التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

ما ملخصه : ثم إن هذه الآية ـ وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة ـ فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.

روى ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام ـ رضى الله عنه ـ قال : لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة؟ قال : نعم. قلت : إن الأمر إذا لشديد.

وروى الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ «والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا».

وقال ابن عباس : يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهدىّ الضالّ ، والضعيف المستكبر (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا أحد أشد ظلما ممن كذب على الله ـ تعالى ـ وكذب بالصدق إذ جاءه ، وأن من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالحق ، ويدافعون عنه ، وأنه ـ سبحانه ـ سيكفر عنهم سيئاتهم ... فقال ـ تعالى ـ :.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٨٧.

(٢) أول الجزء الرابع والعشرون.

٢٢١

اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)) (٢)

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ ...) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والاستفهام للإنكار والنفي.

أى مادام الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أنك ستموت وهم سيموتون ، وأنكم جميعا ستقفون أمام ربكم للحساب والجزاء .. فلا أحد أشد ظلما من هؤلاء المشركين الذين كذبوا على الله ، بأن عبدوا من دونه آلهة أخرى ، ونسبوا إليه الشريك أو الولد ، ولم يكتفوا بكل ذلك ، بل كذبوا بالأمر الصدق وقت أن جئتهم به من عند ربك.

والتعبير بقوله : (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) يدل على أنهم بادروا بتكذيب ما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ، بمجرد أن سمعوه ، ودون أن يتدبروه أو يفكروا فيه.

وتكذيبهم بالصدق ، يشمل تكذيبهم للقرآن الكريم ، ولكل ما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) للتقرير.

والمثوى : المكان مأخوذ من قولهم ثوى فلان بمكان كذا ، إذا أقام به. يقال : ثوى يثوى ثواء ، كمضى يمضى مضاء ...

أى : أليس في جهنم مكانا يكفى لإهانة الكافرين وإذلالهم وتعذيبهم؟ بل إن فيها لمكانا يذلهم ويذوقون فيه سوء العذاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة أهل الصدق والإيمان فقال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

والمراد بالذي جاء بالصدق : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بالذي صدق به : ما يشمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشمل كل من آمن به واتبعه فيما جاء به ، كأبى بكر الصديق وغيره من الصحابة.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الموصول عبارة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس ... والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية ، دخول الجند في قولك : نزل الأمير موضع كذا ...

٢٢٢

والجمع في قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) باعتبار دخول الأتباع تباعا : ومراتب التقوى متفاوتة ، ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلاها ... (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء المتقين من نعيم فقال (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...).

أى : لهؤلاء المتقين كل ما يشاءونه عند ربهم ومالك أمرهم ، بسبب تصديقهم للحق ، واتباعهم لما جاءهم به رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي قوله : «عند ربهم» تكريم وتشريف لهم.

وقوله : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أى : ذلك الذي ذكرناه من حصولهم على ما يشتهونه ، جزاء من أحسنوا في أقوالهم وأفعالهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر تكريمه لهم ، ورحمته بهم فقال : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

واللام في قوله : «ليكفر ...» متعلقة بمحذوف ، أى : أعطاهم ـ سبحانه ـ ما أعطاهم من فضله ورحمته ليكفر عنهم أسوأ الذنوب التي عملوها ، كالكفر قبل الإسلام ، بأن يغفر لهم ذلك ولا يؤاخذهم عليه.

وإذا غفر الله ـ تعالى ـ لهؤلاء المتقين أسوأ أعمالهم ، غفر لهم ـ بفضله ورحمته ما هو دونه بالطريق الأولى.

«ويجزيهم أجرهم» أى : ويعطيهم ثواب أعمالهم «بأحسن الذي كانوا يعملون» أى : يعطيهم في مقابل عملهم الصالح في الدنيا جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وعلى هذا التفسير يكون قوله ـ تعالى ـ : أسوأ وأحسن ، أفعل تفضيل حيث كفر ـ سبحانه ـ عنهم أسوأ أعمالهم ، وكافأهم على أعمالهم بما هو أحسن منها وهو الجنة.

وهذا منتهى الفضل والإحسان من الله ـ تعالى ـ لعباده المتقين ، حيث عاملهم بالفضل ولم يعاملهم بالعدل.

ومنهم من يرى أن قوله : أسوأ وأحسن ، بمعنى السيئ والحسن ، فيكون أفعل التفضيل ليس على بابه ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : ما معنى إضافة الأسوأ والأحسن إلى الذي عملوا؟ وما معنى التفضيل فيهما؟.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٢.

٢٢٣

قلت : أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها ، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل. كقولك : الأشج أعدل بنى مروان.

وأما التفضيل فإيذان بأن السيئ الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة ، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن ؛ لحسن إخلاصهم فيه ، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ ، وحسنهم بالأحسن» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ عصمته لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبلغ وجه وأتمه فقال (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

وقراءة الجمهور : (عَبْدَهُ) بالإفراد وقرأ حمزة والكسائي : عباده ، والاستفهام للتقرير.

قال القرطبي : وذلك أنهم خوفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضرة الأوثان فقالوا له : أتسب آلهتنا لئن لم تنته عن ذكرها لتصيبنك بالسوء.

وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس ، فقال له سادنها : أحذرك منها يا خالد ، فإن لها شدة لا يقوم لها شيء. فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها ، وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو الذي أرسله. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم ..» (٢).

والمعنى : أليس الله ـ تعالى ـ بكاف عبده محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل سوء؟ وكاف عباده المؤمنين الصادقين من أعدائهم؟ بلى إنه ـ سبحانه ـ لعاصم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعدائه ، ولناصر عباده المتقين على من ناوأهم.

والحال أن هؤلاء المشركين يخوفونك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أصنامهم التي يعبدونها من دونه ـ تعالى ـ ، مع أن هذه الآلهة الباطلة أتفه من أن تدافع عن نفسها فضلا عن غيرها.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أى : من يضلله الله ـ تعالى ـ (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى الصراط المستقيم.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) أى : ومن يهده الله ـ تعالى ـ إلى طريق الحق والصواب.

(فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أى : فما له من أحد كائنا من كان يستطيع إضلاله.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٥٨.

٢٢٤

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) بلى إنه ـ سبحانه ـ لعزيز إذ لا يغلبه غالب ، ولا يمانعه مانع ، ولا ينازعه منازع. ولذو انتقام شديد من أعدائه ، ولا يستطيع أحد أن يمنع انتقامه منهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كان عليه هؤلاء المشركون من تناقض بين أقوالهم وأفعالهم. وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهددهم بسوء المصير إذا ما استمروا على كفرهم ... فقال ـ تعالى ـ

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣)

٢٢٥

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٤٤)

والمعنى : ولئن سألت ـ أيها الرسول الكريم ـ هؤلاء المشركين : من الذي خلق هذه السموات التي ترونها بأعينكم ، وخلق هذه الأرض التي فوقها تعيشون ...

لئن سألتهم هذا السؤال ، لا يملكون في الإجابة عليه إلا أن يقولوا : خلقهم الله ، فلفظ الله فاعل لفعل محذوف.

وقولهم هذا دليل واضح على تناقضهم مع أنفسهم. لأنهم يعترفون بأن الخالق هو الله ، ولكنهم يشركون معه في العبادة آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر ..

ولذا أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم مبكتا وموبخا : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ. أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ)؟.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين : إذا كان الأمر كما ذكرتم من أن الخالق لهذا الكون هو الله ، فأخبرونى عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه ـ سبحانه ـ : أتستطيع أن تدفع ضرا أراده الله ـ تعالى ـ بي؟ أم تستطيع أن تمنع رحمة أو خيرا أعطاه الله لي؟ كلا إنها لا تستطيع شيئا من ذلك ، وعبادتكم لها إنما هي نوع من السفه والحماقة.

وقال ـ سبحانه ـ : (هَلْ هُنَّ ..) بالتأنيث على سبيل التحقير لتلك الآلهة المزعومة ، ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث ، كاللات ، والعزى ، ومناة. إلخ.

وقدم الضر لأن دفعه أهم ، وعلق ـ سبحانه ـ إرادة الضر والرحمة بذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ ...) ليرد عليهم ردا يخرس ألسنتهم ، حيث خوفوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها وزعموا أنه لو استمر في تحقيرها فإنها ستؤذيه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت : لأنهم خوفوه مضرة الأوثان وتخبيلها ، فأمر بأن يقررهم ـ أولا ـ بأن خالق العالم هو الله وحده ، ثم يقول لهم بعد التقرير : فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضر من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل ، أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما. هل هؤلاء اللائي خوفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره ، أو ممسكات رحمته ، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم ، حتى لا يحيروا ببنت شفة قال : (حَسْبِيَ اللهُ) كافيا لمضرة أوثانكم (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وفيه تهكم.

٢٢٦

ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألهم فسكتوا ، فنزل : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ ...) (١).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ في الرد عليهم وفي السخرية من آلهتهم : الله ـ تعالى ـ الخالق لكل شيء ، كافينى في جميع أمورى ، وعاصمنى من كيدكم وكيد من تتوهمون كيده ، وعليه وحده لا على غيره يتوكل المتوكلون ، لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته وقدرته.

ثم أمره ـ سبحانه ـ مرة أخرى أن يتحداهم وأن يتهددهم فقال : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ). أى : وقل لهم للمرة الثالثة : اعملوا ما شئتم عمله من العداوة لي ، والتهديد بآلهتكم.

والمكانة مصدر مكن ـ ككرم ـ ، يقال : مكن فلان من الشيء مكانة ، إذا تمكن منه أبلغ تمكن.

أى : اعملوا ما في إمكانكم عمله معى. والأمر للتهديد والوعيد.

(إِنِّي عامِلٌ) أى : إنى سأقابل عملكم السيئ بعمل أحسن من جانبي ، وهو الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) من منا الذي ينجح في عمله ، ومن منا يأتيه عذاب يخزيه ويفضحه ويهينه في الدنيا ، ومن منا الذي يحل عليه عذاب مقيم في الآخرة. فالمراد بالعذاب المخزى عذاب الدنيا ، والمراد بالعذاب المقيم عذاب الآخرة.

ولقد تحقق ما توعدهم ـ سبحانه ـ به ، حيث أنزل عليهم عقابه في بدر وفي غيرها فأخزاهم وهزمهم ، أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.

ثم أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ...).

أى : إنا أنزلنا عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ القرآن لأجل منفعة الناس ومصلحتهم ، وقد أنزلناه متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.

(فَمَنِ اهْتَدى) إلى الصراط المستقيم ، وإلى الحق المبين فهدايته تعود إلى نفسه (وَمَنْ ضَلَ) عن الطريق المستقيم ، فإثم ضلاله. إنما يعود على نفسه وحدها.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ) يا محمد (بِوَكِيلٍ) أى : بمكلف بهدايتهم ، وبإجبارهم على اتباعك ، وإنما أنت عليك البلاغ ، ونحن علينا الحساب.

__________________

(١) الكشاف ج ٤ ص ١٢٩.

٢٢٧

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، ونفاذ مشيئته فقال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ...)

أى : الله ـ بقدرته وحدها يقبض أرواح مخلوقاته حين انتهاء آجالها بأن يقطع تعلقها بالأجسام قطعا كليا ، ويسلب هذه الأجسام والأبدان ما به قوام حياتها ، بأن تصير أجساما هامدة لا إدراك لها. ولا حركة فيها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) معطوف على الأنفس ، أى : يسلب الحياة عن الأنفس التي انتهى أجلها سلبا ظاهرا وباطنا ، ويسلب الحياة عنها سلبا ظاهرا فقط في حال نومها. إذ أنها في حالة النوم تشبه الموتى من حيث عدم التمييز والتصرف.

فالآية الكريمة تشير إلى أن التوفي للأنفس أعم من الموت ، إذ أن هناك وفاتين. وفاة كبرى وتكون عن طريق الموت ، ووفاة صغرى وتكون عن طريق النوم. كما قال ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ..) أى : يجعلكم تنامون فيه نوما يشبه الموت في انقطاع الإدراك والإحساس ..

وقوله ـ تعالى ـ : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) بيان لحالة الأنفس التي انتهى أجلها ، والتي لم ينته أجلها بعد.

أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي يتوفى الأنفس حين الموت ، وحين النوم ، أما الأنفس التي انتهى أجلها فيمسك ـ سبحانه ـ أرواحها إمساكا تاما بحيث لا تعود إلى أبدانها مرة أخرى ، وأما التي لم يحن وقت موتها ، فإن الله ـ تعالى ـ يعيدها إلى أبدانها عند اليقظة من نومها ، وتستمر على هذه الحالة إلى أجل مسمى في علمه ـ تعالى ـ فإذا ما انتهى أجلها الذي حدده ـ سبحانه ـ لها ، خرجت تلك الأرواح من أبدانها خروجا تاما ، كما هو الشأن في الحالة الأولى.

ولا شك أن الله ـ تعالى ـ الذي قدر على ذلك ، قادر أيضا ـ على إعادة الأرواح إلى أجسادها عند البعث والنشور يوم القيامة.

فالآية الكريمة مسوقة لبيان كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ولبيان أن البعث حق ، وأنه يسير على قدرة الله التي لا يعجزها شيء.

ولا منافاة بين هذه الآية التي صرحت بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي يتوفى الأنفس عند موتها ، وبين قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ..) وقوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ...) لأن المتوفى في الحقيقة هو الله ـ تعالى ـ وملك الموت

٢٢٨

إنما يقبض الأرواح بإذنه ـ سبحانه ـ ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الأرواح بأمره المستمد من أمر الله ـ عزوجل ـ.

قال القرطبي : «فإذا يقبض الله الروح في حالين : في حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض. وما يقبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة.

وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته ، وانفراده بالألوهية ، وأنه يفعل ما يشاء ويحيى ويميت ، ولا يقدر على ذلك سواه. (١).

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعود إلى المذكور من التوفي والإمساك والإرسال.

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من قدرتنا على توفى الأنفس وإمساكها وإرسالها ، لآيات بينات على وحدانيتنا وقدرتنا ، لقوم يحسنون التأمل والتفكير والتدبر ، فيما أرشدناهم إليه وأخبرناهم به.

ثم نعى ـ سبحانه ـ على الكفار غفلتهم وعدم تفكرهم فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ).

و «أم» هنا بمعنى بل والهمزة ، والاستفهام للإنكار ، والمراد بالشفعاء تلك الأصنام التي زعموا أنها ستشفع لهم يوم القيامة.

والمعنى : لقد ترك هؤلاء المشركون التفكر والتدبر في دلائل وحدانيته وقدرته ـ سبحانه ـ ولم يلتفتوا إلى ما ينفعهم ، بل اتخذوا الأصنام آلهة لينالوا بواسطتها الشفاعة عند الله.

قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ مرشدا ومنبها : أتفعلون ذلك ولو كانت هذه الآلهة لا تملك شيئا من أمرها ، ولا تعقل شيئا مما يتوجهون به إليها؟

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين لهم أن الله ـ تعالى ـ هو مالك الشفاعة كلها ، وأنه لن يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه ، فقال : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ..).

أى : قل لهم : الله ـ تعالى ـ هو المالك للشفاعة كلها ، وآلهتكم هذه لا تملك شيئا من ذلك ، بل أنتم وآلهتكم ـ أيها المشركون ـ ستكونون وقودا لنار جهنم.

وهو سبحانه ـ : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا تاما لا تصرف لأحد في شيء منهما معه ، ولا شفاعة لأحد إلا بإذنه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٦١.

٢٢٩

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيحاسبكم على أعمالكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال هؤلاء المشركين ، عند ما يذكر ـ سبحانه ـ وحده دون أن تذكر معه آلهتهم ، كما بين أحوالهم السيئة يوم القيامة ، وكيف أنهم يندمون ولا ينفعهم الندم ، وكيف أنهم لو ملكوا في هذا اليوم ما في الأرض جميعا ومثله معه ، لقدموه فداء لأنفسهم من أهوال عذاب يوم القيامة .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا

٢٣٠

وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

وقوله ـ تعالى ـ : (اشْمَأَزَّتْ ..) أى : نفرت وانقبضت وذعرت ، مأخوذ من الشّمز ، وهو نفور النفس مما تكرهه.

قال الإمام الرازي : اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين وهو أنك إذا ذكرت الله وحده .. ظهرت آثار النفرة في وجوههم وقلوبهم ، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح .. وذلك يدل على الجهل والحماقة ، لأن ذكر الله رأس السعادة ، وعنوان الخيرات ، وأما ذكر الأصنام فهو رأس الحماقات ..» (١).

أى : إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ إذا ذكرت الله ـ تعالى ـ وحده ، ونسبت إليه ما يليق به ـ سبحانه ـ من وحدانيته وقدرته .. دون أن تذكر معه الأصنام اشمأزت وانقبضت وذعرت نفوس هؤلاء المشركين الجهلاء ، أما إذا ذكرت آلهتهم سواء أذكرت الله ـ تعالى ـ معها أم لم تذكره ، إذا هم يستبشرون ويبتهجون ..

والتعبير بالاشمئزاز والاستبشار ، يشعر بأنهم قد بلغوا الغاية في الأمرين ، فهم عند ذكر الله ـ تعالى ـ تمتلئ قلوبهم إلى نهايتها غما وهما وانقباضا وذعرا. وعند ذكر أصنامهم تمتلئ قلوبهم إلى نهايتها ـ أيضا ـ بهجة وسرورا حتى لتظهر آثار ذلك على بشرتهم ...

وحالهم هذا يدل على أنهم قد بلغوا الغاية ـ أيضا ـ في الجهالة والسفاهة والغفلة ..

وهذا الذي ذكرته الآية الكريمة من اشمئزاز الكافرين عند ذكر الله ـ تعالى ـ واستبشارهم عند ذكر غيره ، نرى ما يشبهه عند كثير من الناس ..

فكم من أناس إذا حدثتهم عن ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته ، وعن سلامة دينه وتشريعاته ، وعن آداب قرآنه وهداياته ، وعن كل ما يتعلق بوجوب تنفيذ أوامره ونواهيه .. انقبضت نفوسهم ، واكفهرت وجوههم ، وتمنوا لو أنك تركت الحديث عن ذلك.

أما إذا سمعوا ما يتعلق بالتشريعات والنظم التي هي من صنع البشر ـ استبشرت نفوسهم ، وابتهجت أساريرهم ..

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ، وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٢٥٨.

(٢) سورة الإسراء الآية ٤٦.

٢٣١

قال الآلوسى : وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله ـ تعالى ـ بها المشركين ، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم .. وينقبضون من ذكر الله ـ تعالى ـ وحده ـ ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه ـ عزوجل ـ وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله. وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة ، وينسبونه إلى ما يكره ..» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلتجئ إلى خالقه وحده من شرور هؤلاء المشركين ، وأن يفوض أمره إليه ، فقال ـ تعالى ـ (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

ولفظ : (اللهُمَ) أصله يا الله. فلما استعمل دون حرف النداء. عوض عنه بالميم المشددة التي في آخره.

ولفظ «فاطر ، وعالم» منصوبان على النداء.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل الاستعاذة والاعتزال لما عليه هؤلاء المشركون من جهل وسفه ، يا الله ، يا خالق السموات والأرض ويا عالم الغائب والمشاهد. والخفى والظاهر من أمور خلقك ، أنت وحدك الذي تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا ، فتجازى كل نفس بما تستحقه من ثواب أو عقاب.

وما دام الأمر كذلك ، فاهدني إلى صراطك المستقيم ، وجنبني الشرك والمشركين.

فالمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما فعله المشركون معه ، وإرشاده إلى ما يعصمه من كيدهم. وتعليم العباد وجوب الالتجاء إلى الله ـ تعالى ـ وحده ـ لدفع كيد أعدائه عنهم.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث ، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت عائشة : بأى شيء كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟

قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بقوله : «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض. عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم ..» (٢).

__________________

(١ ، ٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ١١.

٢٣٢

وقال صاحب الكشاف : «بعل ـ بكسر العين ـ أى : دهش وفزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدّة شكيمتهم في الكفر ، فقيل له : «ادع الله بأسمائه الحسنى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم ، ولا حيلة لغيرك فيهم». وفيه وصف لحالهم ، وإعذار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ، ووعيد لهم .. (١).

وبعد هذه التسلية من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ـ سبحانه ـ لهؤلاء الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم .. بين لهم ما لهم من سوء المصير فقال : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ..).

أى : أن العذاب المعد لهؤلاء المشركين شيء رهيب ، ولو أن لهم جميع ما أعد في الأرض من خيرات ، ولهم ـ أيضا ـ مثل ذلك منضما إليه ، لقدموه فداء لأنفسهم ، أملا في النجاة من سوء العذاب الذي ينتظرهم يوم القيامة.

فالآية الكريمة وعيد لهم ليس بعده وعيد ، وتيئيس لهم من النجاة ليس بعده تيئيس.

ومن الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ، ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٢).

ثم هددهم ـ سبحانه ـ بتهديد آخر فقال : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

أى : وظهر لهم يوم القيامة من ألوان العقوبات ، ومن فنون الآلام ، ما لم يكونوا في الدنيا يظنون أنه سيقع بهم ، وما لم يكن واردا في حسبانهم.

قال صاحب الكشاف : وقوله ـ تعالى ـ (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ..) وعيد لهم بعذاب ما دروا كنهه لفظاعته وشدته ، وهو نظير قوله ـ تعالى ـ في الوعد : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ..).

والمعنى : وظهر من سخط الله وعذابه ، ما لم يكن قط في حسابهم ، وما لم يحدثوا به أنفسهم.

وقيل : عملوا أعمالا حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات.

وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء. ويل لأهل الرياء.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٣٢.

(٢) سورة المائدة الآيتان ٣٦ ، ٣٧.

٢٣٣

وجزع بعض الصالحين عند موته ، فسئل عن سبب ذلك فقال : أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه ، ثم قرأ هذه الآية» (١).

ثم تهديد ثالث يتمثل في قوله ـ تعالى ـ : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمراد بسيئات ما كسبوا : الأعمال السيئة التي اكتسبوها في دنياهم ، وهذا البدو والظهور يكون عند عرض صحائف أعمالهم عليهم. و «ما» موصولة أو مصدرية.

أى : وظهر لهم عند عرض صحائف أعمالهم عليهم يوم القيامة ، الذي عملوه واكتسبوه في الدنيا من رذائل (وَحاقَ بِهِمْ) أى : وأحاط ونزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في حياتهم ويتهكمون بمن كان يحذرهم منه في الدنيا.

وبعد هذا التصوير الرهيب لمصير هؤلاء المشركين يوم القيامة ، عادت السورة إلى بيان تناقضهم مع أنفسهم ، فهم إن سئلوا عمن خلق السموات والأرض ، قالوا : إن خالقهما هو الله ، ومع ذلك يعبدون غيره وتشمئز قلوبهم عند ذكره وحده.

وهم يتقربون إلى آلهتهم بالطاعات ، ومع ذلك فهم عند نزول الشدائد بهم ، ينسون تلك الآلهة ويتجهون إلى الله ـ تعالى ـ وحده بالدعاء.

لنستمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى أحوالهم في السراء والضراء فتقول : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ...).

والمراد بالإنسان هنا هو جنس الكفار ، بدليل سياق ، الآيات وسباقها ويصح أن يراد به جنس الإنسان عموما ، ويدخل فيه الكفار دخولا أوليا.

أى : فإذا أصاب الإنسان ضر ، من مرض أو فقر أو نحوهما ، دعانا قاعدا أو قائما. لكي نكشف عنه ما نزل به من بلاء.

(ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ..) أى : ثم إذا أجبنا لهذا الإنسان دعوته وكشفنا عنه الضر وأعطيناه على سبيل التفضل والإحسان نعمة من عندنا ، بأن حولنا مرضه إلى صحة ، وفقره إلى غنى.

(قالَ) هذا الإنسان الظلوم الكفار (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) منى بوجوه المكاسب ، أو على علم منى بأن سأعطى هذه النعمة ، بسبب استعدادي واجتهادي وتفوقى في مباشرة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٣٣.

٢٣٤

الأسباب التي توصل إلى الغنى والجاه.

وقال ـ سبحانه ـ : (خَوَّلْناهُ) لأن التخويل معناه العطاء بدون مقابل ، مع تكراره مرة بعد مرة.

وجاء الضمير في قوله (أُوتِيتُهُ) مذكرا مع أنه يعود إلى النعمة. لأنها بمعنى الإنعام. أى : إذا خولناه شيئا من الإنعام الذي تفضلنا به عليه ، قال إنما أوتيته على علم وتبوغ عندي.

وقوله ـ تعالى ـ (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) رد لقوله ذلك ، وزجر لهذا الجاحد عما تفوه به.

أى : ليس الأمر كما زعم هذا الجاحد ، فإننا ما أعطيناه هذه النعم بسبب علمه ـ كما زعم ـ وإنما أعطيناه ما أعطيناه على سبيل الإحسان منا عليه ، وعلى سبيل الابتلاء والاختبار له ، ليتبين قوى الإيمان من ضعيفه ، وليتميز الشاكر من الجاحد.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق ، ولا يفطن إليها إلا من استنارت بصيرته ، وطهرت سريرته.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء ، وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ قلت : السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة من قوله. (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ). على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله ، ويستبشرون بذكر الآلهة. فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره ، دون من استبشر بذكره ، وما بينهما من الآي اعتراض .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ المصير السيئ للجاحدين السابقين ليعتبر بهم اللاحقون فقال : (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

والضمير في قوله (قالَهَا) يعود إلى ما حكاه ـ سبحانه ـ عن هذا الإنسان الجاحد من قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ).

فهذه الكلمة قد قالها قارون عند ما نصحه الناصحون ، فقد رد عليهم بقوله (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فكانت نهايته أن خسف الله به وبداره الأرض.

أى : قد قال هذه الكلمة الدالة على الجحود والغرور ، بعض الأقوام الذين سبقوا قومك. والذين يشبهونهم في البطر والكنود ، فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله ـ تعالى ـ أخذ عزيز مقتدر ، ولم ينفعهم شيئا ما جمعوه من حطام الدنيا ، وما اكتسبوه من متاعها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٣٤.

٢٣٥

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ..) أى : فأصاب هؤلاء السابقين ، العقاب الذي يستحقونه بسبب سيئاتهم التي اكتسبوها واقترفوها في دنياهم.

فالكلام على حذف مضاف. أى : فأصابهم جزاء سيئات كسبهم بأن أنزل الله ـ تعالى ـ بهم العقوبة التي يستحقونها بسبب إصرارهم على الكفر والمعاصي.

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أى : من هؤلاء المشركين المعاصرين لك ـ أيها الرسول الكريم ـ.

(سَيُصِيبُهُمْ) ـ أيضا ـ سيئات ما كسبوا ، كما أصاب الذين من قبلهم.

(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أى : وما هم بفائتين أو هاربين من عذابنا.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أى : أعموا عن التفكر والإبصار ، ولم يشاهدوا بأعينهم أن الله ـ تعالى ـ يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ، ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه منهم ، إذ أن ذلك مرجعه إلى مشيئته وحكمته ـ سبحانه ـ إذ سعة الرزق ليست دليلا على رضاه ، كما أن ضيقه ليس دليلا على غضبه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه (لَآياتٍ) واضحات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالحق ويستجيبون له ، وينتفعون بالهدايات التي نسوقها لهم.

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد صورت حال المشركين أكمل تصوير ، كما بينت ما أعدّ لهم من عذاب مقيم ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، وإعراضهم عن دعوة الحق.

ثم فتح ـ سبحانه ـ لعباده باب رحمته ، ونهاهم عن اليأس من مغفرته ، وأمرهم أن يتوبوا إليه توبة صادقة نصوحا ، قبل أن يفاجئهم الموت والحساب ، فقال ـ تعالى :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى

٢٣٦

عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ). روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة. تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السّهمى وعيّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضاة بنى غفار ـ أى : غدير بنى غفار ـ وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فتن فافتتن ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله ـ عزوجل ـ وآمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم ـ أيضا ـ يقولون هذا في أنفسهم. فأنزل الله ـ عزوجل ـ في كتابه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ..) إلى قوله ـ تعالى ـ (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ).

قال عمر : فكتبتها بيدي ، ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذي طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

والأمر في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) موجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإضافة العباد إلى الله ـ تعالى ـ للتشريف والتكريم.

والإسراف : تجاوز الحد في كل شيء ، وأشهر ما يكون استعمالا في الإنفاق ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٦٨ ، تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ١٥.

٢٣٧

والمراد بالإسراف هنا : الإسراف في اقتراف المعاصي والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين. وعدى الفعل «أسرفوا» بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم.

والقنوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب. يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشيء ، أى يائس من ذلك ولا أمل له في تحقيق ما يريده.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لعبادي المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم بارتكابهم للمعاصي ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله ـ تعالى ـ ومن مغفرته لكم.

وجملة «إن الله يغفر الذنوب جميعا» تعليلية. أى : لا تيأسوا من رحمة الله ـ تعالى ـ لأنه هو الذي تفضل بمحو الذنوب جميعها. لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل ـ سبحانه ـ توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ماتوا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه.

أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا في الإسلام ، غفر ـ سبحانه ـ ما كان منهم قبل الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله.

وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله ـ تعالى ـ لهم ، لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

قال الإمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم. ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي .. ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة .. ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ..) فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده ، فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك.

ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله (جَمِيعاً) فيا لها من بشارة ترتاح لها النفوس .. وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ..) (١).

وقال الجمل في حاشيته ما ملخصه : وفي هذه الآية من أنواع المعاني والبيان أشياء حسنة ،

__________________

(١) راجع تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٤٧٠.

٢٣٨

منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، في قوله : (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها : إعادة الظاهر بلفظه في قوله : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ) ومنها : إبراز الجملة من قوله : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة.

وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى (١).

وبعد أن فتح ـ سبحانه ـ لعباده باب رحمته فتحا واسعا كريما .. أتبع ذلك بحضهم على التوبة والإنابة إليه ، حتى يزيدهم من فضله وإحسانه فقال : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

أى قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ، وارجعوا إليه بالتوبة والإنابة ، وأخلصوا له العبادة ، من قبل أن ينزل بكم العذاب الذي لا تستطيعون دفعه ثم لا تجدون من ينجيكم منه.

فأنت ترى أن الآية الأولى بعد أن فتحت للعصاة باب رحمة الله على مصراعيه ، جاءت الآية الثانية فحثتهم على التوبة الصادقة النصوح ، حتى تكون رحمة الله ـ تعالى ـ بهم أكمل وأتم وأوسع ، فإن التوبة النصوح سبب في تحويل السيئات إلى حسنات.

كما قال ـ تعالى ـ : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٢).

ثم أمرهم باتباع أوامر القرآن الكريم ونواهيه فقال : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

أى : واتبعوا هذا القرآن الكريم ، الذي هو أحسن ما أنزله ـ سبحانه ـ إليكم ، بسبب ما اشتمل عليه من هدايات سامية ، ومن تشريعات حكيمة. ومن آداب قويمة.

فإن اتباع ما اشتمل عليه هذا القرآن من توجيهات. يؤدى إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) متعلق بالأمر بالاتباع ، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٦٠٥.

(٢) سورة الفرقان الآية ٧٠.

٢٣٩

أى : سارعوا إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن ، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات ، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله.

فالآية الكريمة تقرير وتأكيد لما قبلها : من الدعوة إلى المسارعة بالتوبة وبالعمل الصالح.

وقوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) في موضع المفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف.

أى : اتبعوا ما أمرناكم به ، واحذروا ما نهيناكم عنه ، كراهة أن تقول نفس يوم القيامة (يا حَسْرَتى) أى : يا ندامتي (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) أى : بسبب تفريطي وتقصيرى في طاعة الله ، وفي حقه ـ تعالى ـ.

وأصل الجنب والجانب : الجهة المحسوسة للشيء ، وأطلق على الطاعة على سبيل المجاز ، حيث شبهت بالجهة. بجامع تعلق كل منهما ـ أى الجانب والطاعة ـ بصاحبه. إذ الطاعة لها تعلق بالله ـ تعالى ـ. كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم نكرت «نفس».؟ قلت : لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر. ويجوز أن يكون نفس متميزة من الأنفس : إما بلجاج في الكفر شديد ، أو بعذاب عظيم ، ويجوز أن يراد التكثير ، كما قال الأعشى :

دعا قومه حولي فجاءوا لنصره

وناديت قوما بالمسناة غيبا

ورببقيع لو هتفت بجوه

أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا

وهو يريد : أفواجا من الكرام ينصرونه ، لا كريما واحدا .. (١).

وجملة : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) في محل نصب على الحال. أى : فرطت في جنب الله وطاعته ، والحال أنى لم أكن إلا من الساخرين بدينه ، المستهزئين بأتباع هذا الدين الحق.

قال قتادة : لم يكفه أنه ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ مقالة أخرى مما تقوله تلك النفس فقال : (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) إلى طاعته واتباع دينه (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) للشرك والمعاصي ، ومن الذين صانوا أنفسهم عما يغضبه ـ سبحانه ـ ولا يرضيه.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ مقالة ثالثة لها فقال : (أَوْ تَقُولَ) هذه النفس (حِينَ تَرَى الْعَذابَ). في الآخرة (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أى رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ) فيها (مِنَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٣٦.

٢٤٠