تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تفسير ابن وهب المسمّى الواضح في تفسير القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-3924-X

الصفحات: ٥٣٣
الجزء ١ الجزء ٢

لا بالمكابرة (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) جزاء جراحة جراحة مثلها (فَمَنْ عَفا) عن مظلمته (وَأَصْلَحَ) ترك القصاص ولا يكافىء به (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فثوابه على الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)) المبتدئين بالظلم.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ) انتصف بالقصاص (بَعْدَ ظُلْمِهِ) مظلمته (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)) من مأثم القصاص (إِنَّمَا السَّبِيلُ) المأثم (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) بالابتداء بغير قصاص (وَيَبْغُونَ) يتطاولون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بلا حق يكون لهم (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢)) وجيع (وَلَمَنْ صَبَرَ) على مظلمته (وَغَفَرَ) تجاوز ولم يقتص ولم يكافىء به (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والتجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)) من خير الأمور ، ويقال : من حزم الأمور ، ونزل من قوله : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) إلى قوله : (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)) فى شأن أبى بكر الصديق وصاحبه عمرو بن غزية الأنصارى فى كلام وتنازع كان بينهما ، فشتم الأنصارى أبا بكر الصديق ، فأنزل الله فيهما هؤلاء الآيات.

٢٨١

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) من مرشد (مِنْ بَعْدِهِ) غير الله (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) المشركين أبا جهل وأصحابه يوم القيامة (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) حين رأوا العذاب (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)) هل إلى رجوع إلى الدنيا من حيلة (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) على النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) ذليلين من الحزن (يَنْظُرُونَ) إليك (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) مسارقة الأعين (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (إِنَّ الْخاسِرِينَ) المغبونين (الَّذِينَ خَسِرُوا) الذين غبنوا (أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) خدمهم فى الجنة (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) المشركين أبا جهل وأصحابه (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥)) والمقيم الدائم.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) أقرباء (يَنْصُرُونَهُمْ) يمنعونهم (مِنْ دُونِ اللهِ) من عذاب الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه مثل أبى جهل (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)) من دين ولا حجة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) بالتوحيد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة (لا مَرَدَّ لَهُ) لا مانع له (مِنَ اللهِ) من عذاب الله (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) من نجاة (يَوْمَئِذٍ) من عذاب الله (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)) من معين (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) يحفظهم (إِنْ عَلَيْكَ) ما عليك (إِلَّا الْبَلاغُ) التبليغ عن الله ، ثم أمره بالقتال بعد ذلك (١)(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) أصبنا الكافر (مِنَّا رَحْمَةً) نعمة (فَرِحَ بِها) أعجب بها غير شاكر لها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة وفقر وبلية (بِما قَدَّمَتْ) عملت (أَيْدِيهِمْ) فى الشرك (فَإِنَّ الْإِنْسانَ) يعنى أبا جهل (كَفُورٌ (٤٨)) كافر بالله وبنعمته (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن السموات والأرض المطر والنبات (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كما يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) مثل لوط عليه‌السلام ، لم يكن له ولد ذكر (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩)) مثل إبراهيم لم يكن له أنثى.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) يخلطهم (ذُكْراناً وَإِناثاً) مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له الذكر والأنثى (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) بلا ولد مثل يحيى بن زكريا عليهما‌السلام (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)) فيما وهب من الذكور والإناث (وَما كانَ) ما جاز (لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) مواجهة بغير ستر (إِلَّا وَحْياً) فى المنام (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ستر

__________________

(١) منسوخ بآية السيف. انظر : بصائر التمييز (١ / ٤١٩) ، والمصفى لابن الجوزى (٢١٢) ، وقال : إنه غير منسوخ وابن البارزى (٣٠٥).

٢٨٢

كما كلم موسى عليه‌السلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) جبريل كما أرسله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) بأمره (ما يَشاءُ) الذى نشاء من الأمر والنهى (إِنَّهُ عَلِيٌ) أعلى من كل شىء (حَكِيمٌ (٥١)) فى أمره وقضائه.

(وَكَذلِكَ) هكذا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يعنى جبريل بالقرآن (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) ما القرآن قبل نزول جبريل عليك ، وما كنت تحسن قراءة القرآن قبل القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) ولا الدعوة إلى الإيمان (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) قلناه يعنى القرآن (نُورٍ أَ) بيانا للأمر والنهى ، والحلال والحرام ، والحق والباطل (نَهْدِي بِهِ) بالقرآن (مَنْ نَشاءُ) من كان أهلا لذلك (مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) لتدعو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) يعنى إلى دين مستقيم حق (صِراطِ اللهِ) دين الله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)) عواقب الأمور فى الآخرة.

* * *

٢٨٣

سورة الزّخرف

ومن السورة التى يذكر فيها الزخرف ، وهى كلها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله عزوجل : (حم (١)) يقول : قضى ما هو كائن أى بين (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)) يقول : وأقسم بالكتاب المبين بالحلال والحرام والنهى والأمر أن قد قضى ما هو كائن ، أى بين قال الشاعر :

ألا يا لقومى كل ما حم واقع

وذا الطير يسرى والنجوم الطوالع

ويقال : قسم أقسم به بالحاء والميم والكتاب المبين بالحلال والحرام والأمر والنهى (إِنَّا جَعَلْناهُ) قلناه ووضعناه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) على مجرى لغة العرب ، ولهذا كان القسم

٢٨٤

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)) لكى تعلموا ما فى القرآن من الحلال والحرام والأمر والنهى (وَإِنَّهُ) يعنى القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) فى اللوح المحفوظ مكتوب (لَدَيْنا) عندنا (لَعَلِيٌ) كريم شريف مرتفع (حَكِيمٌ (٤)) محكم بالحلال والحرام (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أفنرفع عنكم الوحى والرسول يا أهل مكة (صَفْحاً) أو نترككم هملا بلا أمر ولا نهى (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)) بأن كنتم قوما مشركين لا تؤمنون فى علم الله (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍ) قبلك يا محمد (فِي الْأَوَّلِينَ (٦)) فى الأمم الماضية قد علمنا أنهم لا يؤمنون فلم نتركهم بلا كتاب ولا رسول.

(وَما يَأْتِيهِمْ) أى الأولين (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ) بالنبى (يَسْتَهْزِؤُنَ (٧)) يهزئون بالنبى (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ) من أهل مكة (بَطْشاً) قوة ومنعة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)) سنة الأولين بالعذاب عند تكذيبهم الرسل (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) كفار مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَ) كفار مكة (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ) فى ملكه وسلطانه (الْعَلِيمُ (٩)) بتدبيره وبخلقه ، فقال الله نعم خلق (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) فراشا (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)) لكى تهتدوا بالطرق (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (بِقَدَرٍ) معلوم بعلم الخزان (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أحيينا بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) مكانا لا نبات فيه (كَذلِكَ) هكذا (تُخْرَجُونَ (١١)) تحيون وتخرجون من القبور كما أحيينا الأرض بالمطر (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) الأصناف (كُلَّها) الذكر والأنثى (وَجَعَلَ لَكُمْ) وخلق لكم (مِنَ الْفُلْكِ) يعنى السفن فى البحر (وَالْأَنْعامِ) يعنى الإبل (ما تَرْكَبُونَ (١٢)) الذى تركبون عليه (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) ظهور الأنعام ، يعنى الإبل (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) بتسخيرها (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) على ظهورها وسخرها لكم (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) الإبل (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)) مطيعين مالكين (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)) راجعون بعد الموت.

(وَجَعَلُوا) وصفوا (لَهُ مِنْ عِبادِهِ) يعنى الملائكة (جُزْءاً) ولدا ، قالوا : الملائكة بنات الله وهم بنو مليح (إِنَّ الْإِنْسانَ) يعنى بنى مليح (لَكَفُورٌ) كافر بالله (مُبِينٌ (١٥)) ظاهر الكفر (أَمِ اتَّخَذَ) اختار (مِمَّا يَخْلُقُ) يعنى الملائكة (بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ) اختاركم يا بنى مليح (بِالْبَنِينَ (١٦)) بالذكور (وَإِذا بُشِّرَ

٢٨٥

أَحَدُهُمْ) أحد بنى مليح (بِما ضَرَبَ) بما وصف (لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) إناتا (ظَلَ) صار (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)) مغموم مكروب بتردد الغيظ فى جوفه أفترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) يغذى ويربى (١)(فِي الْحِلْيَةِ) حلية الذهب والفضة (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) فى الكلام (غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)) غير ثابت الحجة ومن النساء فمثلهن كيف ينبغى أن يكن بنات الله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) بنات الله (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) حين خلقوا أنهم إناث فيعلمون بذلك أنهم إناث قالوا : لا يا محمد ، ولكن سمعنا من آبائنا يقولون ذلك ، فقال الله : يا محمد (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) بالكذب على الله بمقالتهم أن الملائكة بنات الله (وَيُسْئَلُونَ (١٩)) عنه يوم القيامة ، أى قيل لهم ، حين جعلوا الملائكة بنات الله : أشهدتم؟ قالوا : لا ، قال : فما يدريكم أنهن أناث وأنهن بنات الله؟ قالوا : سمعنا هذا من آبائنا ، قال الله : سنكتب شهادتهم ، يعنى ما تكلموا به ويسألون عنه يوم القيامة (وَقالُوا) بنو مليح (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ) لو نهانا الرحمن وصرفنا (ما عَبَدْناهُمْ) استهزاء ولكن أمرنا بعبادتهم ، ولم ينهنا عن عبادتهم (ما لَهُمْ بِذلِكَ) بما يقولون (مِنْ عِلْمٍ) من حجة ولا بيان (إِنْ هُمْ) ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠)) يكذبون على الله لأن الله نهاهم عن ذلك.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ

__________________

(١) انظر : السبعة لابن مجاهد (٥٨٤) ، وزاد المسير (٧ / ٣٠٦) ، ومعانى القراءات للأزهرى (٤٣٧).

٢٨٦

وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(أَمْ آتَيْناهُمْ) أعطيناهم (كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن (فَهُمْ بِهِ) بالكتاب (مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)) آخذون منه ، ويقولون : إن الملائكة بنات الله ، قالوا : لا يا محمد ، ولكن وجدنا آباءنا على هذا الدين ، فقال الله : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) على هذا الدين (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) على دينهم وأعمالهم (مُهْتَدُونَ (٢٢)) مقتدون (وَكَذلِكَ) هكذا أى كما قال قومك (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ) إلى أهل قرية (مِنْ نَذِيرٍ) من نبى مخوف (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) جبابرتها (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) على هذا الدين (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) على دينهم وأعمالهم (مُقْتَدُونَ (٢٣)) مستندون (قالَ) أعنى قل لهم يا محمد (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) قد جئتكم (بِأَهْدى) بأصوب دينا (مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ألا تقبلون ذلك (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) من الكتاب (كافِرُونَ (٢٤)) جاحدون (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالعذاب عن تكذيبهم الرسل والكتب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)) آخر أمر المكذبين بالكتب والرسل.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ) آزر (وَقَوْمِهِ) حين جاء إليهم (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) إلا معبودى الذى خلقنى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)) سيحفظنى على دينه وطاعته (وَجَعَلَها) يعنى لا إله إلا الله (كَلِمَةً باقِيَةً) ثابتة (فِي عَقِبِهِ) فى نسله نسل إبراهيم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)) عن كفرهم بلا إله إلا الله (بَلْ مَتَّعْتُ) أجلت (هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) قبلهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) يعنى الكتاب (وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)) يبين لهم لهؤلاء بلغة يعلمونها (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) الكتاب والرسول (قالُوا هذا) يعنون الكتاب (سِحْرٌ) كذب (وَإِنَّا بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (كافِرُونَ (٣٠)) جاحدون (وَقالُوا) يعنى كفار مكة الوليد وأصحابه (لَوْ لا) هلا (نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)) يقول : على رجل عظيم كالوليد بن المغيرة ، وأبى مسعود الثقفى من القريتين من مكة والطائف (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعنى نبوة ربك وكتاب ربك فيقسمون لمن شاؤوا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) بالمال والولد (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) فضائل بالمال أو الولد (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أى مسخرا خدما وعبيدا

٢٨٧

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) النبوة والكتاب ، ويقال : الجنة للمؤمنين (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)) مما يجمع الكفار فى الدنيا من المال والزهرة (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) على ملة واحدة ملة الكفر (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) سماء بيوتهم (مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) درجات (عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣)) يرتقون من فضه (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً) من فضة (وَسُرُراً) من فضة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤)) ينامون (وَزُخْرُفاً) ذهبا وكل شىء لهم من أوانى منازلهم من الذهب والفضة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا) يقول : وما كل ذلك إلا (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) والميم صلة ، ويقال : ذى متاع الحياة الدنيا ولما صلة (١)(وَالْآخِرَةُ) يعنى الجنة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)) الكفر والشرك والفواحش خير من متاع الدنيا.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

__________________

(١) قراءة عاصم ، وحمزة بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، فهى بمعنى إلا وليست زائدة. انظر : السبعة لابن مجاهد (٥٨٦) ، والبحر المحيط (٨ / ١٥).

٢٨٨

(وَمَنْ يَعْشُ) يعرض ، ويقال : يمل إن قرأت بالخفض ، ويقال : يعم إن قرأت بالنصب (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) عن توحيد الرحمن وكتابه (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) نجعل له قرينا من الشيطان (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)) فى الدنيا وفى النار (وَإِنَّهُمْ) يعنى الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) ليصروفونهم (عَنِ السَّبِيلِ) عن سبيل الحق والهدى (وَيَحْسَبُونَ) يظنون (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)) بالحق والهدى (حَتَّى إِذا جاءَنا) يعنى ابن آدم وقرينه الشيطان فى سلسلة واحدة (قالَ) لقرينه الشيطان (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) مشرق الشتاء والصيف (فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)) الصاحب والرفيق الشيطان (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ) يقول الله : ولن ينفعكم (الْيَوْمَ) هذا الكلام (إِذْ ظَلَمْتُمْ) كفرتم فى الدنيا (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)) الشياطين وبنو آدم (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ) الحق والهدى يا محمد (الصُّمَ) من يتصامم وهو الكافر (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) حتى يبصر الحق ، والهدى ، وهو كافر (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)) فى كفر بين لا تقدر أن ترشده إلى الهدى (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) نميتك (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١)) بالعذاب (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) يوم بدر (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)) على عذابهم قادرون قبل موتك ، وبعد موتك (فَاسْتَمْسِكْ) اعمل (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) يعنى القرآن (إِنَّكَ) يا محمد (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣)) على دين قائم يرضاه (وَإِنَّهُ) يعنى القرآن (لَذِكْرٌ لَكَ) شرف لك (وَلِقَوْمِكَ) قريش لأنه بلغتهم (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)) عن شكر هذا الشرف.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (مِنْ رُسُلِنا) مثل عيسى وموسى وإبراهيم ، وهذا فى الليلة التى أسرى به إلى السماء وصلى بسبعين نبيا مثل إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، فأمر الله نبيه أن سلهم يا محمد (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)) يقول : سلهم هل جعلنا آلهة يعبدون من دون الرحمن مقدم ومؤخر ، ويقال : سلهم هل أمرنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ، وفيها وجه آخر يقول : سل هل جاءت الرسل إلا بالتوحيد فلم يسألهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه كان موقنا بذلك (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) باليد والعصا (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) قومه القبط (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦)) إليكم (فَلَمَّا جاءَهُمْ) موسى (بِآياتِنا) باليد والعصا (إِذا هُمْ مِنْها) من الآيات (يَضْحَكُونَ (٤٧)) يتعجبون ويسخرون فلا يؤمنون بها (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) من علامة (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أعظم من التى كانت

٢٨٩

قبلها فلم يؤمنوا بها (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص والسنين (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)) لكى يرجعوا عن كفرهم (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) العالم يوقرونه بذلك ، وكان الساحر فيهم عظيما (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) سل لنا ربك بما عهد الله لك ، وكان عهد الله لموسى إن آمنوا كشفنا عنهم العذاب ، فمن ذلك ، قالوا : بما عهد الله عندك (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)) مؤمنون بك وبما جئت به.

(فَلَمَّا كَشَفْنا) دفعنا (عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)) ينقضون عهودهم ولا يؤمنون (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) خطب فرعون فى قومه القبط (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) أربعين فرسخا فى أربعين فرسخا (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) من حولى ، ويقال : عنى بها الأفراس تجرى من تحته (أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ) إنى خير (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) ضعيف فى بدنه (وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢)) يبين حجته (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ) هلا ألبس عليه أقبية (مِنْ ذَهَبٍ) كما لكم (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)) معاونين مصدقين له بالرسالة (فَاسْتَخَفَ) فاستنزل (قَوْمَهُ) القبط (فَأَطاعُوهُ) فى قوله (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)) كافرين (فَلَمَّا آسَفُونا) أغضبوا نبينا موسى ومالوا إلى غضبنا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالعذاب (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)) فى البحر (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) ذهابا بالعذاب (وَمَثَلاً) عبرة (لِلْآخِرِينَ (٥٦)) لمن بقى بعدهم.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ

٢٩٠

وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) شبهوه بآلهتهم (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ) من قول عبد الله بن الزبعرى وأصحابه (يَصِدُّونَ (٥٧)) يضحكون (وَقالُوا) يعنى عبد الله بن الزبعرى (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ) يا محمد (أَمْ هُوَ) يعنى عيسى ابن مريم إن جاز له فى النار مع النصارى يجوز لنا فى النار مع آلهتنا (ما ضَرَبُوهُ لَكَ) ما ذكروا لك عيسى ابن مريم (إِلَّا جَدَلاً) إلا للجدال والخصومة (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)) جدلون بالباطل (إِنْ هُوَ) ما هو ، يعنى عيسى ابن مريم (إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالرسالة وليس هو كآلهتهم (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) عبرة (لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)) ولدا بلا أب (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) بمكانكم ، ويقال : خلقنا لكم (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)) خلفاء منكم بدلكم يمشون فى الأرض بدلكم (وَإِنَّهُ) يعنى نزل عيسى ابن مريم (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) لبيان قيام الساعة ، ويقال : علامة لقيام الساعة إن قرأت بنصب العين واللام (١)(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) فلا تشكن بها بقيام الساعة (وَاتَّبِعُونِ) بالتوحيد (هذا) التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)) دين قائم يرضاه وهو الإسلام (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ) لا يصرفنكم (الشَّيْطانُ) عن دين الإسلام ، والقرار بقيام الساعة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)) ظاهر العداوة.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) بالأمر والنهى والعجائب (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بالأمر والنهى والنبوة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) تخالفون فى الدين (فَاتَّقُوا اللهَ) فاخشوا الله فيما أمركم (وَأَطِيعُونِ (٦٣)) اتبعوا وصيتى وقولى (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي) خالقى (وَرَبُّكُمْ) خالقكم (فَاعْبُدُوهُ) فوحدوه (هذا) التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)) دين قائم يرضاه (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) النصارى (مِنْ بَيْنِهِمْ) فيما بينهم فى عيسى ، فقال بعضهم : هو ابن الله ، وهم النسطورية ، وقال بعضهم : هو الله ، وهم المار يعقوبية ، وقال بعضهم : هو شريكه ، وهم الملكانية ، وقال بعضهم : هو ثالث ثلاثة ، وهم المرقوسية ، (فَوَيْلٌ) شدة عذاب (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) تحزبوا فى عيسى (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)) وجيع (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما

__________________

(١) انظر : معانى القراءات للأزهرى (ص ٤٤١).

٢٩١

ينتظرون إذ لا يتوبون عن مقالتهم (إِلَّا السَّاعَةَ) إلا قيام الساعة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦)) لا يعلمون بنزول العذاب بهم (الْأَخِلَّاءُ) فى المعصية (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة مثل عقبة بن أبى معيط ، وأبى بن خلف (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧)) الكفر والشرك والفواحش ، مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وأصحابهم ، فإنهم ليسوا كذلك فيقول الله : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) حين يخاف غيركم (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)) حين يحزن غيركم (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩)) مخلصين بالعبادة والتوحيد.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) حلائكم (تُحْبَرُونَ (٧٠)) تكرمون بالتحف وتنعمون فى الجنة (يُطافُ عَلَيْهِمْ) فى الخدمة (بِصِحافٍ) بقصاع (مِنْ ذَهَبٍ) فيها ألوان الطعام (وَأَكْوابٍ) كميزان بلا آذان ولا عرى مدورة الرؤوس فيها شرابهم (وَفِيها) فى الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) تتمنى الأنفس (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) تعجب الأعين بالنظر إليه (وَأَنْتُمْ فِيها) فى الجنة (خالِدُونَ (٧١)) دائمون لا تموتون ولا تخرجون منها (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) هذه الجنة (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) أنزلتموها جعلت لكم ميراتا (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)) وتقولون فى الدنيا (لَكُمْ فِيها) فى الجنة (فاكِهَةٌ) ألوان الفاكهة (كَثِيرَةٌ مِنْها) من ألوان الفاكهة (تَأْكُلُونَ (٧٣)).

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

٢٩٢

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) المشركين أبا جهل وأصحابه (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) لا يموتون ولا يخرجون منها (لا يُفَتَّرُ) لا يرفع (عَنْهُمْ) العذاب ولا يقطع (وَهُمْ فِيهِ) فى العذاب (مُبْلِسُونَ (٧٥)) آيسون من الرفع ومن كل خير (وَما ظَلَمْناهُمْ) بهلاكهم وعذابهم (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)) بالكفر والشرك (وَنادَوْا يا مالِكُ) فلما قل صبرهم نادوا يا مالك خازن النار (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الموت فيجيبهم مالك بعد أربعين سنة (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧)) دائمون فى العذاب ولا تخرجون (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) يقول : جاء جبريل إلى نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ) كلكم (لِلْحَقِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن (كارِهُونَ (٧٨)) جاحدون (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) أحكموا أمرا فى شأن محمد (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)) محكمون أمرا بهلاكهم (أَمْ يَحْسَبُونَ) يظنون يعنى صفوان بن أمية وصاحبيه (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) فيما بينهم (وَنَجْواهُمْ) خلوتهم حول الكعبة (بَلى) نسمع (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ) عندهم (يَكْتُبُونَ (٨٠)) سرهم ونجواهم وهم الحفظة (قُلْ) يا محمد للنضر بن الحارث وعلقمة (إِنْ كانَ) ما كان (لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)) أول المقربين بأن ليس لله ولد ولا شريك.

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢)) يقولون من الولد والشريك (فَذَرْهُمْ) اتركهم يا محمد (يَخُوضُوا) فى الباطل (وَيَلْعَبُوا) يهزؤوا بالقرآن (حَتَّى يُلاقُوا) يعاينوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)) فيه الموت والعذاب (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) هو إله كل شىء فى السماء (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) إله كل شىء فى الأرض (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فى أمره وقضائه (الْعَلِيمُ (٨٤)) بخلقه وتدبيره (وَتَبارَكَ) تعالى وتبرأ عن الولد والشريك (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) من الخلق (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) علم قيام الساعة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)) فى الآخرة.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبدون (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (الشَّفاعَةَ) يقول : لا تقدر الملائكة أن يشفعوا لأحد (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) بلا إله إلا الله مخلصا بها (وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)) أنها حق من قبل أنفسهم نزلت هذه الآية فى بنى مليح ، حيث قالوا : الملائكة بنات الله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يعنى بنى مليح (مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلقنا (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)) فمن أين يكذبون على الله بعد الإقرار

٢٩٣

(وَقِيلِهِ) قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)(يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)) بك وبالقرآن فافعل بهم ما شئت (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) قيل له : أعرض عنهم (وَقُلْ سَلامٌ) سداد من القول (فَسَوْفَ) وهذا وعيد لهم (يَعْلَمُونَ (٨٩)) ماذا يفعل بهم يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، ثم أمره بالقتال بعد ذلك فسوف يعلمون ماذا ينزل بهم من الجوع والدخان.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٧ / ٣٣٤) ، والبحر المحيط (٨ / ٣٠) ، والإيضاح لمكى (٣٥٤) ، والمصفى (٢١٣) ، وتفسير الطبرى (٢٥ / ٦٣) ، والسبعة (٥٨٩) ، ومعانى القراءات للأزهرى (ص ٤٤١).

٢٩٤

سورة الدّخان

ومن السورة التى يذكر فيها الدخان ، وهى كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)) عن ابن عباس ، رضوان الله عليه ، فى قوله تعالى : (حم (١)) يقول : قضى ما هو كائن ، أى بين (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)) وأقسم بالكتاب المبين لقد قضى ما هو كائن ، أى بين ، ويقال : أقسم بالحاء والميم والقرآن المبين ، بالحلال والحرام ، والأمر والنهى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أنزلنا جبريل بالقرآن ، ولهذا كان القسم أنزل الله جبريل إلى سماء الدنيا حتى أملى القرآن على الكتبة ، وهم أهل سماء الدنيا (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فيها الرحمة والمغفرة والبركة وهى ليلة القدر ، ثم أنزل الله جبريل بعد ذلك على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بآية وسورة ، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة (١)(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)) إنا كنا

__________________

(١) انظر : تفسير الطبرى (٢٥ / ٦٤) ، وزاد المسير (٧ / ٣٣٦) والدر المنثور (٦ / ٢٥).

٢٩٥

مخوفين بالقرآن (فِيها) فى ليلة القدر (يُفْرَقُ) يبين (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)) كائن من سنة إلى سنة (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) بيانا منا نبين لجبريل وميكائيل وإسرافيل ، وملك الموت ما هم موكلون عليه من سنة إلى سنة (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥)) الرسل بالكتب (رَحْمَةً) نعمة (مِنْ رَبِّكَ) على عباده إرساله الرسل بالكتب (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لمقالة قريش حيث قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب (الْعَلِيمُ (٦)) بهم وبعقوبتهم.

(رَبِ) خالق (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) من الخلق هو الله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧)) مصدقين بذلك (لا إِلهَ) لا خالق (إِلَّا هُوَ) الذى خلق السموات والأرض (يُحْيِي) للبعث (وَيُمِيتُ) فى الدنيا (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)) خالقكم وخالق آبائكم الأقدمين (بَلْ هُمْ) يعنى كفار مكة (فِي شَكٍ) من قيام الساعة (يَلْعَبُونَ (٩)) يهزؤون بقيام الساعة (فَارْتَقِبْ) فانتظر عذابهم يا محمد (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠)) بين السماء والأرض.

(يَغْشَى النَّاسَ) ذلك الدخان (هذا) الدخان (عَذابٌ أَلِيمٌ (١١)) وجيع وهو الجوع (رَبَّنَا اكْشِفْ) قالوا : ربنا اكشف (عَنَّا الْعَذابَ) يعنى الجوع (إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)) بك وبكتابك ورسولك (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) من أين لهم العظة والتوبة إذا كشفنا عنهم العذاب ، ويقال : إذا أهلكناهم يوم بدر ، ويقال : يوم القيامة (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُبِينٌ (١٣)) يبين لهم لغة يعلمونها (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أعرضوا عن الإيمان به (وَقالُوا مُعَلَّمٌ) يعنون محمدا يعلمه جبر ويسار (مَجْنُونٌ (١٤)) مخنوق يختنق (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) يعنى الجوع (قَلِيلاً) يسيرا إلى يوم بدر (إِنَّكُمْ) يا أهل مكة (عائِدُونَ (١٥)) راجعون إلى المعصية ، فلما رفع عنهم العذاب عادوا إلى المعصية فأهلكهم الله يوم بدر لقوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) نعاقبهم العقوبة العظمى يوم بدر بالسيف (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)) منهم بالعذاب (وَلَقَدْ فَتَنَّا) ابتلينا (قَبْلَهُمْ) قبل قريش (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) فرعون وقومه بالعذاب (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)) على ربه يعنى موسى (أَنْ أَدُّوا إِلَيَ) ادفعوا إلى وأرسلوا معى (عِبادَ اللهِ) بنى إسرائيل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أَمِينٌ (١٨)) على الرسالة (وَأَنْ لا تَعْلُوا) لا تتكبروا ولا تفتروا (عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩)) بحجة بينة وعذر بين (وَإِنِّي عُذْتُ) اعتصمت (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠)) من أن

٢٩٦

تقتلون (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) إن لم تصدقونى بالرسالة (فَاعْتَزِلُونِ (٢١)) فاتركونى لا لى ولا علىّ.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)) مشركون اجترموا الهلاك على أنفسهم (فَأَسْرِ بِعِبادِي) قال الله لموسى بعبادى بنى إسرائيل (لَيْلاً) من أول الليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)) فى البحر (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) طرقا واسعة بقدر ما عبر موسى وقومه (إِنَّهُمْ) يعنى فرعون وقومه (جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)) فى البحر (كَمْ تَرَكُوا) خلفوا (مِنْ جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ (٢٥)) ماء ظاهر فى البساتين (وَزُرُوعٍ) حروث (وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)) منازل حسنة (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧)) معجبين (كَذلِكَ) فعلنا بهم (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨)) جعلت ميراتا لبنى إسرائيل من بعدهم (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ) على فرعون وقومه (السَّماءُ) باب السماء (وَالْأَرْضُ) ولا مصلاه على الأرض لأن المؤمن إذا مات بكى عليه باب السماء الذى يصعد منه عمله ، وينزل منه رزقه ومصلاه فى الأرض التى كان يصلى فيها ، ولم يبك على فرعون وقومه لأنه لم يكن لهم باب فى السماء لرفع عملهم ولا مصلى فى الأرض (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)) مؤجلين من الغرق.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠)) الأليم الشديد (مِنْ فِرْعَوْنَ) وقومه من ذبح الأبناء واستخدام النساء وغير ذلك (إِنَّهُ كانَ عالِياً) مخالفا عاتيا (مِنْ

٢٩٧

الْمُسْرِفِينَ (٣١)) فى الشرك (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) اخترنا بنى إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) كما علمنا (عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢)) عالمى زمانهم بالمن والسلوى والكتاب والرسول والنجاة من فرعون وقومه والنجاة من الغرق (وَآتَيْناهُمْ) أعطيناهم (مِنَ الْآياتِ) من العلامات (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)) نعمة عظيمة ، ويقال : اختبار بين وهو الذى نجاهم من فرعون ، ومن الغرق وأنزل عليهم المن والسلوى فى التيه وغير ذلك.

(إِنَّ هؤُلاءِ) قومك يا محمد (لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ) ما هى أى حياتنا (إِلَّا مَوْتَتُنَا) بعد موتتنا (الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)) بمحيون بعد الموت (فَأْتُوا بِآبائِنا) فأحيى يا محمد آباءنا الذين ماتوا حتى نسألهم أحق تقول أم باطل؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦)) إن كنت من الصادقين أن نبعث بعد الموت ، قال الله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ) أقومك خير (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) حمير واسعة أسعد بن ملكيكوب وكنيته أبو كرب ، سمى تبعا لكثرة تبعه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل قوم تبع (أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)) مشركين أفلا يخاف قومك من هلاكهم وعذابهم (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الخلق (لاعِبِينَ (٣٨)) لاهين (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) للحق لا للباطل (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ (٣٩)) ذلك ولا يصدقون (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) يوم القضاء بين الخلائق (مِيقاتُهُمْ) ميعادهم (أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) ولى حميم ، يعنى قرابة عن قرابة شيئا ، وكافر عن كافر ، وقريب عن قريب شيئا من الشفاعة ، ولا من عذاب الله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)) يمنعون مما يراد بهم من العذاب (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) من المؤمنين ، فإنهم ليسوا كذلك ، ولكن يشفع بعضهم لبعض (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) بالنقمة من الكافرين (الرَّحِيمُ (٤٢)) بالمؤمنين.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

٢٩٨

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤)) طعام الفاجر فى النار أبى جهل وأصحابه (كَالْمُهْلِ) سوداء كدردى الزيت ، ويقال : حارة كالفضة المذابة (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)) الماء الحار (خُذُوهُ) يقول الله للزبانية خذوا أبا جهل (فَاعْتِلُوهُ) فتلتلوه ، ويقال : فسوقوه واذهبوا به (١)(إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)) إلى وسط النار (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ) على رأسه (مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨)) من ماء حار بعد ما يضرب رأسه بمقامع الحديد (ذُقْ) يا أبا جهل (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) فى قومك (الْكَرِيمُ (٤٩)) عليهم ، ويقال : إنك أنت العزيز المتعزز فى قومك الكريم المتكرم عليهم (إِنَّ هذا) يعنى العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)) تشكون فى الدنيا أنه لا يكون (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من الكفر والشرك والفواحش ، يعنى أبا بكر وأصحابه (فِي مَقامٍ) مكان (أَمِينٍ (٥١)) من الموت ، والزوال والعذاب (فِي جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ (٥٢)) أنهار الخمر والماء واللبن والعسل.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) ما لطف من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) وما ثخن من الديباج (مُتَقابِلِينَ (٥٣)) فى الزيارة (كَذلِكَ) هكذا مقام المؤمنين فى الجنة (وَزَوَّجْناهُمْ) قررناهم فى الجنة (بِحُورٍ) بجوار بيض (عِينٍ (٥٤)) عظام الأعين حسان الوجوه (يَدْعُونَ فِيها) يتمنون ويسألون فى الجنة ، ويقال : يتعاطون فى الجنة (بِكُلِّ فاكِهَةٍ) بألوان كل فاكهة (آمِنِينَ (٥٥)) من الموت والزوال والعذاب (لا يَذُوقُونَ فِيهَا) فى الجنة (الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) بعد موتهم فى الدنيا (وَوَقاهُمْ) رفع عنهم ربهم (عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦)) عذاب النار (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) منا من ربك ، ويقال : عطاء من ربك (ذلِكَ) المن (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)) النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من النار (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) يقول : هونا عليك قراءة القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨)) لكى يتعظوا بالقرآن (فَارْتَقِبْ) فانتظر هلاكهم يوم بدر (٢)(إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)) منتظرون هلاكك ، فأهلكهم الله يوم بدر.

__________________

(١) انظر : معانى القرآن للفراء (٣ / ٤٣) ، وتفسير الطبرى (٢٥ / ٨٠) ، وتفسير غريب ابن قتيبة (٤٠٣).

(٢) منسوخ بآية السيف عند ابن البارزى ، والفيروزآبادى فى البصائر (١ / ٤٢٤) ، وقال ابن الجوزى فى المصفى (٢١٢ ، وزاد المسير (٧ / ٣٥٣) : ليست منسوخة بل محكمة.

٢٩٩

سورة الجاثية

ومن السورة التى يذكر فيها الجاثية (١) ، وهى مكية كلها

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، فى قوله تعالى وتقدس : (حم (١)) يقول : قضى ما هو كائن أى بين ، ويقال : قسم أقسم به (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) إن هذا الكتاب تكليم (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمِ (٢)) أمر أن لا يعبد غيره ، ويقال : العزيز فى ملكه وسلطانه ، الحكيم فى أمره وقضائه (إِنَّ فِي السَّماواتِ) ما فى السموات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وَالْأَرْضِ) وما فى الأرض من الشجر والجبال والبحار وغير ذلك (لَآياتٍ) لعلامات وعبرا (لِلْمُؤْمِنِينَ (٣)) المصدقين فى إيمانهم (وَفِي خَلْقِكُمْ) فى تحويل أحوالكم حالا بعد حال آية وعبرة لكم (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) وفيما خلق من ذوى الأرواح (آياتٌ) علامات وعبر (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)) يصدقون (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فى تقليب

__________________

(١) وتسمى بسورة الشريعة أيضا.

٣٠٠