التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

والمراد بالبشر : آدم ـ عليه‌السلام ـ مأخوذ من مباشرته للأرض ، أو من كونه ظاهر البشرة ، أى الجلد والهيئة. أى : لم يكن لي من علم بالملإ الأعلى وقت اختصامهم ، حين قال الله ـ تعالى ـ للملائكة ومعهم إبليس : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) هو آدم ـ عليه‌السلام ـ. فإذا صورته على صورة البشر ، وأفضت عليه ما به الحياة من الروح التي هي من أمرى ـ ولا علم لأحد بها سواي ، فاسجدوا له سجود تحية وتكريم.

ولا تعارض بين وصف آدم هنا بأنه خلق من طين ، وبين وصفه في آيات أخرى بأنه خلق من تراب ، أو من صلصال من حمأ مسنون ، فإن المادة التي خلق منها آدم وإن كانت واحدة ، إلا أنها مرت بمراحل متعددة ، وكل آية تتحدث عن مرحلة معينة.

وأضاف ـ سبحانه ـ الروح إلى ذاته ، للإشعار بأن هذه الروح لا يملكها إلا هو ـ تعالى ـ ، وأن مرد كنهها وكيفية هذا النفخ ، مما استأثر ـ سبحانه ـ به ، ولا سبيل لأحد إلى معرفته ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

والفاء في قوله : (فَقَعُوا لَهُ ...) جواب إذا. والمراد بالوقوع : السقوط أى : فاسقطوا وخروا له حالة كونكم ساجدين له بأمرى وإذنى ، على سبيل التحية له ، لأن السجود بمعنى العبادة لا يكون لغير الله ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان بعد ذلك فقال : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

أى : امتثل الملائكة لأمر الله ـ تعالى ـ فسجدوا جميعا لآدم في وقت واحد ، إلا إبليس فإنه أبى الامتثال لأمر ربه ، واستكبر عن طاعته ، وصار بسبب ذلك من الكافرين الجاحدين لأمر الله ـ تعالى ـ.

قال صاحب الكشاف : ولفظ «كل» للإحاطة و «أجمعون» : للاجتماع ، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ، ما بقي منهم ملك إلا سجد ، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد ، غير متفرقين في أوقات.

فإن قلت : كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت : الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٨٥.

١٨١

وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل ، فلا يأباه العقل ، إلا أن يعلم الله تعالى فيه مفسدة فينهى عنه (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله لإبليس حين عصى أمره فقال : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ...).

ومذهب السلف في مثل هذا التعبير ، أن اليد ـ مفردة أو غير مفردة ـ إذا وصف الله تعالى بها ذاته ، فهي ثابتة له ، على الوجه الذي يليق بكماله ، مع تنزهه ـ سبحانه ـ عن مشابهته للحوادث.

ومذهب الخلف : تأويل اليد بالقدرة أو النعمة. والتثنية في يدي ، للتأكيد الدال على مزيد القدرة في خلقه. أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس على سبيل التأنيب والتقريع : يا إبليس ما الذي منعك من السجود لآدم الذي خلقته بيدي؟

(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). أى : أمنعك من السجود لآدم تكبرك من غير موجب لهذا التكبر ، أم كنت ممن علا على غيره بدون حق؟ والاستفهام للتوبيخ والإنكار.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أى : قال إبليس في الجواب على ربه ـ تعالى ـ : أنا خير من آدم.

(خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فهو ـ لعنه الله ـ يرى أن النار أفضل من الطين ، ولا يصح سجود الفاضل للمفضول.

ولا شك أن هذا التعليل من إبليس في نهاية سوء الأدب ، لأنه بعدم سجوده قد عصى رب العالمين ، وفضلا عن ذلك فإن هذه العلة لا تقتضي صحة المدعى ، لأن النار ليست خيرا من الطين حتى يكون المخلوق منها أفضل ، إذ النار يطفئها الطين ..

وقد رد ـ سبحانه ـ على هذا التطاول من إبليس بقوله : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ).

والفاء في قوله (فَاخْرُجْ) لترتيب الأمر بالطرد على ما حدث منه. والضمير في «منها» يعود إلى السماء ، أو إلى الجنة ، لأنه كان فيهما.

أى : قال ـ تعالى ـ لإبليس على سبيل الزجر : مادمت يا إبليس قد عصيت أمرى ، فاخرج من الجنة ومن كل مكان فيه تكريم لك ، فإنك رجيم ، أى : مطرود من رحمتي. وإن عليك لعنتي وغضبى إلى يوم القيامة ، فإذا ما جاء هذا اليوم ازدادت لعنتي عليك.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٠٥.

١٨٢

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أى : فأمهلنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أى : فأخرنى ولا تمتنى إلى يوم البعث ، لأتمكن من إغواء ذرية آدم.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أى : قال ـ سبحانه ـ قد أجبت لك ما تقتضيه حكمتى ، وهو أنى سأؤخر إهلاكك إلى الوقت الذي حددته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى ، لا إلى وقت البعث الذي طلبه إبليس.

(قالَ) أى : إبليس (فَبِعِزَّتِكَ) أى : فبحق سلطانك وقهرك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أى : لأغوين بنى آدم جميعا بالمعاصي ، ولأضلنهم ولأمنينهم (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فلا يتأثرون بإغوائى ، لأنى لا قدرة لي عليهم.

(قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

وقوله (فَالْحَقُ) مبتدأ محذوف الخبر أى : فالحق قسمي لأملأن .. وقوله : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) لفظ الحق منصوب هنا على أنه مفعول لأقول ، قدم عليه لإفادة الحصر.

والجملة من الفاعل والمفعول معترضة بين القسم والمقسم عليه لتقرير مضمون الجملة القسمية. أى : قال الله ـ تعالى ـ في رده على إبليس : فالحق قسمي ويميني ـ ولا أقول إلا الحق ـ لأملأن جهنم من جنسك يا إبليس ، وممن تبعك من الناس جميعا ، لأن هذا جزاء من عصاني.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين للناس ، أنه لا يريد من وراء دعوته عرضا زائلا من أعراض الدنيا فقال (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين وغيرهم : إنى لا أسألكم أجرا على تبليغكم ما أمرنى الله بتبليغه إليكم ، وما أنا من الذين يتكلفون ويتصنعون القول أو الفعل الذي لا يحسنونه ، بل أنا رسول من عند الله وصادق فيما أبلغه عنه.

وما هذا القرآن الذي جئتكم به من عند ربي ، إلا وعظ بليغ للثقلين ، وشرف عظيم لهما في اتباع أوامره ونواهيه.

لتعلمن ـ أيها الناس ـ صدق ما أخبركم به من وعد ومن وعيد بعد وقت محدد في علم الله ـ تعالى ـ.

١٨٣

وبعد : فهذا تفسير لسورة «ص» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؟.

كتبه الراجي عفو ربه

محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر ـ

صباح الثلاثاء ٤ من ذي الحجة سنة ١٤٠٥ ه‍ الموافق ٢٠ / ٨ / ١٩٨٥ م

١٨٤

تفسير

سورة الزّمر

١٨٥
١٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

١ ـ سورة «الزمر» هي السورة التاسعة والثلاثون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والخمسون من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة سبأ.

وقد ذكر صاحب الإتقان أنها تسمى ـ أيضا ـ سورة «الغرف» ، لقوله ـ تعالى ـ : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ).

٢ ـ ويرى المحققون أن السورة بكاملها مكية.

قال الآلوسى : عن ابن عباس أنها نزلت بمكة ولم يستثن ، وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة ، وهي قوله ـ تعالى : ـ (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).

٣ ـ وآياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وثلاث وسبعون في المصحف الشامي ، واثنتان وسبعون في غيرهما (١).

٤ ـ وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على الله ـ تعالى ـ الذي أنزل القرآن بالحق على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي خلق السموات والأرض بالحق والذي خلق الناس جميعا من نفس واحدة ، قال ـ تعالى ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ..).

٥ ـ ثم تنتقل السورة إلى الحديث عن حالة الإنسان عند ما ينزل به الضر ، وعن الجزاء الحسن الذي أعده ـ سبحانه ـ للصابرين ، وعن العقاب الأليم الذي أعده للخاسرين.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللهَ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٣٢.

١٨٧

أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

٦ ـ ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته في هذا الكون عن طريق إنزاله الماء من السماء ، وعن طريق إنزاله أحسن الحديث. كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم.

قال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

٧ ـ ثم دعا ـ سبحانه ـ الناس بعد ذلك إلى تدبر آيات القرآن ، المشتمل على الهدايات والإرشادات والأمثال ، وإلى اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جاءهم بالصدق ، لأن هذا الاتباع يؤدى إلى تكفير سيئاتهم ، ورفع درجاتهم عند ربهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

٨ ـ وبعد أن عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ في قبضه للأرواح ، وفي كشفه الضر عن خلقه .. أتبعت ذلك بمحاجة المشركين ، وببيان ما هم عليه من ضلال ، وبيان أحوالهم عند ما يذكر الله ـ تعالى ـ وحده ، وببيان سوء عاقبتهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

٩ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ لعباده ما يدل على سعة رحمته بهم ، ودعاهم إلى الإنابة إليه ، من قبل أن يأتى اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

١٠ ـ ثم تحدثت السورة في أواخرها عن أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، وعن أهوال هذا اليوم.

قال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

١٨٨

وختمت ببيان ما أعده ـ سبحانه ـ للكافرين من شديد العقاب ، وما أعده للمتقين من كريم الثواب.

قال ـ تعالى ـ : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

١١ ـ هذا ، والمتأمل في سورة «الزمر» بعد هذا العرض المجمل لها. يراها قد اشتملت على مقاصد متنوعة من أهمها ما يأتى :

(أ) إقامة الأدلة المتعددة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، تارة عن طريق خلق السموات والأرض ، وتكوين الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر ، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة ... وتارة عن طريق لجوء المشركين إليه وحده عند الشدائد ، وتارة عن طريق توفى الأنفس حين موتها ، وتارة عن طريق ضرب الأمثال ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً. الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(ب) تذكير الناس بأهوال الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب. وبعث ونشور ، وفرح يعلو وجوه المتقين ، وكآبة تجلل وجوه الكافرين.

نرى ذلك في مثل قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ. وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وفي مثل قوله ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).

(ج) تلقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجج والإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين ، وعلى دعاواهم الباطلة ، فقد تكرر لفظ «قل» في هذه السورة كثيرا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ... (... قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ...).

١٨٩

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ). (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ).

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

(د) الإكثار من المقارنة بين عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار ، بأسلوب يغلب عليه طابع الاستفهام الإنكارى ، الذي حذف فيه الخبر للعلم به من سياق الكلام.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

هذه بعض المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، وهناك مقاصد أخرى يدركها القارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتفكر.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وأنس نفوسنا. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

صباح الجمعة ٢٨ من ذي الحجة سنة ١٤٠٥ ه

١٣ / ٩ / ١٩٨٥ م

١٩٠

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤)

افتتحت سورة «الزمر» بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان مصدره ، قال ـ تعالى ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

أى : هذا الكتاب وهو القرآن الكريم. قد نزل عليك ـ يا محمد ـ من لدن الله ـ تعالى ـ (لْعَزِيزِ) أى : الغالب على كل شيء (الْحَكِيمِ) في كل تصرفاته وأفعاله ، وليس هذا القرآن قولا مفترى كما زعم الجاحدون الذين انطمست بصائرهم ، واستحبوا العمى على الهدى.

والذي يتتبع آيات القرآن الكريم ، يرى أن الله ـ تعالى ـ إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك ببعض أسمائه الحسنى ، المتضمنة لصفاته الجليلة.

ففي أول سورة غافر نجد قوله ـ تعالى ـ : (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

١٩١

وفي أول سورة الجاثية نجد قوله ـ تعالى ـ : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

وفي أول سورة الأحقاف نجد مثل هذا الافتتاح.

وفي أول سورة فصلت نجد قوله ـ تعالى ـ : (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وفي صدر سورة «يس» نجد قوله ـ سبحانه ـ : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ..).

ولا يخفى أن ذكره ـ سبحانه ـ لبعض أسمائه الحسنى ، بعد ذكره لتنزيل هذا القرآن على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ما فيه من الثناء على القرآن الكريم ، ومن بيان أنه قد نزل من عند الله ـ تعالى ـ وحده ، الذي له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدعو الناس إلى قبول هذا الكتاب ، وإلى العمل بهداياته ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ...).

أى : هذا الكتاب هو تنزيل من عند الله ـ تعالى ـ الغالب على كل شيء. والحكيم في أقواله وأفعاله. وقد أنزله ـ سبحانه ـ عليك ـ يا محمد ـ تنزيلا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، أو ما يشبه الباطل ، وذلك يوجب قبوله والعمل بكل ما فيه.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) بيان لكونه نازلا بالحق ، وتوطئة لما يذكر بعد ... أو شروع في بيان المنزل إليه ، وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل ... والباء متعلقة بالإنزال ، وهي للسببية ، أى : أنزلناه بسبب الحق. أى : إثباته وإظهاره. أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهي للملابسة. أى : أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب.

والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما (١).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والعبادة : أقصى درجات التذلل والخضوع للمعبود ـ عزوجل ـ والإخلاص معناه : أن يقصد المسلم بعبادته وقوله وعمله وجه الله ـ تعالى ـ.

أى : أنزلنا إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ هذا الكتاب بالحق الذي لا يشوبه باطل ، وما دام الأمر كذلك فعليك أن تخلص لربك عبادتك وطاعتك ودينك إخلاصا تاما ، لا يحوم حوله

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٣٣.

١٩٢

رياء أو تفاخر ، أو غير ذلك مما يتنافى مع إخلاص الخضوع لله ـ تعالى ـ وحده.

قال الشوكانى : وفي الآية دليل على وجوب النية ، وإخلاصها من الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب ، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية ، كما في حديث : «إنما الأعمال بالنيات» وحديث : «لا قول ولا عمل إلا بنية» (١).

وجملة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) مؤكدة ومقررة لمضمون ما قبلها من وجوب إفراد العبادة والطاعة لله ـ تعالى ـ : وزادها تأكيدا وتقريرا لما قبلها تصديرها بأداة الاستفتاح (أَلا) واشتمالها على أسلوب القصر.

أى : ألا إن لله ـ تعالى ـ وحده ـ وليس لأحد سواه ـ الدين الخالص من شوائب الشرك والرياء. والعبادة لوجهه وحده ، والخضوع لقدرته التي لا يعجزها شيء.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما عليه المشركون من ضلال فقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ...)

فالمراد بالموصول المشركون ، ومحله الرفع على الابتداء ، وخبره قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وجملة (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) في محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل. والزلفى : اسم أقيم مقام المصدر الذي يتلاقى معه في المعنى ، والمأخوذ من قوله (لِيُقَرِّبُونا).

أى : لله ـ تعالى ـ وحده الدين الخالص ، والمشركون الذين اتخذوا معبودات باطلة ليعبدوها من دون الله ، كانوا يقولون في الرد على من ينهاهم عن ذلك : إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها ، لكي تقربنا إلى الله قربى ، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أى : بين هؤلاء المشركين وبين غيرهم من المؤمنين الذين أخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر التوحيد والشرك ، بأن يجازى المؤمنين بحسن الثواب ، ويجازى الكافرين بسوء العقاب.

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (لا يَهْدِي) أى : لا يوفق للاهتداء للحق (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ).

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٤٤٨.

١٩٣

أى : من كان دائم الكذب على دين الله ، شديد الجحود لآيات الله وبراهينه الدالة على وحدانيته ، وعلى أنه لا رب لهذا الكون سواه.

ثم أبطل ـ سبحانه ـ كل تصور للشرك والشركاء ، بأن نزه ـ تعالى ـ ذاته عن اتخاذ الولد فقال : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

أى : لو أراد الله ـ تعالى ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ أن يتخذ ولدا ، لاختار من خلقه ما يريده هو ، لا ما يريده الضالون ، لكنه ـ سبحانه ـ لم يختر أحدا ليكون ولدا له ، فدل ذلك على بطلان زعم الزاعمين بأن الملائكة بنات الله ، أو بأن عزيرا ابن الله ، أو بأن المسيح ابن الله.

(سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أى : تنزه ـ عزوجل ـ عن كل شيء من ذلك ، فإنه هو الله الواحد في ذاته وفي صفاته ، القهار لكل مخلوقاته.

قال الإمام ابن كثير : بيّن ـ تعالى ـ في هذه الآية أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة ، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزيز وعيسى فقال : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أى. لكان الأمر على خلاف ما يزعمون.

وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه ، بل هو محال ، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه ، كما قال : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) وكما قال : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

كل هذا من باب الشرط ، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : إرادة اتخاذ الولد هنا ممتنعة ، لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالممكنات ، واتخاذ الولد محال ، كما ثبت بالبرهان القطعي فتستحيل إرادته. وجعلها في الآية شرطا وتعليق الجواب عليها ، لا يقتضى إمكانها فضلا عن وقوعها ، وقد عرف في فصيح الكلام : تعليق المحال على المحال جوازا ووقوعا.

على أن الوالدية تقتضي التجانس بين الوالد والولد. إذ هو قطعة منه. وقد ثبت أن كل ما عداه ـ سبحانه ـ مخلوق له. فيلزم بموجب التجانس أن يكون المخلوق من جنس الخالق ، وهو يستلزم حدوث الخالق ، أو قدم المخلوق ، وكلاهما محال (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٧٥.

(٢) صفوة البيان ج ٢ ص ٢٤٩ لفضيلة الشيخ محمد حسنين مخلوف.

١٩٤

ثم أقام ـ سبحانه ـ المزيد من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، عن طريق التأمل في ملكوت السموات والأرض ، وفي ظاهرة الليل والنهار ، وفي تسخير الشمس والقمر ، وفي خلق بنى آدم من نفس واحدة ... فقال ـ تعالى ـ :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

فقوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) تفصيل لبعض أفعاله الدالة على وحدانيته ـ سبحانه ـ وقدرته.

أى : الله وحده هو الذي أوجد هذه السموات وتلك الأرض ، إيجادا ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة التي تعود عليكم ـ أيها الناس ـ بالخير والمنفعة ومن كان شأنه كذلك ، استحال أن يكون له شريك أو ولد.

ثم ساق ـ سبحانه ـ دليلا ثانيا على وحدانيته فقال : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ).

١٩٥

والتكوير في اللغة : طرح الشيء بعضه على بعض. يقال : كور فلان المتاع ، إذا ألقى بعضه على بعض ، ومنه كور العمامة. أى : انضمام بعض أجزائها على بعض.

والمقصود أن الليل والنهار كلاهما يكر على الآخر فيذهبه ويحل محله ، بطريقة متناسقة محكمة لا اختلال معها ولا اضطراب.

قال صاحب الكشاف : «والتكوير : اللف واللى. يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها.

وفيه أوجه ، منها : أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويأتى مكانه هذا ، وإذا غشى مكانه ، فكأنما ألبسه ولف عليه ، كما يلف اللباس على اللابس.

ومنها : أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار.

ومنها : أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض» (١).

قال بعض العلماء ما ملخصه : «والتعبير بقوله «يكور ..» تعبير عجيب ، يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض ، فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور ، فالنهار كان عليه مكورا ، والليل يتبعه مكورا كذلك ، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل ، وهكذا في حركة دائبة «يكور ـ سبحانه ـ الليل على النهار ويكور النهار على الليل».

واللفظ يرسم الشكل ، ويحدد الوضع ، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها ، يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أى تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية» (٢).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ دليلا ثالثا على وحدانيته وقدرته فقال : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١١٣.

(٢) في ضلال القرآن ج ٢٣ ص ١٢٢.

١٩٦

والتسخير : التذليل والانقياد والطاعة التامة. أى : وجعل ـ سبحانه ـ الشمس والقمر منقادين لأمره انقيادا تاما وكلاهما يجرى في مداره إلى الوقت المحدد في علم الله ـ تعالى ـ لنهاية دورانه ، وانقطاع حركته.

وهما في جريانهما يسيران بنظام محكم دقيق غاية الدقة ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

وفي تصدير الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح (أَلا) إشارة إلى كمال الاعتناء بمضمونها ، وإلى وجوب التدبر فيما اشتملت عليه.

أى : ألا إن الله ـ تعالى ـ : وحده هو الخالق لكل تلك المخلوقات ، وهو وحده المتصرف فيها ، والمهيمن عليها ، وهو وحده (الْعَزِيزُ) الغالب على كل ما سواه ، الكثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه توبة نصوحا.

ثم ساق ـ سبحانه ـ أدلة أخرى على وحدانيته فقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

أى خلقكم ـ سبحانه ـ من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم ثم خلق من هذه النفس الواحدة ، زوجها وهي أمكم حواء.

قال الشوكانى : والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم. للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم ، أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة ؛ لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه ، وخلق حواء على الصفة المذكورة لم تجربه عادة لكونه ـ تعالى ـ لم يخلق أنثى من ضلع رجل غيرها (١).

وقال الجمل : فإن قلت كيف عطف بثم مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه؟ أجيب بأن ثم هنا للترتيب في الإخبار لا في الإيجاد. أو المعطوف متعلق بمعنى واحدة ، فثم عاطفة عليه لا على خلقكم ، فمعناه : خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإيجاد ، ثم شفعت بزوجة. أو هو معطوف على خلقكم ، لكن المراد بخلقهم ، خلقهم يوم أخذ الميثاق دفعة لا على هذا الخلق ، الذي هم فيه الآن بالتوالد والتناسل (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بيان لبعض آخر من

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٤٥٠.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٩٠.

١٩٧

أفعاله ـ تعالى ـ الدالة على وحدانيته وقدرته. والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها وهي قوله : (خَلَقَكُمْ).

أى : وأنزل لكم من كل من الإبل والبقر والغنم والمعز زوجين : ذكرا وأنثى يتم بهما التناسل وبقاء النوع.

قالوا : وعبر ـ سبحانه ـ عن الخلق بالإنزال ، لما يروى أنه ـ تعالى ـ خلق هذه الأنواع في الجنة ثم أنزلها. فيكون الإنزال على سبيل الحقيقة.

أو أن الكلام على سبيل المجاز ، لأن هذه الأنعام لا تعيش إلا عن طريق ما تأكله من نبات ، والنبات لا يخرج إلا بالماء النازل من السماء فكأن الأنعام نازلة من السماء ، لأن سبب سببها منزل منها .. أو أن «أنزل» هنا بمعنى أنشأ وأوجد. أو لأن الخلق إنما يكون بأمر من السماء.

وقوله ـ تعالى ـ (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) بيان لكيفية خلق ما خلقه الله من الأناسى والأنعام بتلك الطريقة العجيبة.

أى أنه ـ تعالى ـ يخلقكم ـ أيها الناس ـ بقدرته في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، بأن يحولكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة ، إلى عظام مكسوة باللحم ، ثم يحولكم بعد ذلك إلى خلق آخر ، وهذه المراحل كلها تتم وأنتم في ظلمات بطون أمهاتكم ، وظلمات الأرحام التي بداخل البطون وظلمات الغشاء الذي بداخل الأرحام والبطون ، وذلك كله من أقوى الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ ورعايته لخلقه.

وصدق الله إذ يقول : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (١).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يعود إليه ـ سبحانه ـ باعتبار أفعاله السابقة. وتصرفون : من الصرف بمعنى الابتعاد عن الشيء إلى غيره.

أى : ذلكم العظيم الشأن الذي ذكرنا لكم بعض مظاهر قدرته ، هو الله ربكم الذي له ملك كل شيء ، والذي لا معبود بحق سواه ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ وكيف تزعمون أن له شريكا أو ولدا ... مع توفر الأدلة على بطلان ذلك.

والمتأمل في هاتين الآيتين يراهما قد ذكرتا ألوانا من البراهين على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، كخلق السموات والأرض بالحق ، وتكوير الليل على النهار ، والنهار على الليل ، وتسخير الشمس والقمر لمنافع الناس ، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة ، ورعايتهم بلطفه

__________________

(١) سورة المرسلات الآيات من ٢٠ ـ ٢٣.

١٩٨

وإحسانه في مراحل حياتهم ، وإيجاد الأنعام التي تنفعهم في شئونهم المختلفة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه غنى عن خلقه ، وأنهم هم الفقراء إليه فقال : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).

أى : إن تكفروا ـ أيها الناس ـ بعد أن سقنا لكم من الأدلة ما سقنا على صحة الإيمان وفساد الكفر ، فإن الله ـ تعالى ـ غنى عنكم وعن إيمانكم وعبادتكم وعن الخلق أجمعين.

ومع ذلك فإنه ـ سبحانه ـ لرحمته بكم ، لا يرضى لعباده الكفر ، أى : لا يحبه منهم ولا يحمده لهم ، ولا يجازى الكافر المجازاة التي يجازى بها المؤمن فإن المؤمن له جنات النعيم ، أما الكافر فله نار الجحيم.

وإن تشكروا الله على نعمه ـ أيها الناس ـ بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملوا نعمه فيما خلقت له ، يرض لكم هذا الشكر ، ويكافئكم عليه مكافأة جزيلة. بأن يزيدكم من نعمه وإحسانه وخيره.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أى : ولا تحمل نفس يوم القيامة حمل أخرى ، وإنما كل نفس تجازى على حسب أعمالها في الدنيا.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ) أى : فيخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دنياكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أى : عليم بما تخفيه الصدور من أسرار ، وبما تضمره القلوب من أقوال وأفعال ... لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

قال الجمل في حاشيته : قوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) معنى عدم الرضا به ، لا يفعل فعل الراضي ، بأن يأذن فيه ويقر عليه ، ويثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ، ويذم عليه ، ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته ، إذ لا يخرج شيء عنها.

أو المعنى : ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله ـ تعالى ـ في شأنهم : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فيكون الكلام عاما في اللفظ خاصا في المعنى ، كقوله ـ تعالى ـ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أى بعض العباد (١).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٩١.

١٩٩

وبذلك ترى هذه الآية الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى كمال قدرته ، وعلى أن من شكر الله ـ تعالى ـ على نعمه ، فإن عاقبة هذا الشكر تعود على الشاكر بالخير الجزيل ، أما من جحد نعم الله ـ تعالى ـ وأشرك معه في العبادة غيره ، فإن عاقبة هذا الجحود ، تعود على الجاحد بالشر الوبيل ، وبالشقاء في الدنيا والآخرة.

وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة المتعددة على وحدانيته وكمال قدرته ، أتبع ذلك بالحديث عن طبيعة الإنسان في حالتي السراء والضراء ، ونفى ـ سبحانه ـ المساواة بين المؤمنين والكافرين ، والعلماء والجهلاء فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩)

والمراد بالإنسان هنا : الكافر ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).

والمراد بالضر : ما يصيب الإنسان من مصائب في نفسه أو ماله أو أهله.

أى : وإذا نزل بالإنسان ضر من مرض أو غيره من المكاره (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي : أسرع إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء والإنابة والتضرع ، وترك الآلهة التي كان يدعوها في حالة الرخاء.

كما قال ـ تعالى ـ : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ..) بيان لحالة هذا الإنسان بعد أن كشف الله ـ تعالى ـ عنه الضر.

٢٠٠