التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

الْمُحْسِنِينَ) لأقوالهم وأفعالهم ، وعقائدهم ، بحيث أخلص العبادة لله ـ تعالى ـ وأطيعه في السر والعلن.

وهكذا يصور القرآن الكريم أحوال النفوس في الآخرة ، تصويرا مؤثرا بليغا ، يحمل كل عاقل على الإيمان الصالح الذي ينفعه في ذلك اليوم الهائل الشديد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) رد منه ـ عزوجل ـ على هذا القائل : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وتكذيب له في هذه الدعوى.

والمراد بالآيات : الحجج والبراهين الدالة على حقيقة دين الإسلام ، وعلى رأسها آيات القرآن الكريم.

أى ليس الأمر كما ذكرت أيها النادم على ما فرط منه ، من أن الله لم يهدك إلى الطريق القويم ، بل الحق أن الله ـ تعالى ـ قد أرشدك إليه عن طريق إرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ولكنك كذبت رسوله ، واستكبرت عن سماع آيات الله وعن اتباعها ، وكنت في دنياك من الكافرين بها ، الجاحدين لصدقها ، فأصابك ما أصابك من عذاب في الآخرة بسبب أعمالك القبيحة في الدنيا.

قال الشوكانى : وجاء ـ سبحانه ـ بخطاب المذكر في قوله : «جاءتك ، وكذبت واستكبرت ، وكنت» لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد : تقول العرب. نفس واحد. أى ، إنسان واحد .. (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، وعن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعن تلقين الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يرد به على المشركين. وعن أحوال الناس عند النفخ في الصور .. قال ـ تعالى ـ.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٤٧٢.

٢٤١

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠)

فقوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ..) بيان لحالة الكافرين يوم القيامة ، ولما تكون عليه هيئتهم من خزي وهوان.

أى : وفي يوم القيامة إذا نظرت ـ أيها الرسول الكريم ـ أو ـ أيها العاقل ـ إلى وجوه الذين كذبوا على الله ، بأن أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى ، أو جعلوا له صاحبة أو ولدا .. إذا نظرت إليها رأيتها مسودة مكفهرة بسبب ما أحاط بهم من عذاب ، وما شاهدوه من أهوال.

وقوله : (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في محل نصب على الحال من

٢٤٢

الذين كذبوا .. والاستفهام في قوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) للتقرير. والمثوى : المكان والمقام.

يقال : ثوى فلان بالمكان وأثوى فيه ، إذا أقام به ، فهو ثاو ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ).

أى : أليس في جهنم مكانا ومقرا لإهانة المتكبرين وإذلالهم ، بسبب تطاولهم على غيرهم ، وتكذيبهم لآيات الله؟ بلى إن بها ما يجعلهم يذوقون العذاب الأليم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال المؤمنين يوم القيامة ، بعد بيانه لحال الذين كذبوا على الله ، فقال : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ومفازتهم : اسم مصدر. أو مصدر ميمى. من فاز فلان بكذا ، إذا ظفر به ، ونال مراده منه.

أى : وينجى الله ـ تعالى ـ بفضله ورحمته ، (الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي من عذاب جهنم ، (بِمَفازَتِهِمْ) أى : بسبب فوزهم برضا الله ـ تعالى ـ ورحمته ، جزاء إيمانهم وتقواهم ، وقرأ حمزة والكسائي بمفازاتهم بالجمع.

ويصح أن تكون الباء في قوله : (بِمَفازَتِهِمْ) للملابسة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الذين اتقوا. أى ينجيهما حالة كونهم متلبسين.

وقوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يجوز أن يكون تفسيرا لذلك الفوز ، كأنه قيل : وما مظاهر فوزهم فكان الجواب : لا يمسهم السوء الذي يصيب غيرهم من الكافرين والعصاة ، ولا هم يحزنون على شيء تركوه خلفهم في الدنيا.

ويجوز أن يكون حالا من الذين اتقوا. أي : ينجيهم بسبب مفازتهم ، حال كونهم لا يمسهم السوء ، أى : لا يمسهم شيء مما يكره لا في الحال ولا في الاستقبال ، ولا هم يحزنون على ما كان منهم في الماضي.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد كرم المتقين تكريما عظيما ، حيث نجاهم من عذاب جهنم ، وجعلهم آمنين من كل ما يغمهم في كل زمان أو مكان.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : هذه آية جامعة ، لأن الإنسان إذا علم أنه لا يمسه السوء ، كان فارغ البال بحسب الحال ، وإذا علم أنه لا يحزن كان هادئ النفس عما وقع في قلبه بسبب فوات الماضي ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات.

٢٤٣

وقد دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة ، وتأكد هذا بقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ..) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته فقال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

أى : الله ـ تعالى ـ هو وحده الخالق لكل شيء في هذا الكون ، وهو ـ سبحانه ـ المتصرف في كل شيء في هذا الوجود ، بحيث لا يخرج مخلوق عن إذنه ومشيئته.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : له وحده مفاتيح خزائنهما ، والمقاليد جمع مقلاد ، أو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، مأخوذ من التقليد بمعنى الإلزام. أى : أنه لا يملك أمر السموات والأرض ، ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره ـ تعالى ـ.

قال صاحب الكشاف : قوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أى : هو مالك أمرهما وحافظهما ؛ لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها ، هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت إليه مقاليد الملك ، وهي المفاتيح ، ولا واحد لها من لفظها وقيل : جمع مقليد .. والكلمة أصلها فارسية.

فإن قلت : ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟

قلت : التعريب أحالها عربية ، كما أخرج الاستعمال المهمل عن كونه مهملا ، (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ مصير الكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أى : والذين كفروا بآيات الله التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيته ، أولئك هم البالغون أقصى الدرجات في الخسران.

وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وما بينهما اعتراض للدلالة على هيمنة الله ـ تعالى ـ على شئون خلقه .. أى : وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم .. والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الكاملون في الخسران.

وهذه المقابلة فيها ما فيها من تأكيد الثواب العظيم للمتقين ، والعقاب الأليم للكافرين. ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخ الكافرين على جهالاتهم. فقال : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٢٦٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٤٠.

٢٤٤

وقد ذكروا في سبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك.

والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، و «غير» منصوب بقوله : (أَعْبُدُ) ، وأعبد معمول لتأمرونى على تقدير أن المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها.

والمعنى : قل ـ يا أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين على سبيل التوبيخ والتأنيب : أبعد أن شاهدتهم ما شاهدتم من الآيات الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى صدقى فيما أبلغه عنه ، أبعد كل ذلك تأمرونى أن أعبد غير الله ـ تعالى ـ أيها الجاهلون بكل ما يجب لله ـ تعالى ـ من تنزيه وتقديس.

ووصفهم هنا بالجهل ، لأن هذا الوصف هو الوصف المناسب للرد على ما طلبوه. منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إشراك آلهتهم في العبادة.

ثم حذر ـ سبحانه ـ من الشرك أبلغ تحذير فقال : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

قال الجمل : قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ...) هذه اللام دالة على قسم مقدر وقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ). هذه اللام ـ أيضا ـ دالة على قسم مقدر ، وقوله : (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) كل من هذين اللامين واقعة في جواب القسم الثاني. والثاني وجوابه جواب الأول. وأما جواب الشرط في قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) فمحذوف ، لدخول جواب القسم عليه ، فهو من قبيل قول ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم (١)

وقوله (أُوحِيَ) مسلط على (إِلَيْكَ) وعلى (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) فيكون المعنى : ولقد أوحى إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ وأوحى إلى الرسل الذين من قبلك أيضا لئن أشركت ، بالله ـ تعالى ـ على سبيل الفرض (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، أى ليفسدن عملك فسادا تاما (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) خسارة ليس بعدها خسارة في الدنيا والآخرة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : الموحى إليهم ، جماعة ، فكيف قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) على التوحيد؟

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٦٠٨.

٢٤٥

قلت : معناه. أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله ، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم : لئن أشركت ليحبطن عملك. كما تقول : فلان كسانا حلة. أى : كل واحد منا.

فإن قلت : هو على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها .. (١).

والآية الكريمة تحذر من الشرك بأسلوب فيه ما فيه من التنفير منه ومن التقبيح له ، لأنه إذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو وقع في شيء منه ـ على سبيل الفرض ـ حبط عمله ، وكان من الخاسرين. فكيف بغيره من أفراد أمته؟

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أمر منه ـ تعالى ـ بالثبات على عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وبالمداومة على شكره ، ونهى عن طاعة المشركين ، ولفظ الجلالة منصوب بقوله (فَاعْبُدْ) والفاء جزائية في جواب شرط مقدر.

أى : لا تطع ـ أيها الرسول الكريم ـ المشركين فيما طلبوه منك ، بل اجعل عبادتك لله ـ تعالى ـ وحده ، وكن من الشاكرين له على نعمه التي لا تحصى.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغير الله ـ تعالى ـ قد تجاوزوا حدودهم معه ـ عزوجل ـ ، ولم يعطوه ما يستحقه من تنزيه وتقديس فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

أى : أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغيره ـ تعالى ـ ، ما عظموه حق تعظيمه ، وما أعطوه ما يستحقه ـ سبحانه ـ من تقديس وتكريم وتنزيه وطاعة.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على وحدانيته. وكمال قدرته. فقال : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

والقبضة : المرة من القبض ، وتطلق على المقدار المقبوض بالكف. ومطويات أى : مجموعات تحت قدرته وملكه ، كما يجمع الكتاب المطوى ، والجملة الكريمة حال من لفظ الجلالة ، فيكون المعنى : إن هؤلاء المشركين لم يعظموا الله حق تعظيمه ، حيث أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى هي من مخلوقاته ، والحال أنه ـ سبحانه ـ هو المتولى لإبقاء السموات والأرض على حالهما في الدنيا ، وهو المتولى لتبديلهما أو إزالتهما في الآخرة ، فالأرض كلها مع عظمتها

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٤١.

٢٤٦

وكثافتها تكون يوم القيامة في قبضته وتحت قدرته ، كالشىء الذي يقبض عليه القابض ، والسموات كذلك مع ضخامتها واتساعها ، تكون مطويات بيمينه وتحت قدرته وتصرفه ، كما يطوى الواحد منا الشيء الهين القليل بيمينه ، وما دام الأمر كذلك فكيف يشركون معه غيره في العبادة؟

فالمقصود من الآية الكريمة بيان وحدانيته وعظمته وقدرته ـ سبحانه ـ وبيان ما عليه المشركون من جهالة وانطماس بصيرة حين أشركوا معه في العبادة غيره.

قال صاحب الكشاف : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعته ، تصوير عظمته ، والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ... (١).

وقال الآلوسى : والكلام في هذه الآية عند كثير من الخلف ، تمثيل لحال عظمته ـ تعالى ـ ونفاذ قدرته .. بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ، ويمين بها يطوى السموات ، أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسموات ، ويمين بها يطوى السموات.

والسلف يقولون : إن الكلام هنا تنبيه على مزيد جلالته ـ تعالى ـ. إلا أنهم لا يقولون إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ، ولا اليمين مجاز عن القدرة ، بل ينزهون الله ـ تعالى ـ عن الأعضاء والجوارح ، ويؤمنون بما نسبه ـ تعالى ـ : إلى ذاته بالمعنى اللائق به الذي أراده ـ سبحانه ـ وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام.

فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد. إنا نجد الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع. فيقول : أنا الملك. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ هذه الآية .. (٢).

وقدم ـ سبحانه ـ الأرض على السموات لمباشرتهم لها ، ومعرفتهم بحقيقتها.

وخص يوم القيامة بالذكر ، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا ـ أيضا ـ لأن الدعاوى تنقطع في ذلك اليوم. كما قال ـ تعالى ـ (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

روى الشيخان عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يطوى الله

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٤٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٢٦.

٢٤٧

السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ، أين ملوك الأرض».

وقوله ـ تعالى ـ : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له ـ تعالى ـ : عما افتراه المفترون.

أى : تنزه وتقدس الله ـ تعالى ـ عن شرك المشركين ، وعن ضلال الضالين.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال الناس عند النفخة الأولى والثانية فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

والصور : اسم للقرن الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله ـ تعالى ـ وحقيقته لا يعلمها إلا هو ـ سبحانه ـ وقوله (فَصَعِقَ) من الصعق بمعنى الموت أو بمعنى الصوت الشديد الذي يجعل الإنسان في حالة ذهول شديد حتى لكأنه قد فارق الحياة.

أى : ونفخ في الصور بأمر الله ـ تعالى ـ النفخة الأولى ، فخر ميتا كل من كان حيا في السموات أو في الأرض.

(إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) له الحياة من أهلهما ، قالوا : والمستثنى من الصعق جبريل وإسرافيل وميكائيل. ولم يرد حديث صحيح يعتمد عليه في تعيين من استثناء الله ـ تعالى ـ : من ذلك ، فالأولى تفويض من استثناه الله من الصعق إلى علمه ـ عزوجل ـ.

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) أى : ثم نفخ في الصور نفخة أخرى ـ وهي النفخة الثانية التي يكون بعدها البعث والنشور.

(فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) أى : فإذا بهؤلاء الذين صعقوا بعد النفخة الأولى قيام من قبورهم ، ينظرون حولهم بدهشة وحيرة ماذا يفعل بهم ، أو ينظرون على أى حال يكون مصيرهم.

فالآية الكريمة تفيد أن النفخ في الصور يكون مرتين : المرة الأولى يكون بعدها الصعق والموت لجميع الأحياء ، والنفخة الثانية يكون بعدها البعث والنشور وإعادة الحياة مرة أخرى.

والمراد بالأرض في قوله ـ تعالى ـ : بعد ذلك : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ..) أرض المحشر.

وأصل الإشراق : الإضاءة. يقال : أشرقت الشمس إذا أضاءت ، وشرقت : إذا طلعت.

قال ابن كثير : وقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أى : أضاءت ـ الأرض ـ يوم

٢٤٨

القيامة ، إذا تجلى الحق ـ تبارك وتعالى ـ للخلائق لفصل القضاء (١).

والمراد بالكتاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) صحائف الأعمال التي تكون في أيدى أصحابها.

فالمراد بالكتاب جنسه ، أى : أعطى كل واحد كتابه إما بيمينه. وإما بشماله. وقيل المراد بالكتاب هنا : اللوح المحفوظ الذي فيه أعمال الخلق.

(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) أى : وبعد أن أعطى كل إنسان صحائف أعماله جيء بالنبيين لكي يشهدوا على أممهم أنهم بلغوهم ما كلفهم الله بتبليغه إليهم ، وجيء بالشهداء وهم الملائكة الذين يسجلون على الناس أعمالهم من خير وشر ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ). وقيل المراد بهم : من استشهدوا في سبيل الله.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر عدالته في جمل حكيمة فقال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أى : وقضى ـ سبحانه ـ بين الجميع بقضائه العادل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أى : نوع من الظلم.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) من خير أو شر (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) أى : وهو ـ سبحانه ـ عليم بما يفعلونه من طاعة أو معصية ، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه ، بل هو ـ تعالى ـ يعلم السر وأخفى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان مصير الكافرين ، وببيان مصير المتقين. وببيان ما يقوله المتقون عند ما يرون النعيم المقيم الذي أعده ـ سبحانه ـ لهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٠٨.

٢٤٩

الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥)

وقوله ـ تعالى ـ (وَسِيقَ) من السوق بمعنى الدفع ، والمراد به هنا الدفع بعنف مع الإهانة و (زُمَراً) أى : جماعات متفرقة بعضها في إثر بعض. جمع زمرة وهي الجماعة القليلة ، أى : وسيق الذين كفروا إلى نار جهنم جماعات جماعات ، وأفواجا أفواجا.

(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) لتستقبلهم بحرها وسعيرها ، وكأنها قبل مجيئهم إليها كانت مغلقة كما تغلق أبواب السجون ، فلا تفتح إلا لمن هم أهل لها بسبب جرائمهم.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) على سبيل الزجر والتأنيب (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أى : من جنسكم تفهمون عنهم ما يقولونه لكم.

وهؤلاء الرسل (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) المنزلة لمنفعتكم (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أى : ويخوفونكم من أهوال يومكم هذا وهو يوم القيامة.

(قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أى : قالوا في جوابهم على سائليهم : بلى قد أتانا الرسل وبلغونا رسالة الله ، ولكننا لم نطعهم ، فحقت كلمة العذاب علينا ، ووجبت علينا كلمة الله التي قال فيها : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

وهنا رد عليهم السائلون بقولهم : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، خلودا أبديا (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أى : فبئس المكان المعد للمتكبرين جهنم.

وبعد هذا البيان المرعب لمصير الكافرين ، جاء البيان الذي يشرح الصدور بالنسبة لحال المتقين فقال ـ تعالى ـ : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أى : جماعات.

قال الآلوسى : أى : جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل.

٢٥٠

وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة تدخل الجنة من أمتى على صورة القمر ليلة البدر».

والمراد بالسوق هنا : الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة ، وتعجيلهم إلى العقاب والآلام ، واختير للمشاكلة .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء المتقين من نعيم مقيم فقال : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ).

والواو في قوله (وَفُتِحَتْ) للحال ، والجملة حالية بتقدير قد ، وجواب (إِذا) مقدر بعد قوله (خالِدِينَ).

أى : حتى إذا جاءوها ، وقد فتحت أبوابها على سبيل التكريم لهم ، وقال لهم خزنتها بفرح وحبور : سلام عليكم من جميع المكاره ، طبتم من دنس المعاصي ، فادخلوها خالدين أى : حتى إذا جاءوها وقالوا لهم ذلك سعدوا وابتهجوا.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وحتى هنا هي التي تحكى بعدها الجمل. والجملة المحكية بعدها هي الشرطية ، إلا أن جزاءها محذوف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحبط به الوصف. وحق موقعه ما بعد «خالدين».

وقيل : حتى إذا جاءوها ، وفتحت أبوابها. أى : مع فتح أبوابها .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يقوله المتقون عند دخولهم الجنة على سبيل الشكر لله ـ تعالى ـ : فقال : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بأن بعثنا من مرقدنا ، ومنحنا المزيد من عطائه ونعمه (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أى : أرض الجنة التي استقروا فيها.

(نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أى : ينزل كل واحد منا من جنته الواسعة حيث يريد ، دون أن يزاحمه فيها مزاحم ، أو ينازعه منازع.

(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الجنة التي منحها ـ سبحانه ـ لعباده المتقين.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أى : محدقين محيطين بالعرش مصطفين بحافته وجوانبه. جمع حافّ وهو المحدق بالشيء. يقال : حففت بالشيء إذا أحطت به ، مأخوذ من الحفاف وهو الجانب للشيء.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٣٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٤٧.

٢٥١

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أى : يمجدون ربهم بكل خير ، وينزهونه عن كل سوء.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أى : وقضى ـ سبحانه ـ بين العباد بالحق الذي لا يحوم حوله باطل. (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على قضائه بالحق ، وعلى مجازاته الذين أساءوا بما عملوا ، ومجازاته الذين أحسنوا بالحسنى.

وبعد. فهذا تفسير محرر لسورة «الزمر» نسأل الله ـ تعالى ـ : أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر ـ

مساء الخميس ٢٧ من ذي الحجة سنة ١٤٠٥ ه‍

الموافق ١٢ / ٩ / ١٩٨٥ م.

٢٥٢

تفسير

سورة غافر

٢٥٣
٢٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «غافر» هي السورة الأربعون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة التاسعة والخمسون من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة «الزمر».

ويبدو ـ والله أعلم ـ أن الحواميم ، كان نزولها على حسب ترتيبها في المصحف ، فقد ذكر صاحب الإتقان عند حديثه عن المكي والمدني من القرآن ، وعن ترتيب السور على حسب النزول ..

ذكر سورة الزمر ، ثم غافر ، ثم فصلت ، ثم الشورى ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف (١).

٢ ـ والمحققون من العلماء على أن سورة «غافر» من السور المكية الخالصة ، وقد حكى أبو حيان الإجماع على ذلك ، كما أن الإمام ابن كثير قال عنها بأنها مكية دون أن يستثنى منها شيئا.

وقيل : كلها مكية إلا قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ...) الآية.

ولكن هذا القيل وغيره لم تنهض له حجة يعتمد عليها ، فالرأى الصحيح أنها جميعها مكية.

٣ ـ وهذه السورة تسمى ـ أيضا ـ بسورة «المؤمن» لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون. كما تسمى بسورة «الطول» لقوله ـ تعالى ـ في أوائلها : (غافِرِ الذَّنْبِ ، وَقابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ ...).

وعدد آياتها خمس وثمانون آية في المصحف الكوفي والشامي ، وأربع وثمانون في الحجازي ، واثنتان وثمانون في البصري ..

٤ ـ وسورة «غافر» هي أول السور السبعة التي تبدأ بقوله ـ تعالى ـ (حم) والتي يطلق عليها لفظ «الحواميم».

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢٧.

٢٥٥

وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في فضل هذه السور ، منها : ما روى عن ابن مسعود أنه قال : «آل حم» ديباج القرآن .. ومنها ما روى عن ابن عباس أنه قال : «إن لكل شيء لبابا ، ولباب القرآن آل حم» أو قال «الحواميم» (١).

٥ ـ وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله ـ تعالى ـ ، وبتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه من أذى المشركين ومن جدالهم ، وببيان وظيفة الملائكة الذين يحملون عرشه ـ تعالى ـ ، وأن منها الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم بقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (... رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

٦ ـ ثم دعا ـ سبحانه ـ عباده إلى إخلاص الطاعة له ، وذكرهم بأهوال يوم القيامة ، وأن الملك في هذا اليوم إنما هو لله ـ تعالى ـ وحده.

قال ـ تعالى ـ : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

٧ ـ وبعد أن وبخ ـ سبحانه ـ الغافلين على عدم اعتبارهم بسوء عاقبة من سبقهم من الكافرين ، أتبع ذلك بجانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وهامان وقارون ، وحكى ما دار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين هؤلاء الطغاة من محاورات.

كما حكى ما وجهه الرجل المؤمن من آل فرعون إلى قومه من نصائح حكيمة ، منها قوله ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ. وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

٨ ـ وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ تلك التوجيهات الحكيمة التي وجهها ذلك الرجل المؤمن ـ الذي يكتم إيمانه ـ إلى قومه .. أتبع ذلك بحكاية جانب من المحاورات التي تدور بين الضعفاء والمتكبرين بعد أن ألقى بهم جميعا في النار.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١١٦.

٢٥٦

كما حكى ـ سبحانه ـ ما يقولونه لخزنة جهنم على سبيل الاستعطاف والتذلل فقال : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

٩ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، لكي يشكروه عليها ، ومن تلك النعم : إيجاده الليل والنهار ، وجعله الأرض قرارا والسماء بناء ، وتصويره الناس في أحسن تقويم ، وتحليله لهم الطيبات ، وخلقه لهم في أطوار متعددة.

قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

١٠ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ، فوبختهم على جهالاتهم وعنادهم ، وهددتهم بسوء المصير ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصبر على أذاهم ، وذكرته بأحوال الرسل السابقين مع أقوامهم ، وأنذرت مشركي مكة بأن مصيرهم سيكون كمصير المشركين من قبلهم ، إذ ما استمروا في طغيانهم وكفرهم ، وأنهم لن ينفعهم الإيمان عند حلول العذاب بهم.

قال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

١١ ـ هذا ، والمتدبر في سورة «غافر» بعد هذا العرض المجمل لآياتها يراها قد أقامت أنصع الأدلة وأقواها على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، كما يراها قد ساقت ألوانا من التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه من قومه ، تارة عن طريق قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم ، وتارة عن طريق التصريح بأن العاقبة ستكون له ولأتباعه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ).

كما يراها قد فصلت الحديث عن تكريم الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين ، تارة عن طريق استغفار الملائكة لهم ، وتضرعهم إلى خالقهم أن يبعد الذين آمنوا عن عذاب الجحيم.

قال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

وتارة عن طريق وعدهم بإجابة دعائهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ).

٢٥٧

كما يرها قد اهتمت بالحديث عن مصارع الغابرين ، بأسلوب يغرس الخوف في القلوب ، ويبعث على التأمل والتدبر.

كما في قوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ، فَأَخَذْتُهُمْ ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ).

وكما في قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ).

كما يراها قبل كل ذلك وبعد كل ذلك لها أسلوبها البليغ المؤثر في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وفي تثبيت المؤمن وزلزلة الكافر ، وفي تعليم الدعاة كيف يخاطبون غيرهم بأسلوب مؤثر حكيم ، نراه متمثلا في تلك النصائح الغالية التي وجهها مؤمن آل فرعون إلى قومه ، والتي حكاها القرآن في قوله (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفعنا بتوجيهات القرآن الكريم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

مساء الجمعة : ٢٨ من ذي الحجة سنة ١٤٠٥ ه‍ / ١٣ / ٩ / ١٩٨٥ م

٢٥٨

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦)

سورة «غافر» من السور التي افتتحت ببعض الحروف المقطعة ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (حم).

وقد ذكرنا آراء العلماء في تلك الحروف المقطعة بشيء من التفصيل ، عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ..

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد جيء بها في افتتاح بعض السور : على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهؤلاء المعاندين والمعارضين في أن القرآن من عند الله : ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي

٢٥٩

من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك في أنه من عند الله ـ تعالى ـ فهاتوا مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله ، فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وقوله ـ تعالى ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) جملة من مبتدأ وخبر ، أى : هذا الكتاب منزل عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من الله ـ تعالى ـ وحده ، وليس من عند أحد غيره.

ثم وصف ـ سبحانه ـ ذاته بثماني صفات تليق بذاته فقال : (الْعَزِيزِ) أى : الغالب لكل من سواه ، من العز بمعنى القوة والغلبة. يقال : عزّ فلان يعز ـ من باب تعب ـ فهو عزيز ، إذا كان معروفا بالقوة والمنعة ، ومنه قولهم : أرض عزاز إذا كانت صلبة قوية.

(الْعَلِيمِ) أى : المطلع على أحوال خلقه دون أن يخفى عليه شيء منها.

(غافِرِ الذَّنْبِ) أى : ساتر لذنوب عباده ، ومزيل لأثرها عنهم بفضله ورحمته.

فلفظ (غافِرِ) من الغفر بمعنى الستر والتغطية ، يقال : غفر الله ـ تعالى ـ ذنب فلان غفرا ومغفرة وغفرانا ، إذا غطاه وستره وعفا عنه.

ولفظ الذنب : يطلق على كل قول أو فعل تسوء عاقبته ، مأخوذ من ذنب الشيء ، أى : نهايته (وَقابِلِ التَّوْبِ) والتوب مصدر بمعنى الرجوع عن الذنب والتوبة منه. يقال : تاب فلان عن الذنب توبة وتوبا إذا رجع عنه.

أى : أنه ـ سبحانه ـ يغفر ذنوب عباده ، ويقبل توبتهم فضلا منه وكرما.

قال صاحب الكشاف : ما بال الواو في قوله (وَقابِلِ التَّوْبِ)؟

قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأنه لم يذنب. كأنه قال : جامع المغفرة والقبول .. (١).

(شَدِيدِ الْعِقابِ) أى : لمن أشرك به ، وأعرض عن الحق الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ذِي الطَّوْلِ) أى : ذي الفضل والثواب والإنعام على من يشاء من عباده.

والطّول : السعة والغنى والزيادة ، يقال : لفلان على فلان طول ، أى زيادة وفضل ، ومنه الطّول في الجسم لأنه زيادة فيه. قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ..) أى : غنى وسعة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٤٩.

٢٦٠