تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3924-X

الصفحات: ٥٣٣
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الفتح

ومن السورة التى يذكر فيها الفتح ، وهى كلها مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)) بغير قتال وصلح الحديبية من غير أن كان بينهم رمى بالحجارة ، ويقال : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)) قضينا لك قضاء بينا يقول : أكرمناك بالإسلام والنبوة وأمرناك أن تدعوا الخلق إليهما (١) (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) أى لكى يغفر الله لك (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) ما سلف من ذنوبك قبل الوحى (وَما تَأَخَّرَ) وما يكون بعد الوحى إلى الموت (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ) منته (عَلَيْكَ) بالنبوة والإسلام والمغفرة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)) يثبتك على طريق قائم يرضاه وهو الإسلام (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) على عدوك (نَصْراً عَزِيزاً (٣)) منيعا بلا ذل (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) الطمأنينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) المخلصين يوم الحديبية (لِيَزْدادُوا إِيماناً) يقينا وتصديقا وعلما (مَعَ إِيمانِهِمْ) بالله ورسوله وهو

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم (١٧٨٦) ، (٣ / ١٤١٣) ، وتفسير الطبرى (٢٦ / ٤٣) ، ولباب النقول (١٩٣) ، والدر المنثور (٦ / ٦٧).

٣٢١

تكرير الإيمان مع إيمانهم بالله ورسوله (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ) الملائكة (وَالْأَرْضِ) المؤمنون يسلط على من يشاء من أعدائه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما صنع بك من الفتح ، والمغفرة ، والهدى ، والنصرة ، وإنزال السكينة فى قلوب المؤمنين (حَكِيماً (٤)) فيما صنع بك ، فقالوا المؤمنون المخلصون حين سمعوا بكرامة الله لنبيه : هنيئا لك يا رسول الله بما أعطاك الله من الفتح والمغفرة والكرامة فما لنا عند الله ، فأنزل الله (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) المخلصين من الرجال (وَالْمُؤْمِناتِ) المخلصات من النساء (جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت شجرها ومساكنها وغرفها (الْأَنْهارُ) أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (خالِدِينَ فِيها) مقيمين فى الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ذنوبهم فى الدنيا (وَكانَ ذلِكَ) الذى ذكرت للمؤمنين (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)) نجاة وافرة فازوا بالجنة وما فيها ونجوا من النار وما فيها ، فجاء عبد الله بن أبى بن سلول ، حين سمع بكرامة الله للمؤمنين ، فقال : يا رسول الله ، والله ما نحن إلا كهيئتهم فما لنا عند الله؟ (١).

فأنزل الله فيهم : (وَيُعَذِّبَ) ليعذب (الْمُنْفِقِينَ) من الرجال بإيمانهم (وَالْمُنافِقاتِ) من النساء (وَالْمُشْرِكِينَ) بالله من الرجال (وَالْمُشْرِكاتِ) من النساء أيضا ، ثم ذكر المنافقين فقال : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أن لا ينصر الله نبيه (عَلَيْهِمْ) على المنافقين (دائِرَةُ السَّوْءِ) منقلبة السوء (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) سخط الله عليهم (وَلَعَنَهُمْ) طردهم من كل خير (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) فى الآخرة (وَساءَتْ مَصِيراً (٦)) بئس المصير صاروا إليه فى الآخرة (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ) الملائكة (وَالْأَرْضِ) المؤمنون ينصر ربهم من يشاء ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) بنقمة الكافرين والمنافقين (حَكِيماً (٧)) فى أمره وقضائه ، وفيما نصر نبيه على أعدائه (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا محمد (شاهِداً) على أمتك بالبلاغ (وَمُبَشِّراً) بالجنة للمؤمنين (وَنَذِيراً (٨)) من النار للكافرين (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ) لكى تؤمنوا بالله (وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتُعَزِّرُوهُ) تنصروه بالسيف على عدوه (وَتُوَقِّرُوهُ) تعظموه (وَتُسَبِّحُوهُ) تصلوا لله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)) غدوة وعشية ، ثم ذكر بيعة الرضوان يوم الحديبية تحت الشجرة ، وهى شجرة السمرة بالحديبية ، وكانوا نحو ألف وخمس مائة رجل بايعوا نبى الله على النصح وأن لا يفروا ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٦ / ٤٣) ، وزاد المسير (٧ / ٤٢٤).

٣٢٢

يُبايِعُونَكَ) يوم الحديبية (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) كأنهم يبايعون الله (يَدُ اللهِ) بالثواب والنصرة (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بالصدق والوفاء والتمام (فَمَنْ نَكَثَ) نقض بيعته (فَإِنَّما يَنْكُثُ) ينقض (عَلى نَفْسِهِ) عقوبة ذلك (وَمَنْ أَوْفى) وفى (بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) بعهده بالله بالصدق والوفاء (فَسَيُؤْتِيهِ) يعطيه (أَجْراً عَظِيماً (١٠)) ثوابا وافرا فى الجنة ، فلم ينقض منهم أحد ، لأنهم كانوا كلهم مخلصين وماتوا على بيعة الرضوان غير رجل منهم ، يقال له : جد بن قيس ، وكان منافقا اختبأ يومئذ تحت إبط بعيره ، ولم يدخل فى بيعتهم فأماته الله على نفاقه.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) من غزوة الحديبية (مِنَ الْأَعْرابِ) من بنى غفار وأسلم وأشجع وديل ، وقوم من مزينة وجهينة (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك إلى الحديبية خفنا عليهم الضيعة ، فمن ذلك تخلفنا عنك (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) يا رسول الله بتخلفنا عنك إلى غزوة الحديبية (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ) يسألون بألسنتهم المغفرة (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) حاجة لذلك استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم (قُلْ) لهم يا محمد (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ) فمن يقدر لكم من عذاب الله (شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا)

٣٢٣

قتلا وهزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) نصرا وغنيمة وعافية (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) بتخلفكم عن غزوة الحديبية (خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ) يا معشر المنافقين (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ) أن لا يرجع من الحديبية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ) إلى المدينة (أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ) استقر ذلك الظن (فِي قُلُوبِكُمْ) فمن ذلك تخلفتم (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) أن لا ينصر الله نبيه (١)(وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)) هلكى فاسدة القلوب قاسية القلوب (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) يقول : ومن لم يصدق بإيمانه بالله ورسوله (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) فى السر والعلانية (سَعِيراً (١٣)) نارا وقودا (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن السموات المطر ، والأرض النبات (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) من المؤمنين على الذنب العظيم ، وهو فضل منه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) على الذنب الصغير ، وهو عدل منه ، ويقال : يغفر لمن يشاء يكرم من يشاء بالإيمان والتوبة فيغفره ، ويعذب من يشاء يميت من يشاء على الكفر والنفاق ، ويقال : يغفر لمن يشاء من كان أهلا لذلك ، ويعذب من يشاء من كان أهلا لذلك (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن تاب من الصغائر والكبائر (رَحِيماً (١٤)) لمن مات على التوبة.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) عن غزوة الحديبية ، يعنى بنى غفار وأسلم وأشجع ، وقوما من مزينة وجهينة (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) مغانم خيبر (لِتَأْخُذُوها) لتغتنموها (ذَرُونا) اتركونا (نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا) يغيروا (كَلامَ اللهِ) لنبيه حين قال له : لا تأذن لهم بالخروج إلى غزوة أخرى بعد تخلفهم عن غزوة الحديبية (قُلْ) لهم لبنى عامر وديل وأشجع ، وقوم من مزينة وجهينة (لَنْ تَتَّبِعُونا) إلى غزوة خيبر إلا مطوعين ليس لكم من الغنيمة شىء (كَذلِكُمْ) كما قلنا لكم (قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) هذا هو ما ذكرنا فى سورة التوبة (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) إلى آخر الآية ، أى لا تأذن لهم بالخروج إلى غزوة أخرى ، فقالوا للمؤمنين : لم يأمركم الله بذلك ، ولكن تحسدوننا على الغنيمة ، فأنزل الله فى قولهم : (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) على الغنيمة (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) أمر الله (إِلَّا قَلِيلاً (١٥)) لا قليلا ولا كثيرا (قُلْ) يا محمد (لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) ديل وأشجع وقوم من مزينة وجهينة (سَتُدْعَوْنَ) بعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلى قَوْمٍ) إلى قتال قوم (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ذوى قتال شديد أهل اليمامة بنى حنيفة ، قوم مسيلمة الكذاب (تُقاتِلُونَهُمْ) على الدين

__________________

(١) قراءة أبى عمرو ، وابن كثير بضم السين ، والباقون بفتحها. انظر : السبعة لابن مجاهد (٦٠٣).

٣٢٤

(أَوْ يُسْلِمُونَ) حتى يسلموا (فَإِنْ تُطِيعُوا) تجيبوا وتوافقوا على القتال وتخلصوا بالتوحيد (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً) يعطكم الله ثوابا (حَسَناً) فى الجنة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن التوحيد والتوبة والإخلاص والإجابة إلى قتال مسيلمة الكذاب (كَما تَوَلَّيْتُمْ) عن غزوة الحديبية (مِنْ قَبْلُ) من قبل هذا (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)) وجيعا.

ثم جاء أهل الزمانة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله قد أوعد الله بعذاب أليم لمن يتخلف عن الغزوة ، فكيف لنا ، ونحن لا نقدر على الخروج إلى الغزو ، فأنزل الله فيهم : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) مأثم أن لا يخرج إلى الغزو (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) مأثم أن لا يخرج إلى الغزو (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) مأثم أن لا يخرج إلى الغزو (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فى السر والعلانية والإجابة والموافاة إلى قتال العدو (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي) تطرد (مِنْ تَحْتِهَا) من تحت شجرها ومساكنها وغرفها (الْأَنْهارُ) أنهار الخمر والماء والعسل واللبن (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله ورسوله والإجابة (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)) وجيعا.

ثم ذكر رضوانه على من بايع من أهل بيعة الرضوان ، فقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يوم الحديبية شجرة السمرة ، وكانوا نحو ألف وخمس مائة رجل بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفتح والنصرة وأن لا يفروا من الموت (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ) الله تعالى (السَّكِينَةَ) الطمأنينة (عَلَيْهِمْ) وأذهب عنهم الحمية (وَأَثابَهُمْ) أى أعطاهم بعد ذلك (فَتْحاً قَرِيباً (١٨)) يعنى فتح خيبر سريعا على أثر ذلك (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يغتمنونها ، يعنى غنيمة خيبر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) بنقمة أعدائه (حَكِيماً (١٩)) بالنصرة ، والفتح ، والغنيمة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ

٣٢٥

بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) تغتنمونها ، وهى غنيمة فارس لم تكن فستكون (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعنى غنيمة خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) بالقتال يعنى أسدا وغطفان ، وكانوا حلفاء لأهل خيبر (وَلِتَكُونَ آيَةً) عبرة وعلامة (لِلْمُؤْمِنِينَ) يعنى فتح خيبر ، لأن المؤمنين كانوا ثمانية آلاف ، وأهل خيبر كانوا سبعين ألفا (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)) يثبتكم على دين قائم يرضاه (وَأُخْرى) غنيمة أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) بعد (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) قد علم الله أنها ستكون ، وهى غنيمة فارس (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الفتح والنصرة والغنيمة (قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أسدا وغطفان مع أهل خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) عن قتلكم (وَلا نَصِيراً (٢٢)) مانعا ما يراد بهم من القتال والهزيمة (سُنَّةَ اللهِ) هكذا سيرة الله (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلُ) فى الأمم الخالية بالقتل والعذاب حين خرجوا على الأنبياء (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ) لعذاب الله بالقتل (تَبْدِيلاً (٢٣)) تحويلا.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) أيدى أهل مكة (عَنْكُمْ) عن قتالكم (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) عن قتالهم (بِبَطْنِ مَكَّةَ) فى وسط مكة غير أن كان بينهم رمى بالحجارة (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حيث هزمهم أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة حين دخلوا مكة (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من رمى الحجارة وغيره (بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، يعنى أهل مكة (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)

٣٢٦

وصرفوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) منحره ، يقول : لم يتركوا أن يبلغ منحره (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) الوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو (وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بمكة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) أن تقتلوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ) من قتلهم (مَعَرَّةٌ) دية وإثم لو لا ذلك لسلطكم عليهم بالقتل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من غير أن تعلموا أنهم مؤمنون (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) لكى يكرم الله بدينه (مَنْ يَشاءُ) من كان أهلا لذلك منهم (لَوْ تَزَيَّلُوا) لو خرج هؤلاء المؤمنون من بين أظهرهم فتفرقوا من عندهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) كفار مكة (مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)) بسيوفكم (إِذْ جَعَلَ) أخذ (الَّذِينَ كَفَرُوا) كفار مكة (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بمنعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عن البيت (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) طمأنيته (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وأذهب عنهم الحمية (وَأَلْزَمَهُمْ) ألهمهم (كَلِمَةَ التَّقْوى) لا إله إلا الله محمد رسول الله (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) بلا إله إلا الله محمد رسول الله فى علم الله (وَأَهْلَها) وكانوا أهلها فى الدنيا (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الكرامة للمؤمنين (عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) حقق الله لرسوله (الرُّؤْيا بِالْحَقِ) بالصدق حيث ، قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه (١) : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من العدو (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) من العدو فوفى الله على ما قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) فعلم الله أن يكون إلى السنة القابلة ، ولم تعلموا أنتم ذلك (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) من قبل ذلك (فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)) سريعا ، يعنى فتح خيبر.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى) بالتوحيد ، ويقال : بالقرآن (وَدِينِ الْحَقِ) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله (لِيُظْهِرَهُ) ليعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على الأديان كلها فلا تقوم الساعة حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨)) بأن لا إله إلا الله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) من غير شهادة سهيل بن عمرو (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعنى أبا بكر أول من آمن به ، وقام معه يدعو الكفار إلى دين الله (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) بالغلظة وهو عمر كان شديدا على أعداء الله قويا فى دين الله ناصرا لرسول الله (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) متوادون فيما بينهم بارون ، وهو عثمان بن

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٦ / ٦٨) ، وزاد المسير (٧ / ٤٤٢) ، والدر المنثور (٦ / ٨٠).

٣٢٧

عفان كان بارا على المسلمين بالنفقة عليهم رحيما بهم (تَراهُمْ رُكَّعاً) فى الصلاة (سُجَّداً) فيها ، وهو على بن أبى طالب كان كثير الركوع والسجود (يَبْتَغُونَ) يطلبون (فَضْلاً) ثوابا (مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) مرضاة ربهم بالجهاد ، وهم طلحة والزبير كانا غليظين على أعداء الله شديدين عليهم (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) علامة السهر فى وجوههم (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) من كثرة السجود بالليل ، وهم سلمان وبلال وصهيب وأصحابهم.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ) هكذا صفتهم (فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ) صفتهم (فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ) وهو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَخْرَجَ) أى الله (شَطْأَهُ) وهو أبو بكر أول من آمن به ، وخرج معه على أعداء الله (فَآزَرَهُ) فأعانه وهو عمر أعان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسيفه على أعداء الله (فَاسْتَغْلَظَ) فتقوى بمال عثمان على الغزو والجهاد فى سبيل الله (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فقام على إظهار أمره فى قريش بعلى بن أبى طالب (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أعجب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلحة والزبير (لِيَغِيظَ بِهِمُ) بطلحة والزبير (الْكُفَّارِ) ويقال : نزلت من قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) إلى هاهنا فى مدح أهل بيعة الرضوان ، وجملة أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخلصين المطيعين لله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الطاعات فيما بينهم وبين ربهم (مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) أى لهم مغفرة لذنوبهم فى الدنيا (وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)) ثوابا وافرا فى الجنة (١).

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٧ / ٤٥٠) ، وتفسير القرطبى ٠١٦ / ٢٩٥).

٣٢٨

سورة الحجرات

ومن سورة الحجرات ، وهى كلها مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) لا تتقدموا بقول ولا بفعل حتى إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذى يأمركم وينهاكم ، ويقال : لا بقتل ولا بذبيحة يوم النحر (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) دون أمر الله وأمر رسوله ، ويقال : لا تخالفوا الله ، ولا تخالفوا الرسول ، ويقال : ولا تخالفوا كتاب الله ، ولا تخالفوا سنة رسول الله (١)(وَاتَّقُوا اللهَ) اخشوا الله فى أن تفعلوا وتقولوا دون أمر الله ، وأمر رسوله ، وأن تخالفوا كتاب الله وسنة رسوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لمقالتكم (عَلِيمٌ (١)) بأعمالكم ، نزلت هذه الآية فى ثلاثة نفر من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلوا رجلين من بنى سليم فى صلح رسول الله بغير أمر الله وأمر رسوله فنهاهم الله ، عزوجل ، وقال : لا

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٦ / ٧٤) ، والمجاز لأبى عبيدة (٢ / ٢١٩) ، وزاد المسير (٧ / ٤٥٤).

٣٢٩

تقدموا بين يدى الله ، دون أمر الله ، وأمر رسوله إن الله سميع لمقالة الرجلين عليهم بما اقترفا ، وكان قولهم : لو كان هكذا لكان كذا ، فنهاهم الله عن ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت فى ثابت بن قيس بن شماس يرفع صوته عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم وفد بنى تميم ، فنهاه الله عن ذلك ، فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) لا تشدوا كلامكم عند كلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) لا تدعوه باسمه (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) كدعاء بعضكم لبعض باسمه ، ولكن عظموه ووقروه وشرفوه ، وقولوا يا نبى الله ، ويا رسول الله ، ويا أبا القاسم (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)) لكيلا تبطل حسناتكم بترككم الأدب وحرمة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنتم لا تشعرون ولا تعلمون بحبطها (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) نزلت أيضا فى ثابت بن قيس بن شماس بعد ما نهاه الله عن رفع الصوت (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) فمدحه بعد ذلك بخفض صوته عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن الذين يغضون يكفون ويخفضون أصواتهم عند رسول الله (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) صفى الله وطهر الله قلوبهم (لِلتَّقْوى) من المعصية ، ويقال : أخلص الله قلوبهم للتوحيد (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم فى الدنيا (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)) ثواب وافر فى الجنة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) نزلت هذه الآية فى قوم من بنى عنبر ، حى من خزاعة بعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها سرية وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزارى ، فسار إليهم ، فلما بلغهم أنه خرج إليهم فروا وتركوا عيالهم وأموالهم ، فسبى ذراريهم ، وجاء بهم إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءوا ليفادوا ذراريهم فدخلوا المدينة عند القيلولة فنادوا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا محمد اخرج إلينا ، وكان نائما فذمهم الله بذلك ، فقال : إن الذين ينادونك ، يدعونك من وراء الحجرات من خلف حجرات نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَكْثَرُهُمْ) كلهم (لا يَعْقِلُونَ (٤)) لا يفهمون أمر الله وتوحيده ، ولا حرمة رسول الله (١) (وَلَوْ أَنَّهُمْ) بنى عنبر (صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) إلى الصلاة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأعتق ذراريهم ونساءهم كلهم ففدى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصفهم وأعتق نصفهم (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب منهم (رَحِيمٌ (٥)) حين لم يعجلهم بالعقوبة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) نزلت هذه الآية فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، بعثه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى المصطلق ليجئ بصدقاتهم فرجع من الطريق وجاء بخبر قبيح ، وقال : إنهم أرادوا قتلى ، فأراد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٦ / ٧٧) ، وصحيح البخارى (٦ / ٤٧) ، ولباب النقول (١٩٥).

٣٣٠

وأصحابه أن يغزوهم فنهاهم الله عن ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) منافق الوليد بن عقبة (بِنَبَإٍ) بخبر عن بنى المصطلق (فَتَبَيَّنُوا) قفوا حتى يتبين لكم ما جاء به أصدق هو أم كذب (أَنْ تُصِيبُوا) لكى لا تقتلوا (قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا) فتصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ) بقتلهم (نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا) يا معشر المؤمنين (أَنَّ فِيكُمْ) معكم (رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) فيما تأمرونه (لَعَنِتُّمْ) لاثمتم (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) الإقرار بالله وبالرسول (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) حسنه إلى قلوبكم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ) بغض إليكم (الْكُفْرَ) الجحود بالله والرسول (وَالْفُسُوقَ) النفاق (وَالْعِصْيانَ) جملة المعاصى (أُولئِكَ) أهل هذه الصفة (هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)) المهتدون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) منا من الله عليهم (وَنِعْمَةً) رحمة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكرامة المؤمنين (حَكِيمٌ (٨)) فيما جعل فى قلوبهم حب الإيمان وبغض الكفر والفسوق والعصيان.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) نزلت هذه الآية فى عبد الله بن أبى بن سلول المنافق وأصحابه ، وعبد الله بن رواحة المخلص وأصحابه فى كلام كان بينهما فتنازعا واقتتل بعضهم بعضا فنهاهم الله عن ذلك ، وأمرهم بالصلح ، فقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ) فرقتان (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قاتل بعضهم بعضا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بكتاب الله (فَإِنْ بَغَتْ) استطالت وظلمت (إِحْداهُما) قوم عبد الله بن أبى بن سلول (عَلَى الْأُخْرى) على قوم عبد الله بن رواحة الأنصارى ، ولم يرجع إلى الصلح بالقرآن (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) تستطيل وتظلم (حَتَّى تَفِيءَ) ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) إلى الصلح بكتاب الله (فَإِنْ فاءَتْ) رجعت إلى الصلح بكتاب الله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) اعدلوا بينهما (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)) العادلين بكتاب الله العاملين به (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فى الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بكتاب الله (وَاتَّقُوا اللهَ) اخشوا الله فيما أمركم من الصلح (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)) لكى ترحموا فلا تعذبوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً

٣٣١

وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) نزلت هذه الآية فى ثابت بن قيس بن شماس ، حيث ذكر رجالا من الأنصار بسوء ذكر أما كانت له يعير بها فى الجاهلية ، فنهاه الله عن ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، يعنى ثابتا (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) على قوم (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) عند الله وأفضل نصيبا (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) نزلت هذه الآية فى امرأتين من نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سخرتا بأم سلمة زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاهم الله عن ذلك ، فقال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) عند الله وأفضل نصيبا (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا تعيبوا أنفسكم ، يعنى إخوانكم من المؤمنين ولا تطعنوا بعضكم بعضا بالغيبة (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) لا تطعنوا بعضكم بعضا باللقب واسم الجاهلية (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) بئس التسمية لأخيك يا يهودى ، ويا نصرانى ، ويا مجوسى (بَعْدَ الْإِيمانِ) بعد ما آمن وترك ذلك (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من تسمية أخيه يا يهودى ، ويا نصرانى ، ويا مجوسى والتلقب والتنابز بعد الإيمان (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)) الضارون لأنفسهم بالعقوبة ، نزلت هذه الآية فى أبى بردة بن مالك الأنصارى ، وعبد الله بن حدرد الأسلمى إذ تنازعا ، فنهاهم عن ذلك (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) نزلت هذه الآية فى رجلين من اصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اغتابا صاحب لهما ، وهو سلمان ، وظنا بأسامة خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظن السوء ، وتجسسا هل عنده ما قال لهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة أن أعطهما فنهاهم الله عن ذلك الظن ، والتجسس ، والغيبة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) مما تظنون بأخيكم من مدخله ومخرجه

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٦ / ٧٣ ، ٨٨) ، وزاد المسير (٧ / ٤٦٦ ، ٤٧٢).

٣٣٢

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ) ظن السوء وتخفونه (إِثْمٌ) معصية وهو ما ظن رجلان بأسامة بن زيد (وَلا تَجَسَّسُوا) ولا تبحثوا عن عيب أخيكم ، ولا تطلبوا ما ستر الله عليه ، وهو ما تجسس الرجلان (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وهو ما اغتاب الرجلان به سلمان (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) حراما بغير الضرورة (فَكَرِهْتُمُوهُ) فحرموا أكل الميتة بغير الضرورة ، وكذلك الغيبة فحرموها (وَاتَّقُوا اللهَ) اخشوا الله فى أن تغتابوا أحدا (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) متجاوز لمن تاب من الغيبة (رَحِيمٌ (١٢)) لمن مات على التوبة (١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) نزلت هذه الآية فى ثابت بن قيس بن شماس ، حيث قال لرجل : أنت ابن فلانة ، ويقال : نزلت فى بلال مؤذن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفر من قريش سهيل بن عمر ، والحارث بن هشام ، وأبى سفيان بن حرب ، قالوا لبلال عام فتح مكة حيث سمعوا أذان بلال : ما وجد الله ورسوله غير هذا الغراب ، فقال الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحواء (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) يعنى الأفخاذ (وَقَبائِلَ) يعنى رؤوس القبائل ، ويقال : شعوبا موالى وقبائل عربا (لِتَعارَفُوا) لكى تعرفوا إذا سئلتم ممن أنتم؟ فتقولوا : من قريش ، من كندة ، من تميم ، من بجيلة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) فى الآخرة (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة (أَتْقاكُمْ) فى الدنيا هو بلال (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بحسبكم ونسبكم (خَبِيرٌ (١٣)) بأعمالكم وبإكرامكم عند الله.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) نزلت هذه الآية فى بنى أسد أصابتهم سنة شديدة ، فدخلوا فى الإسلام متوافرين بأهاليهم وذراريهم ، وجاؤوا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ليصيبوا من فضله فغلوا أسعار المدينة ، وأفسدوا طرقها بالعذرات ، وكانوا منافقين يقولون : أطعمنا وأكرمنا يا رسول الله ، فإنا مخلصون مصدقون فى إيماننا وكانوا منافقين فى دينهم كاذبين فى قولهم ، فذكر الله مقالتهم ، فقال : (قالَتِ الْأَعْرابُ) بنو أسد (آمَنَّا) صدقنا فى إيماننا بالله ورسوله (٢)(قُلْ) لهم يا محمد (لَمْ تُؤْمِنُوا) لم تصدقوا فى إيمانكم بالله ورسوله (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أى استسلمنا من السيف والسبى (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) لم يدخل حب الإيمان وتصديق الإيمان (فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فى السر كما أطعتموهما فى العلانية ، وتتوبوا من الكفر والسر والنفاق (لا

__________________

(١) انظر : معانى القرآن للفراء (٣ / ٧٣) ، وزاد المسير (٧ / ٤٧٢).

(٢) انظر : لباب النقول (١٩٩) ، والطبرى (٢٦ / ٨٩) ، والدر المنثور (٤ / ٩٩).

٣٣٣

يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ) لا ينقصكم من ثواب حسناتكم (شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب منكم (رَحِيمٌ (١٤)) لمن مات على التوبة.

ثم بين نعت المؤمنين المصدقين فى إيمانهم ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) المصدقون فى إيمانهم (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) صدقوا فى إيمانهم بالله (وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكوا فى إيمانهم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فى طاعة الله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)) المصدقون فى إيمانهم وجهادهم (قُلْ) يا محمد لبنى أسد (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ) أتخبرون الله (بِدِينِكُمْ) الذى أنتم عليه أمصدقون به أم مكذبون (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ما فى قلوب أهل السموات ، وما فى قلوب أهل الأرض (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)) من سر أهل السموات والأرض (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) يا محمد بنو أسد (أَنْ أَسْلَمُوا) وهو قولهم : أطعمنا وأكرمنا يا رسول الله ، فقد أسلمنا متوافرين (قُلْ) لهم يا محمد (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) بإسلامكم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) بل لله المن عليكم (أَنْ هَداكُمْ) أن دعاكم (لِلْإِيمانِ) لتصديق الإيمان (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)) بأنا مصدقون ، ولكن أنتم كاذبون لستم بمصدقين فى إيمانكم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) غيب ما يكون فى السموات والأرض (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)) فى نفاقكم يا معشر المنافقين ، وبعقوبتكم إن لم تتوبوا.

* * *

٣٣٤

سورة ق

ومن سورة ق ، وهى كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

عن ابن عباس ، ضى الله عنه ، فى قوله تعالى : (ق) يقول : هو جبل أخضر محدق بالدنيا وخضرة السماء منه له وجه كوجه الإنسان ، وقلب كقلوب الملائكة من خشية الله أقسم الله به (١)(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)) وأقسم بالقرآن الكريم الشريف (بَلْ عَجِبُوا) قريش ، ولهذا كان القسم قد عجبوا حين قال الله لهم : تبعثون بعد الموت ، فقالوا : بل عجبوا قريش منهم أبى ، وأمية ابنا خلف ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج (أَنْ جاءَهُمْ) بأن جاءهم (مُنْذِرٌ) رسول مخوف (مِنْهُمْ) من نسبهم (فَقالَ الْكافِرُونَ) كفار مكة

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٦ / ٩٣) ، وزاد المسير (٨ / ٣) ، ومعانى القرآن للفراء (٣ / ٧٥).

٣٣٥

أبى ، وأمية ، ومنبه ونبيه (هذا) الذى يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نبعث بعد الموت (شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢)) إذ يقول (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) صرانا ترابا رميما نبعث (ذلِكَ) الذى يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رَجْعٌ) رد (بَعِيدٌ (٣)) طويل لا يكون إنكارا منهم للبعث ، قال الله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ما تأكل الأرض من لحومهم بعد موتهم وما تترك (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)) من الشيطان وهو اللوح المحفوظ فيه مكتوب موتهم ومكثهم فى القبر ، ومبعثهم يوم القيامة.

(بَلْ كَذَّبُوا) قريش (بِالْحَقِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جاءهم وهذا جواب القسم ، أن قد جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)) ضلال ، ويقال : ملتبس ، ويقال : فى قوله مختلف بعضهم مكذب ، وبعضهم مصدق (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) كفار مكة (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) فوق رؤوسهم (كَيْفَ بَنَيْناها) خلقناها بلا عمد (وَزَيَّنَّاها) بالنجوم ، يعنى سماء الدنيا (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)) من شقوق وصدوع وعيوب وخلل (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها على الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها) فى الأرض (رَواسِيَ) جبالا ثوابت أوتادا لها لكى لا تميد بهم (وَأَنْبَتْنا فِيها) فى الأرض (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧)) من كل لون حسن فى المنظر (تَبْصِرَةً) لكى تبصروا (وَذِكْرى) عظة لكى تتعظوا به ، ويقال : تبصرة عبرة وتفكرا وذكرى عظة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)) مقبل إلى الله وإلى طاعته (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (مُبارَكاً) بالنبات والمنفعة فيه حياة كل شىء (فَأَنْبَتْنا بِهِ) بالمطر (جَنَّاتٍ) بساتين (وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)) الحبوب كلها التى تحصد (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) طوالا غلاظا (لَها طَلْعٌ) كفرى وثمر (نَضِيدٌ (١٠)) منضود مجتمع (رِزْقاً لِلْعِبادِ) طعاما للخلق ، يعنى الحبوب (وَأَحْيَيْنا بِهِ) بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) مكانا لا نبات فيه (كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)) هكذا يحيون ويخرجون من القبور يوم القيامة بالمطر (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل قومك يا محمد (قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَأَصْحابُ الرَّسِ) والرس بئر دون اليمامة ، وهم قوم شعيب كذبوا شعيبا (وَثَمُودُ (١٢)) قوم صالح صالحا (وَعادٌ) قوم هود هودا (وَفِرْعَوْنُ) كذب فرعون وقومه موسى (وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣)) قوم لوط لوطا ، (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الغيضة من الشجر ، وهم قوم شعيب كذبوا شعيبا ، (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) تبعا ، وتبع كان ملك حمير ، وكان اسمه أسعد بن ملكيكب ، وكنيته أبو كرب ، وسمى تبعا لكثرة تبعه ، وكان رجلا مسلما.

٣٣٦

(كُلٌ) كل هؤلاء (كَذَّبَ الرُّسُلَ) كما كذبك قومك قريش (فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)) فوجبت عليهم عقوبتى وعذابى عند تكذيبهم (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أفأعيانا خلقهم الأول حين خلقناهم حتى يعيينا خلقهم الآخر حين نخلقهم للبعث بعد الموت (بَلْ هُمْ) يعنى قريشا (فِي لَبْسٍ) فى شك (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)) بعد الموت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعنى ولد آدم ، ويقال : هو أبو جهل (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ) ما تحدث به (نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أعلم به وأقدر عليه (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)) وهو العرق الذى بين العلباء والحلقوم ، وليس فى الإنسان أقرب إليه منه ، والحبل والوريد واحد (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) إذ يكتب الملكان الكائنان (عَنِ الْيَمِينِ) عن يمين بنى آدم (وَعَنِ الشِّمالِ) شمال بنى آدم (قَعِيدٌ (١٧)) قعود هذا على نابه ، وهذا على نابه (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ما يتكلم العبد بكلام حسن أو سيىء (إِلَّا لَدَيْهِ) عليه (رَقِيبٌ) حافظ (عَتِيدٌ (١٨)) حاضر لا يزايله يكتب له أو عليه (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) نزعات الموت (بِالْحَقِ) بالشفاء والسعادة (ذلِكَ) يا ابن آدم (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩)) تفر وتكره (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وهى نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)) وعيد الأولين والآخرين أن يجتمعوا فيه (وَجاءَتْ) يوم القيامة (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) يسوقها إلى ربها ، وهو الملك الذى يكتب عليها السيئات (وَشَهِيدٌ (٢١)) يشهد عليها عند ربها ، وهو الملك الذى يكتب لها الحسنات ، ويقال : الشهيد عمله (لَقَدْ كُنْتَ) يا ابن آدم (فِي غَفْلَةٍ) فى جهالة وعمى (مِنْ هذا) اليوم (فَكَشَفْنا) فرفعنا (عَنْكَ غِطاءَكَ) عملك ما كان محجوبا عنك فى دار الدنيا (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)) حاد ، ويقال : فعلمك اليوم نافذ فى البعث.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى

٣٣٧

السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

(وَقالَ قَرِينُهُ) كاتبه الذى يكتب حسناته ، ويقال : الذى يكتب سيئاته (هذا ما لَدَيَ) هذا الذى وكلتنى عليه (عَتِيدٌ (٢٣)) حاضر ، فيقول الله له : (أَلْقِيا) يعنى ألق (فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) كافر بالله ، وهو الوليد بن المغيرة المخزومى (عَنِيدٍ (٢٤)) معرض عن الإيمان (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) للإسلام بنيه وبنى بنيه وبنى أخيه ، وذويه ولحمته وقرابته (مُعْتَدٍ) غشوم ظلوم (مُرِيبٍ (٢٥)) ظاهر الشك مفتر على الله (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الذى قال لله ولد وشريك (فَأَلْقِياهُ) فيقول الله للملك كاتبه : ألقه (فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦)) الغليظ (قالَ قَرِينُهُ) كاتبه الذى يكتب عليه سيئاته (١)(رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ما أعجلته بالكتابة وما كتبت عليه ما لم يقل ، وما لم يفعل ، وهذا بعد ما يقول الكافر : يا رب كتب على هذا الملك ما لم أقل ، وما لم أفعل ، وعجلنى بالكتابة حتى نسيت ، وقال قرينه ، يعنى شيطانه يعتذر به إلى ربه : ربنا ، يا ربنا ، ما أطغيته ، ما أضللته (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ) فى خطأ (بَعِيدٍ (٢٧)) عن الحق والهدى.

(قالَ) الله لهم : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) عندى (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨)) قد أعلمتكم فى الكتاب مع الرسول من هذا اليوم (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) ما يغير القول عندى بالكتاب بالكذب ، ويقال : ما يغير اليوم قضائى على عبادى ، ويقال : لا يثنى القول عندى (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)) آن آخذهم بلا جرم منهم (يَوْمَ) وهو يوم القيامة (نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) كما وعدتك (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)) فتستزيد ، ويقال : وتقول قد امتلأت وهل من مزيد ، فليس فى مكان رجل واحد (وَأُزْلِفَتِ) قربت (الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) الكفر والشرك والفواحش (غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١)) منهم (هذا) الثواب والكرامة (ما تُوعَدُونَ) فى الدنيا (لِكُلِّ أَوَّابٍ) مقبل إلى الله

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٨ / ١٥).

٣٣٨

وإلى طاعته (حَفِيظٍ (٣٢)) فى الخلوات لأمر الله ، ويقال : على الصلوات (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) من عمل للرحمن ، وإن لم يره (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣)) مخلص بالعبادة والتوحيد ، يقول الله لهم : (ادْخُلُوها) يعنى الجنة (بِسَلامٍ) بسلامة من عذاب الله (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)) خلود أهل الجنة فى الجنة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) ما يتمنون (فِيها) فى الجنة (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)) يعنى النظر إلى وجه الرب ، ولهم عندنا كل يوم وساعة من الكرامة والثواب الزيادة.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) قبل قومك (مِنْ قَرْنٍ) من القرون الماضية (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) من قومك (بَطْشاً) قوة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) فطافوا وتقلبوا فى الأسفار بتجاراتهم (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)) هل كان لهم ملجأ ومفر من عذابنا ، ويقال : هل بقى أحد منهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) فى ما صنع بهم (لَذِكْرى) لعظة قومك (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) عقل حى (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أو استمع إلى قراءة القرآن (وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)) قلبه حاضر غير غائب (١) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الخلق والعجائب (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام أول الدنيا طول كل يوم ألف سنة من هذه الأيام أول يوم منها يوم الأحد ، وآخر يوم منها يوم الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)) ما أصابنا من إعياء كما قالت اليهود ، حيث قالوا : لما فرغ الله منها وضع إحدى رجليه على الأخرى واستراح يوم السبت كذب أعداء الله على الله (فَاصْبِرْ) يا محمد (٢)(عَلى ما يَقُولُونَ) على مقالة اليهود من الكذب ، ويقال : اصبر على ما يقولون ، يعنى على مقالة المستهزئين ، وهم خمسة رهط ، قد ذكرتهم فى موضع آخر (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) صل بأمر ربك (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهى صلاة الغداة (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩)) وهى صلاة الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فصل له صلاة المغرب والعشاء (وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)) وهى ركعتان بعد المغرب (وَاسْتَمِعْ) يا محمد حتى تسمع صفة (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) ويقال : اعمل يا محمد ليوم ينادى المنادى ، ويقال : انتظر يا محمد يوم ينادى المنادى فى الصور (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١)) إلى السماء من صخرة بيت المقدس ، وهى أقرب مكان إلى السماء من

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٨ / ٢٠).

(٢) انظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس (٢٢٣) ، والإيضاح لمكى (٣٦٢) ، والبصائر للفيروز آبادى (١ / ٤٣٧) ، وزاد المسير (٨ / ٢٣).

٣٣٩

الأرض باثنى عشر ميلا ، ويقال : من مكان قريب ، يسمعون من تحت أقدامهم (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) بالخروج من القبور (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢)) من القبور وهو يوم القيامة (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ) للبعث (وَنُمِيتُ) فى الدنيا (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)) بعد الموت (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ) تتصدع الأرض (عَنْهُمْ سِراعاً) وخروجهم من القبور سريعا (ذلِكَ حَشْرٌ) سوق (عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)) هين (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) فى البعث ، ويقال : فى الدنيا (وَما أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمسلط أن يخبرهم على الإيمان ، ثم أمره بعد ذلك بقتالهم (١)(فَذَكِّرْ) عظ (بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)) ومن لا يخاف وعيد ، فإنما يقبل عظتك من يخاف وعيد عذابى فى الآخرة ، وقانا الله عذاب النار.

__________________

(١) منسوخ بآية السيف كما فى زاد المسير (٨ / ٢٦) ، والمصفى (٢١٣) ، وابن البارزى (٣٠٧).

٣٤٠