التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

وجوهكم ، وإذا لم ترحلوا عنا ، وتكفوا عن دعوتكم لنا إلى ما لا نريده ، لنرجمنكم بالحجارة ، وليمسنكم منا عذاب شديد الألم قد ينتهى بقتلكم وهلاككم.

قال صاحب الكشاف : قوله (تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أى : تشاءمنا بكم ، وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه ، واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا مما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم خير أو بلاء ، قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا .. (١).

ولكن الرسل قابلوا هذا التهديد ـ أيضا ـ بالثبات ، والمنطق الحكيم فقالوا لهم : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).

أى : قال الرسل لأهل القرية : ليس الأمر كما ذكرتم من أننا سبب شؤمكم ، بل الحق أن شؤمكم معكم ، ومن عند أنفسكم ، بسبب إصراركم على كفركم ، وإعراضكم عن الحق الذي جئناكم به من عند خالقكم.

وجواب الشرط لقوله : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) محذوف ، والتقدير : أئن وعظتم وذكرتم بالحق ، وخوفتم من عقاب الله .. تطيرتم وتشاءمتم.

وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) إضراب عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم.

أى : ليس الأمر كما ذكرتم من أن وجودنا بينكم هو سبب شؤمكم ، بل الحق أنكم قوم عادتكم الإسراف في المعاصي ، وفي إيثار الباطل على الحق ، والغي على الرشد ، والتشاؤم على التيامن.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد تلك المحاورة التي دارت بين أهل القرية وبين الرسل ، والتي تدل على أن أهل القرية كانوا مثلا في السفاهة والكراهة للخير والحق.

بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما دار بين أهل القرية ، وبين رجل صالح منهم ساءه أن يرى من قومه تنكرهم لرسل الله ـ تعالى ـ وتطاولهم عليهم ، وتهديدهم لهم بالرجم : فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٩.

٢١

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢)

(١) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ...) معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة ، والتقدير :

وانتشر خبر الرسل بين أصحاب القرية ، وعلم الناس بتهديد بعضهم لهم (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) أى من أبعد مواضعها (رَجُلٌ يَسْعى) أى : رجل ذو فطرة سليمة ، يسرع

__________________

(١) أول الجزء الثالث والعشرون.

٢٢

الخطا لينصح قومه ، وينهاهم عن إيذاء الرسل ويأمرهم باتباعهم.

قالوا : وهذا الرجل كان اسمه حبيب النجار ، لأنه كان يشتغل بالنجارة.

وقد أكثر بعض المفسرين هنا من ذكر صناعته وحاله قبل مجيئه ، ونحن نرى أنه لا حاجة إلى ذلك ، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه فيما ذكروه عنه.

ويكفيه فخرا هذا الثناء من الله ـ تعالى ـ عليه بصرف النظر عن اسمه أو صنعته أو حاله ، لأن المقصود من هذه القصة وأمثالها في القرآن الكريم هو الاعتبار والافتداء بأهل الخير.

وعبر هنا بالمدينة بعد التعبير عنها في أول القصة بالقرية للإشارة إلى سعتها ، وإلى أن خبر هؤلاء الرسل قد انتشر فيها من أولها إلى آخرها.

والتعبير بقوله : (يَسْعى) : يدل على صفاء نفسه ، وسلامة قلبه ، وعلو همته ، ومضاء عزيمته ، حيث أسرع بالحضور إلى الرسل وإلى قومه ، ليعلن أمام الجميع كلمة الحق ، ولم يرتض أن يقبع في بيته ـ كما يفعل الكثيرون ـ بل هرول نحو قومه ، ليقوم بواجبه في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) بيان لما بدأ ينصح قومه به بعد وصوله إليهم.

أى : (قالَ) لقومه على سبيل الإرشاد والنصح (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) الذين جاءوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم ، ولإنقاذكم من الضلال المبين الذي انغمستم فيه.

ثم أكد هذه الدعوة بقوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) اتبعوا هؤلاء الرسل الذين جاءوا بأمر ربكم إليكم ، ليرشدوكم الى الطريق الحق ، والحال أنهم في أنفسهم ثابتون على الهدى ، راسخون في التمسك بالعقيدة السليمة.

ثم أخذ بعد ذلك في حض قومه على اتباع الحق ، عن طريق بيان الأسباب التي حملته على الإيمان ، حتى يستثير قلوبهم نحو الهدى ، فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ).

أى : قال الرجل الصالح لقومه : وأى مانع يمنعني من أن أعبد الله ـ تعالى ـ وحده ، لأنه هو الذي خلقني ولم أكن قبل ذلك شيئا مذكورا ، وهو الذي إليه يكون مرجعكم بعد مماتكم ، فيحاسبكم على أعمالكم في الدنيا ، ويجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.

٢٣

والاستفهام في قوله : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ..) للإنكار والنفي.

أى : لا يصح ولا يجوز أن اتخذ معه في العبادة آلهة أخرى ، كائنة ما كانت هذه الآلهة ، لأنه (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) من النفع ، حتى ولو كان هذا النفع في نهاية القلة والحقارة.

(وَلا يُنْقِذُونِ) : ولا تستطيع هذه الآلهة إنقاذى وتخليصي مما يصيبني من ضر أراد الرحمن أن ينزله بي.

(إِنِّي إِذاً) لو اتخذت هذه الآلهة شريكا مع الله في العبادة (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى : لأكونن في ضلال واضح لا يخفى على أحد من العقلاء.

ثم ختم حديثه معهم بإعلان إيمانه بكل صراحة وقوة فقال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) ، الذي خلقكم ورزقكم (فَاسْمَعُونِ) أى : فاسمعوا ما نطقت به ، واشهدوا لي بأنى آمنت بربكم الذي خلقكم وخلقني ، وكفرت بهؤلاء الشركاء ، ولن أشرك معه ـ سبحانه ـ في العبادة أحدا. مهما كانت النتائج.

وهكذا نرى الرجل الصالح الذي استقر الإيمان في قلبه ومشاعره ووجدانه يدافع عن الحق الذي آمن به دفاعا قويا دون أن يخشى أحدا إلا الله ، ويدعو قومه بشتى الأساليب إلى اتباعه ويقيم لهم ألوانا من الأدلة على صحة ما يدعو إليه.

ثم يصارحهم في النهاية ، ويشهدهم على هذه المصارحة ، بأنه قد آمن بما جاء به الرسل إيمانا لا يقبل الشك أو التردد ، ولا يثنيه عنه وعد أو وعيد أو إيذاء أو قتل.

ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد أجاد في تصوير هذه المعاني فقال ما ملخصه : قوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) كلمة جامعة في الاستجابة لدعوة الرسل ، أى : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وتربحون صحة دينكم ، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة.

ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ، وليتلطف بهم ويداريهم .. فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

ثم قال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) يريد فاسمعوا قولي وأطيعونى ، فقد نهيتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه ، أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم .. (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١١.

٢٤

ولكن هذه النصائح الغالية الحكيمة من الرجل الصالح لقومه ، لم تصادف أذنا واعية بل إن سياق القصة بعد ذلك ليوحى بأن قومه قتلوه ، فقد قال ـ تعالى ـ بعد أن حكى نصائح هذا الرجل لقومه ، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...).

أى : قالت الملائكة لهذا الرجل الصالح عند موته على سبيل البشارة : ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الطيب.

قال الآلوسى : قوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ..) استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك.

والظاهر أن الأمر المقصود به الإذن له بدخول الجنة حقيقة ، وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الحياة ، فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه ..

وقيل : الأمر للتبشير لا للإذن بالدخول حقيقة ، أى : قالت ملائكة الموت وذلك على سبيل البشارة له بأنه من أهل الجنة ـ يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) استئناف بيانى لبيان ما قاله عند البشارة.

أى : قيل له ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الصالح ، فرد وقال : يا ليت قومي الذين قتلوني ولم يسمعوا نصحى ، يعلمون بما نلته من ثواب من ربي ، فقد غفر لي ـ سبحانه ـ ، وجعلني من المكرمين عنده ، بفضله وإحسانه ..

قال ابن كثير : ومقصوده ـ من هذا القول ـ أنهم لو اطلعوا على ما حصل عليه من ثواب ونعيم مقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه‌الله ورضى عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه.

روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفي ، قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنى أخاف أن يقتلوك» ، فقال : يا رسول الله ، لو وجدوني نائما ما أيقظونى. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انطلق إليهم» فانطلق إليهم ، فمر على اللات والعزى فقال : لأصبحنك غدا بما يسوؤك ، فغضبت ثقيف فقال لهم : يا معشر ثقيف : أسلموا تسلموا ـ ثلاث مرات ـ. فرماه رجل منهم فأصاب أكحله فقتله ـ والأكحل : عرق في وسط الذراع ـ فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هذا مثله كمثل صاحب يس (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢٢٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٥٨.

٢٥

وقال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ..) إنما تمنى علم قومه بحاله ، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم ، بالتوبة عن الكفر ، والدخول في الإيمان .. وفي حديث مرفوع : «نصح قومه حيا وميتا».

وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به ، والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، وللباغين له الغوائل وهم كفرة وعبدة أصنام .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما نزل بأصحاب القرية من عذاب أهلكهم فقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) : أى : من بعد موته.

(مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لأنهم كانوا أحقر وأهون من أن نفعل معهم ذلك.

(وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أى : وما صح وما استقام في حكمتنا أن ننزل عليهم جندا من السماء ، لهوان شأنهم ، وهوان قدرهم.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أى : ما كانت عقوبتنا لهم إلا صيحة واحدة صاحها بهم جبريل بأمرنا.

(فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أى : هامدون ميتون ، شأنهم في ذلك كشأن النار التي أصابها الخمود والانطفاء ، بعد أن كانت مشتعلة ملتهبة ، يقال. خمدت النار تخمد خمودا. إذا سكن لهيبها ، وانطفأ شررها ، وخمد الرجل ـ كقعد ـ إذا مات وانقطعت أنفاسه.

وهكذا كانت نهاية الذين كذبوا المرسلين ، وقتلوا المصلحين ، فقد نزلت بهم عقوبة الله ـ تعالى ـ فجعلتهم في ديارهم جاثمين.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ سوء مصارع المكذبين ، أتبع ذلك بدعوة الناس إلى الاتعاظ بذلك من قبل فوات الأوان ، فقال ـ تعالى ـ : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

والحسرة : الغم والحزن على ما فات ، والندم عليه ندما لا نفع من ورائه ، كأن المتحسر قد انحسرت عنه قواه وذهبت ، وصار في غير استطاعته إرجاعها.

و «يا» حرف نداء. و «حسرة» منادى ونداؤها على المجاز بتنزيلها منزلة العقلاء.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١١.

٢٦

والمراد بالعباد : أولئك الذين كذبوا الرسل ، وآثروا العمى على الهدى ، ويدخل فيهم دخولا أوليا أصحاب تلك القرية المهلكة.

والمقصود من الآية الكريمة ، التعجب من حال هؤلاء المهلكين ، وبيان أن حالهم تستحق التأثر والتأسف والاعتبار ، لأنها حالة تدل على بؤسهم وظلمهم لأنفسهم وجهلهم.

والمعنى : يا حسرة على العباد الذين أهلكوا بسبب إصرارهم على كفرهم احضرى فهذا أوان حضورك ، فإن هؤلاء المهلكين كانوا في دنياهم ما يأتيهم من رسول من الرسل ، إلا كانوا به يستهزئون ، ويتغامزون ، ويستخفون به وبدعوته ، مع أنهم ـ لو كانوا يعقلون. لقابلوا دعوة رسلهم بالطاعة والانقياد.

قال صاحب الكشاف : قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ...) نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها : تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضرى فيها ، وهي حال استهزائهم بالرسل.

والمعنى : أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ، ويتلهف عليهم المتلهفون. أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين.

وقرئ : يا حسرة العباد ، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم ، من حيث إنها موجهة إليهم (١).

أى : يا حسرة العباد منهم على أنفسهم ، بسبب تكذيبهم لرسلهم ، واستهزائهم بهم.

ثم وبخ ـ سبحانه ـ كفار مكة ، بسبب عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ).

والقرون : جمع قرن. وهم القوم المقترنون في زمن واحد. و «كم» خبرية بمعنى كثير.

أى : ألم يعلم كفار مكة أننا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واستهزائهم برسلهم ، وأن هؤلاء المهلكين لا يرجعون إليهم ليخبروهم بما جرى لهم ، لأنهم لن يستطيعوا ذلك في الدنيا ، لحكمة أرادها الله ـ تعالى ـ.

ولكن الجميع سيعودون إليه ـ سبحانه ـ وسيبعثهم يوم القيامة من قبورهم للحساب والجزاء ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).

و «إن» حرف نفى ، و «كل» مبتدأ ، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٣.

٢٧

و «لما» بمعنى إلا. و «جميع» خبر المبتدأ. و «محضرون» خبر ثان.

أى : لقد علم أهل مكة وغيرهم أننا أهلكنا كثيرا من القرى الظالم أهلها. وأن هؤلاء المهلكين لن يرجعوا إلى أهل مكة في الدنيا ، ولكن الحقيقة التي لا شك فيها أنه ما من أمة من الأمم ، أو جماعة من الجماعات المتقدمة أو المتأخرة إلا ومرجعها إلينا يوم القيامة ، لنحاسبها على أعمالها ، ولنجازيها بالجزاء الذي تستحقه.

كما قال ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته ، وهذه الأدلة منها ما هو أرضى ، ومنها ما هو سماوي ، ومنها ما هو بحرى ، وكلها تدل ـ أيضا ـ على فضله ورحمته ، قال ـ تعالى ـ :

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)

__________________

(١) سورة هود آية ١١١.

٢٨

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤)

قال الإمام الرازي ما ملخصه قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) وجه تعلقه بما قبله ، أنه ـ سبحانه ـ لما قال : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) كان ذلك إشارة إلى الحشر ، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم واستبعادهم ، وعنادهم فقال : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ..) أى : وكذلك نحيى الموتى ... (١).

والمراد بالآية هنا : العلامة والبرهان والدليل.

والمراد بالأرض الميتة : الأرض الجدباء التي لا نبات فيها.

والمراد بالحب : جنسه من حنطة وشعير وغيرهما.

أى : ومن العلامات الواضحة لهؤلاء المشركين على قدرتنا على إحياء الموتى ، أننا ننزل الماء على الأرض الجدباء. فتهتز وتربو ، وتخرج ألوانا وأصنافا من الحبوب التي يعيشون عليها. ويأكلون منها.

ونكر ـ سبحانه ـ لفظ (آيَةٌ) للإشعار بأنها آية عظيمة ، كان ينبغي لهؤلاء المشركين أن يلتفتوا إليها ، لأنهم يشاهدون بأعينهم الأرض القاحلة السوداء ، كيف تتحول إلى أرض خضراء بعد نزول المطر عليها.

والله ـ تعالى ـ الذي قدر على ذلك ، قادر ـ أيضا ـ على إحياء الموتى وإعادتهم إلى الحياة.

وقوله : (أَحْيَيْناها) كلام مستأنف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية.

وقدم ـ سبحانه ـ الجار والمجرور في قوله (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي تكون منه معظم المأكولات التي يعيشون عليها ، وأن قلّته تؤدى الى القحط والجوع.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٧٧.

٢٩

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض النعم الأخرى التي تحملها الأرض لهم فقال : (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ).

والآية الكريمة معطوفة على قوله (أَحْيَيْناها) ، ونخيل : جمع نخل ، كعبيد جمع عبد ، وأعناب : جمع عنب : والعيون ، جمع عين. والمراد بها الآبار التي تسقى بها الزروع.

أى : أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء .. وجعلنا فيها ـ بقدرتنا ورحمتنا ـ بساتين كثيرة من نخيل وأعناب ، وفجرنا وشققنا فيها كثيرا من الآبار والعيون التي تسقى بها تلك الزروع والثمار.

وخص النخيل والأعناب بالذكر ، لأنها أشهر الفواكه المعروفة لديهم ، وأنفعها عندهم.

واللام في قوله : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) متعلق بقوله : (وَجَعَلْنا ....).

والضمير في قوله : (مِنْ ثَمَرِهِ) يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل والأعناب. أو إلى الله ـ تعالى ـ.

أى : وجعلنا في الأرض ما جعلنا من جنات ومن نخيل ومن أعناب ، ليأكلوا ثمار هذه الأشياء التي جعلناها لهم ، وليشكرونا على هذه النعم.

و «ما» في قوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) الظاهر أنها نافية والجملة حالية ، والاستفهام للحض على الشكر.

أى : جعلنا لهم في الأرض جنات من نخيل وأعناب ، ليأكلوا من ثمار ما جعلناه لهم ، وإن هذه الثمار لم تصنعها أيديهم ، وإنما الذي أوجدها وصنعها هو الله ـ تعالى ـ بقدرته ومشيئته.

وما دام الأمر كذلك ، فهلا شكرونا على نعمنا ، وأخلصوا العبادة لنا.

قال ابن كثير : وقوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أى : وما ذاك كله إلا من رحمتنا بهم ، لا بسعيهم ولا كدهم ، ولا بحولهم وقوتهم. قاله ابن عباس وقتادة. ولهذا قال : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أى : فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى (١).

ويصح أن تكون «ما» هنا موصولة فيكون المعنى : ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم من هذه الثمار كالعصير الناتج منها ، وكغرسهم لتلك الأشجار وتعهدها بالسقى وغيره ، إلى أن آتت أكلها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٦١.

٣٠

قال الشوكانى : وقوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) معطوف على ثمره ، أى : ليأكلوا من ثمره ، ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن «ما» موصولة ، وقيل : هي نافية ، والمعنى : لم يعملوه بأيديهم ، بل العامل له هو الله .. (١).

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على ذاته بما هو أهل له من ثناء فقال : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

ولفظ : (سُبْحانَ) اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق بفعل محذوف ، والتقدير : سبحت الله سبحانا : أى : تسبيحا. بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء ، وعظمته تعظيما.

و «من» في الآية الكريمة للبيان.

أى : ننزه الله ـ تعالى ـ تنزيها عن كل سوء. ونعظمه تعظيما لا نهاية له ، فهو ـ عزوجل ـ (الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أى : الأنواع ، والأصناف كلها ذكورا وإناثا.

(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) أى : خلق الأصناف كلها التي تنبت في الأرض من حبوب وغيرها.

(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى : وخلقها من أنفسهم إذ الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر.

(وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أى : وخلق هذه الأصناف كلها من أشياء لا علم لهم بها ، وإنما مرد علمها إليه وحده ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ وبديع خلقه ، حيث خلق الأصناف كلها ، نرى بعضها نابتا في الأرض ، ونرى بعضها متمثلا في الإنسان المكون من ذكر وأنثى ، وهناك مخلوقات أخرى لا يعلمها إلا الله ـ تعالى ـ.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته عن طريق التأمل في الأرض التي نعيش عليها ، عقب ذلك ببيان مظاهر قدرته عن طريق التأمل في تقلب الليل والنهار ، وتعاقب الشمس والقمر ، فقال ـ تعالى ـ : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ).

وقوله : (نَسْلَخُ) من السلخ بمعنى الكشط والإزالة ، يقال : سلخ فلان جلد الشاة ، إذا أزاله عنها.

والمراد هنا : إزالة ضوء النهار عن الليل ، ليبقى لليل ظلمته.

قال صاحب الكشاف : سلخ جلد الشاة ، إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه : سلخ الحية

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٣٦٨.

٣١

لخرشائها ـ أى : لجلدها ـ فاستعير ذلك لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل ، وملقى ظله (١).

أى : ومن البراهين والعلامات الواضحة ، الدالة على وحدانية الله ، وقدرته على إحياء الموتى ، وجود الليل والنهار بهذه الطريقة التي نشاهدها ، حيث ينزع ـ سبحانه ـ عن الليل النهار ، فيبقى لليل ظلامه ، ويصير الناس في ليل مظلم ، بعد أن كانوا في نهار مضيء.

فمعنى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) : فإذا هم داخلون في الظلام ، بعد أن كانوا بعيدين عنه. يقال : أظلم القوم. إذا دخلوا في الظلام. وأصبحوا ، إذا دخلوا في وقت الصباح.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) بيان لدليل آخر على قدرته ـ تعالى ـ وهو معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ ...)

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أى لحد معين تنتهي إليه .. شبه بمستقر المسافر إذا انتهى من سيره ، والمستقر عليه اسم مكان ، واللام بمعنى إلى ..

ويصح أن يكون اسم زمان ، على أنها تجرى إلى وقت لها لا تتعداه ، وعلى هذا فمستقرها : انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا .. (٢).

والمعنى : وآية أخرى لهم على قدرتنا ، وهي أن الشمس تجرى إلى مكان معين لا تتعداه ، وإلى زمن محدد لا تتجاوزه ، وهذا المكان وذلك الزمان ، كلاهما لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ـ.

قال بعض العلماء : قوله ـ تعالى ـ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أى : والشمس تدور حول نفسها ، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها ، وإنما هي تجرى فعلا .. تجرى في اتجاه واحد ، في هذا الفضاء الكونى الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثنى عشر ميلا في الثانية.

والله ربها الخبير بجريانها وبمصيرها يقول : إنها تجرى لمستقر لها ، هذا المستقر الذي ستنتهى إليه لا يعلمه إلا هو ـ سبحانه ـ ولا يعلم موعده سواه.

وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه ، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك أو تجرى في الفضاء لا يسندها شيء ، حين نتصور ذلك ، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم (٣).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٢.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ج ٢٣ ص ٢٥.

٣٢

وقد ساق القرطبي عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث فقال : وفي صحيح مسلم عن أبى ذر قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله ـ تعالى ـ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال مستقرها تحت العرش.

ولفظ البخاري عن أبى ذر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لي حين غربت الشمس. «تدرى أين تذهب»؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها. فقال لها : ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها. فذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) (١).

واسم الإشارة في قوله (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يعود الى الجري المفهوم من «تجرى».

أى : ذلك الجريان البديع العجيب المقدر الشمس ، تقدير الله ـ تعالى ـ العزيز الذي لا يغلبه غالب ، العليم بكل شيء في هذا الكون علما لا يخفى معه قليل أو كثير من أحوال هذا الكون.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ آية أخرى تتعلق بكمال قدرته فقال : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ..).

ولفظ القمر قرأه جمهور القراء بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف يفسره ما بعده.

والمنازل جمع منزل. والمراد بها أماكن سيره في كل ليلة ، وهي ثمان وعشرون منزلا ، تبدأ من أول ليلة في الشهر ، إلى الليلة الثامنة والعشرين منه. ثم يستتر القمر ليلتين إن كان الشهر تاما. ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعا وعشرين ليلة.

أى : وقدرنا سير القمر في منازل ، بأن ينزل في كل ليلة في منزل لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، إذ كل شيء عندنا بمقدار ..

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «والقمر» بالرفع على الابتداء ، وخبره جملة «قدرناه».

قال الآلوسى ما ملخصه. قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) ـ بالنصب ـ أى : وصيرنا سيره ، أى : محله الذي يسير فيه «منازل» فقدّر بمعنى صيّر الناصب لمفعولين. والكلام على

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٧ وابن كثير ج ٦ ص ٥٦٢.

٣٣

حذف مضاف ، والمضاف المحذوف مفعوله الأول و (مَنازِلَ) مفعوله الثاني.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : (وَالْقَمَرَ) بالرفع ، على الابتداء ، وجملة (قَدَّرْناهُ) خبره.

والمنازل : جمع منزل ، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) تصوير بديع لحالة القمر وهو في آخر منازله.

والعرجون : هو قنو النخلة ما بين الشماريخ إلى منبته منها ، وهو الذي يحمل ثمار النخلة سواء أكانت تلك الثمار مستوية أم غير مستوية. وسمى عرجونا من الانعراج ، وهو الانعطاف والتقوس ، شبه به القمر في دقته وتقوسه واصفراره.

أى : وصيرنا سير القمر في منازل لا يتعداها ولا يتقاصر عنها ، فإذا صار في آخر منازله ، أصبح في دقته وتقوسه كالعرجون القديم ، أى : العتيق اليابس.

قال بعض العلماء : والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة. يدرك ظل التعبير القرآنى العجيب (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وبخاصة ظل ذلك اللفظ «القديم». فالقمر في لياليه الأولى هلال. وفي لياليه الأخيرة هلال. ولكنه في لياليه الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وقوة. وفي لياليه الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم ، ويكون فيه شحوب وذبول. ذبول العرجون القديم. فليست مصادفة أن يعبر القرآن عنه هذا التعبير الموحى العجيب (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) بيان لدقة نظامه ـ سبحانه ـ في كونه ، وأن هذا الكون الهائل يسير بترتيب في أسمى درجات الدقة ، وحسن التنظيم.

أى : لا يصح ولا يتأتى للشمس أن تدرك القمر في مسيره فتجتمع معه بالليل.

وكذلك لا يصح ولا يتأتى الليل أن يسبق النهار ، بأنه يزاحمه في محله أو وقته ، وإنما كل واحد من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، يسير ، في هذا الكون بنظام بديع قدره الله ـ تعالى ـ له ، بحيث لا يسبق غيره ، أو يزاحمه في سيره.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قال

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٦.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ج ٢٣ ص ٢٥.

٣٤

مجاهد : لكل منهما حد لا يعدوه ، ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا ..

وقال عكرمة : يعنى أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.

وقوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يقول : لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر ، حتى يكون النهار .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) التنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه ..

قال الآلوسى : والفلك : مجرى الكواكب ، سمى بذلك لاستدارته ، كفلكة المغزل ، وهي الخشبة المستديرة في وسطه ، وفلكة الخيمة ، وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة (٢).

أى : وكل من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، في أجزاء هذا الكون يسيرون بانبساط وسهولة ، لأن قدرة الله ـ تعالى ـ تمنعهم من التصادم أو التزاحم أو الاضطراب.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ نوعا آخر من النعم التي امتن بها على عباده فقال : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

وللمفسرين في تفسير هذه الآية أقوال منها : أن الضمير في «لهم» يعود إلى أهل مكة ، والمراد بذريتهم : أولادهم صغارا أو كبارا ، والمراد بالفلك المشحون : جنس السفن.

فيكون المعنى : ومن العلامات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، أننا حملنا ـ بفضلنا ورحمتنا ـ أولادهم صغارا وكبارا في السفن المملوءة بما ينفعهم دون أن يصيبهم أذى ، وسخرنا لهم هذه السفن لينتقلوا فيها من مكان إلى آخر.

ويرى بعضهم أن الضمير في «لهم» يعود إلى الناس عامة ، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون ، والمراد بالفلك المشحون : سفينة نوح ـ عليه‌السلام ـ التي أنجاه الله ـ تعالى ـ فيها بمن معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم.

فيكون المعنى : وعلامة ودليل واضح للناس جميعا على قدرتنا ، أننا حملنا ـ بفضلنا ورحمتنا ـ آباءهم الأقدمين الذين آمنوا بنوح ـ عليه‌السلام ـ في السفينة التي أمرناه بصنعها ، والتي كانت مليئة ومشحونة ، بما ينتفعون به في حياتهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٦٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٣.

٣٥

قال الجمل : وإطلاق الذرية على الأصول صحيح ، فإن لفظ الذرية مشترك بين الضدين ، الأصول والفروع ؛ لأن الذرية من الذرء بمعنى الخلق. والفروع مخلوقون من الأصول ، والأصول خلقت منها الفروع. فاسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد (١).

وهذا الرأى الثاني قد اختاره الإمام ابن كثير ولم يذكر سواه ، فقد قال رحمه‌الله : يقول ـ تعالى ـ : ودلالة لهم ـ أيضا ـ على قدرته ـ تعالى ـ تسخيره البحر ليحمل السفن ، فمن ذلك ـ بل أوله ـ سفينة نوح التي أنجاه الله فيها بمن معه من المؤمنين ، ولهذا قال : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أى : آباءهم.

(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أى : في السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) بيان لنعمة أخرى من نعمه ـ تعالى ـ على عباده.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ مِثْلِهِ) يعود على السفن المشبهة لسفينة نوح ـ عليه‌السلام ـ.

قال القرطبي : ما ملخصه قوله ـ تعالى ـ : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) والأصل ما يركبونه ... والضمير في «من مثله» للإبل. خلقها لهم للركوب في البر ، مثل السفن المركوبة في البحر ، والعرب تشبه الإبل بالسفن. وقيل إنه للإبل والدواب وكل ما يركب.

والأصح أنه للسفن. أى : خلقنا لهم سفنا أمثالها ، أى : أمثال سفينة نوح يركبون فيها.

قال الضحاك وغيره : هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح ـ عليه‌السلام ـ (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا آخر من مظاهر فضله على الناس فقال : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

الصريخ : المغيث. أى : فلا مغيث لهم. أو فلا إغاثة لهم ، على أنه مصدر كالصراخ ، لأن المستغيث الخائف ينادى من ينقذه ، فيصرخ المغيث له قائلا : جاءك الغوث والعون.

والاستثناء هنا مفرغ من أعم العلل.

أى : وإن نشأ أن نغرق هؤلاء المحمولين في السفن أغرقناهم ، دون أن يجدوا من يغيثهم

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥١٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٦٥.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٤.

٣٦

منا ، أو من ينقذهم من الغرق ، سوى رحمتنا بهم ، وفضلنا عليهم ، وتمتيعنا إياهم بالحياة إلى وقت معين تنقضي عنده حياتهم.

فالآيتان الكريمتان تصوران مظاهر قدرة الله ورحمته بعباده أكمل تصوير ؛ وذلك لأن السفن التي تجرى في البحر ـ مهما عظمت ـ تصير عند ما تشتد أمواجه في حالة شديدة من الاضطراب ، ويغشى الراكبين فيها من الهول والفزع ما يغشاهم ، وفي تلك الظروف العصيبة لا نجاة لهم مما هم فيه إلا عن طريق رعاية الله ـ تعالى ـ ورحمته بهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من رد المشركين السيئ على من يدعوهم إلى الخير ، ومن جهالاتهم حيث تعجلوا العذاب الذي لا محيص لهم عنه ، ومن أحوالهم عند قيام الساعة ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً

٣٧

واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ ..) حكاية لموقف المشركين من الناصحين لهم ، وكيف أنهم صموا آذانهم عن سماع الآيات التنزيلية ، بعد صممهم عن التفكر في الآيات التكوينية.

أى : وإذا قال قائل لهؤلاء المشركين على سبيل النصح والإرشاد : (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) أى : احذروا ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر ، وصونوا أنفسكم عن ارتكاب المعاصي التي ارتكبها الظالمون من قبلكم ، فأهلكوا بسببها وأبيدوا ، وآمنوا بالله ورسوله واعملوا العمل الصالح ، لعلكم بسبب ذلك تنالون الرحمة من الله ـ تعالى ـ.

وجواب «إذا» محذوف دل عليه ما بعده ، والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا عن الناصح ، واستخفوا به ، وتطاولوا عليه.

ويشهد لهذا الجواب المحذوف قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ).

و «من» الأولى مزيدة لتأكيد إعراضهم وصممهم عن سماع الحق ، والثانية للتبعيض.

أى : ولقد بلغ الجحود والجهل والعناد عند هؤلاء المشركين ، أنهم ما تأتيهم آية من الآيات التي تدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق في دعوته ، إلا كانوا عن كل ذلك معرضين إعراضا تاما ، شأنهم في ذلك شأن الجاحدين من قبلهم.

وأضاف ـ سبحانه ـ إليه الآيات التي أتتهم ، لتفخيم شأنها ، وبيان أنها آيات عظيمة ، كان من شأنهم ـ لو كانوا يعقلون ـ أن يتدبروها ، ويتبعوا من جاء بها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ موقفا آخر ، من مواقفهم القبيحة ممن نصحهم وأرشدهم إلى الصواب ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ ...).

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أن أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ كان يطعم مساكين المسلمين ، فلقيه أبو جهل فقال له : يا أبا بكر : أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟.

٣٨

قال نعم. قال : فما باله لم يطعمهم؟ قال أبو بكر : ابتلى ـ سبحانه ـ قوما بالفقر ، وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإعطاء.

فقال أبو جهل : والله يا أبا بكر : إن أنت إلا في ضلال ، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ، ثم تطعمهم أنت .. فنزلت هذه الآية.

وقيل : كان العاصي بن وائل السهمي ، إذا سأله المسكين قال له : اذهب إلى ربك فهو أولى منى بك. ثم يقول : قد منعه الله فأطعمه أنا .. (١).

والمعنى. وإذا قال قائل من المؤمنين لهؤلاء الكافرين : أنفقوا على المحتاجين شيئا من الخير الكثير الذي رزقكم الله ـ تعالى ـ إياه.

قال الكافرون ـ على سبيل الاستهزاء والسخرية ـ للمؤمنين : هؤلاء الفقراء الذين طلبتم منا أن ننفق عليهم ، لو شاء الله لأطعمهم ولأغناهم كما أغنانا.

(إِنْ أَنْتُمْ) أيها المؤمنون (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في أمركم لنا بالإنفاق عليهم أو على غيرهم.

قال الشوكانى ما ملخصه : وقوله : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) حكاية لتهكم الكافرين ، وقد كانوا سمعوا المؤمنين يقولون : إن الرزاق هو الله ، وإنه يغنى من يشاء ، ويفقر من يشاء ، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمؤمنين ، وقالوا : نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل ، فإن الله ـ سبحانه ـ أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا ، وأمر الغنى أن يطعم الفقير ، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة ، وقولهم : (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه ، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله ، وإنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله ، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا.

وقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من تتمة كلام الكفار. وقيل : هو رد من الله عليهم .. (٢).

ثم يحكى القرآن إنكارهم للبعث ، واستهزاءهم بمن يؤمن به فيقول : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أى : ويقول الكافرون للمؤمنين ـ على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالبعث ـ (مَتى هذَا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥١٧.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٣٧٣.

٣٩

الْوَعْدُ) الذي تعدوننا به من أن هناك بعثا ، وحسابا وجزاء ... أحضروه لنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تعدوننا به.

وهنا يجيء الرد الذي يزلزلهم ، عن طريق بيان بعض مشاهد يوم القيامة ، فيقول ـ سبحانه ـ : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).

المراد بالصيحة هنا : النفخة الأولى التي ينفخها إسرافيل بأمر الله ـ تعالى ـ فيموت جميع الخلائق.

وقوله (يَخِصِّمُونَ) أى : يختصمون في أمور دنياهم. وفي هذا اللفظ عدة قراءات سبعية.

منها قراءة أبو عمرو وابن كثير : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ـ بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد مع الفتح ـ ومنها قراءة عاصم والكسائي : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد مع الكسر.

ومنها قراءة حمزة (يَخِصِّمُونَ) بإسكان الخاء وكسر الصاد مع التخفيف.

أى : أن هؤلاء الكافرين الذين يستنكرون قيام الساعة ، ويستبعدون حصولها ، جاهلون غافلون ، فإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وستحل بهم بغتة فإنهم ما ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يصيحها إسرافيل بأمرنا ، فتأخذهم هذه الصيحة وتصعقهم وتهلكهم (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أى : وهم يتخاصمون ويتنازعون في أمور دنياهم.

وعند ما تنزل بهم هذه الصيحة ، لا يستطيع بعضهم أن يوصى بعضا بما يريد أن يقول له ولا يستطيعون جميعا الرجوع إلى أهليهم ، لأنهم يصعقون في أماكنهم التي يكونون فيها عند حدوث هذه الصيحة.

فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أبلغ تصوير لأهوال علامات يوم القيامة ، ولسرعة مجيء هذه الأهوال.

أخرج الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه ـ أى يسده بالطين ـ فلا يسقى منه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن ناقته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٣١.

٤٠