التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أى : لا إله بحق وصدق إلا هو ـ سبحانه ـ.

(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أى : إليه المرجع والمآب يوم القيامة ، ليحاسبكم على أعمالكم في الدنيا.

قال القرطبي : روى عن عمر بن الخطاب ـ رضى عنه ـ أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فلما سأل عنه قيل له : تتابع في هذا الشراب.

فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان ، سلام عليك ، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) إلى قوله ـ تعالى ـ : (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا. ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما وصل الكتاب إلى الرجل جعل يقرؤه ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته.

فلما بلغ عمر ذلك قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلته فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه (١).

ثم هون ـ سبحانه ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شأن الكافرين ، وأخبره بأنهم أتفه من أن يغتر بهم فقال : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ).

والمراد بالجدال هنا : الجدال بالباطل ، وأما الجدال من أجل الوصول إلى الحق فمحمود.

وقوله : (فَلا يَغْرُرْكَ) جواب لشرط محذوف. والتقلب : التنقل من مكان إلى آخر من أجل الحصول على المنافع والمكاسب.

أى : ما يجادل في آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، عن طريق التكذيب بها والطعن فيها .. إلا الذين كفروا بالحق لما جاءهم ، وإذا تقرر ذلك ، فلا يغررك ـ أيها الرسول الكريم ـ تقلبهم في البلاد ، وتصرفهم فيها عن طريق التجارات الرابحة ، وجمع الأموال الكثيرة ، فإن ما بين أيديهم من أموال إنما هو لون من الاستدراج ، وعما قريب ستزول هذه الأموال من بين أيديهم ، وستكون عليهم حسرة ..

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أى : قبل هؤلاء الكافرين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق (قَوْمُ نُوحٍ) الذين أغرقناهم بسبب هذا التكذيب لنبيهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٩١.

٢٦١

(وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أى : وكذلك الأقوام الآخرون الذين جاءوا من بعد قوم نوح ، قد تحزبوا على أنبيائهم ، وأجمعوا على تكذيبهم ، كما فعل قوم عاد مع نبيهم هود ، وكما فعل قوم ثمود مع نبيهم صالح ، وكما فعل أهل مدين مع نبيهم شعيب ..

فالضمير في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ بَعْدِهِمْ) يعود إلى قوم نوح. وأفردهم ـ سبحانه ـ بالذكر لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. ولم يزدهم دعاؤه لهم إلا عتوا ونفورا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) بيان لما فعله هؤلاء الأقوام الظالمون مع أنبيائهم الذين جاءوا لهدايتهم ..

أى : أن هؤلاء الأقوام المجرمين ، لم يكنفوا بالتكذيب لأنبيائهم ، بل إن كل أمة منهم قد مكرت بنبيها ، وأرادت به السوء ، وحاولت أن تتمكن منه بالأسر أو بالقتل ، وجادلته بالجدال الباطل ، لتزيل به الحق الذي جاء به من عند ربه وتبطله.

والتعبير بقوله : (لِيَأْخُذُوهُ) يشعر بأن هؤلاء المجرمين كانوا حريصين على التمكن من إيذاء نبيهم ومن الاعتداء عليه ، كما يحرص الشخص على أخذ عدوه وأسره ليفعل به ما يشاء.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) بيان لما آل إليه مكرهم وجدالهم بالباطل.

أى : هموا بما هموا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وحاولوا أن يجعلوا رسولهم بمنزلة الأسير فيهم. فكانت نتيجة كل ذلك أن أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم تدميرا فكيف كان عقابي لهم؟ لقد كان عقابا مدمرا ، جعلهم أثرا بعد عين ، وترك آثار مساكنهم تشهد بهلاكهم واستئصالهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

أى : وكما حقت كلمة ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ ووجبت بإهلاك الأمم الماضية التي كذبت أنبياءها ، وجعلهم وقودا للنار ، فكذلك تكون سنتنا مع المكذبين لك من قومك ، إذا ما استمروا في تكذيبهم لك ، ولم يعودوا إلى طريق الحق.

فالآيات الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحذير لمشركي قريش من الاستمرار في غيهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر رحمته بالمؤمنين ، وتكريمهم ، فذكر أن حملة عرشه

٢٦٢

من وظائفهم الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم بالخير فقال ـ تعالى ـ :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

والمراد بالذين يحملون العرش : عدد من الملائكة المقربين إلى الله ـ تعالى ـ ولا يعلم عددهم أحد سوى الله ـ تعالى ـ لأنه لم يرد نص صحيح في تحديد عددهم.

والمراد بمن حوله : عدد آخر من الملائكة يطوفون بالعرش مهللين مسبحين مكبرين لله ـ تعالى ـ كما قال ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ...).

وعرش الله ـ تعالى ـ كما قال الراغب مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، فعلينا أن نؤمن بان لله ـ تعالى ـ عرشا عظيما ، أما كيفيته وهيئته فنفوض معرفتها إلى الخالق ـ عزوجل ـ.

وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية.

والاسم الموصول في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) مبتدأ. وخبره قوله : (يُسَبِّحُونَ ..).

والجملة الكريمة مستأنفة ومسوقة لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن هؤلاء الملائكة الذين هم

٢٦٣

أقرب الملائكة إلى الله ـ تعالى ـ يضمون إلى تسبيحهم لذاته ـ سبحانه ـ ، الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم.

وقد ذكر كثير من المفسرين كلاما طويلا في صفة هؤلاء الملائكة وفي صفة العرش. رأينا أن نضرب عنه صفحا لضعفه وقلة فائدته.

أى : الملائكة الكرام المقربون إلينا ، والحاملون لعرشنا ، والحافون به ، من صفاتهم أنهم (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أى : ينزهون الله ـ تعالى ـ عن كل نقص ، ويلهجون بحمده وبالثناء عليه بما يليق به.

(وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ـ تعالى ـ إيمانا تاما لا يشوبه ما يتنافى مع هذا الإيمان والإذعان لله الواحد القهار.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة قوله ـ تعالى ـ : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟.

قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح كذلك ، كما عقب أعمال الخير بقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) فأبان بذلك فضل الإيمان (١).

ويستغفرون للذين آمنوا ، أى : أنهم بجانب تسبيحهم وحمدهم لربهم ، وإيمانهم به ، يتضرعون إليه ـ سبحانه ـ أن يغفر للذين آمنوا ذنوبهم.

وفي هذا الاستغفار منهم للمؤمنين ، إشعار بمحبتهم لهم ، وعنايتهم بشأنهم ، لأنهم مثلهم في الإيمان بوحدانية ـ الله تعالى ـ وفي وجوب إخلاص العبادة والطاعة له.

ثم حكى ـ سبحانه ـ كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً).

والجملة الكريمة على تقدير قول محذوف ، وهذا القول في محل نصب على الحال من فاعل (يَسْتَغْفِرُونَ) وقوله (رَحْمَةً وَعِلْماً) منصوبان على التمييز.

أى : أنهم يستغفرون للذين آمنوا ، حالة كونهم قائلين : يا ربنا يا من وسعت رحمتك ووسع علمك كل شيء ، تقبل دعاءنا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٥٢.

٢٦٤

(فَاغْفِرْ) بمقتضى سعة رحمتك وعلمك (لِلَّذِينَ تابُوا) إليك توبة صادقة نصوحا (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) الحق ، وصراطك المستقيم.

(وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أى : وصنهم يا ربنا واحفظهم من الوقوع في جهنم لأن عذابها كرب عظيم.

يا (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أى : وأدخلهم جناتك دخولا دائما لا انقطاع معه. يقال : عدن فلان بالمكان يعدن عدنا ، إذا لزمه وأقام فيه دون أن يبرحه ، ومنه سمى الشيء المخزون في باطن الأرض بالمعدن ، لأنه مستقر بداخلها.

(الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) فضلا منك وكرما.

وأدخل معهم (مَنْ صَلَحَ) لدخولها بسبب إيمانهم وعملهم الطيب (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ) يا مولانا (الْعَزِيزُ) أى : الغالب لكل شيء (الْحَكِيمُ) في كل تصرفاتك وأفعالك.

فالمراد بالصلاح في قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) : من كان منهم مؤمنا بالله ، وعمل عملا صالحا ، ودعوا لهم بذلك. ليتم سرورهم وفرحهم إذ وجود الآباء والأزواج والذرية مع الإنسان في الجنة ، يزيد سروره وانشراحه.

(وَقِهِمُ) يا ربنا (السَّيِّئاتِ) أى : احفظهم يا ربنا من ارتكاب الأعمال السيئات ، ومن العقوبات التي تترتب على ذلك ، بأن تتجاوز عن خطاياهم.

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أى : في يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس مما كسبت (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أى : فقد رحمته برحمتك الواسعة من كل سوء.

(وَذلِكَ) الذي تقدم من رحمتهم ومن إدخالهم الجنة ، ومن وقايتهم السوء.

(هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يضارعه فوز ، والظفر الكبير الذي لا يقاربه ظفر ، والأمل الذي لا مطمع وراءه لطامع.

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد أخبرتنا أن الملائكة المقربين يدعون للمؤمنين بما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.

وكعادة القرآن الكريم في قرن الترغيب بالترهيب أو العكس : جاء الحديث بعد ذلك عن الكافرين. مبينا انقطاعهم عن كل من يشفع لهم ، أو يدعو لهم بخير ـ كما دعا الملائكة للمؤمنين ـ فقال ـ تعالى ـ :

٢٦٥

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢)

والمقت أشد أنواع البغض والغضب. يقال : مقته مقتا ، إذا غضب عليه غضبا شديدا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (١).

والمنادى لهؤلاء الكافرين : هم الملائكة خزنة النار ، أو المؤمنون. وهذا النداء إنما يكون يوم القيامة ، يوم توفى كل نفس ما كسبت.

أى : إن الذين كفروا بعد أن أحاطت بهم النار ، وبعد أن عادوا على أنفسهم بأشد ألوان الندامة والحسرة والمقت. لإيثارها الكفر على الإيمان.

بعد كل ذلك (يُنادَوْنَ) بأن يقال لهم : إن مقت الله ـ تعالى ـ لكم بسبب إصراركم على الكفر حتى هلكتم .. أشد وأعظم من مقتكم لأنفسكم مهما بلغ مقتكم لها وكراهيتكم لها.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله (يُنادَوْنَ) المنادى لهم الخزنة أو المؤمنون يقولون إعظاما لحسرتهم : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول ، كأنه قيل : ينادون مقولا لهم : لمقت .. ومقت مصدر مضاف إلى الاسم الجليل : إضافة المصدر لفاعله ، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب .. (٢).

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٥٠.

٢٦٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) تعليل لمقت الله أى : لغضب الله ـ تعالى ـ عليكم ، أشد من غضبكم على أنفسكم الأمارة بالسوء وذلك لأنكم جاءتكم دعوة الحق على ألسنة رسلكم ، فأعرضتم عنها ، وصممتم على الكفر والفسوق والعصيان ، حتى أدرككم الموت ، وها أنتم اليوم تجزون ما كنتم تعملونه في الدنيا.

ثم يحكى ـ سبحانه ـ ما يقوله الكافرون بعد أن أنزل بهم ـ سبحانه ـ عقابه العادل فيقول : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ...).

وأرادوا بالموتة الأولى : خلقهم من مادة لا روح فيها وهم في بطون أمهاتهم .. وأرادوا بالثانية : قبض أرواحهم عند انقضاء آجالهم.

وأرادوا بالحياة الأولى : نفخ أرواحهم في أجسادهم وهي في الأرحام ، وأرادوا بالثانية إعادتهم إلى الحياة يوم البعث ، للحساب والجزاء.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ..) (١).

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أى : أنت يا ربنا الذي ـ بقدرتك وحدها ـ أمتنا إماتتين اثنتين ، وأحييتنا إحياءتين اثنتين ، وها نحن قد اعترفنا بذنوبنا التي وقعت منا في الدنيا ، وندمنا على ما كان منا أشد الندم ..

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أى : فهل بعد هذا الاعتراف ، في الإمكان أن تخرجنا من النار ، وأن تعيدنا إلى الحياة الدنيا ، لنؤمن بك حق الإيمان. ونعمل غير الذي كنا نعمل.

فأنت ترى أن الآية تصور ذلهم وحسرتهم أكمل تصوير ، وأنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم ، ولكن هذا التمني والتلهف جاء بعد فوات الأوان.

قال ابن كثير ما ملخصه : هذه الآية كقوله ـ تعالى ـ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ...) وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.

وقال السدى : أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.

وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم ، ثم خلقهم في الأرحام. ثم أماتهم يوم القيامة.

وهذا القولان ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨.

٢٦٧

والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله ، كما قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن تذللهم هذا لن يجديهم ، وأن ما هم فيه من عذاب سببه إعراضهم عن دعوة الحق في الدنيا ، فقال : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).

أى : ذلكم الذي نزل بكم من عذاب سببه ، أنكم كنتم في الدنيا إذا عبد الله ـ تعالى ـ وحده ، وطلب منكم ذلك كفرتم به ـ عزوجل ـ ، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها آمنتم ، ومادام هذا حالكم في الدنيا ، فاخسئوا في النار ولا تؤملوا في الخروج منها ، بحال من الأحوال ، فالحكم لله وحده دون غيره ، وهو سبحانه الذي حكم عليكم بما حكم ..

وهو ـ سبحانه ـ (الْعَلِيِ) أى : المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته أو صفاته (الْكَبِيرِ) أى : العظيم الذي هو أعظم وأكبر من أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد.

وجمع ـ سبحانه ـ لذاته بين هذين الوصفين للدلالة على كبريائه وعظمته.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على فضله ورحمته بعباده ، وعلى وحدانيته وكمال قدرته ، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، وعلى أن كل نفس ستجازى في هذا اليوم بما كسبت بدون ظلم أو محاباة ، لأن القضاء فيه لله الواحد القهار. فقال ـ تعالى ـ :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٢٢.

٢٦٨

عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٢)

والمقصود بآياته ـ عزوجل ـ في قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ...) الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته ، كخلقه للشمس والقمر والليل والنهار ، والبحار والأنهار ، والسماء والأرض ، والمطر والرعد ، والنجوم والرياح ، والأشجار الكبيرة والصغيرة .. إلى غير ذلك من آياته التي لا تحصى في هذا الوجود ..

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي يريكم آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ، لتزدادوا ـ أيها المؤمنون ـ إيمانا على إيمانكم ، وثباتا على ثباتكم ، ويقينا على يقينكم ، بأن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد القهار.

٢٦٩

وقد ساق ـ سبحانه ـ في كتابه عشرات الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ...) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٣).

والمراد بالرزق في قوله : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) .. الأمطار التي تنزل من السماء على الأرض ، فتحييها بعد موتها ، بأن تحولها من أرض جدباء يابسة ، إلى أرض خضراء بشتى الزروع والثمار.

وأطلق ـ سبحانه ـ على المطر رزقا. لأنه سبب فيه ، وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات التي يريها ـ تعالى ـ لعباده لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته ، وجلائل نعمه ، الموجبة لشكره ـ عزوجل ـ ، ولوجوب إخلاص العبادة له.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) بيان لمن هو أهل للانتفاع بهذه الآيات.

أى : وما يتذكر وينتفع بهذه الآيات إلا من يرجع عن المعصية إلى الطاعة وعن الكفر إلى الإيمان ، وعن العناد والجحود ، إلى التفكر والتدبر بقلب سليم.

فقوله (يُنِيبُ) من الإنابة ، ومعناها الرجوع عن الكفر والمعاصي : إلى الإيمان والطاعة.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ..) للإفصاح عن شرط مقدر. أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن كل شيء في هذا الوجود يدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ فأخلصوا له العبادة والطاعة (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) منكم ذلك ـ أيها المؤمنون ـ فلا تلتفتوا إلى كراهيتهم ، وامضوا في طريق الحق ، ودعوهم يموتوا بغيظهم ..

وقد أخذ العلماء من هذا الآية الكريمة ، وجوب إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ووجوب الإكثار من التضرع إليه بالدعاء.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩٠.

(٢) سورة الروم الآية ٢٣.

(٣) سورة يونس الآية ٦.

٢٧٠

ومن الأحاديث التي أوردها الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، ما رواه الإمام مسلم وأبو داود ، والنسائي ، وأحمد ، عن أبى الزبير محمد بن مسلم المكي قال : كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة (١).

ثم يذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك من صفاته العظمى ، ما يزيد المؤمنين في إخلاص العبادة له ، فيقول : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ..) أى : هو ـ تعالى ـ وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو وحده صاحب العرش العظيم ، الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا هو ..

قال الآلوسى قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) رفيع صفة مشبهة أضيفت الى فاعلها من رفع الشيء إذا علا .. والدرجات : مصاعد الملائكة إلى أن يبلغوا العرش ، أى : رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه .. ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه ـ عز شأنه ـ كما أن قوله ـ تعالى ـ : (ذُو الْعَرْشِ) كناية عن ملكه ـ جل جلاله ـ .. (٢).

والمراد بالروح في قوله ـ تعالى ـ : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) : الوحى الذي يوحى به على أنبيائه ، وأمين هذا الوحى جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

أى : هو وحده ـ سبحانه ـ الذي يلقى الوحى. حالة كون هذا الوحى ناشئا من أمره وقضائه على من يختاره لهذا الإلقاء من عباده الصالحين. فقوله (مِنْ أَمْرِهِ) متعلق بمحذوف حال من الروح.

وسمى الوحى روحا ، لأن الأرواح تحيا به ، كما أن الأجساد تحيا بالغذاء.

وقوله ـ تعالى ـ : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) بيان للوظيفة الخاصة بمن يختاره ـ سبحانه ـ من عباده لإلقاء الوحى عليه.

والإنذار : الإعلام المقترن بالتخويف والتحذير ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا.

والمراد بيوم التلاق : يوم القيامة ، وسمى بيوم التلاق لأنه يتلاقى فيه الأولون والآخرون والمؤمنون والكافرون ، والظالمون والمظلومون .. الكل يتلاقى في ساحة المحشر ليقضى الله

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٢٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٥٥.

٢٧١

ـ تعالى ـ فيهم بقضائه العادل.

أى : يلقى ـ سبحانه ـ بوحيه على أنبيائه ، لينذروا الناس ويحذروهم من سوء العذاب يوم القيامة ، إذا ما استمروا في كفرهم وعصيانهم لخالقهم.

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوال الناس في هذا اليوم العصيب ، فقال : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ...).

وهذه الجملة الكريمة بدل من قوله (يَوْمَ التَّلاقِ) ، أى : يلقى ـ سبحانه ـ على من يشاء من عباده ، لكي ينذر الناس من أهوال ذلك اليوم الذي تلتقي فيه الخلائق ، والذي يظهرون فيه ظهورا تاما ، دون أن يخفى منهم شيء على الله ـ تعالى ـ.

والله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء من أمرهم لا في هذا اليوم ولا في غيره ، ولكنه ـ سبحانه ـ ذكر بروزهم وعدم خفائهم عليه في هذا اليوم ، لأنهم ـ لجهلهم ـ كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم يستطيعون التستر عنه ، كما أشار ـ سبحانه ـ إلى ذلك في قوله ـ تعالى ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال : قوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أى : ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأن الأرض بارزة قاع صفصف ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما جاء في الحديث : «يحشرون عراة حفاة غرلا» (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أى : من أعمالهم وأحوالهم ...

فإن قلت : قوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) بيان وتقرير لبروزهم ، والله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أم لم يبرزوا ، فما معناه؟

قلت : معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب ، أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم ، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه قال ـ تعالى ـ : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) السائل والمجيب هو الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٥٦.

٢٧٢

أى : ينادى الله ـ تعالى ـ في المخلوقات في ذلك اليوم ، لمن الملك في هذا اليوم الهائل الشديد؟ ثم يجيب ـ سبحانه ـ على هذا السؤال بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

قال القرطبي ما ملخصه : قال الحسن : هو السائل ـ تعالى ـ وهو المجيب ، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه ، فيجيب نفسه سبحانه فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

وعن ابن مسعود قال : يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة ، لم يعص الله ـ جل وعلا ـ عليها ، فيأمر مناديا ينادى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا.

ثم قال : والقول الأول ظاهر جدا ، لأن المقصود إظهار انفراده ـ تعالى ـ بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين ، وانتساب المنتسبين ، إذ قد ذهب كل ملك وملكة (١).

وبعد أن قرر ـ سبحانه ـ أن الملك في هذا اليوم له وحده. أتبع ذلك ببيان ما يحدث في هذا اليوم فقال : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ..).

أى : في هذا اليوم الهائل الشديد تجازى كل نفس من النفوس المؤمنة والكافرة ، والبارة والفاجرة. بما كسبت في دنياها من خير أو شر ، ومن طاعة أو معصية.

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ولا جور ولا محاباة ولا وساطات .. وإنما تعطى كل نفس ما تستحقه من ثواب أو عقاب.

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه ـ سبحانه ـ لا يحتاج إلى تفكير عند محاسبته لخلقه ، بل هو ـ سبحانه ـ قد أحاط بكل شيء علما ، كما قال ـ تعالى ـ : (عالِمِ الْغَيْبِ ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

ثم يوجه الله ـ تعالى ـ أمره إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحذر كفار قريش من أهوال هذا اليوم فيقول : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ..).

والآزفة : القيامة. وأصل معنى الآزفة : القريبة ، وسميت القيامة بذلك لقربها ، يقال : أزف ـ بزنة فرح ـ يوم الرحيل. إذا دنا وقرب.

والحناجر : جمع حنجرة وهي الحلقوم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٠١.

٢٧٣

وكاظمين : حال من أصحاب القلوب على المعنى. فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها.

وأصل الكظم : الحبس والإمساك للشيء. يقال : كظم القربة إذا ملأها بالماء ، وسد فاها ، حتى لا يخرج منها شيء من الماء.

والمعنى : وأنذر ـ أيها الرسول الكريم ـ الناس ، وحذرهم من أهوال يوم عظيم قريب الوقوع ، هذا اليوم تكون قلوبهم فيه مرتفعة عن مواضعها من صدورهم. ومتشبثة بحناجرهم ، ويكونون كاظمين عليها وممسكين بها حتى لا تخرج مع أنفاسهم. كما يمسك صاحب القربة فمها لكي لا يتسرب منها الماء.

فالآية الكريمة تصوير يديع لما يكون عليه الناس في هذا اليوم من فزع شديد ، وكرب عظيم. وخوف ليس بعده خوف.

والحديث عن قرب يوم القيامة قد جاء في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ...)

وقوله ـ سبحانه ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

والظاهر أن قوله هنا (يَوْمَ الْآزِفَةِ) هو المفعول الثاني للإنذار ليس ظرفا له. لأن الإنذار والتخويف من أهوال يوم القيامة واقع في دار الدنيا.

وقوله : (إِذِ الْقُلُوبُ) بدل من يوم الآزفة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت «كاظمين» بم انتصب؟ قلت : هو حال من أصحاب القلوب على المعنى ، لأن المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا من القلوب ، وأن القلوب ، كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر.

وإنما جمع جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ...) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) نفى لكون هؤلاء الظالمين يوجد في هذا اليوم من ينفعهم أو يدافع عنهم.

والحميم : هو الإنسان الذي يحبك ويشفق عليك ويهتم بأمرك ، ومنه قيل لخاصة الرجل : حامّته.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٥٧.

٢٧٤

والشفيع : من الشفع ، بمعنى الانضمام ، يقال شفع فلان لفلان إذا انضم إليه ليدافع عنه.

أى : ليس للظالمين في هذا اليوم قريب أو محب يعطف عليهم ، ولا شفيع يطيعهم في الشفاعة لهم ، لأنهم في هذا اليوم يكونون محل غضب الجميع ونقمتهم ، بسبب ظلمهم وإصرارهم على كفرهم.

فالآية الكريمة نفت عنهم الصديق الذي يهتم بأمرهم ، والشفيع الذي يشفع لهم ، والإنسان الذي تكون له أية كلمة تسمع في شأنهم.

ثم أكد ـ سبحانه ـ شمول علمه لكل شيء فقال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ).

والمراد بخائنة الأعين : النظرة الخائنة التي يتسلل بها المتسلل ليطلع على ما حرم الله الاطلاع عليه.

والجملة خبر لمبتدأ محذوف. والإضافة في قوله (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) على معنى من ، وخائنة : نعت لمصدر محذوف.

أى : هو ـ سبحانه ـ يعلم النظرة الخائنة من الأعين ، وهي التي يوجهها صاحبها في تسلل وخفية إلى محارم الله ـ تعالى ـ كما يعلم ـ سبحانه ـ الأشياء التي يخفيها الناس في صدورهم ، وسيجازيهم على ذلك في هذا اليوم بما يستحقون.

قال القرطبي : ولما جيء بعبد الله بن أبى سرح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة ، وطلب له الأمان عثمان بن عفان ، صمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طويلا ، ثم قال : «نعم».

فلما انصرف قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن حوله : «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه».

فقال رجل من الأنصار : فهلا اومأت إلى يا رسول الله؟ فقال : «إن النبي لا تكون له خائنة أعين» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن القضاء الحق في هذا اليوم مرده إليه وحده فقال : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ...).

أى : والله ـ تعالى ـ يقضى بين عباده قضاء ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ..) أى : والآلهة الذين يعبدهم الكفار من

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٠٣.

٢٧٥

دون الله ـ تعالى ـ لا يقضون بشيء أصلا ، لأنهم لا يعلمون شيئا ، ولا يقدرون على شيء ، وإذا فهم أعجز وأتفه من أن يلتفت إليهم.

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (هُوَ السَّمِيعُ) لكل شيء (الْبَصِيرُ) بكل شيء ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم وبخ ـ سبحانه ـ هؤلاء الظالمين على عدم اعتبارهم واتعاظهم بمن كان قبلهم فقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ).

أى : أبلغت الجهالة والغفلة وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين من قومك ـ يا محمد ـ أنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا بالظالمين السابقين الذين دمرناهم تدميرا.

إنهم يمرون عليهم مصبحين وبالليل ، وإنهم ليشاهدون آثارهم ماثلة أمام أعينهم ، يشاهدون آثار قوم صالح ، ويشاهدون آثار غيرهم.

ولقد كان هؤلاء السابقون الظالمون ، أشد من مشركي قريش في القوة والبأس ، وأشد منهم في إقامة المبانى الفارهة ، والحصون الحصينة ..

فلما استمروا في جحودهم وكفرهم ، أخذهم الله ـ تعالى ـ أخذ عزيز مقتدر ، بسبب ذنوبهم. وما كان لهم من دون الله ـ تعالى ـ من يدفع عنهم عذابه ، أو يقيهم من بأسه.

(ذلِكَ) الأخذ من أسبابه (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى : بالدلائل الواضحات على صدقهم فيما يبلغونهم عن ربهم.

(فَكَفَرُوا) أى : بالرسل وبما جاءوهم به (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أى : فأهلكهم ـ سبحانه ـ (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أى : إنه ـ سبحانه ـ قوى لا يحول بين ما يريد أن يفعله حائل ، شديد العقاب لمن كفر به ، وأعرض عن دعوة رسله.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا أنواعا متعددة من مظاهر قدرة الله ، ومن أهوال يوم القيامة ، ومن علمه الشامل لكل شيء ، ومن قضائه العادل ومن أخذه للظالمين أخذ عزيز مقتدر.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون. فذكرت جانبا من التهديدات التي وجهها فرعون إلى موسى وقومه ، وكيف أن موسى ـ عليه‌السلام ـ رد عليه ردا قويا حكيما ، فقال ـ تعالى ـ :

٢٧٦

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢٧)

والمراد بآياتنا في قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) تلك الآيات التسع التي أعطاها الله ـ تعالى ـ لموسى ، لتكون معجزات له دالة على صدقة ، وهي : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل والضفادع ، والدم.

قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ).

والمراد بالسلطان المبين : الحجة القاهرة الظاهرة التي تغلب بها في الحجاج والجدال على فرعون.

أى : والله لقد منحنا موسى ـ عليه‌السلام ـ بفضلنا وقدرتنا معجزات باهرات ، ومنحناه ـ أيضا ـ حجة قوية واضحة ، يدمر بها حجج أعدائه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ ...) بيان لمن أرسله الله ـ تعالى ـ إليهم.

وفرعون : لقب لكل ملك من ملوك مصر في تلك العهود السابقة ، والمراد به هنا : ذلك

٢٧٧

الملك الجبار الظالم الذي أرسل في عهده موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ويقال إنه «منفتاح» بن رمسيس الثاني.

و (هامانَ) هو وزير فرعون و (قارُونَ) هو الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم. وأعطاه الله ـ تعالى ـ الكثير من الأموال .. ثم خسف به وبداره الأرض.

وخص ـ سبحانه ـ هؤلاء الثلاثة بالذكر ، مع أن رسالة موسى كانت لهم ولأتباعهم ، لأنهم هم الزعماء البارزون ، الذين كانوا يدبرون المكايد ضد موسى ـ عليه‌السلام ـ فيتبعهم العامة من أقوامهم.

وقوله : (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أرسلناه إلى هؤلاء الطغاة ومعه آياتنا الدالة على صدقه ، فكان جوابهم على دعوته إياهم الى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده. أن قالوا في شأنه ، إنه ساحر يموه على الناس بسحره ، وأنه كذاب في دعواه أنه رسول من رب العالمين.

وهكذا كانت نتيجة أول لقاء بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين هؤلاء الطغاة الظالمين. أنهم وصفوه بالسحر والكذب ، وهو المؤيد بآيات الله ، وبحججه الظاهرة. وما وصفوه بذلك إلا من أجل الحسد والعناد ، والحرص على دنياهم وملكهم.

ثم لم يكتفوا بهذا القول ، بل انتقلوا إلى مرحلة أخرى أشد وأطغى ، فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ...).

أى : فحين وصل إليهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بدعوته. وخاطبهم بما أمره الله ـ تعالى ـ أن يخاطبهم به ، وجابههم بالحق الذي زوده الله ـ تعالى ـ به.

ما كان منهم إلا أن قالوا ـ على سبيل التهديد والوعيد ـ : اقتلوا الذكور من أبناء الذين آمنوا مع موسى ، ودخلوا في دينه ، واتركوا الإناث بدون قتل لخدمتكم ، وليكون ذلك أبلغ في إذلالهم. إذ بقاء النساء بدون رجال فتنة كبيرة. وذل عظيم.

والتعبير بقوله. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) يشعر بأن هؤلاء الظالمين قد جاءهم الحق إلى بيوتهم ومساكنهم ، وأنهم لم يخرجوا لطلبه ، وإنما هو الذي جاءهم عن طريق موسى ، المؤيد بآيات الله ـ تعالى ـ.

والقائلون : (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) هم الملأ من قوم فرعون الذين كانوا يزينون له الظلم والعدوان. إرضاء له. وإرهابا لموسى ـ عليه‌السلام ـ ولمن آمن معه.

٢٧٨

قال الإمام الرازي : والصحيح أن هذا القتل كان غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى ، لأن القتل في ذلك الوقت كان بسبب أن المنجمين قد أخبروا فرعون بولادة عدو له يظهر عليه ، فأمر بقتل الأبناء في ذلك الوقت. وأما في هذا الوقت. فموسى ـ عليه‌السلام ـ كان قد جاءه وأظهر المعجزات. فعند ذلك أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه ، لئلا ينشئوا على دين موسى ، فيقوى بهم. وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات. فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) توهين لشأن الكافرين في كل زمان ومكان ، وتشجيع للمؤمنين على أن يسيروا في طريق الحق دون أن يرهبهم وعد أو وعيد. فإن النصر سيكون في النهاية لهم.

أى : وما كيد الكافرين ومكرهم وعدوانهم ، إلا مصيره إلى الضلال والضياع والبطلان. يقال : ضل فلان الطريق إذا ضاع منه الرشد. والتبست عليه السبل. وصار تائها لا يعرف له طريقا يوصله إلى ما يريد.

ثم بين ـ سبحانه ـ لونا آخر من ألوان فجور فرعون وبغيه فقال : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ..)

والجملة الكريمة معطوفة على قوله : (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وجملة (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) اعتراضية ، جيء بها مسارعة لبيان خسرانهم وضلالهم.

أى : وقال فرعون لحاشيته ومستشاريه وخاصته : اتركوني لأقتل موسى ـ عليه‌السلام ـ وأتخلص منه ومن أقواله التي فيها ما فيها من الضرر بي وبكم.

ويبدو من أسلوب الآية الكريمة أن اتجاه فرعون لقتل موسى كان يجد معارضة مستشاريه. لأنهم يرون أن قتله لا ينهى المتاعب ، بل قد يزيدها اشتعالا لأن عامة الناس سيفهمون أن قتل موسى كان بسبب أنه على الحق ، فتثور ثائرتهم لقتله ، أو لأنهم كانوا يخافون أن قتله سيؤدي إلى نزول العذاب بهم ، غضبا من رب موسى ، ولعل بعضهم كان يعتقد أن موسى على حق ولكن الخوف منعه من الجهر بذلك ، أو لأنهم كانوا يرون أن قتل موسى سيؤدي إلى تفرغ فرعون لهم ، وهم لا يريدون هذا التفرغ ، لأنه يؤدى إلى ضياع الكثير من منافعهم.

قال صاحب الكشاف : قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) كانوا إذا هم بقتله كفّوه بقولهم : ليس موسى بالذي تخافه. وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا بعض السحرة .. وإنك إذا

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٠٢.

٢٧٩

قتلته أدخلت الشبهة على الناس. واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة.

والظاهر أن فرعون ـ لعنه الله ـ كان قد استيقن أن موسى نبيا. وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر ، ولكن الرجل كان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه. ويهدم ملكه. ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله. أن يعاجل بالهلاك .. (١).

وقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) تظاهر من فرعون بأنه لا يبالى بما يكون من وراء قتله لموسى. وأنه غير مكترث لا بموسى ولا برب موسى.

فالجملة الكريمة بيان لما جبل عليه هذا الطاغية من فجور وتكبر واستهزاء بالحق فكأنه يقول : إنى قاتل لموسى وليدع ربه لكي يخلصه منى ..!!

ثم نرى فرعون بعد ذلك يتظاهر أمام حاشيته ، أنه ما حمله على إرادة قتل موسى ، إلا الحرص على منفعتهم. فيقول : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ).

أى : اتركوني لأقتل موسى. وليدع ربه لكي يخلصه منى. إن كان في إمكانه ذلك. فإنى أخاف إن لم أقتله أن يبدل دينكم الذي أنتم عليه بدين آخر أو بأن يظهر في الأرض التي تعيشون عليها الفساد ، عن طريق بث الفتن بينكم وإيقاد نار العداوة في صفوفكم. والعمل على اضطراب أمر دنياكم ومعاشكم.

وهكذا الطغاة الماكرون في كل زمان ومكان : يضربون الحق بكل سلاح من أسلحتهم الباطلة. ثم يزعمون بعد ذلك أمام العامة والبسطاء والمغلوبين على أمرهم .. أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل الحرص على مصالحهم الدينية والدنيوية!!

قال الإمام الرازي : والمقصود من هذا الكلام ، بيان السبب لقتل موسى ، وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا ، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه. فلما كان موسى ساعيا في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق.

وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ، ويصير ذلك سببا لوقوع الخصومات وإثارة الفتن.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٦٠.

٢٨٠