التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «فصلت» هي السورة الحادية والأربعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة «غافر».

وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ثنتان وخمسون آية في المصحف البصري والشامي ، وثلاث وخمسون في المصحف المكي والمدني ، وأربع وخمسون في المصحف الكوفي. وسورة «فصلت» تسمى ـ أيضا بسورة السجدة ، وحم السجدة ، وبسورة المصابيح ، وبسورة الأقوات (١).

٢ ـ والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها في مطلعها تمدح القرآن الكريم : وتذكر موقف المشركين منه ومن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يكبتهم ، وتهددهم بالعذاب الأليم.

قال ـ تعالى ـ : (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ).

٣ ـ ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، عن طريق بيان خلقه للأرض وما اشتملت عليه من جبال وأقوات ، وعن طريق خلق السماء بطبقاتها المتعددة ، وعن طريق تزيين السماء الدنيا بمصابيح وحفظها.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

٤ ـ وبعد أن هدد الله ـ تعالى ـ مشركي مكة بالعذاب الذي أصاب من قبلهم قوم عاد

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٩٤.

٣٢١

وثمود ، وفصل لهم موقف هؤلاء الأقوام من رسلهم وكيف أنهم عند ما كذبوا رسلهم واستحبوا العمى على الهدى ، أخذتهم صاعقة العذاب الهون ..

بعد كل ذلك تحدثت عن أحوالهم السيئة يوم يحشرون للحساب يوم القيامة ، وكيف أن حواسهم تشهد عليهم في هذا اليوم العصيب.

ولنتدبر قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ، قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

٥ ـ وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس ، وفي بيان عاقبة الأخيار والأشرار ، أتبعت السورة الحديث عن المشركين وسوء عاقبتهم ، بالحديث عن المؤمنين وحسن مصيرهم ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).

٦ ـ ثم ساقت سورة «فصلت» أنواعا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٧ ـ ثم أخذت السورة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إقامة الأدلة الساطعة على أن هذا القرآن من عند الله.

قال ـ تعالى ـ : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

٨ ـ ثم ختم ـ سبحانه السورة الكريمة ، ببيان أن مرد علم قيام الساعة إليه ـ تعالى ـ وحده ، وببيان طبيعة الإنسان في حالتي اليسر والعسر ، وببيان أن حكمته ـ سبحانه ـ اقتضت أن يطلع الناس في كل وقت على بعض من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته. قال

٣٢٢

ـ تعالى ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).

٩ ـ وبعد : فهذا عرض إجمالى لسورة فصلت ، ومنه نرى : أنها اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وبأن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ ، وبأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، وبأن يوم القيامة حق لا ريب فيه.

كما اهتمت بالحديث عن مصارع الغابرين الذين استحبوا العمى على الهدى وببيان أحوالهم يوم القيامة ... وببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأحسنوا القول والدعوة إلى الله ... بأحسن البشارات وأفضلها ..

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات : وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

صباح الأربعاء : ١٠ من المحرم ١٤٠٦ ه‍

٢٥ / ٩ / ١٩٨٥ م

د. محمد سيد طنطاوى

٣٢٣

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)

سورة «فصلت» من السور التي بدئت ببعض حروف التهجي.

والرأى الراجح في هذه الحروف أنها جيء بها للإيقاظ والتنبيه على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ ، بدليل أنه مؤلف من جنس الحروف التي يتخاطب بها المشركون ، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله.

وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بيان لمصدر هذا القرآن ، وقوله (تَنْزِيلٌ) خبر لمبتدأ محذوف.

٣٢٤

أى : هذا القرآن ليس أساطير الأولين ـ كما زعم الجاحدون الجاهلون ـ وإنما هو منزل من عند الله ـ تعالى ـ صاحب الرحمة العظيمة الدائمة.

إذ لفظ «الرحمن» بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، أما صيغة فعيل فتستعمل في الصفات الدائمة ككريم ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : هذا الكتاب منزل من الله ـ تعالى ـ العظيم الرحمة الدائمة.

قال بعض العلماء : وإنما خص هذان الوصفان بالذكر ، لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية. فكان أعظم النفع من الله على هذا العالم إنزال القرآن الناشئ عن رحمته ولطفه بخلقه (١).

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على هذا القرآن الذي أنزله بمقتضى رحمته وحكمته فقال : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَنَذِيراً).

ومعنى : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) : ميزت في ألفاظها بفواصل ومقاطع ، وميزت في معانيها لاشتمالها على أنواع متعددة من المعاني الحكيمة.

وقوله (قُرْآناً) منصوب على المدح ، أو على الحال من كتاب ، و (عَرَبِيًّا) صفة للقرآن.

وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) متعلق بفصلت.

أى : هذا القرآن منزل من عند الله ـ تعالى ـ الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهو كتاب فصلت آياته ووضحت وميزت من حيث ألفاظها تفصيلا بليغا ، إذ اشتملت على فواصل ومقاطع فيما بينها ليسهل فهمه وحفظه.

وفصلت آياته من حيث معانيها تفصيلا حكيما. إذ بعضها جاء لبيان ذاته وصفاته وأفعاله ـ تعالى ـ ، وبعضها اشتمل على ألوان من نعمه التي لا تحصى ، وبعضها جاء بأسمى أنواع الهدايات والآداب والأحكام والقصص والمواعظ ، وبعضها جاء لتبشير المؤمنين بحسن الثواب ، ولإنذار الكافرين بسوء العقاب.

وخص ـ سبحانه ـ الذين يعلمون بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما اشتمل عليه هذا الكتاب من تفصيل لآياته شامل لألفاظها ومعانيها.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٨.

٣٢٥

قال صاحب الكشاف : قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي ، لا يلتبس عليهم شيء منه.

فإن قلت : بم يتعلق قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)؟

قلت : يجوز أن يتعلق بتنزيل ، أو بفصلت ، أى : تنزيل من الله لأجلهم. أو فصلت آياته لهم. وأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أى : قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب ؛ لئلا يفرق بين الصلات والصفات .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) بيان لموقف الناس من هذا القرآن المنزل من الرحمن الرحيم.

والمراد بالأكثر هنا : الكافرون الذين لا ينتفعون بهدايات القرآن الكريم.

أى : هذا القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، فأعرض أكثرهم عن هداياته لاستحواذ الشيطان عليهم ، فهم لا يسمعون سماع تدبر واتعاظ ، وإنما يسمعون بقلوب قاسية ، وعقول خالية من إدراك معانيه ، ومن الاستجابة له.

ونفى ـ سبحانه ـ سماعهم له ، مع أنهم كانوا يسمعون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أصحابه ، لأنهم لما سمعوه ولم يؤمنوا به .. صار سماعهم بمنزلة عدمه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ أقوالهم التي تدل على توغلهم في الكفر والعناد فقال : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ، والأكنة : جمع كنان وهو الغطاء للشيء. و (وَقْرٌ) الصمم الذي يحول بين الإنسان وبين سماع ما يقال له.

والحجاب : من الحجب بمعنى الستر لأنه يمنع المشاهدة ، ومنه قيل للبواب حاجب ، لأنه يمنع من الدخول.

أى : وقال الكافرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل تيئيسه من إيمانهم : إن قلوبنا قد كستها أغطية متكاثفة جعلتها لا تفقه ما تقوله لنا ، وما تدعونا إليه ، وإن آذاننا فيها صمم يحول بيننا وبين سماع حديثك ، وإن من بيننا ومن بينك حاجزا غليظا يحجب التواصل والتلاقي بيننا وبينك ، وما دام حالنا وحالك كذلك فاعمل ما شئت فيما يتعلق بدينك ، ونحن من جانبنا سنعمل ما شئنا فيما يتعلق بديننا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٨٤.

٣٢٦

وهذه الأقوال التي حكاها القرآن عنهم ، تدل على أنهم قوم قد بلغوا أقصى درجات الجحود والعناد : فقلوبهم قد أغلقت عن إدراك الحق ، وأسماعهم قد صمت عن سماعه ، وأشخاصهم قد أبت الاقتراب من شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يحمل لهم الخير والنور ، وما حملهم على ذلك إلا اتباعهم للهوى والشيطان.

وصدق الله إذ يقول : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

ثم لقن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يرد به عليهم فقال : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاحدين : إنما أنا بشر مثلكم في الصفات البشرية أوجدنى الله ـ تعالى ـ بقدرته كما أوجدكم ، وينتهى نسبي ونسبكم إلى آدم ـ عليه‌السلام ـ إلا أن الله ـ تعالى ـ قد اختصني بوحيه ورسالته ـ وهو أعلم حيث يجعل رسالته ـ وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم وخالقكم .. هو إله واحد لا شريك له ، فعليكم أن تخلصوا له العبادة والطاعة.

وقوله : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أى : فالزموا الاستقامة في طريقكم إليه ـ تعالى ـ بالإيمان به وطاعته والإخلاص في عبادته.

وقوله ـ تعالى ـ : (.. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تهديد لهم بسوء المصير إذا استمروا على عنادهم وشركهم.

والويل : لفظ دال على الشر أو الهلاك ، وهو مصدر لا فعل له من لفظه ، والمراد به هنا : الدعاء عليهم بالخزي والهلاك.

أى : فهلاك وخزي وعقاب شديد لهؤلاء المشركين ، الذين لا يؤتون الزكاة ، أى : لا يؤمنون بها ، ولا يخرجونها إلى مستحقيها ، ولا يعملون على تطهير أنفسهم بأدائها .. وفضلا عن كل ذلك فهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب كافرون.

قال ابن كثير : والمراد بالزكاة ها هنا : طهارة النفس من الأخلاق المرذولة ..

وقال قتادة : يمنعون زكاة أموالهم ، واختاره ابن جرير ..

وفيه نظر ، لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة ، وهذه الآية مكية. اللهم إلا أن يقال : لا يبعد أن يكون أصل الزكاة ـ وهو الصدقة ـ كان مأمورا به في ابتداء البعثة ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين

٣٢٧

أمرها في المدينة ، ويكون هذا جمعا بين القولين .. (١).

وقال بعض العلماء : قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، لأنه ـ تعالى ـ صرح في هذه الآية الكريمة ، بأنهم مشركون ، وأنهم كافرون بالآخرة ، وقد توعدهم ـ سبحانه ـ بالويل على كفرهم بالآخرة ، وعدم إيتائهم الزكاة ، سواء أقلنا إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة ، أو زكاة الأبدان عن طريق فعل الطاعات ، واجتناب المعاصي.

ورجع بعضهم ـ أن المراد بالزكاة هنا زكاة الأبدان ـ لأن السورة مكية وزكاة المال المعروفة إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة.

وعلى أية حال فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام.

أعنى امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وما دلت عليه هذه الآية من أنهم مخاطبون بذلك ، وأنهم يعذبون على الكفر والمعاصي ، جاء موضحا في آيات أخر كقوله ـ تعالى ـ : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ..) (٢).

وخص ـ سبحانه ـ من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة. لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله للمحتاجين ، فذلك أقوى دليل على استقامته ، وصدق نيته.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) بيان لحسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين.

أى : إن الذين آمنوا إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات ، لهم أجر عظيم غير (مَمْنُونٍ) أى غير مقطوع عنهم ، من مننت الحبل إذا قطعته ، أو غير منقوص عما وعدهم الله به ، أو غير ممنون به عليهم ، بل يعطون ما يعطون من خيرات جزاء أعمالهم الصالحة في الدنيا ، فضلا من الله ـ تعالى ـ وكرما.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخ هؤلاء المشركين على إصرارهم على

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٥٣.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٧ ص ١١٤ للشيخ محمد أمين الشنقيطى.

٣٢٨

كفرهم ، مع أن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ الماثلة أمام أعينهم تدعوهم إلى الإيمان ، فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ(٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢)

قال الإمام الرازي ما ملخصه : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للناس : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ...) أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه ـ تعالى ـ وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية ، وذلك بأن بين كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض في مدة قليلة .. والاستفهام في قوله (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ ...) بمعنى الإنكار ، وهو لإنكار شيئين : الكفر بالله .. وجعل الأنداد له (١).

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين على سبيل الإنكار لأفعالهم : أإنكم لتكفرون بالله ـ تعالى ـ الذي خلق الأرض في يومين.

قال الآلوسى : وإن واللام في قوله (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) لتأكيد الإنكار .. وعلق ـ سبحانه ـ كفرهم بالاسم الموصول لتفخيم شأنه ـ تعالى ـ واستعظام كفرهم به.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٤٠.

٣٢٩

واليوم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق ، وأريد منه ها هنا الوقت مطلقا ، لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ، ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ، ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر ، والأقل أنسب بالمقام .. (١).

قال سعيد بن جبير ـ رضى الله عنه ـ إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يخلق هذا الكون كله في لحظة ، ولكنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ليعلم خلقه التثبت والتأنى في الأمور.

وقوله : (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) معطوف على قوله (لَتَكْفُرُونَ) وداخل معه في حكم الإنكار.

والأنداد : جمع ند وهو مثل الشيء يضاده وينافره ويتباعد عنه. وأصله من ند البعير إذا نفر وذهب على وجهه شاردا.

أى : وتجعلون له أمثالا ونظراء تعبدونها من دونه ، وتسمونها ـ زورا وكذبا ـ آلهة ، وجمع ـ سبحانه ـ الأنداد باعتبار واقعهم ، لأنهم كانوا يعبدون آلهة شتى ، فمنهم من عبد الأصنام ، ومنهم من عبد الملائكة ، ومنهم من عبد الكواكب.

واسم الإشارة في قوله (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) يعود إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة.

أى : ذلك الموصوف بتلك القدرة الباهرة ، رب العالمين جميعا ، وخالق جميع المخلوقات ، والمتولى لتربيتها دون سواه.

وقوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ..) معطوف على (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ).

والرواسي : جمع راس من الرسو ـ بفتح الراء وسكون السين ـ بمعنى الثبات والاستقرار في المكان ، يقال : رسا الشيء إذا ثبت واستقر. وهو صفة لموصوف محذوف.

أى : وجعل فيها جبالا رواسى من فوقها ، لكي تستقر وتثبت ، ولا تميد أو تضطرب بكم. وقال ـ تعالى ـ : (مِنْ فَوْقِها) لبيان الواقع ، إذ وجود الجبال من فوق الأرض ، ومشاهدة الإنسان لذلك بعينيه ، يزيده اقتناعا بقدرة الله ـ تعالى ـ الباهرة وحكمته البليغة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٩٩.

٣٣٠

(وَبارَكَ فِيها) أى : وجعلها مباركة زاخرة بأنواع الخيرات والمنافع ، عن طريق الزروع والثمار المبثوثة فوقها ، والمياه التي تخرج من جوفها. والكنوز التي تحصل من باطنها.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) والأقوات : جمع قوت. والمراد بها أرزاق أهل الأرض وما يصلحهم.

أى : وجعل أقوات أهلها التي يحتاجون إليها في معايشهم ومنافعهم ، على مقادير محددة معينة ، بحيث نشر في كل قطر من أقطارها أقواتا تناسب أهله ، وبذلك يتبادل الناس المنافع فيما بينهم ، فيعمر الكون ، ويزيد الاتصال والتعارف فيما بينهم.

قال ابن جرير : بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى هذه الآية : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه قدر في الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش. ولم يخصص ـ جل ثناؤه ـ بقوله (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أنه قدر فيها قوتا دون قوت ، بل عم الخبر عن تقديره جميع الأقوات .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) متعلق بمحذوف يدل ، عليه ما قبله.

أى : خلق الأرض ، وجعل فيه رواسى من فوقها ، وبارك فيها. وقدر فيها أقواتها في تمام أربعة أيام ، فتكون المدة التي خلق فيها الأرض وما عليها أربعة أيام.

وقوله ـ سبحانه ـ : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) تأكيد لما دلت عليه الآية الكريمة من أن خلق كل من الأرض وما فيها وما عليها قد حدث في أربعة أيام.

قال الآلوسى : وقيدت الأيام الأربعة بقوله : (سَواءً) فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة الأيام. أى : ـ في أربعة أيام ـ استوت سواء ، أى : استواء.

وقوله ـ تعالى ـ : (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف ، أى : هذا الحصر في أربعة ، كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض ، وما فيها .. (٢).

وقال الجمل في حاشيته : فإن قيل لم جعلت مدة خلق الأرض بما فيها ، ضعف مدة خلق السموات ، مع كون السماء أكبر من الأرض وأكثر مخلوقات وعجائب؟

قلت : للتنبيه على أن الأرض هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين ومن كثرة المنافع ، فزادت مدتها ليكون ذلك أدخل في المنة على ساكنيها ، وللاعتناء بشأنهم وشأنها ـ أيضا ـ

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٢٤ ص ٦٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ١٠١.

٣٣١

زادت مدتها لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمعالجات .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر قدرته في خلق السماء ، فقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ..).

ومعنى استوائه ـ سبحانه ـ إلى السماء ، ارتفاعه إليها بلا كيف أو تشبيه أو تحديد ، لأنه ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك.

والدخان : ما ارتفع من لهب النار. والمراد به هنا : ما يرى من بخار الأرض أو بخار الماء ويصح أن يكون معنى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : تعلقت إرادته ـ تعالى ـ بخلقها.

قال الآلوسى : قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أى : قصد إليها وتوجه ، دون إرادة تأثير في غيرها ، من قولهم : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه لا يلوى على غيره ..

وقوله : (وَهِيَ دُخانٌ) أى أمر ظلماني ، ولعله أريد بها مادتها التي منها تركبت. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ...) بيان لما وجهه ـ سبحانه ـ إليهما من أوامر.

والمراد بإتيانهما : انقيادهما التام لأمره ـ تعالى ـ.

أى : فقال ـ سبحانه ـ للسماء وللأرض أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد ، فأنت يا سماء ، أبرزى ما خلقت فيك من شمس وقمر ونجوم .. وأنت يا أرض أخرجى ما خلقت فيك من نبات وأشجار وكنوز.

قال الفخر الرازي : والمقصود من هذا القول : إظهار كمال القدرة ، أى : ائتيا شئتما أم أبيتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أم لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال ، بمعنى طائعين أو مكرهين .. (٣).

وقوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) بيان لامتثالهما التام لأمره ـ تعالى ـ.

أى : قالتا : فعلنا ما أمرتنا به منقادين خاضعين مستجيبين لأمرك ، فأنت خالقنا وأنت مالك أمرنا.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ١٠٢.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٥٣.

٣٣٢

قال القرطبي : وقوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فيه وجهان : أنه تمثيل لظهور الطاعة منهما ، حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما. ومنه قول الراجز :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا ملأت بطني

يعنى : ظهر ذلك فيه.

وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله ـ تعالى ـ فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد ـ سبحانه ـ (١).

وجمعهما ـ سبحانه ـ جمع من يعقل ، لخطابهما بما يخاطب به العقلاء.

ثم فصل ـ سبحانه ـ بديع صنعه في خلق السموات فقال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ...). أى : ففرغ من خلقهن وتسويتهن على أبدع صورة وأحكم صنع في مقدار يومين.

والضمير في قوله (فَقَضاهُنَ) إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات ، وإما مبهم يفسره ما بعده وهو سبع سموات.

وقوله : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أى : وأوحى في كل منها ما أراده وما أمر به ، وخلق فيها ما اقتضته حكمته من الملائكة ومن خلق لا يعلمه إلا هو ـ سبحانه ـ.

وقوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) أى : وزينا السماء الدنيا أى القريبة منكم ـ بكواكب مضيئة ، وحفظناها حفظا عظيما من الاختلال والاضطراب والسقوط (ذلِكَ) الذي ذكرناه لكم من خلق السموات والأرض ، وخلق ما فيهما.

(تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أى : تقدير الله ـ القاهر ـ لكل شيء. والعليم بما ظهر وبما بطن في هذا الكون.

وقد أخذ العلماء من هذه الآيات الكريمة أن خلق الأرض وما عليها من جبال ومن أقوات للعباد قد تم في أربعة أيام ، وأن خلق السموات كان في يومين فيكون مجموع الأيام التي خلق الله ـ تعالى ـ فيها السموات والأرض وما بينهما ستة أيام.

وقد جاء ذلك في آيات متعددة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) .. (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٤٤.

(٢) سورة الأعراف الآية ٥٤.

٣٣٣

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ..) (١).

كما أخذ العلماء منها ـ أيضا ـ : أن خلق الأرض متقدم على خلق السموات بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد حديثه عن خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان.

وبدليل قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٢).

وعلى هذا الرأى سار جمهور العلماء ، وردوا على من قال بأن خلق السموات متقدم على خلق الأرض ، لأن الله ـ تعالى ـ يقول في سورة النازعات : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أى : بسطها.

ردوا عليهم بما روى عن ابن عباس من أنه سئل عن الجمع بين الآيات التي معنا ، وبين آيات سورة النازعات فقال : إنه ـ تعالى ـ خلق الأرض أولا غير مدحوة ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغيرهما.

أى : أن أصل خلق الأرض كان قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها كان بعد خلق السماء ، وردوا عليهم ـ أيضا ـ بأن لفظ «بعد» في قوله ـ تعالى ـ (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) بمعنى مع أى : والأرض مع ذلك بسطها ومهدها لسكنى أهلها فيها. وردوا عليهم ـ أيضا ـ بأنه ـ تعالى ـ لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أهل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه قد خلق بالفعل لوجود أصله فيها.

قال بعض العلماء : والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، ـ وإن لم يكن موجودا بالفعل ـ قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...).

فقوله : (خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أى : بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم (٣).

كما أخذ منها العلماء أن وجود هذا الكون ، بتلك الصورة البديعة ، المتمثلة في هذه الأرض

__________________

(١) سورة ق الآية ٣٨.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٩.

(٣) أضواء البيان ج ٧ ص ١٠٢ للشيخ الشنقيطى.

٣٣٤

وما أقلت. وفي هذه السموات وما أظلت .. من أكبر الأدلة التي تحمل العقلاء على إخلاص العبادة لله الواحد القهار.

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله في هذا الكون ، انتقلت السورة إلى تهديد المشركين ، وإنذارهم بأن عاقبتهم ستكون كعاقبة الظالمين الذين سبقوهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨)

ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات والتي قبلها روايات تتعلق بما بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين بعض المشركين ، منها ما ذكره محمد بن كعب القرظي قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة قال يوما لقريش ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها.

٣٣٥

فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة فقال : «يا محمد ، يا بن أخى ، إنك منا حيث قد علمت من السلطة ـ أى من الشرف ـ في العشيرة وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها.

ثم قال : إن كنت ـ يا بن أخى ـ تريد ما لا أعطيناك من المال حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد ملكا جعلناك ملكا علينا .. وإن كان الذي يأتيك رئيا تراه ـ أى ترى بعض الجن ـ طلبنا لك الطب حتى تبرأ.

فلما فرغ عتبة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم. قال : «فاسمع منى» قال : افعل. فتلا عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول سورة «فصلت».

ـ وفي رواية أنه لما بلغ قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ...) قال له عتبة : حسبك ما عندك غير هذا.

ثم عاد عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : لقد جاءكم عتبة بوجه غير الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا له : ما وراءك يا أبا الوليد؟

فقال : لقد سمعت من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة. يا معشر قريش ، أطيعونى واجعلوها لي ، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ.

فقالوا : لقد سحرك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدا لكم» (١).

فقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) تهديد لهؤلاء المشركين ، بعد أن وضح الحق لهم في أكمل صورة ..

والصاعقة ـ كما يقول ابن جرير ـ : كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه. حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل ، يكون مصعوقا .. (٢).

والمراد بها هنا : العذاب الشديد الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على قوم عاد ثمود فصعقهم وأهلكهم.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٥٢.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٩٠.

٣٣٦

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين لقد أقمت لكم الأدلة الناصعة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى عظيم قدرته ، وعلى أنى رسول من عنده ، وصادق فيما أبلغه عنه.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن دعوتك ، ولجوا في طغيانهم ، واستمروا في كفرهم وعنادهم.

(فَقُلْ) لهم على سبيل التحذير : لقد (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ).

وخص ـ سبحانه ـ عادا وثمود بالذكر ، لأن مشركي قريش يعرفون ما جرى لهؤلاء الظالمين. إذ قوم عاد كانوا بالأحقاف ـ أى بالمكان المرتفع الكثير الرمال ـ في جنوب الجزيرة العربية ورسولهم هو هود ـ عليه‌السلام ـ.

وأما ثمود فهم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ ، ومساكنهم كانت بشمال الجزيرة العربية ، وما زالت آثارهم باقية ، وأهل مكة كانوا يمرون عليها في طريقهم إلى بلاد الشام للتجارة.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) يعود إلى قوم عاد وثمود.

والمراد بالرسل : هود وصالح ـ عليهما‌السلام ـ من باب إطلاق الجمع على الاثنين ، أو من باب إدخال من آمن بهما معهما في المجيء إلى هؤلاء الأقوام لدعوتهم إلى عبادة الله وحده.

وقوله : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ ...) حال من قوله (صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وقوله (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق بجاءتهم.

والمراد بالجملة الكريمة : أن الرسل بذلوا كل جهدهم في إرشاد قوم عاد وثمود إلى الحق ولم يتركوا وسيلة إلا اتبعوها معهم وبينوا لهم بأساليب متعددة حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين.

وقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بيان لما نصح به الرسل أقوامهم و «أن» يصح أن تكون مصدرية ، أى : بأن لا تعبدوا إلا الله ، ويصح أن تكون مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف. أو تفسيرية لأن مجيء الرسل يتضمن قولا.

أى جاء الرسل إلى قوم عاد وثمود بكل دليل واضح على وجوب إخلاص العبادة لله ، ولم يتركوا وسيلة إلا اتبعوها معهم ، وقالوا لهم : اجعلوا عبادتكم لله ـ تعالى ـ وحده.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ...).

٣٣٧

أى : أتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم ، واعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض ، كما حكى الله ـ تعالى ـ عن الشيطان أنه قال : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ...) يعنى لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة.

وعن الحسن : أنذروهم بعذاب الله الدنيوي والأخروى.

وقيل معناه : إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم ، بمعنى أن هودا وصالحا قد أمروهم بالإيمان بهما وبجميع الرسل الذين من قبلهم والذين من بعدهم ، فكأن الرسل جميعا قد جاءوهم (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) حكاية للرد السيئ الذي رد به قوم عاد وثمود على رسلهم.

ومفعول المشيئة محذوف أى : قال هؤلاء الكافرون لرسلهم على سبيل التكذيب لهم ، والتهكم بهم. أنتم لستم رسلا ، ولو شاء الله ـ تعالى ـ أن يرسل إلينا رسلا لأرسل ملائكة ، ومادام الأمر كذلك فإنا بما أرسلتم به ـ أيها الرسل ـ كافرون ، وإلى ما تدعونا إليه مكذبون.

والسبب الذي حمل هؤلاء الجاهلين على هذا القول : زعمهم أن الرسل لا يكونون من البشر ، مع أن كل عقل سليم يؤيد أن الرسول لا يكون إلا من البشر كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ..).

ثم فصل ـ سبحانه ـ بعد ذلك حال كل فريق منهم ، وبين ما نزل به من عذاب مهين فقال : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ...)

أى. هذا هو قولهم على سبيل الإجمال لرسلهم ، وإليك جانبا من حال قوم عاد ، ومن أقوالهم الباطلة.

إنهم قد استكبروا في الأرض بغير الحق. واغتروا بما بين أيديهم من نعم ، وقالوا على سبيل التباهي والتفاخر والتكبر : من أشد منا قوة.

وقيد استكبارهم في الأرض بأنه بغير الحق. لبيان واقعهم ، حيث كانوا كما وصفهم الله ـ تعالى ـ في آيات أخرى متجبرين متعالين على غيرهم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٩١.

٣٣٨

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ).

الاستفهام في قوله ـ تعالى ـ الذي حكاه عنهم (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) للإنكار والنفي.

أى : لا أحد أقوى منا ، فنحن في استطاعتنا أن ندفع كل عذاب ينزل بنا ، وهذا هو الشعور الكاذب الذي يشعر به الطغاة الجاهلون في كل زمان ومكان.

وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم وعلى أمثالهم ردا منطقيا حكيما يخرس ألسنتهم فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

أى : أعموا وصموا عن الحق ، ولم يعلموا أن الله ـ تعالى ـ الذي أوجدهم من العدم ، هو ـ سبحانه ـ أشد منهم قوة وبأسا.

إنهم لغرورهم وجهالاتهم نسوا كل ذلك ، وكانوا بآياتنا الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا يجحدون ، ويعاندون وينكرون الحق الذي جاءتهم به رسلهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما نزل بهم من عذاب بسبب إصرارهم على كفرهم ، وبسبب غرورهم وبطرهم فقال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ، لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...).

ولفظ «صرصرا» من الصر ـ بفتح الصاد ـ وهو شدة الحر ، أو من الصر ـ بكسر الصاد ـ وهو شدة البرد الذي يقبض البدن ، أو من الصرة التي هي الصيحة المزعجة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ...) أى : في صيحة.

ولا مانع من أن تكون هذه الريح التي أرسلها الله ـ تعالى ـ عليهم ، قد اجتمع فيها الصوت الشديد المزعج ، والبرد الشديد القاتل.

وقوله : (نَحِساتٍ) جمع نحسة ـ بفتح النون وكسر الحاء ـ صفة مشبهة من نحس ـ كفرح وكرم ـ ضد سعد.

أى : فأرسلنا على قوم عاد ريحا شديدة الهبوب والصوت ، وشديدة البرودة أو الحرارة في أيام نحسات أو مشئومات نكدات عليهم بسبب إصرارهم على كفرهم وفعلنا ذلك معهم لنذيقهم العذاب المخزى لهم في الحياة الدنيا.

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أى : أشد خزيا وإهانة لهم من عذاب الدنيا.

(وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أى : وهم لا يجدون أحدا يدفع عنهم هذا العذاب بحال من الأحوال.

٣٣٩

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، حال ثمود وما نزل بهم من عذاب فقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ...).

أى : وأما قوم ثمود الذين أرسلنا إليهم نبينا صالحا ، فبينا لهم عن طريقه سبيل الرشاد وسبيل الغي. فالمراد بالهداية هنا : البيان والإرشاد والدلالة على الخير.

(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أى : فاختاروا الكفر على الإيمان ، وآثروا الغي على الرشد.

فالمراد بالعمى هنا الكفر والضلال ، والمراد بالهداية الإيمان والطاعة.

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أى : فكانت نتيجة إيثارهم الكفر على الإيمان ، وتصميمهم على ذلك .. أن أنزلنا عليهم الصاعقة التي أهلكتهم ، والعذاب المبين الذي أبادهم ، بسبب ما اكتسبوه من ذنوب وقبائح.

وقد حكى ـ سبحانه ـ ما أنزله بعاد وثمود من عذاب في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (١).

وقد ذكر بعضهم أن الأيام النحسات التي نزل فيها العذاب على قوم عاد ، كانت في أواخر شهر شوال ، وأن أولها كان في يوم الأربعاء ، وآخرها ـ أيضا ـ كان في يوم الأربعاء ، ولذا صار بعض الناس يتشاءم من هذا اليوم.

والحق أن ما ذكروه في هذا الشأن لا دليل عليه ، ولا يلتفت إليه ، وأن ما أصاب هؤلاء إنما كان بشؤم كفرهم ومعاصيهم.

قال بعض العلماء بعد أن ذكر بعض الآثار التي ذكروها في أن يوم الأربعاء يوم نحس : «فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه ، لأن أغلبها ضعيف ، وما صح معناه منها فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ فضله على المؤمنين ، ورحمته بهم فقال : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) أى ونجينا الذين آمنوا من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.

__________________

(١) سورة الحاقة الآيات من ٤ ـ ٧.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٧ ص ١٢٤ للشيخ الشنقيطى.

٣٤٠