التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

والتسبيح عبارة عن تنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل ما لا يليق به ، والعشى والإبكار ، قيل صلاة العصر وصلاة الفجر. وقيل : الإبكار عبارة عن أول النهار إلى النصف. والعشى عبارة عن النصف إلى آخر النهار ، فيدخل فيه كل الأوقات ، وبالجملة فالمراد منه المواظبة على ذكر الله. وأن لا يفتر اللسان عنه .. (١).

ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى توبيخ الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة أو برهان ، وتبين الأسباب التي حملتهم على ذلك ، وترشد إلى العلاج من شرورهم ، وتنفى المساواة بين الكافر والمؤمن ، وتدعو المؤمنين إلى الإكثار من التضرع إلى الله ـ تعالى ـ فتقول :

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠)

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٢١.

٣٠١

والمراد بالمجادلة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ..) المجادلة بالباطل بدون حجة أو دليل ، أما المجادلة لإحقاق الحق والكشف عنه .. فهي محمودة ، لأنها تهدى إلى الخير والصلاح.

قال صاحب الكشاف : فأما الجدال في آيات الله ، لإيضاح ملتبسها ، وحل مشكلها ، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله .. (١).

وجملة (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) خبر إن ، والكبر بمعنى التكبر والتعالي والتعاظم على الغير.

والمعنى : إن الذين يجادلون في آيات الله ـ تعالى ـ الدالة على وحدانيته وصدق رسله ، وليس عندهم دليل أو برهان على صحة دعواهم ..

هؤلاء المجادلون بالباطل ما حملهم على ذلك إلا التكبر والتعاظم والتطلع إلى الرياسة وإلى أن تكون النبوة فيهم أو فيمن يميلون إليهم .. وهم جميعا لن يصلوا إلى شيء من ذلك ، ولن يبلغوا ما تتوق إليه نفوسهم المريضة ، لأن العطاء والمنع بيد الله ـ تعالى ـ وحده.

وصدق الله إذ يقول : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

فالآية الكريمة تبين أن على رأس الأسباب التي حملت هؤلاء المجادلين بالباطل على جدالهم. هو حبهم للتكبر والتعالي ...

قال الآلوسى : قوله : (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ...) أى : بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته ـ تعالى ـ وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة ، للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين ، لا بد من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين ، وهذا عام في كل مجادل مبطل ..

وقوله : (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) صفة لقوله (كِبْرٌ) أى ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضية ، وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة .. (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). إرشاد منه ـ تعالى ـ إلى ما يقي من شرور هؤلاء المجادلين بالباطل.

أى : هذا هو حال المجادلين بالباطل وهذا هو الدافع إلى جدالهم ، وما دام هذا هو حالهم ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٥٠.

(٢) سورة فاطر آية ٢.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٧٨.

٣٠٢

فالتجئ إلى الله ـ تعالى ـ أيها الرسول الكريم ـ لكي يحفظك من شرورهم وكيدهم ، إنه ـ تعالى ـ هو السميع لكل شيء ، البصير بما ظهر وخفى من شئون عباده.

ثم بين ـ سبحانه ـ للناس من طريق المشاهدة صغر حجمهم بالنسبة إلى بعض خلقه ـ تعالى ـ فيقول : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

أى : لخلق السموات والأرض ابتداء وبدون مثال سابق ، أكبر وأعظم من خلق الناس. ومما لا شك فيه أن من قدر على خلق الأعظم ، فهو على خلق ما هو أقل منه أقدر وأقدر ، ولكن أكثر الناس لاستيلاء الغفلة والهوى عليهم ، لا يعلمون هذه الحقيقة الجلية. وقوله ـ تعالى ـ (أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) إنما هو من باب تقريب الأشياء إلى الفهم. فمن المعروف بين الناس أن معالجة الشيء الكبير أشد من معالجة الشيء الصغير. وإن كان الأمر بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ لا تفاوت بين خلق الكبير وخلق الصغير ، إذ كل شيء خاضع لإرادته كما قال ـ سبحانه ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف اتصل قوله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) بما قبله؟.

قلت : إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث. وهو أصل المجادلة ومدارها ، فحجّوا بخلق السموات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقهم ، وبأنهما خلق عظيم لا يقادر قدره ، وخلق الناس بالقياس إلى خلقهما شيء قليل ، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما. كان على خلق الإنسان مع ضآلته أقدر .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ...) نفى لعدم المساواة بين الأخيار والأشرار. والمتقين والفجار ..

أى : كما أنه لا يصح في عرف أى عاقل المساواة بين الأعمى والبصير. كذلك لا تصح المساواة بين المؤمنين الذين قدموا في دنياهم العمل الصالح ، وبين الكافرين والفاسقين الذين لطخوا حياتهم بالعمل السيئ ، والفعل القبيح ..

ولفظ «قليلا» في قوله ـ تعالى ـ (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) مفعول مطلق ، وهو صفة لموصوف محذوف ، و «ما» مزيدة للتأكيد. أى تذكرا قليلا تتذكرون.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٧٤.

٣٠٣

ثم أكد ـ سبحانه ـ مجيء الساعة في الوقت الذي يختاره ـ تعالى ـ فقال : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أى : لا ريب ولا شك في مجيئها في الوقت الذي يشاؤه ـ عزوجل ـ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بذلك لغفلتهم وقصور نظرهم ، واستحواذ الشيطان عليهم ..

ثم أمر ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين أن يكثروا من التضرع اليه بالدعاء فقال : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...).

أى : وقال ربكم ـ أيها المؤمنون ـ تضرعوا إلى بالدعاء ، وتقربوا إلى بالطاعات ، أستجب لكم ، ولا أخيب لكم رجاء.

ولا تنافى بين تفسير الدعاء هنا بالسؤال والتضرع إلى الله ـ تعالى ـ ، وبين تفسيره بالعبادة ، لأن الدعاء هو لون من العبادة ، بل هو مخها كما جاء في الحديث الشريف.

والإنسان الذي التزم في دعائه الآداب والشروط المطلوبة ، كان دعاؤه جديرا بالإجابة ، فقد حكى لنا القرآن الكريم في آيات كثيرة ، أن الأنبياء والصالحين ، عند ما دعوا الله ـ تعالى ـ أجاب لهم دعاءهم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة الذين يتكبرون عن طاعة الله وعن دعائه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أى : إن الذين يستكبرون عن طاعتي ، وعن التقرب إلى بما يرضيني ، سيدخلون يوم القيامة نار جهنم حالة كونهم أذلاء صاغرين.

فقوله : (داخِرِينَ) من الدخور بمعنى الانقياد والخضوع يقال : دخر فلان يدخر دخورا إذا ذل وهان.

هذا ، وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التي تتصل بموضوع الدعاء فارجع إليه إن شئت (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مصير الذين يستكبرون عن عبادته ، أتبع ذلك ببيان ألوان من النعم التي أنعم بها على عباده ، كنعمة السماء والأرض ، ونعمة خلق الإنسان ورزقه من

__________________

(١) لمعرفة آداب الدعاء وشروطه وفضله .. راجع كتابنا «الدعاء» طبع مجمع البحوث الإسلامية.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٤٢.

٣٠٤

الطيبات ، ونعمة الليل والنهار .. فقال ـ تعالى ـ :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨)

٣٠٥

فقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) بيان لنعمتي الليل والنهار اللتين أنعم بهما ـ سبحانه ـ على الناس.

أى : الله ـ تعالى ـ هو وحده الذي جعل لكم ـ أيها الناس ـ الليل لتسكنوا فيه ، وتستريحوا من عناء العمل بالنهار وهيأه لهذه الاستراحة بأن جعله مظلما ساكنا ...

وجعل لكم بقدرته وفضله النهار مبصرا ، أى : جعله مضيئا مسفرا ، بحيث تبصرون فيه ما تريدون إبصاره من الأشياء المتنوعة.

قال صاحب الكشاف : قوله : (مُبْصِراً) هو من الإسناد المجازى لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار.

فإن قلت : لم قرن الليل بالمفعول له ، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما. فيراعى حق المقابلة؟

قلت : هما متقابلان من حيث المعنى ، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر ، ولأنه لو قال : لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازى ، ولو قيل : ساكنا ـ والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ، الا ترى إلى قولهم : ليل ساج وساكن لا ريح فيه ـ لم تتميز الحقيقة من المجاز (١).

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) بيان لموقف أكثر الناس من نعم الله ـ تعالى ـ عليهم.

أى : إن الله ـ تعالى ـ لصاحب فضل عظيم على الناس جميعا ، ولكن أكثرهم لا يشكرونه على آلائه ونعمه ، لغفلتهم وجهلهم واستيلاء الأهواء والشهوات عليهم.

وقال ـ سبحانه ـ (لَذُو فَضْلٍ) بالتنكير للإشعار بأنه فضل لا تحيط به عبارة أو وصف.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ..) يعود إلى من سبقت صفاته ونعمه وهو الله ـ عزوجل ـ.

و (ذلِكُمُ) مبتدأ ، وما بعده أخبار متعددة.

أى : ذلكم الذي أعطاكم من النعم ما أعطاكم هو الله ـ تعالى ـ ربكم خالق كل شيء في هذا الوجود. لا إله إلا هو في هذا الكون ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٧٦.

٣٠٦

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تعجيب من انصرافهم ـ بعد هذه النعم ـ عن الحق إلى الباطل ، وعن الشكران إلى الكفران.

أى : فكيف تنقلبون عن عبادته ـ سبحانه ـ إلى عبادة غيره ، مع أنه ـ عزوجل ـ هو الخالق لكل شيء ، وهو صاحب تلك النعم التي تتمتعون بها.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) بيان لحال الذين وقفوا من نعم الله ـ تعالى ـ موقف الجحود والكفران.

ويؤفك هنا : بمعنى القلب والصرف عن الشيء ، من الأفك ـ بالفتح ـ مصدر أفكه عن الشيء بمعنى صرفه عنه ـ وبابه ضرب ـ ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ...) أى : لتصرفنا عن عبادتها.

والمعنى : مثل ذلك الصرف العجيب من الحق إلى الباطل ، ينصرف وينقلب كل أولئك الذين انتكست عقولهم ، والذين كانوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا يجحدون ويكفرون.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مظاهر نعمه عن طريق الزمان ـ الليل والنهار ـ أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان ـ الأرض والسماء ـ فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أى : جعل لكم الأرض مكانا لاستقراركم عليها ، والسعى فيها.

(وَالسَّماءَ بِناءً) أى : وجعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم ، فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد.

قال الآلوسى قوله : (وَالسَّماءَ بِناءً) أى : قبة ، ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب. وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه ، وهو تشبيه بليغ. وفيه إشارة لكرويتها. وهذا بيان لفضله ـ تعالى ـ المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان (١).

وقوله : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بيان لفضله ـ تعالى ـ المتعلق بذواتهم.

أى : جعل لكم الأرض مستقرا ، والسماء بناء ، وصور أشكالكم في أحسن تقويم. وأجمل هيئة. كما قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أى : ورزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أى : ذلكم الذي أعطاكم تلك النعم المتعلقة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٨٣.

٣٠٧

بزمانكم. ومكانكم. وذواتكم. ومطعمكم ومشربكم. هو الله ربكم الذي تولاكم بتربيته ورعايته في جميع أطوار حياتكم. فتبارك الله ـ تعالى ـ وتعاظم في ذاته وفي صفاته. فهو رب العالمين ومالك أمرهم.

(هُوَ الْحَيُ) أى : هو ـ سبحانه ـ المنفرد بالحياة الدائمة الباقية ..

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موجود يدانيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

(فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : فاعبدوه عبادة خالصة لوجهه الكريم ، وأطيعوه طاعة لا مكان معها للتردد أو التكاسل ، حالة كونكم قائلين : الحمد لله رب العالمين.

قال ابن جرير : كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله ، أن يتبعها بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عملا بهذه الآية (١).

ثم لقن الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرد الذي يوبخ به المشركين فقال : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي ...).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين الذين يطلبون منك مشاركتهم في عبادة آلهتهم : قل لهم إنى نهيت من ربي وخالقي ومالك أمرى عن عبادة غيره ـ تعالى ـ ، والسبب في ذلك أن كل الدلائل والبراهين التي أكرمنى ـ سبحانه ـ بها ، تشهد وتصرح بأن المستحق للعبادة هو الله ـ تعالى ـ وحده.

فقوله : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) بيان السبب الذي من أجله نهاه ربه عن عبادة غيره ، وهذه البينات تشمل دلائل التوحيد العقلية والنقلية.

وقوله (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أى : إنى بعد أن نهاني ربي عن عبادة غيره ، أمرنى بأن أسلم وجهى إليه بالعبادة والطاعة ، إذ هو وحده رب العالمين ومالك أمرهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته في خلق الإنسان في أطوار مختلفة ، فقال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أى : خلق أباكم آدم من تراب ، وأنتم فرع عنه.

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وأصل النطفة : الماء الصافي. أو القليل من الماء الذي يبقى في الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف. يقال : نطفت القربة إذا تقاطر ماؤها بقلة.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٢٤ ص ٥٣.

٣٠٨

والمراد بها هنا : المنى الذي يخرج من الرجل ، ويصب في رحم المرأة ، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) والعلقة قطعة من الدم المتجمد.

(ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أى : ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا صغارا ، بعد أن تكامل خلقكم فيها. فقوله : (طِفْلاً) اسم جنس يصدق على القليل والكثير.

ثم (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) بعد ذلك ، بعد أن تنتقلوا من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التي تكتمل فيها أجسامكم وعقولكم.

(ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) بعد ذلك ، بأن تصلوا إلى السن التي تتناقص فيها قوتكم والجملة الكريمة معطوفة على قوله (لِتَبْلُغُوا) ، أو معمولة لمحذوف كالجمل التي تقدمتها ، أى : ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أى : ومنكم من يدركه الموت من قبل أن يدرك سن الشيخوخة ، أو سن الشباب ، أو سن الطفولة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) معطوف على مقدر. أى : فعل ذلك بكم لكي تعيشوا ، ولتبلغوا أجلا مسمى تنتهي عنده حياتكم ، ثم تبعثون يوم القيامة للحساب. والجزاء.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أى : ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه هو الذي يحييكم يوم القيامة كما أماتكم ، وكما أنشأكم من تلك الأطوار المتعددة وأنتم لم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الزاخرة بكثير من النعم بقوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي يُحْيِي) من يريد إحياءه (وَيُمِيتُ) من يشاء إماتته.

(فَإِذا قَضى أَمْراً) أى : فإذا أراد إبراز أمر من الأمور إلى هذا الوجود (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ) أى لهذا الأمر (كُنْ فَيَكُونُ) في الحال بدون توقف على سبب من الأسباب ، أو علة من العلل.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يسلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من المشركين ، بأن بين له سوء عاقبتهم يوم القيامة ، وبأن أمره بالصبر على كيدهم ، وبشره بأن العاقبة ستكون له ولأتباعه .. فقال ـ تعالى ـ :

٣٠٩

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) للتعجب من أحوال هؤلاء المشركين. حيث أنكروا الحق الواضح وانساقوا وراء الأوهام والأباطيل.

والمعنى : انظر ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى أحوال المشركين ، وتعجب من سلوكهم

٣١٠

الذميم ، حيث جادلوا في الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته بدون علم أو حجة.

وقوله : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أى : انظر كيف يصرفون عن آيات الله الموجبة للإيمان بها. إلى الجحود والتكذيب والجدال بالباطل فيها؟

لقد كان من المنتظر منهم أن يهتدوا إلى الحق بعد أن وصل إليهم .. ولكنهم عموا وصموا عنه. لانطماس بصائرهم ، واستحواذ الشيطان عليهم.

وقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ ..) بدل من قوله (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ).

أى : تعجب من هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الكريم. الذي أنزلناه إليك ـ يا محمد ـ لتخرجهم به من الظلمات إلى النور.

وكذبوا ـ أيضا ـ (بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب والمعجزات. فهم لم يكتفوا بالتكذيب بك بل أضافوا إلى ذلك تكذيبهم بكل كتاب ورسول.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد شديد لهم على تكذيبهم بالرسل وبكتبهم ، أى : فسوف يعلمون سوء عاقبة تكذيبهم لأنبياء الله ـ تعالى ـ ولكتبه التي أنزلها عليهم.

ثم فصل ـ سبحانه ـ هذا الوعيد ، وبين ما أعده لهم من عذاب فقال : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ).

و «إذ» هنا ظرف بمعنى «إذا» وهو متعلق بيعلمون ، وعبر ـ سبحانه ـ بالظرف الدال على المضي ، للدلالة على تحقق الخبر ، حتى لكأن العذاب قد نزل بهم فعلا.

والأغلال : جمع غل ـ بضم الغين ـ وهو القيد يوضع في اليد والعنق فيجمعهما.

والسلاسل : جمع سلسلة ، وهي ما يربط بها الجاني على سبيل الإذلال له.

والحميم : الماء البالغ أقصى درجات الحرارة.

ويسجرون : مأخوذ من سجر التنور ، إذا ملأه بالوقود.

والمعنى : فسوف يعلمون سوء عاقبة تكذيبهم وجدالهم بالباطل يوم القيامة ، وقت أن توضع الأغلال والقيود في أعناقهم ، ثم يسحبون ويجرون إلى الحميم بعنف وإهانة ، ثم يلقى بهم في النار التي تمتلئ بهم ، ويكونون وقودا لها.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : وهل قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ ..) إلا مثل قولك : سوف أصوم أمس؟.

٣١١

قلت : المعنى على إذا ، إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله ـ تعالى ـ متيقنة مقطوعا بها ، عبر عنها بلفظ ما كان ووجد. والمعنى على الاستقبال .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تبكيت وتأنيب لهم.

أى : ثم قيل بعد هذا العذاب المهين لهم : أين تلك الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله ، لكي تدفع عنكم شيئا من العذاب الأليم الذي نزل بكم؟.

وقوله (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ...) حكاية لجوابهم الذي يدل على حسرتهم وبؤسهم.

أى : قالوا : ذهبوا وضاعوا وغابوا عنا ولم نعد نعرف لهم طريقا ، ولا هم يعرفون عنا طريقا ، ثم أضربوا عن هذا القول توهما منهم أن هذا الإضراب ينفعهم فقالوا : بل لم نكن نعبد من قبل في الدنيا شيئا يعتد به ، وإنما كانت عبادتنا لتلك الآلهة أوهاما وضلالا ..

وقوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أى مثل هذا الضلال البين والتخبط الواضح ، يضل الله ـ تعالى ـ الكافرين ، ويجعلهم يتخبطون في إجابتهم على السائلين لهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أدت بهم الى هذا العذاب المهين فقال : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ، ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) وقوله : (تَمْرَحُونَ) من المرح وهو التوسع في الفرح مع الأشر والبطر.

أى : ذلكم الذي نزل بكم من العذاب ، بسبب فرحكم وبطركم في الأرض بالباطل ، وبسبب مرحكم وأشركم وغروركم فيها.

وحق عليكم أن يقال لكم بسبب ذلك : ادخلوا أبواب جهنم المفتوحة أمامكم ، حالة كونكم خالدين فيها خلودا أبديا ، فبئس (مَثْوَى) أى : مكان (الْمُتَكَبِّرِينَ) عن قبول الحق جهنم.

وقال ـ سبحانه ـ (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ولم يقل فبئس مدخل المتكبرين ، للإشارة إلى خلودهم في جهنم ، إذ الثواء معناه الإقامة الدائمة ، مأخوذ من ثوى فلان بالمكان إذا أقام به إقامة دائمة.

ثم ذكر الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوصية بالصبر فقال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٧٨.

٣١٢

فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ).

وقوله : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) أصله : فإن نرك ، فزيدت «ما» لتوكيد «إن» الشرطية ، وجوابها محذوف ، وقوله (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) جوابه (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ).

والمعنى : إذا كان حال هؤلاء المشركين كما ذكرنا لك يا محمد ، فاصبر على جدالهم بالباطل ، إن وعد الله ـ تعالى ـ بتعذيبهم وبنصرك عليهم حق.

فإن نرك بعض الذي نعدهم به من القتل والأسر والهزيمة فبها ونعمت ، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا مرجعهم يوم القيامة ، فنجازيهم بما يستحقون من عقاب.

فالآية الكريمة تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمداومة الصبر ، وتحض على تبليغ ما أنزل إليه من ربه بدون كلل أو ملل ، ثم بعد ذلك يترك النتائج لله ـ تعالى ـ يسيرها كيف يشاء ، فإما أن يطلعه على ما توعد به أعداءه ، وإما أن يتوفاه قبل ذلك.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ تسلية أخرى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً ...) أى : رسلا كثيرين (مِنْ قَبْلِكَ) أى من قبل إرسالك إلى الناس.

(مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) كنوح وهود وصالح وإبراهيم. وغيرهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أخبارهم وأحوالهم لأن حكمتنا قد اقتضت ذلك.

كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٢).

والمراد بالآية في قوله ـ تعالى ـ (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) المعجزة الخارقة الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

أى : وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى بمعجزة من عند نفسه ، وإنما يأتى بها بإذن الله ـ تعالى ـ ومشيئته ، إذ المعجزات جميعا عطايا من الله ـ تعالى ـ لرسله لتأييدهم في دعوتهم.

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٤٠.

(٢) سورة النساء الآية ١٦٤.

٣١٣

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) أى : فإذا جاء الوقت الذي حدده ـ سبحانه ـ لعذاب أعدائه (قُضِيَ بِالْحَقِ) أى : قضى بين الناس جميعا بالحق ، فينجى ـ سبحانه ـ بقضائه العادل عباده المؤمنين.

(وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أى : وخسر ـ عند مجيء أمر الله ، عند القضاء بين خلقه ـ المبطلون ، وهم الذين ماتوا مصرين على كفرهم أو فسوقهم عن أمره.

وكما قال ـ تعالى ـ في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ في أواخر هذه السورة الكريمة ، جانبا آخر من نعمه على عباده ، ووبخ الفاسقين على عدم اعتبارهم بأحوال من سبقهم من الأمم ، وهددهم بأنهم عند مجيء العذاب إليهم لن ينفعهم إيمانهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ

٣١٤

مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥)

وقوله ـ تعالى ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ ..) بيان لنعمة أخرى من نعمه التي تتعلق بما سخره ـ سبحانه ـ لخدمة الإنسان من دواب ، بعد بيانه قبل لكثير من النعم التي تتعلق بالليل والنهار ، والسماء والأرض ... إلخ.

والأنعام : جمع نعم ، وأطلق على الإبل والبقر والغنم ، قالوا والمراد بها هنا : الإبل خاصة : لأن معظم المنافع التي ذكرت هنا توجد فيها.

أى : الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق لكم بقدرته الإبل (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أى لتركبوا بعضا منها ، ولتأكلوا بعضا آخر منها. فمن في الموضعين للتبعيض.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أخرى غير الأكل وغير الركوب ، كالانتفاع بألبانها وأوبارها وجلودها ...

(وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أى : ومن منافعها ـ أيضا ـ أنكم تستعملونها في الأمور الهامة كحمل الأثقال ، والانتقال عليها من مكان إلى مكان ..

كما قال ـ تعالى ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

(وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أى : وعلى هذه الإبل في البر وعلى السفن في البحر تحملون.

كما قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (٢).

هذا ، ولا مانع من أن يكون المراد بالأنعام هنا ما يشمل الإبل والبقر والغنم ، وإلى هذا المعنى ذهب الإمام ابن كثير ، فقد قال : يقول ـ تعالى ـ ممتنا على عباده بما خلق لهم من الأنعام! وهي : الإبل والبقر والغنم ، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ، ويحمل عليها الأثقال في

__________________

(١) سورة النحل الآية ٧.

(٢) سورة الزخرف الآية ١٢.

٣١٥

الأسفار والرحال إلى البلاد النائية ، والأقطار الشاسعة ، والبقر تؤكل ويشرب لبنها ، وتحرث عليها الأرض ، والغنم تؤكل ويشرب لبنها ، والجميع تجز أوبارها وأصوافها وأشعارها. فيتخذ منه الأثاث والثياب والأمتعة ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) تعجب من غفلتهم عن هذه الآيات المبثوثة في الكون. والتي تدل جميعها على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته.

ولفظ «أى» منصوب بقوله «تنكرون» وقدم وجوبا لأن له صدر الكلام.

أى : أنه ـ سبحانه ـ في كل وقت وحين يريكم آياته الدالة على قدرته ووحدانيته ، فقولوا لي. أية تلك الآيات تنكرون دلالتها على ذلك.

إنها جميعا تنطق وتصرح بوجوب إخلاص العبادة لله ـ عزوجل ـ فكيف جحدتموها أو غفلتم عنها مع وضوحها؟

فالآية الكريمة توبيخ شديد لأولئك الذين استحبوا العمى على الهدى مع أن كل شيء في هذا الكون يدعوهم إلى الإيمان بالله الواحد القهار.

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ مرة أخرى لعدم اتعاظهم بمصارع الغابرين فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..).

أى : أقبعوا في بيوتهم. فلم يسيروا في أقطار الأرض. فينظروا كيف كانت عاقبة الأمم المكذبة من قبلهم ، كقوم صالح وقوم لوط ، وقوم شعيب وغيرهم.

فالاستفهام للتوبيخ والتأنيب ، والفاء في قوله : (أَفَلَمْ ..) للعطف على مقدر.

ثم فصل ـ سبحانه ـ حال الذين كانوا من قبل كفار مكة فقال : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أى : في العدد (وَأَشَدَّ قُوَّةً) أى في الأبدان والأجسام (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أى : وكانوا أظهر منهم في العمران والحضارة والغنى.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أى أن هؤلاء الغابرين عند ما حل بهم عذابنا لم تغن عنهم شيئا كثرتهم أو قوتهم أو أموالهم ... بل أخذناهم أخذ عزيز مقتدر في زمن يسير.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف هؤلاء الجاحدين من رسلهم فقال : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ..).

أى : فحين جاء الرسل إلى هؤلاء الجاهلين ، فرحوا بما لديهم من العلوم الدنيوية كالتجارة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٤٧.

٣١٦

والزراعة .. واغتروا بتلك القشور التي كانوا يسمعونها ممن كانوا يزعمون أنهم على شيء من العلم الديني ، واستهزءوا بما جاءهم به الرسل من علوم تهدى إلى الرشد ، وتدعو إلى إخلاص العبادة لله. واعتقدوا ـ لغبائهم ـ وانطماس بصائرهم ـ أنه لا علم أنفع من علومهم ففرحوا بها ..

ورحم الله صاحب الكشاف فقد فصل القول عند تفسيره لهذه الآية فقال : قوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فيه وجوه :

منها : أنه أراد العلم الوارد على سبيل التهكم في قوله ـ تعالى ـ : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب.

ومنه : أن يريد علم الفلاسفة والدهريين عن بنى يونان ، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله : دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم.

ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال ـ تعالى ـ (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات .. لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها ، واعتقدوا أنه لا أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به» (١).

ويبدو لنا أن هذا الرأى الأخير الذي ذكره صاحب الكشاف ، هو أقرب الآراء إلى الصواب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) بيان لما نزل بهم من عذاب بسبب تكذيبهم لرسلهم ، واستهزائهم بهم. أى : ونزل بهؤلاء الكافرين العذاب الأليم بسبب استهزائهم برسلهم ، وإعراضهم عن دعوتهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند ما أحاط بهم العذاب فقال : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أى عاينوا عذابنا النازل بهم.

(قالُوا) بفزع وخوف (آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أى : وكفرنا بما كنا به مشركين في الدنيا من عبادة لغير الله ـ تعالى ـ واعتماد على سواه.

وقد بين ـ سبحانه ـ أن إيمانهم هذا لن ينفعهم لأنه جاء في غير وقته فقال (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) شيئا من النفع لأنه إيمان جاء عند معاينة العذاب ، والإيمان الذي يدعى في هذا

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٨١.

٣١٧

الوقت لا قيمة له ، لأنه جاء في وقت الاضطرار لا في وقت الاختيار.

ولفظ «سنة» في قوله ـ تعالى ـ : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ..) منصوب على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف.

أى : سن الله ـ تعالى ـ ذلك ، وهو عدم نفع الإيمان عند حلول العذاب سنة ماضية في الناس ، بحيث لا تتخلف في أى زمان أو مكان.

(وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أى : في هذا الوقت الذي ينزل الله ـ تعالى ـ فيه العذاب على الكافرين يخسرون كل شيء ، بحيث لا تنفعهم لا أموالهم ولا أولادهم ولا آلهتهم التي كانوا يتوهمون شفاعتها.

وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة «غافر» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده :

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ـ

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر ـ مساء الثلاثاء

٩ من المحرم سنة ١٤٠٦

٢٤ / ٩ / ١٩٨٥ م

٣١٨

تفسير

سورة فصّلت

٣١٩
٣٢٠