التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

وهنا يبين ـ سبحانه ـ حكمه العادل في الجميع ، في الرؤساء والأتباع فيقول (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).

أى : كما كانوا متشاركين في الدنيا في الغواية والضلالة ، فإنهم في الآخرة مشتركون جميعا في حلول العذاب بهم ، وذوقهم لآلامه وسعيره.

فالضمير في قوله (فَإِنَّهُمْ) يعود للتابعين والمتبوعين ، لأنهم جميعا مستحقون للعذاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أدت بالكافرين جميعا إلى هذا المصير السيئ فقال : (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أى : مثل هذا العذاب الأليم نفعل بالمجرمين ، لأنهم أشركوا معنا غيرنا في العبادة ، وآذوا رسلنا الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم.

(إِنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ) على سبيل النصيحة والدعوة إلى الحق (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) عن قبول هذه النصيحة ، ويعرضون عنها ، ويصرون على كفرهم وجحودهم للحق ، ويستكبرون عن النطق بكلمة الإيمان.

(وَيَقُولُونَ) لمن نصحهم : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ).

أى : ويقولون باستهزاء وغرور لمن دعاهم إلى الإيمان وإلى قول لا إله إلا الله ، يقولون له أتدعونا إلى أن نترك ما عليه آباؤنا وأجدادنا من عقائد وأفعال ، وإلى أن نتبع ما جاءنا به هذا الشاعر المجنون.

ويعنون بالشاعر المجنون ـ قبحهم الله ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسله الله ـ تعالى ـ لهدايتهم.

ولذا رد الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ).

أى : ليس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعرا أو مجنونا ، كما زعمتم ـ أيها الجاهلون ـ ، بل هو رسول صادق فيما يبلغه عن ربه ، وقد جاءكم بالحق وهو دين التوحيد الذي دعا إليه جميع الرسل ، فكان مصدقا لهم في الدعوة إليه. فكيف تزعمون أنه شاعر مجنون؟

(إِنَّكُمْ) .. أيها المشركون بسبب هذه المزاعم (لَذائِقُوا) في هذا اليوم (الْعَذابِ الْأَلِيمِ) الذي يذلكم ويخزيكم ويجعلكم في حزن دائم.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : وما نجازيكم بهذا الجزاء الموجع المؤلم. إلا بسبب أعمالكم القبيحة في الدنيا.

وهكذا نجد الآيات الكريمة قد بينت لنا بأسلوب مؤثر بديع ، سوء عاقبة الكافرين ، بسبب

٨١

إعراضهم عن الحق. واستكبارهم عن الدخول فيه ، ووصفهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هو برىء منه.

وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين مصير الأشرار ومصير الأخيار ـ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ـ أتبع ـ سبحانه ـ الحديث عن سوء عاقبة الكافرين ـ بالحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٤٩)

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من ضمير «ذائقو» وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق. ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا. فإلا مؤولة بلكن.

فالمعنى : إنكم ـ أيها المشركون ـ لذائقو العذاب الأليم ، لكن عباد الله المخلصين ـ ليسوا كذلك ـ أولئك لهم رزق معلوم .. (١).

ولفظ (الْمُخْلَصِينَ) قرأه بعض القراء السبعة ـ بفتح اللام ـ ، أى : لكن عباد الله ـ تعالى ـ الذين أخلصهم الله ـ تعالى ـ لطاعته وتوحيده ليسوا كذلك.

وقرأه البعض الآخر بكسر اللام. أى : لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، لا يذوقون حر النار كالمشركين.

واسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) يعود إلى هؤلاء العباد المخلصين.

أى : أولئك العباد المتصفون بتلك الصفة الكريمة وهي الإخلاص ، لهم رزق عظيم معلوم في وقته ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا). ومعلوم في خصائصه الكريمة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٨٥.

٨٢

وصفاته الحسنة ككونه لذيذ الطعم ، حسن المنظر ، غير مقطوع ولا ممنوع إلى غير ذلك من الصفات التي تجعله محل الرغبة والاشتهاء.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) بدل مما قبله ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أى هذا الرزق المعلوم ، هو فواكه.

والمراد بهذه الفواكه : ما يأكله الآكل على سبيل التلذذ والتفكه ، وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم والخبز ، لأنهم في الجنة في غنى عن القوت الذي يحفظون به حياتهم. وخصت الفاكهة بالذكر لأنها أطيب ما يأكله الآكلون.

وفضلا عن كل ذلك فهم فيها منعمون مكرمون ، لا يحتاجون إلى شيء إلا ويجدونه بين أيديهم ، بفضل الله ـ تعالى ـ ورحمته.

ثم بين ـ سبحانه ـ مكانهم وهيئتهم فقال : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

أى : هم في جنات ليس فيها إلا النعيم الدائم ، وهم في الوقت نفسه يجلسون على سرر متقابلين ، بأن تكون وجوههم متقابلة لا متدابرة ، فإن من شأن المتصافين أن يجلسوا متقابلين.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) والكأس. هو الإناء الذي فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب فهو قدح ، وقد يسمى الشراب ذاته كأسا ، فيقال : شربت كأسا ، وذلك من باب تسمية الشيء باسم محله.

و «معين» اسم فاعل من معن وهو صفة لكأس مأخوذ من عان الماء إذا نبع وظهر على الأرض. أى : يطاف على هؤلاء العباد المخلصين وهم في الجنة ، بكأس ملئ بخمر لذة للشاربين ، نابعة من العيون ، وظاهرة للأبصار ، تجرى في أنهار الجنة كما تجرى المياه في الأنهار.

فالتعبير بقوله ـ تعالى ـ (بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) يشعر بكثرتها ، وقربها ممن يريدها.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) صفتان للكأس باعتبار ما فيه.

أى هذه الخمر التي يطاف بها عليهم ، بيضاء اللون ، لذيذة الطعم والرائحة عند الشاربين.

(لا فِيها غَوْلٌ) أى : أذى أو مضرة ، والغول. إهلاك الشيء ـ على غرة وغفلة.

يقال : غاله يغوله غولا ، واغتاله اغتيالا ، إذا قضى عليه بغتة ، وأخذه من حيث لا يشعر.

أى : أن خمر الآخرة ليس فيها ما يضر أو يؤذى ، كما هو الحال بالنسبة لخمر الدنيا.

٨٣

(وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) وعن هنا للسببية ، فهي بمعنى الباء ، أى : ولا هم بسبب شربها تذهب عقولهم ، وتختل أفكارهم ، كما هو الحال في خمر الدنيا.

وأصل النّزف : نزع الشيء من مكانه وإذهابه بالتدريج ، يقال : نزف فلان ماء البئر ينزفه ـ من باب ضرب ـ إذا نزحه شيئا فشيئا إلى نهايته ، ويقال : نزف الرجل ـ كعنى ـ إذا سكر حتى اختل عقله ، وخصت هذه المفسدة بالذكر مع عموم ما قبلها ، لكونها من أعظم مفاسد الخمر.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) بيان لمتعة أخرى من المتع التي أحلها الله ـ تعالى ـ لهم.

وقاصرات : من القصر بمعنى الحبس ، وعين ، جمع عيناء ، وهي المرأة الواسعة العين في جمال. أى وفضلا عن ذلك ، فقد متعنا هؤلاء العباد بمتع أخرى. وهي أننا جعلنا عندهم للمؤانسة نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمدونها إلى غيرهم ، لشدة محبتهن لهم ، ومن صفات هؤلاء النساء ـ أيضا أنهن جميلات العيون.

(كَأَنَّهُنَ) أى : هؤلاء النسوة (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ، أى : كأنهن كبيض النعام. الذي أخفاه الريش في العش ، فلم تمسه الأيدى ، ولم يصبه الغبار ، في صفاء البشرة ، ونقاء الجسد.

وشبههن ببيض النعام ، لأن لونه مع بياضه وصفائه يخالطه شيء من الصفرة وهو لون محبوب في النساء عند العرب ولذا قالوا في النساء الجميلات : بيضات الخدور.

وإلى هنا تجد الآيات الكريمة قد بشرت عباد الله المخلصين. بالعطاء المتنوع الجزيل ، الذي تنشرح له الصدور ، وتقر به العيون ، وتبتهج له النفوس.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض المحاورات التي تدور بين عباده المخلصين ، بعد أن رأوا ما أعده ـ سبحانه ـ لهم من نعيم مقيم .. فقال ـ تعالى ـ :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي

٨٤

لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١)

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : علام عطف قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)؟

قلت ؛ هو معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشاربين.

قال الشاعر :

وما بقيت من اللذات إلا

أحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض (يَتَساءَلُونَ) عما جرى لهم وعليهم في الدنيا. إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره (١).

أى : أن هؤلاء العباد المخلصين ، بعد أن أعطاهم الله ما أعطاهم من النعم ، أقبل بعضهم على بعض (يَتَساءَلُونَ) فيما بينهم عن ذكرياتهم ، وإذا بواحد منهم يقول لإخوانه ـ من باب التحدث بنعمة الله :

(إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أى : إنى في الدنيا كان لي صديق ملازم لي ، ينهاني عن الإيمان ـ بالبعث والحساب ، ويقول لي ـ بأسلوب التهكم والاستهزاء :

(أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أى : أإنك ـ أيها الرجل ـ لمن المصدقين بأن هناك بعثا وحسابا ، وثوابا وعقابا ، وجنة ونارا.

ثم يضيف إلى ذلك قوله : (أَإِذا مِتْنا) وانتهت حياتنا في هذه الدنيا ، ووضعنا في قبورنا (وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أى : وصارت أجسادنا مثل التراب ومثل العظام البالية. (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أى : أإنا بعد كل ذلك لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى ، ومجزيون بأعمالنا. فقوله ـ تعالى ـ : (لَمَدِينُونَ) من الدين بمعنى الجزاء ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) والاستفهام : للاستبعاد والإنكار من ذلك القرين للبعث والحساب.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٤.

٨٥

وهنا يعرض هذا المؤمن على إخوانه ، أن يشاركوه في الاطلاع على مصير هذا القرين الكافر بالبعث فيقول لهم : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أى : هل أنتم مطلعون معى على أهل النار لنرى جميعا حال ذلك القرين الذي حكيت لكم حاله؟ والاستفهام للتخصيص ، أى : هيا صاحبونى في الاطلاع على هذا القرين الكافر.

(فَاطَّلَعَ) ذلك الرجل المؤمن ومعه إخوانه على أهل النار. فرآه في سواء الجحيم ، أى : فرأى ذلك الرجل الذي كان قرينه وصاحبه الملازم له في الدنيا ، ملقى به في «سواء الجحيم» أى : في وسط النار ، وسمى الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى باقى الجوانب.

قال الآلوسى : واطلاع أهل الجنة على أهل النار ، ومعرفة من فيها ، مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله ـ تعالى ـ فيهم حدة النظر ، ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه.

ولعلهم ـ إن أرادوا ذلك ـ وقفوا على الأعراف. فاطلعوا على من أرادوا الاطلاع عليه من أهل النار. وقبل : إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار ، وعلم القائل بأن القرين من أهل النار ، لأنه كان منكرا للبعث (١).

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله ذلك الرجل المؤمن لقرينه في الدنيا بعد أن رآه في وسط الجحيم فيقول. (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).

وقوله : (تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجب ، و (إِنْ) مخففة من الثقيلة. واللام في قوله : (لَتُرْدِينِ) هي الفارقة بين إن المخففة والنافية ، والجملة جواب القسم ، وتردين : أى تهلكني يقال : أردى فلان فلانا إذا أهلكه. وردى فلان ـ من باب رضى ـ إذا هلك.

و (الْمُحْضَرِينَ) من الإحضار ، يقال : أحضر المجرم ليلقى جزاءه ، وهذا اللفظ يستعمل عند الإطلاق في الشر ، إذ يدل على السوق مع الإكراه والقسر.

أى : قال الرجل المؤمن لقرينه الملقى في وسط جهنم. وحق الله ـ تعالى ـ لقد كدت أيها القرين أن تهلكني بصدك إياى عن الإيمان بالبعث والحساب ولو لا نعمة ربي علىّ ، حيث عصمنى من طاعتك ، ووفقني للإيمان ... لكنت اليوم من الذين أحضروا للعذاب مثلك ومثل أشباهك ، ولساقنى ملائكة العذاب إلى هذا المصير الأليم الذي أنت فيه اليوم ، فحمدا لله ـ تعالى ـ على الإيمان والهداية.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) بيان لما

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٩٢.

٨٦

يقوله هذا الرجل المؤمن لأصحابه الذين معه في الجنة ، وبعد أن انتهى من كلامه مع قرينه.

وهذا الكلام يقوله على سبيل التلذذ والتحدث بنعمة الله عليهم.

والاستفهام للتقرير ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام ، والمعطوف عليه محذوف.

والمعنى : أنحن مخلدون في هذا النعيم ، ولن يلحقنا موت مرة أخرى بعد موتتنا الأولى التي لحقتنا في الدنيا ، ولن يصيبنا شيء من العذاب كما أصاب غيرنا؟

إننا لنشعر جميعا بأننا لن نموت مرة أخرى ، وسنبقى في هذا النعيم الدائم بفضل الله ورحمته.

وبعضهم يرى أن هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت.

قال القرطبي : قوله : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) : هو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : «يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت» (١).

والإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لما سبق الإخبار به من نفى الموت والعذاب عن أهل الجنة. وهذا القول ـ أيضا ـ حكاية لما يقوله ذلك المؤمن لمن معه في الجنة ، أى : إن هذا النعيم الدائم الذي نحن فيه ـ يا أهل الجنة ـ لهو الفوز العظيم ، الذي لا يدانيه فوز ، ولا يقاربه فلاح.

ثم يقول لهم ـ أيضا ـ : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أى : لمثل هذا العطاء الجزيل ، والنعيم المقيم ، فليعمل العاملون ، لا لغير ذلك من الأعمال الدنيوية الزائلة الفانية.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على البون الشاسع. بين النعيم المقيم الذي يعيش فيه عباد الله المخلصون. وبين الشقاء الدائم الذي يعيش فيه الكافرون ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٨٤.

٨٧

عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤)

واسم الإشارة «ذلك» في قوله ـ تعالى ـ : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) يعود إلى نعيم الجنة الذي سبق الحديث عنه ، والذي يشمل الرزق المعلوم وما عطف عليه.

والاستفهام للتوبيخ والتأنيب. والنزل : ما يقدم للضيف وغيره من طعام ومكان ينزل به.

و «ذلك» مبتدأ ، و «خير» خبره ، و «نزلا» : تمييز لخير ، والخيرية بالنسبة لما اختاره الكفار على غيره. والجملة مقول لقول محذوف.

وشجرة الزقوم هي شجرة لا وجود لها في الدنيا ، وإنما يخلقها الله ـ تعالى ـ في النار ، كما يخلق غيرها من أصناف العذاب كالحيات والعقارب.

وقيل : هي شجرة سامة متى مست جسد أحد تورم ومات ، وتوجد في الأراضي المجدية المجاورة للصحراء.

والزقوم : من التزقم ، وهو ابتلاع الشيء الكريه ، بمشقة شديدة.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين أذلك النعيم الدائم الذي ينزل به المؤمنون في الجنة خير ، أم شجرة الزقوم التي يتبلغ بها الكافرون وهم في النار ، فلا يجدون من ورائها إلا الغم والكرب لمرارة طعمها ، وقبح رائحتها وهيئتها.

ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى بهم إلى نعيم الجنة وهو الإيمان والعمل الصالح ، واختار الكافرون ما أدى بهم إلى النار وبئس القرار ، قيل لهم ذلك على سبيل التوبيخ والتقريع ، لسوء اختيارهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ شيئا عن هذه الشجرة فقال : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أى : إنا جعلنا هذه الشجرة محنة وابتلاء وامتحانا لهؤلاء الكافرين الظالمين ، لأنهم لما أخبرهم

٨٨

رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجود هذه الشجرة في النار. كذبوه واستهزءوا به ، فحق عليهم عذابنا بسبب هذا التكذيب والاستهزاء.

قال القرطبي ما ملخصه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أى ، المشركين. وذلك أنهم قالوا. كيف تكون في النار شجرة ، مع أن النار تحرق الشجر ..؟

وكان هذا القول جهلا منهم ، إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار ، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيات والعقارب .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أصل هذه الشجرة ومنبتها فقال : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أى : منبتها وأصلها يخرج من أسفل الجحيم ، أما أغصانها وفروعها فترتفع إلى دركاتها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ثمرها فقال : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أى : ثمرها الذي يخرج منها ، وحملها الذي يتولد عنها ، يشبه في تناهى قبحه وكراهيته ، رؤوس الشياطين التي هي أقبح ما يتصوره العقل ، وأبغض شيء يرد على الخاطر.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : شبه حمل شجرة الزقوم برءوس الشياطين ، للدلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر ، لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخالطه خير ، فيقولون في القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، أو كأنه رأس شيطان ، وإذا صوره المصورون صوروه على أقبح صورة.

كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه ، فشبهوا به الصورة الحسنة ، قال الله ـ تعالى ـ : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). وهذا تشبيه تخييلى.

وقيل : الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر .. فجاء التشبيه بها .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) تفريع على ما تقدم من كونها فتنة لهم.

أى : هذا هو حال تلك الشجرة ، وهذا هو أصلها وثمرها ، وإن هؤلاء الكفار الذين يستهزئون بمن يحدثهم عنها لآكلون من ثمارها حتى تمتلئ بطونهم ، رغما عنهم ، وإذلالا لهم.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أى : على ما يأكلونه منها (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أى : لشرابا مخلوطا بماء شديد الحرارة يقطع الأحشاء ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٨٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٦.

٨٩

فالشوب : الخلط يقال : شاب فلان طعامه ، إذا خلطه بغيره.

والحميم : الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة. فطعامهم ـ والعياذ بالله ـ قد اجتمع فيه مرارة الزقوم وحرارة الماء وهذا أشنع ما يكون عليه الطعام.

ثم بين ـ سبحانه ـ مصيرهم الدائم فقال. (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أى : ثم إن مرجعهم ومصيرهم ومقرهم الدائم بعد كل ذلك لإلى دركات الجحيم لا إلى غيرها.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك الأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ : فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ).

وقوله : (أَلْفَوْا) من الإلف للشيء بمعنى التعود عليه بعد وجوده وحصوله.

وقوله : (يُهْرَعُونَ) من الإهراع بمعنى الإسراع الشديد ، أو الإسراع الذي تصحبه رعدة وفزع ، يقال : هرع وأهرع ـ بالبناء للمجهول فيهما ـ إذا استحث وأزعج ، ويقال : فلان يهرع ـ بضم الياء ـ إذا جاء مسرعا في غضب أو ضعف أو خوف.

أى : إن ما أصاب هؤلاء الكافرين من عذاب أليم ، سببه أنهم وجدوا آباءهم مقيمين على الضلال ، فاقتدوا بهم اقتداء أعمى ، وساروا خلفهم وعلى آثارهم بسرعة وبغير تدبر أو تعقل ، كما يسير الأعمى خلف من يذهب به إلى طريق هلاكه.

فالآيتان الكريمتان توبيخ شديد لهؤلاء الكافرين ، لأنهم لم يكتفوا بتقليد آبائهم في الضلال ، بل أسرعوا إلى ذلك إسراعا لا تمهل معه ولا تدبر.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال السابقين عليهم فقال : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ).

أى : ولقد ضل قبل هؤلاء الظالمين من قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ أكثر الأقوام السابقين الذين أرسلنا إليهم رسلنا لهدايتهم.

وفي التعبير بقوله : (أَكْثَرُ) إنصاف ومدح للقلة المؤمنة التي اتبعت الحق.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أى : ولقد أرسلنا في هؤلاء الأقوام السابقين أنبياء كثيرين ينذرونهم ويخوفونهم من عاقبة الكفر والشرك ، ولكن أكثر هؤلاء الأقوام لم يستجيبوا للحق.

(فَانْظُرْ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أى : فانظر وتأمل كيف كانت عاقبة هؤلاء الذين أنذروا فلم يستجيبوا للحق ، لقد كانت عاقبتهم أن دمرناهم تدميرا (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أى : دمرنا هؤلاء الأقوام إلا عبادنا الذين أخلصوا لنا العبادة والطاعة فقد أنجيناهم بفضلنا ورحمتنا.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك قصص بعض الأنبياء السابقين مع أقوامهم لتثبيت فؤاد

٩٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عما أصابه من قومه ، وابتدأ تلك القصص ببيان جانب من قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢)

وقصة نوح ـ عليه‌السلام ـ قد وردت في القرآن الكريم في سور متعددة منها : سورة الأعراف ، وسورة هود ، وسورة نوح ، وسورة المؤمنون.

وهنا يحدثنا القرآن عن جانب من النعم التي أنعم بها الله ـ تعالى ـ على نبيه نوح ـ عليه‌السلام ـ حيث أجاب له دعاءه ، ونجاه وأهله من الكرب العظيم وأهلك أعداءه المكذبين.

واللام في قوله : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ ...) واقعة في جواب قسم محذوف والمراد بالنداء الدعاء الذي تضرع به نوح ـ عليه‌السلام ـ وطلب منا أن ننصره على قومه الكافرين فاستجبنا له أحسن إجابة ، ونعم المجيبون نحن ، فقد أهلكنا أعداءه بالطوفان.

أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية ، قال : «صدقت ربنا ، أنت أقرب من دعى ، وأقرب من بغى ـ أى طلب لإجابة الدعاء ـ فنعم المدعو أنت ، ونعم المعطى أنت. ونعم المسئول أنت ربنا ونعم النصير» (١).

والمراد بأهله في قوله ـ تعالى ـ : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذين آمنوا معه.

أى : ونجيناه وأهله الذين آمنوا معه ـ بفضلنا وإحساننا ـ من الكرب العظيم ، الذي حل بأعدائه الكافرين ، حيث أغرقناهم أجمعين.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٩٨.

٩١

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أى : وجعلنا ذريته من بعده هم الذين بقوا وبقي نسلهم من بعدهم ، وذلك لأن الله ـ تعالى ـ أهلك جميع الكافرين من قومه ، أما من كان معه من المؤمنين من غير ذريته ، فقد قيل إنهم ماتوا ، ولم يبق سوى أولاده.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) : قال ابن عباس : لم تبق إلا ذرية نوح.

وقال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح.

وروى الترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال : «هم سام ، وحام ، ويافث».

وروى الإمام أحمد ـ بسنده ـ عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم» (١).

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أى : وأبقينا عليه في الأمم التي ستأتى من بعده إلى يوم القيامة ، الذكر الحسن ، والكلمة الطيبة ألا وهي قولهم : سلام على نوح في العالمين ، أى : تحية وأمان وثناء جميل على نوح في العالمين.

وقوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لما منحه ـ سبحانه ـ لعبده نوح من نعم وفضل وإجابة دعاء.

أى : مثل ذلك الجزاء الكريم الذي جازينا به نوحا ـ عليه‌السلام ـ نجازي كل من كان محسنا في أقواله وأفعاله. وإن عبدنا نوحا قد كان من عبادنا الذين بلغوا درجة الكمال في إيمانهم وإحسانهم.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أى من الأمم هذه الكلمة ، وهي : «سلام على نوح» يعنى : يسلمون عليه تسليما ويدعون له. فإن قلت : فما معنى قوله : (فِي الْعالَمِينَ).

قلت : معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا ، وأن لا يخلو أحد منهم منها ، كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين ، يسلمون عليه عن آخرهم.

علل ـ سبحانه ـ مجازاة نوح بتلك التكرمة السنية ، من تبقية ذكره ، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر ، بأنه كان محسنا ، ثم علل كونه محسنا ، بأنه كان عبدا مؤمنا ، ليريك جلالة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٩.

٩٢

محل الإيمان ، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم ، ويرغبك في تحصيله وفي الازدياد منه (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ القصة بقوله : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أى : لقد أضفنا إلى تلك النعم التي أعطيناها لنبينا نوح ـ عليه‌السلام ـ أننا أغرقنا أعداءه الذين آذوه ، وأعرضوا عن دعوته.

وتلك سنتنا لا تتخلف ، أننا ننجي المؤمنين ، ونهلك الكافرين.

وجاءت بعد قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وقد حكى الله ـ تعالى ـ ما دار بين إبراهيم وبين قومه ، كما حكى بعض النعم التي أنعمها ـ سبحانه ـ عليه ، بسبب إيمانه وإحسانه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٩.

٩٣

فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (١١٣)

والضمير في قوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) يعود على نوح ـ عليه‌السلام ـ وشيعة الرجل : أعوانه وأنصاره وأتباعه ، وكل جماعة اجتمعوا على أمر واحد أو رأى واحد فهم شيعة ، والجمع شيع مثل سدرة وسدر.

قال القرطبي : الشيعة : الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد. (١).

والمعنى : وإن من شيعة نوح لإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ لأنه تابعه في الدعوة إلى الدين الحق ، وفي الصبر على الأذى من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة شريعته .. وهكذا جميع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ اللاحق منهم يؤيد السابق ، ويناصره في دعوته التي جاء بها من عند ربه ، وإن اختلفت شرائعهم في التفاصيل والجزئيات ، فهي متحدة في الأصول والأركان.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩١.

٩٤

وكان بين نوح وإبراهيم ، نبيان كريمان هما : هود ، وصالح ـ عليهما‌السلام ـ والظرف في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) متعلق بمحذوف تقديره : اذكر أى : اذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ وقت أن جاء إبراهيم إلى ربه بقلب سليم من الشرك ومن غيره من الآفات كالحسد والغل والخديعة والرياء.

والمراد بمجيئه ربه بقلبه : إخلاص قلبه لدعوة الحق ، واستعداده لبذل نفسه وكل شيء يملكه في سبيل رضا ربه ـ عزوجل ـ.

فهذا التعبير يفيد الاستسلام المطلق لربه والسعى الحثيث في كل ما يرضيه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت : معناه أنه أخلص لله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلا لذلك (١).

وقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) شروع في حكاية ما دار بينه وبين أبيه وقومه. والجملة بدل من الجملة السابقة عليها ، أو هي ظرف لقوله (سَلِيمٍ) أى : لقد كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ سليم القلب ، نقى السريرة ، صادق الإيمان ، وقت أن جادل أباه وقومه قائلا لهم : أى شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله ـ تعالى ـ ثم أضاف إلى هذا التوبيخ لهم توبيخا آخر فقال لهم : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ)؟. والإفك أسوأ الكذب. يقال أفك فلان يأفك إفكا فهو أفوك .. إذا اشتد كذبه. وهو مفعول به لقوله (تُرِيدُونَ) وقوله (آلِهَةً) بدل منه. وجعلت الآلهة نفس الإفك على سبيل المبالغة.

أى : أتريدون إفكا آلهة دون الله؟ إن إرادتكم هذه يمجها ويحتقرها كل عقل سليم.

ثم حذرهم من السير في طريق الشرك فقال : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

والاستفهام للإنكار والتحذير من سوء عاقبتهم إذا ما استمروا في عبادتهم لغيره ـ تعالى ـ. أى : فما الذي تظنون أن يفعله بكم خالقكم ورازقكم إذا ما عبدتم غيره؟ إنه لا شك سيحاسبكم على ذلك حسابا عسيرا ، ويعذبكم عذابا أليما ، وما دام الأمر كذلك فاتركوا عبادة هذه الآلهة الزائفة. وأخلصوا عبادتكم لخالقكم ورازقكم.

قال الآلوسى : قوله : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أى : أى شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة ، لكونه ربا للعالمين؟ أشككتم فيه حتى تركتم عبادته ـ سبحانه ـ بالكلية ، أو أعلمتم أى شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه أو أى شيء ظنكم بعقابه ـ عزوجل ـ حتى اجترأتم على الإفك عليه ، ولم تخافوا عذابه. (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٨.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١١٠.

٩٥

وعلى أية حال فالآية تدل دلالة واضحة على استنكاره لما كان عليه أبوه وقومه من عبادة لغير الله ـ تعالى ـ وعلى نفور فطرته لما هم عليه من باطل.

ويهمل القرآن الكريم هنا ردهم عليه لتفاهته. وتنتقل السورة للإشارة إلى ما أضمره إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لتلك الآلهة الباطلة فتقول : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ).

قالوا : كان قوم إبراهيم يعظمون الكواكب ، ويعتقدون تأثيرها في العالم .. وتصادف أن حل أوان عيد لهم. فدعوه إلى الخروج معهم كما هي عادتهم في ذلك العيد.

فتطلع إلى السماء ، وقلب نظره في نجومها ، ثم قال لهم معتذرا عن الخروج معهم ـ ليخلوا بالأصنام فيحطمها ـ : (إِنِّي سَقِيمٌ) أى مريض مرضا يمنعني من مصاحبتكم. (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ). أى : فتركوه وحده وانصرفوا إلى خارج بلدتهم.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وإنما قال إبراهيم لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم ، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم ، فأحب أن يختلى بآلهتهم ليكسرها ، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على ما يعتقدونه ، فتولوا عنه مدبرين.

قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر في أمر : نظر في النجوم ، يعنى قتادة : أنه نظر في السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال (إِنِّي سَقِيمٌ) أى : ضعيف.

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكذب إبراهيم غير ثلاث كذبات : اثنتين في ذات الله ، قوله : «إنى سقيم» وقوله : «بل فعله كبيرهم هذا» وقوله في سارة «هي أختى».

ليس المراد بالكذب هنا الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا وكلا ، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا ، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني ، كما جاء في الحديث : إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب.

وقيل قوله «إنى سقيم» أى : بالنسبة لما يستقبل ، يعنى مرض الموت.

وقيل : أراد بقوله : «إنى سقيم» أى ، مريض القلب من عبادتكم للأوثان من دون الله ـ تعالى ـ ... (١).

ويبدو لنا أى نظر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في النجوم ، إنما هو نظر المؤمن المتأمل في ملكوت الله ـ تعالى ـ المستدل بذلك على وحدانية الله وقدرته ، وأنه إنما فعل ذلك أمامهم ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٠.

٩٦

وهم قوم يعظمون النجوم ـ ليقنعهم بصدق اعتذاره عن الخروج معهم ، ويتم له ما يريده من تحطيم الأصنام.

كما يبدو لنا أن قوله : «إنى سقيم» المقصود منه : إنى سقيم القلب بسبب ما أنتم فيه من كفر وضلال ، فإن العاقل يقلقه ويزعجه ويسقمه ما أنتم فيه من عكوف على عبادة الأصنام.

وقال لهم ذلك ليتركوه وشأنه ، حتى ينفذ ما أقسم عليه بالنسبة لتلك الأصنام.

فكلام إبراهيم حق في نفس الأمر ـ كما قال الإمام ابن كثير ـ وقد ترك لقومه أن يفهموه على حسب ما يعتقدون.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما فعله إبراهيم بالأصنام بعد أن انفرد بها فقال : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ).

وأصل الروغ : الميل إلى الشيء بسرعة على سبيل الاحتيال. يقال : راغ فلان نحو فلان. إذا مال إليه لأمر يريده منه على سبيل الاحتمال.

أى : فذهب إبراهيم مسرعا إلى الأصنام بعد أن تركها القوم وانصرفوا إلى عيدهم ، فقال لها على سبيل التهكم والاستهزاء : أيتها الأصنام ألا تأكلين تلك الأطعمة التي قدمها لك الجاهلون على سبيل التبرك؟

وخاطبها كما يخاطب من يعقل فقال : «ألا تأكلون» ، لأن قومه أنزلوها تلك المنزلة. وقوله : «ما لكم لا تنطقون» زيادة في السخرية بتلك الأصنام ، وفي إظهار الغيظ منها ، والضيق بها ، والغضب عليها.

هذا الغضب الذي كان من آثاره ما بينه القرآن في قوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أى : فمال عليهم ضاربا إياهم بيده اليمنى ، حتى حطمهم كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).

وقال ـ سبحانه ـ : (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) للدلالة على أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لشدة حنقه وغضبه على الأصنام ـ قد استعمل في تحطيمها أقوى جارحة يملكها وهي يده اليمنى. وقيل : يجوز أن يراد باليمين : اليمين التي حلفها حين قال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).

وانتهى إبراهيم من تحطيم الأصنام ، وارتاحت نفسه لما فعله بها ، وشفى قلبه من الهم والضيق الذي كان يجده حين رؤيتها ...

وجاء قومه من رحلتهم ، ووجدوا أصنامهم قد تحطمت ، ويترك القرآن هنا ما قالوه

٩٧

لإبراهيم عند ما رأوا منظر آلهتهم بهذه الصورة المفزعة لهم ، مكتفيا بإبراز حالهم فيقول : «فأقبلوا إليه يزفون».

أى : فحين رأوا آلهتهم بهذه الصورة. أقبلوا نحو إبراهيم يسرعون الخطا ولهم جلية وضوضاء تدل على شدة غضبهم لما أصاب آلهتهم.

يقال : زفّ النعام يزفّ زفّا وزفيفا ، إذا جرى بسرعة حتى لكأنه يطير.

ولم يأبه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لهياج قومه ، وإقبالهم نحوه بسرعة وغضب ، بل رد عليهم ردا منطقيا سليما ، فقال لهم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

أى : قال لهم مؤبخا ومؤنبا : أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها وتقطعونها من الحجارة أو من الخشب بأيديكم ، وتتركون عبادة الله ـ تعالى ـ الذي خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام وغيرها.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) «ما» في موضع نصب ، أى : خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام ، يعنى الخشب والحجارة وغيرها.

وقيل إن «ما» استفهام ، ومعناه : التحقير لعملهم. وقيل : هي نفى أى : أنتم لا تعملون ذلك لكن الله خالقه والأحسن أن تكون «ما» مع الفعل مصدرا. والتقدير : والله خلقكم وعملكم ، وهذا مذهب أهل السنة ، أن الأفعال خلق لله ـ عزوجل ـ واكتساب للعباد.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خالق كل صانع وصنعته» (١).

ولكن هذا المنطق الرصين من إبراهيم ، لم يجد أذنا واعية من قومه ، بل قابلوا قوله هذا بالتهديد والوعيد الذي حكاه ـ سبحانه ـ في قوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أى قالوا فيما بينهم : ابنوا لإبراهيم بنيانا ، ثم املئوه بالنار المشتعلة ، ثم ألقوا به فيها فتحرقه وتهلكه.

فالمراد بالجحيم : النار الشديدة التأجج. وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم ، وهذا اللفظ مأخوذ من الجحمة وهي شدة التأجج والاتقاد ـ يقال : جحم فلان النار ـ كمنع ـ إذا أوقدها وأشعلها ، واللام فيه عوض عن المضاف إليه ـ أى ـ ألقوه في جحيم ذلك البنيان المليء بالنار.

وبنوا البنيان ، وأضرموه بالنار ، وألقوا بإبراهيم فيها ، فماذا كانت النتيجة؟

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩٦.

٩٨

كانت كما قال ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أى : شرا وهلاكا عن طريق إحراقه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ) ـ بقدرتنا التي لا يعجزها شيء ـ الأسفلين أى : الأذلين المقهورين ، حيث أبطلنا كيدهم. وحولنا النار إلى برد وسلام على عبدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وهكذا رعاية الله ـ تعالى ـ تحرس عباده المخلصين ، وتجعل العاقبة لهم على القوم الكافرين.

ثم تسوق لنا السورة الكريمة بعد ذلك جانبا آخر من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هذا الجانب يتمثل في هجرته من أجل نشر دعوة الحق وفي تضرعه إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، فتقول : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ..).

أى : قال إبراهيم بعد أن نجاه الله ـ تعالى ـ من كيد أعدائه (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أى : إلى المكان الذي أمرنى ربي بالسير إليه ، وهو بلاد الشام ، وقد تكفل ـ سبحانه ـ بهدايتى إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى.

قال القرطبي : «هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وذلك حين خلصه الله من النار (قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أى : مهاجر من بلد قومي ومولدي ، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي ، فإنه (سَيَهْدِينِ) فيما نويت إلى الصواب (١).

قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة. إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام ..» (٢).

والسين في قوله (سَيَهْدِينِ) لتأكيد وقوع الهداية في المستقبل ، بناء على شدة توكله ، وعظيم أمله في تحقيق ما يرجوه من ربه ، لأنه ما هاجر من موطنه إلا من أجل نشر دينه وشريعته ـ سبحانه ـ.

ثم أضاف إلى هذا الأمل الكبير في هداية الله ـ تعالى ـ له ، أملا آخر وهو منحه الذرية الصالحة فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).

أى : وأسألك يا ربي بجانب هذه الهداية إلى الخير والحق ، أن تهب لي ولدا هو من عبادك الصالحين ، الذين أستعين بهم على نشر دعوتك ، وعلى إعلاء كلمتك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩٧.

٩٩

وأجاب الله ـ تعالى ـ دعاء عبده إبراهيم ، كما حكى ذلك في قوله : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

أى : فاستجبنا لإبراهيم دعاءه فبشرناه على لسان ملائكتنا بغلام موصوف بالحلم وبمكارم الأخلاق.

قال صاحب الكشاف : ـ وقد انطوت البشارة على ثلاثة : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، وأنه يكون حليما (١).

وهذا الغلام الذي بشره الله ـ تعالى ـ به. المقصود به هنا إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فصيحة ، أى : بشرناه بهذا الغلام الحليم ، ثم عاش هذا الغلام حتى بلغ السن التي في إمكانه أن يسعى معه فيها ، ليساعده في قضاء مصالحه.

قيل : كانت سن إسماعيل في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة.

(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

أى : فلما بلغ الغلام مع أبيه هذه السن ، قال الأب لابنه : يا بنى إنى رأيت في منامي أنى أذبحك ، فانظر ماذا ترى في شأن نفسك.

قال الآلوسى ما ملخصه : يحتمل أنه ـ عليه‌السلام ـ رأى في منامه أنه فعل ذلك .. ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك ، ولكنه لم يذكره وذكر التأويل ، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة.

ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة ، وفي رواية أنه رأى ذلك في ليلة التروية فأخذ يفكر في أمره ، فسميت بذلك ، فلما رأى ما رآه سابقا عرف أن هذه الرؤيا من الله ، فسمى بيوم عرفة ، ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمى بيوم النحر.

ولعل السر في كونه مناما لا يقظة ، أن تكون المبادرة إلى الامتثال ، أدل على كمال الانقياد والإخلاص .. (٢).

وإنما شاوره بقوله : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) مع أنه سينفذ ما أمره الله ـ تعالى ـ به في منامه سواء رضى إسماعيل أم لم يرض ، لأن في هذه المشاورة إعلاما له بما رآه ، لكي يتقبله بثبات وصبر ، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون ، وليختبر عزمه وجلده.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٢٩.

١٠٠