، وتفسير الطبرى (١٨ / ١٥٠).

٤١٦

وقضاؤه فى الشدة والرخاء ، ويقال : نافذ أمره وتدبيره (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ) من الشدة والرخاء (قَدْراً (٣)) أجلا ينتهى فلما بين الله عدة النساء اللاتى يحضن قام معاذ ، وقال : أرأيت يا رسول الله ما عدة النساء اللاتى يئسن من المحيض ، فنزل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) من الكبر (مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم فى عدتهن (فَعِدَّتُهُنَ) فى الطلاق (ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فقام رجل آخر فقال : أرأيت يا رسول الله ، فى اللائى لم يحضن للصغر ما عدتهن فنزل (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) من الصغر فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر فقام رجل آخر ، فقال : أرأيت يا رسول الله ، ما عدة الحوامل فنزل (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) يعنى الحبالى (أَجَلُهُنَ) عدتهن (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ولدهن (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما أمره (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)) يهون عليه أمره ، ويقال يرزقه عبادة حسنة فى سريرة حسنة (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) هذه أحكام الله وفرائضه (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) بين لكم القرآن (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما أمره (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) يغفر له ذنوبه (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)) ثوابا فى الجنة ، ثم رجع إلى المطلقات.

فقال : (أَسْكِنُوهُنَ) أنزلوهن يعنى المطلقات ، يقول للأزواج (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) من أين سكنتم (مِنْ وُجْدِكُمْ) من سعتكم على قدر ذلك من النفقة والسكنى (١)(وَلا تُضآرُّوهُنَ) يعنى المطلقات فى النفقة والسكنى (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) بالنفقة والسكنى فتظلموهن بذلك (وَإِنْ كُنَ) المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ) حبالى (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) يعنى الزوج (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ولدهن (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) الأمهات ولدا لكم (فَآتُوهُنَ) أعطوهن يعنى الأمهات (أُجُورَهُنَ) يعنى النفقة على الرضاع (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ) وأنفقوا يعنى الزوج والمرأة فيما بينكم (بِمَعْرُوفٍ) على أمر معروف من النفقة على الرضاع بغير إسراف وتقتير (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) فى النفقة وأبت الأم (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) للولد (أُخْرى (٦)) فتطلب له أخرى غير الأم (لِيُنْفِقْ) الأب (ذُو سَعَةٍ) ذو غنى (مِنْ سَعَتِهِ) على قدر غناه (وَمَنْ قُدِرَ) قتر (عَلَيْهِ رِزْقُهُ) معيشته (فَلْيُنْفِقْ) على المرضع (مِمَّا آتاهُ اللهُ) على قدر ما أعطاه الله من المال (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) من النفقة على الرضاع (إِلَّا ما آتاها) إلا على قدر ما أعطاه من المال (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ) فى النفقة (يُسْراً (٧)) بعد الفقر غنى فالمعسر ينتظر

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٨ / ٩٤) ، والمجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢٦٠) ، ومعانى القرآن للفراء (٣ / ١٦٣) ، وزاد المسير (٨ / ٢٩٦).

٤١٧

الرزق من الله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم من أهل قرية (عَتَتْ) عصت وأبت (عَنْ أَمْرِ رَبِّها) عن قبول أمر ربها وطاعة ربها (وَرُسُلِهِ) عن إجابة الرسل وعما جاءت به الرسل (فَحاسَبْناها) فى الآخرة (حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها) فى الدنيا (عَذاباً نُكْراً (٨)) شديدا مقدم ومؤخر (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) عقوبة أمرها فى الدنيا بالهلاك (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها) فى الآخرة (خُسْراً (٩)) إلى خسران.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) فى الآخرة (عَذاباً شَدِيداً) غليظا لونا بعد لون (فَاتَّقُوا اللهَ) فاخشوا الله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا ذوى العقول من الناس (الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً) ذكرا مع الرسول (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ) محمد ، عليه الصلاة والسّلام (آياتِ اللهِ) القرآن (مُبَيِّناتٍ) واضحات بينات بالأمر والنهى (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الطاعات فيما بينهم وبين ربهم (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من الكفر إلى الإيمان (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (وَيَعْمَلْ صالِحاً) خالصا فيما بينه وبين ربه (يُدْخِلْهُ) فى الآخرة (جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت شجرها وغرفها (الْأَنْهارُ) أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (خالِدِينَ فِيها) مقيمين فى الجنة لا يموتون فيها ولا يخرجون منها (أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١)) قد أعد الله له ثوابا فى الجنة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) بعضها فوق بعض مثل القبة (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) سبعا ولكنها منبسطة (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) يقول : تنزل الملائكة بالوحى والتنزيل والمصيبة من السموات من عند الله (لِتَعْلَمُوا) لكى تعلموا (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أهل السموات والأرضن (قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)) قد أحاط علمه بكل شىء.

* * *

٤١٨

سورة التحريم

ومن سورة التحريم (١) ، وهى كلها مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي

__________________

(١) ينظر الخلاف فى أسباب نزول آية التحريم فى : صحيح البخارى (٦ / ٦٨) ، ومسلم (١٠ / ٧٥) ، وأبى داود (٣ / ٣٨٦) ، والنسائى (٦ / ١٢٣ ، ٧ / ١٣) ، وطبقات ابن سعد (٨ / ٧٦ ق) ، وحلية أبى نعيم (٣ / ٢٧٦) ، والمستدرك (٢ / ٤٩٣) ، ومجمع الزوائد (٧ / ١٤٦) ، وتفسير ابن كثير (٤ / ٣٨٤ ، ٣٨٥) وفتح القدير للشوكانى (٥ / ٢٥٢) ، وتفسير الطبرى (٢٨ / ١٠٠) ، ومعانى القرآن للفراء (٣ / ١٦٥) ، والنكت والعيون للماوردى (٤ / ٢٦٠) ، ولباب النقول (٢١٧) ، والقرطبى (١٨ / ١٧٧ ، ١٨٤) ، وزاد المسير (٨ / ٣٠٢) ، والدر المنثور (٦ / ٢٣٩).

٤١٩

مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله جل وعز : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) نكاحه ، يعنى نكاح مارية القبطية أم إبراهيم بن محمد رسول الله ، صلّى الله عليهما ، حرمها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) تطلب رضا عائشة وحفصة بتحريم مارية القبطية (وَاللهُ غَفُورٌ) لك (رَحِيمٌ (١)) بتلك اليمين (قَدْ فَرَضَ اللهُ) قد بين الله (لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) كفارة أيمانكم ، فكفر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمينه وضمها إلى نفسه (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) حافظكم وناصركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بتحريمك مارية القبطية (الْحَكِيمُ (٢)) فيما حكم من الكفارة (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) يعنى حفصة (حَدِيثاً) كلاما أخبرها فى السر (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) فلما أخبرت حفصة بسر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلع الله نبيه على ما أخبرت حفصة عائشة (عَرَّفَ بَعْضَهُ) بين النبى لحفصة بعض ما قالت لعائشة من خلافة أبى بكر ، وعمر ، ويقال : من خلوته مع مارية القبطية (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) سكت عن بعض تحريمه مارية القبطية على نفسه ، وعما أخبرها من خلافة أبو بكر ، وعمر من بعده ، ولم يعلمها بذلك (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أخبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة بما قالت لعائشة (قالَتْ) حفصة (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أخبرك بهذا أنى قلت لعائشة (قالَ) النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نَبَّأَنِيَ) أخبرنى (الْعَلِيمُ) بما قلت لعائشة (الْخَبِيرُ (٣)) بما قلت لك.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) توبا إلى الله يا عائشة ويا حفصة ، من إيذائكما رسول الله ومعصيتكما له (فَقَدْ صَغَتْ) مالت (قُلُوبُكُما) عن الحق (وَإِنْ تَظاهَرا) تعاونا (عَلَيْهِ) على إيذائه ومعصيته (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) حافظه وناصره ومعينه عليكما (وَجِبْرِيلُ) معينه عليكما (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) جملة المؤمنين المخلصين أعوان له عليكما مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى ، رضى الله عنهم ، ومن دونهم (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) مع هؤلاء (ظَهِيرٌ (٤)) أعوان له عليكما (عَسى رَبُّهُ) وعسى من الله واجب (إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ) يزوجه (أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) فى الطاعة (مُسْلِماتٍ) مقرات بالألسن (مُؤْمِناتٍ) مصدقات بالألسن والقلوب بإيمانهن (قانِتاتٍ) مطيعات لله ولأزواجهن (تائِباتٍ) من الذنوب (عَبَّدْتَ) موحدات بالله (سائِحاتٍ) صائمات (ثَيِّباتٍ) أيمات مثل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون

٤٢٠