التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم ، لا جرم بدأ فرعون يذكر الدين فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن سمع من فرعون تهديداته له ، وتطاوله عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ).

وقوله (عُذْتُ) بمعنى استجرت ولجأت. يقال : عاذ فلان بفلان واستعاذ به ، إذا لجأ إليه. واستجار به.

أى : وقال موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه على سبيل التثبيت لهم على الحق يا قوم. إنى استجرت وتحصنت بربي وربكم من شر كل مستكبر عن الإيمان بالحق ، كافر بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب.

وفي هذا القول الذي قاله موسى لقومه : يتجلى صدق إيمانه ، وقوة يقينه ووثوقه برعاية الله ـ تعالى ـ له ، كما يتجلى فيه حرصه على نصحه لقومه بالثبات على الحق ، لأن الله ـ تعالى ـ الذي هو ربه وربهم ، كفيل برعايته ورعايتهم وبانجائه وبإنجائهم من فرعون وملئه ، كما يتجلى فيه أن الاستكبار عن اتباع الحق ، والتكذيب بالبعث ، على رأس الأسباب التي تعين على قسوة القلب ، وفساد النفس.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (وَرَبِّكُمْ) فيه بعث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال : (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) لتشمل استعاذته من فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض ، فيكون أبلغ. وأراد بالتكبر : الاستكبار عن الإذعان للحق ، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ، ومهانة نفسه ، وعلى فرط ظلمه وعسفه.

وقال : (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده. ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها .. (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٠٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٦١.

٢٨١

وخلال هذا الوعيد والتهديد من فرعون وملئه لموسى ـ عليه‌السلام ـ ، قيض الله ـ تعالى ـ لموسى رجلا مؤمنا من آل فرعون كان يخفى إيمانه. هذا الرجل أخذ يدافع عن موسى دفاعا حكيما مؤثرا ، يحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، والإرشاد تارة والتأنيب أخرى .. ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ

٢٨٢

مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥)

قال الإمام الرازي : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى عن موسى ـ عليه‌السلام ـ أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله ، بين أنه ـ تعالى ـ قيض إنسانا أجنبيا غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه ، وبالغ في تسكين تلك الفتنة ، واجتهد في إزالة ذلك الشر.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : يقول مصنف هذا الكتاب : ولقد جربت في أحوال نفسي أنه كلما قصدني شرير بشر ولم أتعرض له ، وأكتفى بتفويض ذلك الأمر إلى الله ، فإنه ـ سبحانه ـ يقيض أقواما لا أعرفهم ألبتة. يبالغون في دفع ذلك الشر .. (١).

وظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا الرجل المؤمن كان من حاشية فرعون بدليل قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ولم يكن من بنى إسرائيل.

وقد رجح ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ ذلك فقال : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي : القول الذي قاله السدى من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون ، ولذا فقد أصغى لكلامه واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله .. ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له ولملئه بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن يستنصح بنى إسرائيل لاعتداده إياهم أعداء له .. ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع إليه ، وكف فرعون عما كان قد هم به من قتل موسى .. (٢).

قالوا : وهذا الرجل المؤمن هو الذي نصح موسى ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٠٤.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٢٤ ص ٣٨.

٢٨٣

وكان اسمه «حزقيل» أو «حبيب».

أى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون وحاشيته ، وكان يكتم إيمانه عنهم ، حتى لا يصيبه أذى منهم ، فعند ما سمع فرعون يقول : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى). قال لهم : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ).

أى : أتقتلون رجلا لأنه يقول ربي الله وحده ، وقد جاءكم بالحجج البينات ، وبالمعجزات الواضحة من عند ربكم ، كدليل على صدقه فيما يبلغه عنه.

فقوله : (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) في موضع المفعول لأجله. أى : أتقتلونه من أجل قوله هذا. وجملة (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) حالية من فاعل يقول وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والمقصود بهذا الاستفهام : الإنكار عليهم والتبكيت لهم ، حيث قصدوا قتل رجل كل ذنبه أنه عبد الله ـ تعالى ـ وحده وقد جاءهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صحة فعله وقوله.

قال الإمام ابن كثير : وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) فأخذت الرجل غضبة لله ـ تعالى ـ و «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال :

حدثنا على بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعى ، حدثني عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرنى بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفناء الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا. فأقبل أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم (١).

وقال القرطبي : وعن على ـ رضى الله عنه ـ قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث : فأرادوا قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل هذا يجؤه ـ أى يضربه ـ ، وهذا يتلتله ـ أى : يحركه تحريكا شديدا ـ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ هذا ويتلتل ذا ، ويقول بأعلى صوته : ويلكم .. أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، والله إنه لرسول

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٣١.

٢٨٤

الله ، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ (١).

ثم يحكى القرآن الكريم أن ذلك الرجل المؤمن ، لم يكتف بالإنكار على قومه قصدهم موسى بالقتل بل أخذ في محاولة إقناعهم بالعدول عن هذا القصد بشتى الأساليب والحجج فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ..).

أى : أنه قال لهم : إن كان موسى ـ على سبيل الفرض ـ كاذبا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شيء ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله ، فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به من سوء عاقبة مخالفة ما أتاكم به من عند ربه ..

فأنت ترى أن الرجل كان في نهاية الحكمة والإنصاف وحسن المنطق ، في مخاطبته لقومه ، حيث بين لهم أن الأمر لا يخرج عن فرضين ، وكلاهما لا يوجب قصد موسى ـ عليه‌السلام ـ بالقتل.

ورحم الله صاحب الكشاف. فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال ما ملخصه : وقوله : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ...) هذا إنكار عظيم منه ، وتبكيت شديد لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله (رَبِّيَ اللهُ) ..

ثم أخذ في الاحتجاج عليهم على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن يك كاذبا فعليه يعود كذبه ولا يتخطاه ضرره ، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم به إن تعرضتم له.

فإن قلت : لم قال : (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) وهو ـ أى موسى ـ نبي صادق ، لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟

قلت : لأنه احتجاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه ، إلى أن يلاوصهم ـ أى يحايلهم ـ ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول ويأتيهم من جهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) وهو كلام المصنف في مقاله ، غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقا ، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ، ولكنه أردفه بقوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٠٨.

٢٨٥

بكلام من أعطاه حقه وافيا ، فضلا عن أن يتعصب له ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل .. (١).

ثم أرشد الرجل المؤمن الحصيف قومه إلى سنة من سنن الله التي لا تتغير فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).

أى : إن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أنه ـ سبحانه ـ لا يهدى الى الحق والصواب ، من كان مسرفا في أموره ، متجاوزا الحدود التي شرعها الله ـ تعالى ـ ومن كان كذابا في إخباره عن الله ـ تعالى ـ ، ولو كان موسى مسرفا أو كذابا ، لما أيده الله ـ تعالى ـ بالمعجزات الباهرة. وبالحجج الساطعة الدالة على صدقه.

فالجملة الكريمة إرشاد لهم عن طريق خفى إلى صدق موسى فيما يبلغه عن ربه ، وتعريض بما عليه فرعون من ظلم وكذب.

قال الجمل في حاشيته : فالجملة الكريمة كلام ذو وجهين نظرا لموسى وفرعون.

الوجه الأول : أن هذا إشارة الى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى ، والمعنى : إن الله هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا ولا كذابا.

الوجه الثاني : أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى. وكاذب في ادعائه الألوهية ، والله لا يهدى من كان كذلك .. (٢).

ثم أخذ في تذكيرهم بنعم الله عليهم ، وفي تحذيرهم من نقمه فقال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا).

أى : وقال الرجل المؤمن لقومه ـ أيضا ـ : يا قوم ، أى : يا أهلى ويا عشيرتي ، أنتم اليوم لكم الملك ، حالة كونكم ظاهرين ، أى : غالبين ومنتصرين في أرض مصر ، عالين فيها على بني إسرائيل قوم موسى.

وإذا كان أمرنا كذلك ، فمن يستطيع أن ينصرنا من عذاب الله ، إن أرسله علينا ، بسبب عدم شكرنا له ، واعتدائنا على خلقه.

وإنما نسب إليهم ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض دون أن يسلك نفسه معهم ، وسلك نفسه معهم في موطن التحذير ، تطييبا لقلوبهم ، وإيذانا بأنه ناصح أمين لهم ، وأنه لا

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٦٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٣.

٢٨٦

يهمه سوى منفعتهم ومصلحتهم ..

وهنا نجد القرآن الكريم يخبرنا بأن فرعون بعد أن استمع إلى نصيحة الرجل المؤمن ، أخذته العزة بالإثم ، وقال ما يقوله كل طاغية معجب بنفسه : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).

أى : قال فرعون لقومه ، في رده على نصيحة الرجل المؤمن : يا قوم لا أشير عليكم ولا أخبركم إلا بما أراه صوابا وخيرا ، وهو أن أقتل موسى ـ عليه‌السلام ـ وما أهديكم برأيى هذا إلا إلى طريق السداد والرشاد.

وغرض فرعون بهذا القول ، التدليس والتمويه على قومه. وأنه ما يريد إلا منفعتهم ، مع أن الدافع الحقيقي لقوله هذا ، هو التخلص من موسى حتى يخلو له الجو في تأليه نفسه على جهلة قومه ، فإنهم كانوا كما قال ـ تعالى ـ في شأنهم : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

ولكن الرجل المؤمن لم يسكت أمام هذا التدليس والتمويه الذي نطق به فرعون ، بل استرسل في نصحه لقومه. وحكى القرآن عنه ذلك فقال : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ..).

أى قال لهم : يا قوم إنى أخاف عليكم إذا تعرضتم لموسى ـ عليه‌السلام ـ بالقتل أو بالتكذيب ، أن ينزل بكم عذاب مثل العذاب الذي نزل على الأمم الماضية التي تحزبت على أنبيائها ، وأعرضت عن دعوتهم ، فكانت عاقبتها خسرا ..

فالمراد بالأحزاب : تلك الأمم السابقة التي وقفت من أنبيائها موقف العداء والبغضاء. وكأن تلك الأمم من حزب ، والأنبياء من حزب آخر ..

والمراد باليوم هنا : الأحداث والوقائع والعقوبات التي حدثت فيه. فالكلام على حذف مضاف.

أى : أخاف عليكم مثل حادث يوم الأحزاب.

وقوله : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) بدل أو عطف بيان من قوله (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ).

والدأب : العادة الدائمة المستمرة يقال : دأب فلان على كذا ، إذا داوم عليه وجد فيه ، ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة.

أى : أخاف عليكم أن يكون حالكم وشأنكم كحال قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم

٢٨٧

كقوم لوط ، فهؤلاء الأقوام كذبوا أنبياءهم فدمرهم الله ـ تعالى ـ تدميرا ، فاحذروا أن تسيروا على نهجهم بأن تقصدوا موسى ـ عليه‌السلام ـ بالقتل أو الإيذاء ، فينزل بكم العذاب مثل ما نزل بهم.

(وَمَا اللهُ) ـ تعالى ـ (يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أى : فما أنزله ـ سبحانه ـ بهم من عذاب ، إنما هو بسبب إصرارهم على شركهم. وعلى الإعراض عن دعوة أنبيائهم ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ثم يواصل الرجل المؤمن تذكير قومه بأهوال يوم القيامة فيقول : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ).

أخاف عليكم يوم القيامة الذي يكثر فيه نداء أهل الجنة لأهل النار. ونداء أهل النار لأهل الجنة ، ونداء الملائكة لأهل السعادة وأهل الشقاوة.

فلفظ «التناد» ـ بتخفيف الدال وحذف الياء ـ تفاعل من النداء ، يقال : تنادى القوم ، إذا نادى بعضهم بعضا ..

وقوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ...) بدل من يوم التناد. أى : أخاف عليكم من أهوال يوم القيامة ، يوم تنصرفون عن موقف الحساب والجزاء فتتلقاكم النار بلهيبها وسعيرها ، وتحاولون الهرب منها فلا تستطيعون. لأنه لا عاصم لكم ولا مانع في هذا اليوم من عذاب الله ـ تعالى ـ وعقابه.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أى : ومن يضلله الله ـ تعالى ـ عن طريق الحق بسبب سوء استعداده ، واستحبابه العمى على الهدى. فما له من هاد يهديه إلى الصراط المستقيم.

وهكذا نجد الرجل المؤمن بعد أن خوف قومه من العذاب الدنيوي ، أتبع ذلك بتخويفهم من العذاب الأخروى.

ثم ذكرهم بعد ذلك بما كان من أسلافهم مع أحد أنبيائهم فقال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً).

والذي عليه المحققون أن المراد بيوسف هنا : يوسف بن يعقوب ـ عليهما‌السلام ـ والمراد بمجيئه إليهم : مجيئه إلى آبائهم ، إذ بين يوسف وموسى ـ عليهما‌السلام ـ أكثر من أربعة قرون ، فالتعبير في الآية الكريمة من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأبناء لسيرهم على منوالهم وعلى طريقتهم في الإعراض عن الحق.

٢٨٨

أى : ولقد جاء يوسف ـ عليه‌السلام ـ إلى آبائكم من قبل مجيء موسى إليكم ، وكان مجيئه إلى آبائكم مصحوبا بالمعجزات والبينات ، والآيات الواضحات الدالة على صدقه.

(فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) أى : فما زال آباؤكم في شك مما جاءهم به من البينات والهدى ، كشأنكم أنتم مع نبيكم موسى ـ عليه‌السلام ـ.

(حَتَّى إِذا هَلَكَ) أى : مات يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

(قُلْتُمْ) أى : قال آباؤكم الذين أنتم من نسلهم (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) فهم قد كذبوا رسالته في حياته ، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته ، لأنهم نفوا أن يكون هناك رسول من بعده.

فأنت ترى أن الرجل المؤمن يحذر قومه من أن يسلكوا مسلك آبائهم ، في تكذيب رسل الله ، وفي الإعراض عن دعوتهم.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) يعنى : أهل مصر ، قد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى ، وهو يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، كان عزيز أهل مصر ، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته القبط ، فما أطاعوه تلك الساعة إلا لمجرد الوزارة. والجاه الدنيوي. ولهذا قال : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أى : يئستم فقلتم طامعين : (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) وذلك لكفرهم وتكذيبهم (١).

وقوله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أى : مثل ذلك الإضلال الفظيع ، يضل الله ـ تعالى ـ من هو مسرف في ارتكاب الفسوق والعصيان ، ومن هو مرتاب في دينه. شاك في صدق رسوله ، لاستيلاء الشيطان والهوى على قلبه.

ثم بين لهم أن غضب الله ـ تعالى ـ شديد ، على الذين يجادلون في آياته الدالة على وحدانيته وعلى كمال قدرته ، وعلى صدق أنبيائه ، بغير حجة أو دليل فقال (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ...).

وقوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ ...) مبتدأ ، وخبره قوله ـ تعالى ـ : (كَبُرَ مَقْتاً ..) والفاعل ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من قوله (يُجادِلُونَ) أى : كبر جدالهم و (مَقْتاً) تمييز محول عن الفاعل ، أى : عظم بغضا جدالهم عند الله وعند المؤمنين.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٣٣.

٢٨٩

أى : الذين يجادلون في آيات الله الدالة على وحدانيته ، وعلى صدق أنبيائه بغير دليل أو برهان أتاهم من الله ـ تعالى ـ عن طريق رسله ، هؤلاء الذين يفعلون ذلك ، كبر وعظم بغضا جدالهم عند الله ـ تعالى ـ وعند الذين آمنوا.

قال الجمل : وهذه الصفة ـ وهي الجدال بالباطل بدون برهان ـ موجودة في فرعون وقومه ، ويكون الرجل المؤمن قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب ، لحسن محاورته لهم ، واستجلاب قلوبهم. وأبرز ذلك في صورة تذكرهم فلم يخصهم بالخطاب.

وفي قوله : (كَبُرَ) ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم (١).

وقوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أى : مثل ذلك الطبع العجيب ، يطبع الله ـ تعالى ـ ويختم بالكفر والعمى على قلب كل إنسان متكبر عن الاستماع للحق ، متطاول ومتجبر على خلق الله ـ تعالى ـ بالعدوان والإيذاء.

ومع هذا النصح الزاخر بالحكم الحكيمة ، والتوجيهات السليمة ، والإرشادات القويمة من الرجل المؤمن لقومه .. ظل فرعون سادرا في غيه ، مصرا على كفره وضلاله .. إلا أن الرجل المؤمن لم ييأس من توجيه النصح بل أخذ يذكر وينذر ويبشر .. ويحكى القرآن الكريم كل ذلك فيقول :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٥.

٢٩٠

دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦)

والمراد بالصرح في قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ...) البناء العالي المكشوف للناس ، الذي يرى الناظر من فوقه ما يريد أن يراه ، مأخوذ من التصريح بمعنى الكشف والإيضاح.

والأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى الشيء ، والمراد بها هنا : أبواب السماء وطرقها ، التي يصل منها إلى ما بداخلها.

أى : وقال فرعون لوزيره هامان : يا هامان ابن لي بناء ظاهرا عاليا مكشوفا لا يخفى على

٢٩١

الناظر وإن كان بعيدا عنه ، لعلى عن طريق الصعود على هذا البناء الشاهق أبلغ الأبواب الخاصة بالسموات ، فأدخل منها فأنظر الى إله موسى.

والمراد بالظن في قوله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) اليقين لقوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (١).

فقوله ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قرينة قوية على أن المراد بالظن في الآيتين : اليقين والجزم ، بسبب غروره وطغيانه.

أى : وإنى لأعتقد وأجزم بأن موسى كاذبا في دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفي دعواه أنه رسول إلينا.

وكرر لفظ الأسباب لأن اللفظ الثاني يدل على الأول ، والشيء إذا أبهم ثم أوضح ، كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها.

وقوله : (فَأَطَّلِعَ) قرأه الجمهور بالرفع عطفا على (أَبْلُغُ) فيكون في حيز الترجي.

وقرأه بعض القراء السبعة بالنصب فيكون جوابا للأمر في قوله : (ابْنِ لِي صَرْحاً ..).

ولا شك أن قول فرعون هذا بجانب دلالته على أنه بلغ الغاية في الطغيان والفجور والاستخفاف بالعقول ، يدل ـ أيضا ـ على شدة خداعه ، إذ هو يريد أن يتوصل من وراء هذا القول إلى أنه ليس هناك إله سواه ولو كان هناك إله سواه لشاهده هو وغيره من الناس.

قال الإمام ابن كثير : وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح ، الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه ، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما قاله ، من أن هناك إلها غير فرعون .. (٢).

وقال الجمل في حاشيته ما ملخصه : وقول فرعون هذا المقصود منه التلبيس والتمويه والتخليط على قومه توصلا لبقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعرف حقيقة الإله ، وأنه ليس في جهة ، ولكنه أراد التلبيس ، فكأنه يقول لهم : لو كان إله موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره في الأرض ، فيبقى أن يكون في السماء ، والسماء لا يتوصل

__________________

(١) سورة القصص آية ٣٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٨.

٢٩٢

إليها إلا بسلم .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مكر فرعون هذا مصيره إلى الخسران فقال : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).

والتباب : الهلاك والخسران ، يقال : تب الله ـ تعالى ـ فلانا ، أى : أهلكه ، وتبت يدا فلان ، أى : خسرتا ومنه قوله ـ سبحانه ـ : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ...).

أى : ومثل ذلك التزيين القبيح ، زين لفرعون سوء عمله ، فرآه حسنا ، لفجوره وطغيانه ، وصد عن سبيل الهدى والرشاد ، لأنه استحب العمى على الهدى. وما كيد فرعون ومكره وتلبيسه واحتياله في إبطال الحق ، إلا في هلاك وخسران وانقطاع.

ثم حكى القرآن الكريم أن الرجل المؤمن قد تابع حديثه ونصائحه لقومه ، بعد أن استمع إلى ما قاله فرعون من باطل وغرور فقال : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ ..) أى : فيما أنصحكم به ، وأرشدكم إليه.

(أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أى : اتبعونى فيما نصحتكم به ، فإن في اتباعكم لي هدايتكم إلى الطريق الذي كله صلاح وسعادة وسداد. أما اتباعكم لفرعون فيؤدى بكم إلى طريق الغي والضلال.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ...) أى : هذه الدنيا متاع زائل مهما طالت أيامه ..

(وَإِنَّ الْآخِرَةَ) وحدها (هِيَ دارُ الْقَرارِ) أى : هي الدار التي فيها البقاء والدوام والخلود.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) في هذه الدنيا (فَلا يُجْزى) في الآخرة (إِلَّا مِثْلَها) كرما من الله ـ تعالى ـ وعدلا.

(وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا.

(فَأُولئِكَ) المؤمنون الصادقون (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أى : يرزقون فيها رزقا واسعا هنيئا ، لا يعلم قدره إلا الله ـ تعالى ـ ، ولا يحاسبهم عليه محاسب. فقد تفضل ـ سبحانه ـ على عباده. أن يضاعف لهم الحسنات دون السيئات.

ثم استنكر موقف قومه منه فقال : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) من العذاب

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٦.

٢٩٣

الدنيوي والأخروى ، بأن آمركم بالإيمان والعمل الصالح ، وأنهاكم عن قتل رجل يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وأنتم (تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) أى : تدعونني لما يوصل إلى النار وهو عبادة غير الله ـ تعالى ـ ، والموافقة على قتل الصالحين أو إيذائهم ..

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟.

قلت : أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم ، وإيقاظ عن سنة الغفلة ، وفيه : أنهم قومه وعشيرته .. ونصيحتهم عليه واجبة ، فهو يتحزن لهم ، ويتلطف بهم ، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه ـ فإن سرورهم سروره ، وغمهم غمه ـ وأن ينزلوا على تنصيحه لهم ، كما كرر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في نصيحة أبيه قوله : (يا أَبَتِ) في سورة مريم.

وأما المجيء بالواو العاطفة في النداء الثالث دون الثاني ، فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل ، وتفسير له فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث : فداخل على كلام ليس بتلك المثابة (١).

وقوله : (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ...) بدل من قوله : (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) وتفسير وبيان له.

أى : أنا أدعوكم إلى النجاة من النار ، وأنتم تدعونني إلى الإشراك بالله ـ تعالى ـ وإلى الكفر به ، مع أنى أعلم علم اليقين أنه ـ سبحانه ـ لا شريك له ، لا في ذاته ولا في صفاته.

وقوله : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) بيان للفرق الشاسع بين دعوته لهم ودعوتهم له.

فهم يدعونه إلى الشرك والكفر ، وإلى عبادة آلهة قد قام الدليل القاطع على بطلانها ، وهو يدعوهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، الغالب لكل ما سواه ، الواسع المغفرة لمن تاب إليه بعد أن عصاه ..

ثم يؤكد لهم بصورة لا تقبل الشك أو التردد أن ما يطلبونه منه هو الباطل وأن ما يطلبه منهم هو الحق فيقول : (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ...).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٦٨.

٢٩٤

وجرم : فعل ماض بمعنى حق وثبت ووجب. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في خمسة مواضع ، وفي كل موضع جاءت متلوة بأنّ واسمها.

وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر. ومعناها بعد هذا التركيب معنى الفعل حق وثبت ، والجملة بعدها هي الفاعل لهذا الفعل ..

ومن النحاة من يرى أن «لا» نافية للجنس ، و «جرم» اسمها ، وما بعدها خبرها.

أى : حق وثبت لدى بما لا يقبل الشك ، أن آلهتكم التي تدعونني لعبادتها آلهة باطلة ، لا وزن لها ولا قيمة لا في الدنيا ولا في الآخرة ..

(وَأَنَّ مَرَدَّنا) جميعا (إِلَى اللهِ) ـ تعالى ـ وحده (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) أى : المستكثرين من المعاصي في الدنيا (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) في الآخرة.

ثم نصح نصائحه الحكيمة الغالية بقوله : فستذكرون يا قوم ما أقول لكم من حق وصدق.

(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ـ تعالى ـ وحده لكي يعصمني من كل سوء.

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) لا يخفى عليه شيء من أقوالهم أو أفعالهم ، وسيجازى يوم القيامة كل نفس بما كسبت.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) بيان للعاقبة الطيبة التي أكرمه الله ـ سبحانه ـ بها بعد صدوعه بكلمة الحق أمام فرعون وجنده ..

أى : فكانت نتيجة إيمان هذا الرجل ، وجهره بكلمة الحق ، ونصحه لقومه ، أن وقاه الله ـ تعالى ـ ما أراده الظالمون به من أذى وعدوان ومن مكر سيئ ..

(وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) أى : ونزل وأحاط بفرعون وقومه (سُوءُ الْعَذابِ) بأن أغرقهم الله ـ تعالى ـ في اليم ، وجعلهم عبرة لمن يعتبر.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم بعد موتهم ، وعند قيام الساعة ، فقال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) .. والغدو : أول النهار. والعشى : آخره ، وجملة : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ..) بدل من قوله ـ تعالى ـ (سُوءُ الْعَذابِ). بعرض أرواح فرعون وملئه على النار بعد موتهم وهم في قبورهم في الصباح والمساء ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يقال لملائكة العذاب : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وهو عذاب جهنم وبئس المصير مصيرهم.

قال القرطبي : والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ واحتج بعض أهل العلم في تثبيت عذاب القبر بقوله ـ تعالى ـ : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) مادامت الدنيا ..

٢٩٥

قال مجاهد وغيره : هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا ألا تراه يقول ـ سبحانه ـ عن عذاب الآخرة : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

وفي الحديث عن ابن مسعود : إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار ، تعرض على النار بالغداة والعشى ، فيقال : هذه داركم .. (١).

هذا ، والمتأمل في هذه الآية الكريمة ، يرى أن القرآن قد ساق على لسان مؤمن آل فرعون ، أسمى الأساليب وأحكمها في الدعوة إلى الحق ، فقد بدأ نصحه بنهي قومه عن قتل موسى ـ عليه‌السلام ـ ثم ذكرهم بنعم الله عليهم ، وبسوء عاقبة الظالمين ، وبأن نعيم الدنيا زائل ، أما نعيم الآخرة فباق ، وبأن ما يدعوهم إليه هو الحق ، وبأن ما يدعونه إليه هو الباطل.

ثم ختم تلك النصائح الغالية بتفويض أمره إلى الله فقال : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فكانت نتيجة هذا التفويض ، أن وقاه الله ـ تعالى ـ من سوء مكر أعدائه ، ونجاه من شرورهم ، وأن جعل مكرهم السيئ يحيق بهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا مما يدور بين أهل النار من مجادلات ، وكيف أن كل فريق منهم يطلب من الملائكة تخفيف العذاب عنه ، ولكن لا يجابون إلى طلبهم ، ولا تقبل معذرتهم ، وأن سنة الله قد اقتضت أن ينصر عباده الصالحين في الدنيا والآخرة قال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣١٨.

٢٩٦

جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥)

و (إِذْ) في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) متعلق بمحذوف تقديره : اذكر ، أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ لقومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن يتخاصم أهل النار فيما بينهم.

(فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) منهم (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في الدنيا وكانوا رؤساء وقادة :

(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أى إنا كنا في الدنيا تابعين لكم ، ومنقادين لهواكم ومسخرين لخدمتكم .. والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) للطلب المصحوب بالرجاء والاستجداء ..

أى : هذا هو حالنا أمامكم ، وقد كنا في الدنيا منقادين لكم انقياد العبد لسيده ، فادفعوا عنا شيئا من هذا العذاب المهين الذي نزل بنا ، فطالما دافعنا عنكم في الدنيا وسرنا وراءكم بدون تفكير أو معارضة ..

٢٩٧

وقوله (نَصِيباً) منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله (مُغْنُونَ) أى : فهل أنتم تدفعون عنا جزءا من العذاب الذي نحن فيه ، وتحملون عنا نصيبا منه.

وهنا يرد عليهم المستكبرون ، بضيق وملل. ويحكى القرآن ذلك فيقول (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أى للضعفاء.

(إِنَّا كُلٌّ فِيها) أى : إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم ، فكيف ندفع عنكم شيئا من العذاب ، وإننا لو كانت عندنا القدرة على دفع شيء من العذاب ، لدفعناه عن أنفسنا.

ولفظ (كُلٌ) مبتدأ ، وفيها متعلق بمحذوف خبر ، والجملة من المبتدأ والخبر ، خبر إن.

وجملة : (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) من جملة الرد ، أى : إن الله ـ تعالى ـ قد حكم بين العباد بحكمه العادل ، فجعل للمؤمنين الجنة ، وجعل للكافرين النار وقدر لكل منا ومنكم عذابا لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا.

وبعد أن يئس الكل من نصرة بعضهم لبعض ، اتجهوا جميعا نحو خزنة جهنم لعلهم يشفعون لهم عند ربهم ، ويحكى القرآن : ذلك فيقول : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ ، لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) وهم الملائكة المكلفون بتعذيب الكافرين.

قالوا لهم : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أى : ادعوا ربكم أن يخفف عنا يوما واحدا من الأيام الكثيرة التي ينزل علينا العذاب فيها بدون انقطاع ، لعلنا في هذا اليوم نستطيع أن نلتقط أنفاسنا التي مزقها العذاب الدائم.

وهنا يرد عليهم خزنة جهنم بقولهم : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى : قالوا لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب : أو لم تك رسلكم في الدنيا تنذركم بسوء مصير الكافرين ، وتأتيكم بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم.

(قالُوا بَلى) أى : الكافرون لخزنة جهنم : بلى أتونا بكل ذلك فكذبناهم.

وهنا رد عليهم الخزنة بقولهم : مادام الأمر كما ذكرتم من أن الرسل قد نصحوكم ولكنكم أعرضتم عنهم (فَادْعُوا) ما شئتم فإن الدعاء والطلب والرجاء لن ينفعكم شيئا.

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أى : وما دعاء الكافرين وتضرعهم إلا في ضياع وخسران.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا ، وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ).

والأشهاد : جمع شاهد ، وعلى رأسهم الأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة بأنهم

٢٩٨

قد بلغوهم دعوة الله ، والملائكة الذين يشهدون للرسل بالتبليغ ، وللمؤمنين بالإيمان وللكافرين بالكفر ، وكل من يقوم يوم القيامة للشهادة على غيره يكون من الأشهاد.

أى : لقد اقتضت سنتنا التي لا تتخلف أن ننصر رسلنا والمؤمنين في الدنيا بالحجة الدامغة التي تزهق باطل أعدائهم ، وبالتغلب عليهم ، وبالانتقام منهم.

وأن ننصرهم في الآخرة كذلك بأن نجعل لهم الجنة ، والنار لأعدائهم.

قال صاحب الكشاف : قوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أى : في الدنيا والآخرة ، يعنى أنه ينصرهم في الدارين جميعا بالحجة والظفر على أعدائهم ، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانا من الله ، فالعاقبة لهم ، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين (١).

وما ذكره صاحب الكشاف فإننا نراه واقعا في سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي سيرة أتباعه فلقد هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة وليس معه سوى أبى بكر الصديق ، وعاد إليها بعد ثماني سنوات فاتحا غازيا ظافرا ، ومن حوله الآلاف من أصحابه.

والمؤمنون قد يغلبون ـ أحيانا ـ ويعتدى عليهم .. ولكن العاقبة لا بد أن تكون لهم. متى داوموا على التمسك بما يقتضيه إيمانهم من الثبات على الحق ، ومن العمل الصالح ..

وعبر ـ سبحانه ـ عن يوم القيامة ، بيوم يقوم الأشهاد ، للإشعار بأن نصر الرسل والمؤمنين في هذا اليوم سيكون نصرا مشهودا معلوما من الأولين والآخرين ، لا ينكره منكر. ولا ينازع فيه منازع.

وقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ). أى : وننصرهم يوم القيامة يوم يقدم الظالمون أعذارهم لكي نعفو عنهم. فلا يقبل منهم عذر واحد ، لأنها أعذار ساقطة. وجاءت في غير وقتها.

ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) لأن المقصود منها واحد. وهو أنهم ليس لهم عذر مقبول حتى يلتفت إليهم ، وإنما عذرهم مرفوض رفضا تاما.

(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) من الله ـ تعالى ـ ومن عباده المؤمنين (وَلَهُمُ) ـ أيضا ـ (سُوءُ الدَّارِ) وهي جهنم وسوؤها ما يسوء فيها من العذاب ، فالإضافة من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. أى : ولهم الدار السوءى.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٧٢.

٢٩٩

وفي هاتين الآيتين ما فيهما من البشارة السارة العظيمة للمؤمنين ومن الإهانة التي ليس بعدها إهانة للكافرين.

ثم ساق ـ سبحانه ـ مثالا من نصره لرسله ولعباده المؤمنين. فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

أى : والله لقد آتينا عبدنا ونبينا موسى ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع. وأورثنا من بعده قومه بنى إسرائيل الكتاب وهو التوراة. لكي ينتفعوا بإرشاداته وأحكامه وتوجيهاته.

وفعلنا ما فعلنا من أجل أن يكون ذلك الكتاب هداية وذكرى لأصحاب العقول السليمة فقوله ـ تعالى ـ (هُدىً وَذِكْرى) مفعول لأجله. أو هما مصدران في موضع الحال. أى : وأورثنا بنى إسرائيل الكتاب ، حالة كونه هاديا ومذكرا لأولى الألباب. لأنهم هم الذين ينتفعون بالهدايات. وهم الذين يتذكرون ويعتبرون دون غيرهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى أعدائه. فقال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ..).

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أننا سننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ..) فاصبر على ما أصابك من أعدائك ، فإن ما وعدك الله ـ تعالى ـ به من النصر ثابت لا شك فيه ، وحق لا باطل معه.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فإن استغفارك هذا وأنت المعصوم من كل ما يغضبنا ـ يجعل أمتك تقتدى بك في ذلك ، وتسير على نهجك في الإكثار من فعل الطاعات.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أى : وبجانب استغفارك من الذنوب ، أكثر من تسبيح ربك ومن تنزيهه عن كل ما لا يليق به عند حلول الليل ، وعند تباكير الصباح ، فإن هذا الاستغفار ، وذلك التسبيح ، خير زاد للوصول إلى السعادة والفوز في الدنيا والآخرة.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين : التوبة عما لا ينبغي ، والاشتغال بما ينبغي ، والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية. فوجب أن يكون مقدما عليه في الذكر ..

أما التوبة عما لا ينبغي ، فنراها في قوله ـ تعالى ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).

وأما الاشتغال بما ينبغي ، فنراه في قوله ـ تعالى ـ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ).

٣٠٠