التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

والحق أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ شغل باستعراض الخيل عن صلاة العصر ، وأنه أمر بضرب سوقها وأعناقها .. لا دليل عليه لا من النقل الصحيح ولا من العقل السليم ..

وأن التفسير المقبول للآية هو ما ذكره الإمام الرازي والإمام ابن حزم ، وما سبق أن ذكرناه من أن المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) إنما هو تكريمها ..

وأن الضمير في قوله : (حَتَّى تَوارَتْ) يعود إلى الصافنات لأنه أقرب مذكور.

ثم تحدثت الآيات الكريمة بعد ذلك عن فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ..).

وقوله : (فَتَنَّا) من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار والامتحان. تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته لتعلم جودته ..

قال الآلوسى : وأظهر ما قيل في فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ـ تعالى ـ ولم يقل إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل.

وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة مرفوعا ، وفيه : «فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا».

ولكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين. وأن الملك قال له : قل إن شاء الله ، فلم يقل ـ أى فلم يقل ذلك على سبيل النسيان ..

والمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولدته له. ومعنى إلقائه على كرسيه : وضع القابلة له عليه ليراه (١).

وقد ذكروا أن سليمان : إنما قال : «تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله» على سبيل التمني للخير ، وطلب الذرية الصالحة المجاهدة في سبيل الله.

ومعنى «فلم يقل» أى : بلسانه على سبيل النسيان ، والنسيان معفو عنه ، إلا أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ لسمو منزلته اعتبر ذلك ذنبا يستحق الاستغفار منه ، فقال بعد ذلك «رب اغفر لي ...».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٩٨.

١٦١

وقوله : «لأطوفن الليلة ...» كناية عن الجماع. قالوا : ولعل المقصود. طوافه عليهن ابتداء من تلك الليلة ، ولا مانع من أن يستغرق طوافه بهن عدة ليال.

وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن فتنة سليمان ، هي تركه تعليق ما طلبه على مشيئة الله ، وأن عقابه على ذلك كان عدم تحقق ما طلبه.

وهذا الرأى في تقديرنا هو الرأى الصواب في تفسير الآية الكريمة لأنه مستند إلى حديث صحيح ثابت في الصحيحين وفي غيرهما ، ولأنه يتناسب مع عصمة الأنبياء وسمو منزلتهم ، فإن النسيان الذي لا يترتب عليه ترك شيء من التكاليف التي كلفهم الله ـ تعالى ـ بها جائز عليهم.

وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن الوحى مكث فترة لم ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه نسى أن يقول ـ عند ما سأله المشركون عن بعض الأشياء إن شاء الله ، وقال سأجيبكم على ما سألتمونى عنه غدا. (١).

ومن العلماء من آثر عدم تعيين الفتنة التي اختبر الله ـ تعالى ـ بها سيدنا سليمان ـ عليه‌السلام ـ ، بتركه المشيئة ، فقال بعد أن ذكر الحديث السابق : وجائز أن تكون هذه الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال.

ثم قال : وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان ـ عليه‌السلام ـ في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان ، كما يبتلى الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم. ويبعد خطاهم عن الزلل ، وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع. وطلب المغفرة ، واتجه إلى الله بالرجاء والدعاء .. (٢).

ونرى أنه رأى لا بأس به ، وإن كنا نؤثر عليه الرأى السابق لاستناده في استنباط المراد من الفتنة هنا إلى الحديث الصحيح.

هذا. وهناك أقوال أخرى ذكروها في المقصود بفتنة سليمان وبالجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان ، وهي أقوال ساقطة ، تتنافى مع عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

ومن هذه الأقوال قول بعضهم : إن الجسد الذي ألقى على كرسي سليمان ، عبارة عن شيطان تمثل له في صورة إنسان ، ثم أخذ من سليمان خاتمه الذي كان يصرف به ملكه. وقعد

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة الكهف ص ٤٩٨.

(٢) راجع تفسير في ظلال القرآن ج ٢٣ ص ١٠٠.

١٦٢

ذلك الشيطان على كرسي سليمان ، ولم يعد لسليمان ملكه إلا بعد أن عثر على خاتمه.

وقول بعضهم : إن سبب فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ هو سجود إحدى زوجاته لتمثال أبيها الذي قتله سليمان في إحدى الحروب ، وقد بقيت على هذه الحال هي وجواريها أربعين ليلة ، دون أن تعلم سليمان بذلك.

وقول بعضهم : إن سبب فتنة سليمان أنه ولد له ولد فخاف عليه من الشياطين ، فأمر السحاب بحفظه وتغذيته. ولكن هذا الولد وقع ميتا على كرسي سليمان ، فاستغفر سليمان ربه لأنه لم يعتمد عليه في حفظ ابنه. إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة الباطلة ، التي تتنافى مع عصمة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ. وتتنافى ـ أيضا ـ مع كل عقل سليم ، ولا مستند لها إلا النقل عن الإسرائيليات وعن القصاص الذين يأتون بقصص ما أنزل الله بها من سلطان (١).

قال أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ : نقل المفسرون في هذه الفتنة وفي إلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها في كتبهم ، وهي مما لا يحل نقلها ، وهي إما من أوضاع اليهود ، أو الزنادقة ، ولم يبين الله ـ تعالى ـ الفتنة ما هي ، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان.

وأقرب ما قيل فيه ، أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال فيه : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة .. والجسد الملقى هو المولود شق رجل .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ...) بيان لما قاله سليمان ـ عليه‌السلام ـ بعد الابتلاء والاختبار من الله ـ تعالى ـ له.

أى : قال سليمان ـ عليه‌السلام ـ يا رب اغفر لي ما فرط منى من ذنوب وزلات ..

(وَهَبْ لِي مُلْكاً) عظيما (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أى : لا يحصل مثله لأحد من الناس من بعدي (إِنَّكَ أَنْتَ) يا إلهى (الْوَهَّابُ) أى : الكثير العطاء لمن تريد عطاءه.

وقدم سليمان ـ عليه‌السلام ـ طلب المغفرة على طلب الملك ، للإشارة إلى أنها هي الأهم عنده.

قال الإمام الرازي ـ رحمه‌الله ـ : دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم بعدها طلب المملكة ، وأيضا الآية تدل على أن

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٣ ص ١٠١. والآلوسى ج ٢٣ ص ٢٠٠ وغيرهما.

(٢) راجع تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٧ ص ٣٩٧.

١٦٣

طلب المغفرة من الله ـ تعالى ـ سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة (١).

ولا يقال كيف طلب سليمان ـ عليه‌السلام ـ الدنيا والملك مع حقارتهما إلى جانب الآخرة وما فيها من نعيم دائم ؛ لأن سليمان ـ عليه‌السلام ـ ما طلب ذلك إلا من أجل خدمة دينه وإعلاء كلمة الله في الأرض ، والتمكن من أداء الحقوق لأصحابها ، ونشر العدالة بين الناس ، وإنصاف المظلوم ، وإعانة المحتاج. وتنفيذ شرع الله ـ تعالى ـ على الوجه الأكمل.

فهو ـ عليه‌السلام ـ لم يطلب الملك للظلم أو البغي .. وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله ـ تعالى ـ في الأرض.

ولقد وضح الإمام القرطبي هذا المعنى فقال : كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله ـ تعالى ـ ...؟

فالجواب : أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله ـ تعالى ـ وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده. والمحافظة على رسومه وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته ... وحوشي سليمان ـ عليه‌السلام ـ أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا. لأنه هو والأنبياء ، أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله. كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله ، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك.

ومعنى قوله (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أى : أن يسأله. فكأنه سأل منع السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإجابة .. (٢).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) للتفريع على ما تقدم من طلب سليمان من ربه أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. والتسخير : التذليل والانقياد. أى : دعانا ـ سليمان ـ عليه‌السلام والتمس منا أن نعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فاستجبنا له دعاءه. وذللنا له الريح ، وجعلناها منقادة لأمره بحيث تجرى بإذنه رخية لينة ، إلى حيث يريدها أن تجرى.

وقوله : (تَجْرِي) حال من الريح. وقوله (بِأَمْرِهِ) من إضافة المصدر لفاعله. أى : بأمره إياها. ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ...) (٣) لأن المقصود من الآيتين بيان أن

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٩٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٠٤.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٨١.

١٦٤

الريح تجرى بأمر سليمان ، فهي تارة تكون لينة وتارة تكون عاصفة ، وفي كلتا الحالتين هي تسير بأمره ورغبته.

وقوله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) معطوف على الريح أي : سخرنا له الريح تجرى بأمره .. وسخرنا له الشياطين. بأن جعلناهم منقادين لطاعته ، فمنهم من يقوم ببناء المبانى العظيمة التي يطلبها سليمان منهم. ومنهم الغواصون الذين يغوصون في البحار ليستخرجوا له منها اللؤلؤ والمرجان ، وغير ذلك من الكنوز التي اشتملت عليها البحار.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) معطوف على كل بناء ، داخل معه في حكم البدل من الشياطين.

أى : أن الشياطين المسخرين لسليمان كان منهم البناءون ، وكان منهم الغواصون ، وكان منهم المقيدون بالسلاسل والأغلال ، لتمردهم وكثرة شرورهم.

فمعنى «مقرنين» : مقرونا بعضهم ببعض بالأغلال والقيود. والأصفاد : جمع صفد وهو ما يوثق به الأسير من قيد وغلّ.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه أباح لسليمان ـ عليه‌السلام ـ أن يتصرف في هذا الملك الواسع كما يشاء فقال : (هذا عَطاؤُنا) أى : منحنا هذا الملك العظيم لعبدنا سليمان ـ عليه‌السلام ـ وقلنا له : هذا عطاؤنا لك (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أى : فأعط من شئت منه. وأمسك عمن شئت. فأنت غير محاسب منا لا على العطاء ولا على المنع.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لسليمان ـ عليه‌السلام ـ في الآخرة ، فقال : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا) أى في الآخرة (لَزُلْفى) لقربى وكرامة (وَحُسْنَ مَآبٍ) أى : وحسن مرجع إلينا يوم القيامة.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أيوب ـ عليه‌السلام ـ فذكرت نداءه لربه ، واستجابة الله ـ تعالى ـ له وما وهبه من نعم جزاء صبره ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣)

١٦٥

وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

قال الإمام الرازي : اعلم أن قصة أيوب هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة ، واعلم أن داود وسليمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء ، وأيوب كان ممن خصه الله بأنواع البلاء ، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اصبر على سفاهة قومك ، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا من داود وسليمان ، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنظم لأحد ، وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره .. (١).

وأيوب ـ عليه‌السلام ـ هو ابن أموص بن برزاح ، وينتهى نسبه إلى إسحاق بن ابراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وكانت بعثته على الراجح بين موسى ويوسف ـ عليهما‌السلام ـ.

وكان صاحب أموال كثيرة ، وله أولاد .. فابتلى في ماله وولده وجسده ، وصبر على كل ذلك صبرا جميلا ، فكافأه الله ـ تعالى ـ على صبره ، بأن أجاب دعاءه ، وآتاه أهله ومثلهم معهم ..

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ...) معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ...).

و «النّصب» ـ بضم فسكون ـ وقرأ حفص ونافع ـ بضم النون والصاد : ـ التعب والمشقة مأخوذ من قولهم أنصبنى الأمر ، إذا شق عليه وأتعبه. والعذاب : الآلام الشديدة التي يحس بها الإنسان في بدنه. أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ حال أخيك أيوب ـ عليه‌السلام ـ حين دعا ربه ـ تعالى ـ فقال : يا رب أنت تعلم أنى مسنى الشيطان بالهموم الشديدة ، وبالآلام المبرحة التي حلت بجسدي فجعلتني في نهاية التعب والمرض.

وجمع ـ سبحانه ـ في بيان ما أصابه بين لفظي النصب والعذاب ، للإشارة إلى أنه قد أصيب بنوعين من المكروه : الغم الشديد بسبب زوال الخيرات التي كانت بين يديه ، وهو

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٩٨.

١٦٦

ما يشير إليه لفظ «النصب» والألم الكثير الذي حل بجسده بسبب الأمراض والأسقام ، والعلل ، وهو ما يشير إليه لفظ «العذاب» ..

ونسب ما مسه من نصب وعذاب إلى الشيطان تأدبا منه مع ربه ـ عزوجل ـ حيث أبى أن ينسب الشر إليه ـ سبحانه ـ ، وإن كان الكل من خلق الله ـ تعالى ـ.

وفي هذا النداء من أيوب لربه ، أسمى ألوان الأدب والإجلال ، إذ اكتفى في تضرعه بشرح حاله دون أن يزيد على ذلك ، ودون أن يقترح على خالقه ـ عزوجل ـ شيئا معينا ، أو يطلب شيئا معينا.

قال صاحب الكشاف : ألطف أيوب ـ عليه‌السلام ـ في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة .. ولم يصرح بالمطلوب.

ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له : يا أمير المؤمنين ، مشت جرذان ـ أي فئران ـ بيتي على العصا!! فقال لها : ألطفت في السؤال ، لا جرم لأجعلنها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حبا (١) ..

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنبياء : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصصا وأقوالا في غاية السقوط والفساد ، حيث ذكروا أن أيوب ـ عليه‌السلام ـ مرض زمنا طويلا ، وأن الديدان تناثرت من جسده ، وأن لحمه قد تمزق (٢).

وهذه كلها أقوال باطلة ، لأن الله ـ تعالى ـ عصم أنبياءه من الأمراض المنفرة ، التي تؤدى إلى ابتعاد الناس عنهم ، سواء أكانت أمراضا جسدية أم عصبية أم نفسية ..

والذي يجب اعتقاده أن الله ـ تعالى ـ قد ابتلى عبده أيوب ببعض الأمراض التي لا تتنافى مع منصب النبوة ، وقد صبر أيوب على ذلك حتى ضرب به المثل في الصبر ، فكانت عاقبة صبره أن رفع الله ـ تعالى ـ عنه الضر والبلاء ، وأعطاه من فضله الكثير من نعمه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) حكاية لما قيل له بعد ندائه لربه ، أو مقول لقول محذوف معطوف على قوله (نادى).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٠.

(٢) راجع على سبيل المثال تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٣٠٦ ، والقرطبي ج ١٥ ص ٢٠٨.

١٦٧

وقوله : (ارْكُضْ) بمعنى الدفع والتحريك للشيء. يقال : ركض فلان الدابة برجله إذا دفعها وحركها بها.

والمغتسل : اسم للمكان الذي يغتسل فيه ، والمراد به هنا : الماء الذي يغتسل به.

وقوله : (هذا مُغْتَسَلٌ) مقول لقول محذوف.

والمعنى : لقد نادانا عبدنا أيوب بعد أن أصابه من الضر ما أصابه ، والتمس منا الرحمة والشفاء مما نزل به من مرض ، فاستجبنا له دعاءه ، وأرشدناه الى الدواء ، بأن قلنا له : «اركض برجلك» أى : اضرب بها الأرض ، فضربها فنبعت من تحت رجله عين الماء ، فقلنا له : هذا الماء النابع من العين إذا اغتسلت به وشربت منه ، برئت من الأمراض ، ففعل ما أمرناه به ، فبرئ بإذننا من كل داء.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه بفضله وكرمه لم يكتف بمنح أيوب الشفاء من مرضه ، بل أضاف إلى ذلك أن وهب له الأهل والولد فقال ـ تعالى ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

والآية الكريمة معطوفة على كلام مقدر يفهم من السياق أى : استجاب أيوب لتوجيهنا ، فاغتسل وشرب من الماء ، فكشفنا عنه ما نزل به من بلاء ، وعاد أيوب معافى ، ولم نكتف بذلك بل وهبنا له أهله. ووهبنا له (مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أى : بأن رزقناه بعد الشفاء أولادا كعدد الأولاد الذين كانوا معه قبل شفائه من مرضه ، فصار عددهم مضاعفا.

وذلك كله (رَحْمَةً مِنَّا) أى من أجل رحمتنا به (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أى : ومن أجل أن يتذكر ذلك أصحاب العقول السليمة ، فيصبروا على الشدائد كما صبر أيوب ، ويلجئوا إلى الله ـ تعالى ـ كما لجأ ، فينالوا منا الرحمة والعطاء الجزيل.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) الجمهور على أنه ـ تعالى ـ أحيا له من مات من أهله ، وعافى المرضى ، وجمع له من تشتت منهم ، وقيل ـ وإليه أميل ـ وهبه من كان حيا منهم ، وعافاه من الأسقام ، وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم عدد من مضى ، ومثلهم معهم ، فكان له ضعف ما كان ، والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ منة أخرى من المنن التي من بها على عبده أيوب فقال : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٠٧.

١٦٨

والجملة الكريمة معطوفة على قوله قبل ذلك : (ارْكُضْ) أو على (وَهَبْنا) بتقدير : وقلنا له.

والضغث في اللغة : القبضة من الحشيش اختلط فيها الرطب باليابس. وقيل : هي قبضة من عيدان مختلفة يجمعها أصل واحد.

والحنث : يطلق على الإثم وعلى الخلف في اليمين.

والآية الكريمة تفيد أن أيوب ـ عليه‌السلام ـ قد حلف أن يضرب شيئا وأن عدم الضرب يؤدى إلى حنثه في يمينه ، أى : إلى عدم وفائه فيما حلف عليه ، فنهاه الله ـ تعالى ـ عن الحنث في يمينه ، وأوجد له المخرج الذي يترتب عليه البر في يمينه دون أن يتأذى المضروب بأى أذى يؤلمه.

وقد ذكروا فيمن وقع عليه الضرب وسبب هذا الضرب ، روايات لعل أقربها إلى الصواب ، أن أيوب أرسل امرأته في حاجة له فأبطأت عليه ، فأقسم أنه إذا برىء من مرضه ليضربنها مائة ضربة ، وبعد شفائه رخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ـ وهي المعبر عنها بالضغث ـ وبها مائة عود ، ثم يضرب بها مرة واحدة ، وبذلك يكون قد جمع بين الوفاء بيمينه ، وبين الرحمة بزوجته التي كانت تحسن خدمته خلال مرضه ، وتقوم بواجبها نحوه خير قيام.

والمعنى : وهبنا له بفضلنا ورحمتنا أهله ومثلهم معهم ، وقلنا له بعد شفائه خذ بيدك حزمة صغيرة من الحشيش فيها مائة عود ، فاضرب بها من حلفت أن تضربه مائة ضربة ، وبذلك تكون غير حانث في يمينك.

هذا وقد تكلم العلماء عن هذه الرخصة. أهي خاصة بأيوب ، أم هي عامة للناس؟.

فقال بعضهم : إذا حلف الشخص أن يضرب فلانا مائة جلدة ، أو أن يضربه ضربا غير شديد ، فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور الذي جاء في الآية ؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا.

وقال آخرون : هذه الرخصة خاصة بأيوب ـ عليه‌السلام ـ ولا تنسحب إلى غيره ، لأن الخطاب إليه وحده. ولأن الله ـ تعالى ـ لم يبين لنا في الآية كيفية اليمين ، ولا من يقع عليه الضرب (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه جعل لعبده أيوب هذا المخرج لصبره وكثرة رجوعه إلى ما يرضيه ـ تعالى ـ فقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢١٢. وتفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٠٨.

١٦٩

أى : إنا وجدنا عبدنا أيوب صابرا على ما أصبناه به من بلاء ، ونعم العبد هو. إنه كثير الرجوع إلينا في كل أحواله.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من فضائل أيوب ـ عليه‌السلام ـ ومن النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها عليه جزاء صبره وطاعته لربه.

وبعد أن عرض ـ سبحانه ـ قصص داود وسليمان وأيوب بشيء من التفصيل. أتبع ذلك بالحديث عن عدد من الأنبياء على سبيل الإجمال ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨)

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ حال عبادنا إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب. أصحاب القوة في الطاعة ، وأصحاب البصيرة المشرقة الواعية في أمور الدين.

فالأيدى مجاز مرسل عن القوة ، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة على سبيل المجاز ـ أيضا ـ ويصح أن يكون المراد بقوله : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أى : أصحاب الأعمال الجليلة ، والعلوم الشريفة ، فيكون ذكر الأيدى من باب ذكر السبب وإرادة المسبب ، والأبصار بمعنى البصائر ، لأن عن طريقها تكون العلوم النافعة.

قال صاحب الكشاف : قوله : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يريد : أولى الأعمال والفكر ، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في الله ، ولا يفكرون أفكار ذوى الديانات ، ولا يستبصرون ، كأن هؤلاء في حكم الزمنى ـ أى المرضى ـ الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم. والمسلوبى العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ، ولا من المستبصرين في دين الله ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل ، مع كونهم متمكنين منهما (١) ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٩٩.

١٧٠

ثم بين ـ سبحانه ـ أسباب وصفهم بتلك الأوصاف الكريمة ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ...).

ومعنى : (أَخْلَصْناهُمْ) خالصين لطاعتنا وعبادتنا. والباء في قوله (بِخالِصَةٍ) للسببية. وخالصة اسم فاعل. والتنوين فيها للتفخيم ، وهي صفة لمحذوف.

و (ذِكْرَى الدَّارِ) بيان لها بعد إبهامها للتفخيم. أو محلها النصب بإضمار أعنى .. أو الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : هي.

و (ذِكْرى) مصدر مضاف لمفعوله ، وتعريف الدار للعهد. أى : الدار الآخرة.

والمعنى : إنا جعلنا هؤلاء العباد ـ وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ خالصين لطاعتنا وعبادتنا ، متبعين لأوامرنا ونواهينا ، لا تصافهم بخصلة خالصة من كل ما لا يرضينا ، وهي تذكرهم للدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.

وقرأ نافع (بِخالِصَةٍ) بدون تنوين على الإضافة لذكرى. من إضافة الصفة إلى الموصوف. أو المصدر لفاعله إن جعلت خالصة مصدرا كالعاقبة.

أى : أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار.

ثم أثنى عليهم ـ سبحانه ـ بثناء آخر فقال : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ).

أى : وإن هؤلاء العباد ، لهم عندنا ممن اصطفيناهم لحمل رسالتنا ، واخترناهم لتبليغ دعوتنا. ومن العباد الأخيار. أى : الذين يفضلون على غيرهم في المناقب الحميدة ، والصفات الكريمة. جمع خير ـ بإسكان الياء ـ أفعل تفضيل.

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على عدد آخر من عباده الصالحين فقال : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ).

وإسماعيل هو ابن إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ ، ولم يذكر فيما سبق مع أبيه ومع أخيه إسحاق ، ومع ابن أخيه يعقوب ، اعتناء بشأنه ، وللإشارة إلى عراقته في الصبر وفي تحمل الشدائد.

واليسع : هو ابن شافاط أو أخطوب : قيل استخلفه إلياس من بعده على بنى إسرائيل ، ثم منحه الله ـ تعالى ـ النبوة. وكانت وفاته في حوالى سنة ٨٤٠ ق. م ودفن بالسامرة.

وذا الكفل : هو ابن أيوب. بعثه الله ـ تعالى ـ بعد أبيه ، وكان مقيما بالشام. والأكثرون على أنه نبي لذكره معهم.

١٧١

وقيل هو رجل صالح من بنى إسرائيل. ولم يكن نبيا ، وسمى بذلك لأنه تكفل لأحد أنبيائهم بالقيام بالطاعات فوفى بذلك.

والتنوين في قوله ـ تعالى ـ : (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) عوض عن المضاف إليه. أى : وكل هؤلاء العباد الذين ذكرناهم ، من أهل الخير والفضل والصلاح والصبر على الأذى.

ثم عقبت السورة الكريمة على ذلك ، بعقد مقارنة بين عاقبة المؤمنين الصادقين ، وعاقبة الكافرين الجاحدين ، وذكرت جانبا مما يدور بين أهل النار من مجادلات .. فقال ـ تعالى ـ :

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

١٧٢

قال الآلوسى : «هذا» إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم «ذكر» أى : شرف لهم ... والمراد أن في ذكر قصصهم ... شرف عظيم لهم.

أو المعنى : هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذي هو القرآن ، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر ، كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ، ثم يشرع في باب آخر.

ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا ، وكان كيت وكيت ، ويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيرا ، وعليه (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) بيان لما أعده لهم ـ سبحانه ـ في الآخرة من عطاء جزيل ، وثواب عظيم.

والمآب : اسم مكان من آب فلان يؤوب إذا رجع ، والمراد بالمتقين : كل من تحققت فيه صفة التقوى والخوف من الله ـ تعالى ـ وعلى رأسهم الأنبياء الذين اصطفاهم الله ـ تعالى ـ واختارهم لتبليغ رسالته. أى : وإن للمتقين في الآخرة لمنزل كريم يرجعون إليه في الآخرة. فيجدون فيه ما لا عين رأت. ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (هذا ذِكْرٌ) يعود إلى ما ذكره ـ سبحانه ـ في الآيات السابقة ، عن هؤلاء الأنبياء من ثناء وتكريم. والذكر : الشرف والفضل.

أى : هذا الذي ذكرناه عن هؤلاء الأنبياء شرف لهم ، وذكر جميل يذكرون به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما أعده لهم في الآخرة من تكريم فقال : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ).

والعدن في اللغة : الإقامة الدائمة في المكان. يقال : عدن فلان بمكان كذا ، إذا أقام به إقامة دائمة. وجنات : بدل اشتمال من قوله : (لَحُسْنَ مَآبٍ).

أى : هؤلاء المتقون أكرمناهم في الدنيا بالذكر الحسن. ونكرمهم في الآخرة بأن ندخلهم جنات عظيمة دخولا دائما مؤبدا ، وقد فتحت أبوابها على سبيل التكريم لهم. والحفاوة بمقدمهم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢١٢.

١٧٣

(مُتَّكِئِينَ فِيها ..) أى : في تلك الجنات. وانتصب لفظ «متكئين» على الحال من ضمير «لهم» والعامل فيه قوله (مُفَتَّحَةً).

وقوله : (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) استئناف لبيان حالهم في الجنات ، أو حال ـ أيضا ـ من ضمير «لهم».

أى : أن المتقين لهم جنات عظيمة. فاتحة لهم أبوابها على سبيل التكريم ويجلسون فيها جلسة الآمن المطمئن المنعم ، حيث يتكئون ويستندون على الأرائك ، ويطلبون أنواعا كثيرة من الفاكهة اللذيذة ، ومن الشراب الطيب ، فيلبي طلبهم في الحال.

ثم يضاف إلى هذه الفاكهة والشراب ، ما بينه ـ سبحانه ـ في قوله : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ). أى : وعندهم فضلا عن كل ما تقدم نساء ذوات حياء ، قد قصرن أعينهن على أرواحهن فلا يتطلعن إلى غيرهم. لشدة محبتهن لهم. وهن متساويات في السن والجمال والأخلاق الكريمة.

فمعنى أتراب : أنهن متساويات في السن والجمال والشباب. مأخوذ من التراب. لأن التراب يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن : أو من الترائب وهي عظام الصدر المتماثلة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا العطاء العظيم مقابل عملهم الصالح في الدنيا فقال : (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ).

واللام في قوله (لِيَوْمِ) للتعليل. أى : هذا الذي ذكرناه لكم من نعيم الجنات. هو جزاء إيمانكم وعملكم الصالح من أجل يوم الحساب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ جزاءهم ببيان أنه جزاء خالد لا ينقطع ولا ينقص فقال : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ).

أى : إن هذا الذي ذكرناه لكم ـ أيها المتقون ـ من الجنات وما اشتملت عليه من نعيم ، هو رزقنا الدائم لكم. وليس له من نفاذ أو انقطاع أو انتقاص. يقال نفد الشيء نفادا ونفدا ، إذا فنى وهلك وذهب.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (١). أى غير مقطوع.

وبعد هذا الحديث الذي يشرح الصدور عن المؤمنين وحسن عاقبتهم. جاء الحديث عن

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٨.

١٧٤

الكافرين وسوء مصيرهم ـ كما هي عادة القرآن الكريم في قرن الترغيب بالترهيب فقال ـ تعالى ـ : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).

واسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف. أى الأمر هذا ، أو مبتدأ محذوف الخبر أى : هذا للمؤمنين.

وجملة «وإن للطاغين لشر مآب» معطوفة على جملة «هذا» على التقديرين.

أى : الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ بالنسبة للمتقين ، أما الطاغون الذين تجاوزوا الحدود في الكفر والجحود والإعراض عن الحق ، فإن مرجعهم إلينا سيكون شر مرجع ، بسبب إصرارهم على كفرهم.

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أى : إذا كان المتقون يدخلون الجنات التي فتحت لهم أبوابها ، فإن الطاغين تستقبلهم جهنم بسعيرها ولهيبها فيلقون فيها ويفترشون نارها ، وبئست هي فراشا ومهادا.

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) واسم الإشارة هنا مرفوع على الابتداء ، وخبره قوله (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) ، وما بينهما اعتراض.

والحميم : الماء الذي بلغ النهاية في الحرارة. والغساق : صديد يسيل من أجساد أهل النار. مأخوذ من قولهم غسق الجرح ـ كضرب وسمع ـ غسقانا إذا سال منه الصديد وما يشبهه. أى : هذا هو عذابنا الذي أعددناه لهم ، يتمثل في ماء بلغ الغاية في الحرارة ، وفي قيح وصديد يسيلان من أجسادهم ، فليذوقوا كل ذلك جزاء كفرهم وجحودهم.

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أى : ليس عذابهم مقصورا على الحميم والغساق بل لهم أنواع أخرى من العذاب ، تشبه في شكلها وفي فظاعتها وفي شدتها ، الحميم والغساق.

فقوله (وَآخَرُ) مبتدأ ، وقوله (مِنْ شَكْلِهِ) صفته ، وقوله : (أَزْواجٌ) خبره.

والآية الكريمة معطوفة على الآية التي قبلها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يقوله أهل النار بعضهم لبعض على سبيل الندم والتحسر والتقريع. فقال : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ، لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ).

والفوج : الجمع الكثير من الناس ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها. يقال : قحم فلان نفسه في الأمر ، إذا رمى نفسه فيه من غير روية.

أى : قال الكفار بعضهم لبعض بعد أن رأوا غيرهم يلقى في النار معهم ، أو قالت الملائكة لهم على سبيل التقريع والتأنيب : (هذا فَوْجٌ) أى جمع كثير من أتباعكم وإخوانكم في

١٧٥

الضلال. (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أى داخل معكم النار وعلى غير اختيار منه. وإنما يساق إليها سوقا في ذلة ومهانة.

وهنا يقول زعماء الكفر : (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أى : لا مرحبا ولا أهلا بهؤلاء الداخلين في النار معنا ، لأنهم سيصلون سعيرها مثلنا ، ولن يستطيعوا أن يدفعوا شيئا من حرها عنا ...

فقوله (مَرْحَباً) مفعول به لفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : أتوا معنا لا مرحبا بهم. والجملة دعائية لا محل لها من الإعراب أى : لا أتوا مكانا رحبا بل ضيقا ، وهنا يحكى القرآن رد الفوج المقتحم للنار معهم فيقول : (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ ..).

أى : قال الداخلون في النار وهم الأتباع لرؤسائهم : بل أنتم الذين لا مرحبا بكم ، وإنما الضيق والهلاك لكم.

(أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) أى : لا مرحبا بكم لأنكم أنتم أيها الزعماء الذين تسببتم لنا دخول النار معكم ، إذ دعوتمونا في الدنيا إلى الكفر فاتبعناكم ، فبئس القرار والمنزل لنا ولكم جهنم.

فالجملة الكريمة تعليل لأحقية الرؤساء بدخول النار ، ويقولها الأتباع على سبيل التشفي منهم. ثم يضيفون إلى ذلك قولهم : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ).

أى : يا ربنا من كان سببا في نزول هذا العذاب بنا ، فزده عذابا مضاعفا في النار ، لأننا لو لا هؤلاء الرؤساء وإضلالهم لنا ، لما صرنا إلى هذا المصير الأليم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقوله أئمة الكفر ، عند ما يدورون بأعينهم في النار ، فلا يرون المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا فقال : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ..). أى : وقال رؤساء الكفر على سبيل التحسر والتعجب وهم ملقون في النار ما لنا لا نرى معنا في جهنم رجالا من فقراء المؤمنين ، كنا نعدهم في الدنيا من الأراذل الأخساء ، لسوء حالهم ، وقلة ذات يدهم.

قال القرطبي : قال ابن عباس : يريدون أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول أبو جهل : أين

__________________

(١) سورة الأحزاب الآيتان ٦٧ ، ٦٨

١٧٦

بلال؟ أين صهيب؟ أين عمار؟ أولئك في الفردوس ، وا عجبا لأبى جهل! مسكين أسلم ابنه عكرمة ، وابنته جويرية ، وأسلمت أمه ، وأسلم أخوه. وكفر هو. قال :

ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا

وموضع رجلي منه أسود مظلم (١)

ثم حكى القرآن ما سأله هؤلاء المشركون لأنفسهم عند ما تلفتوا في النار ، فلم يجدوا أحدا من المؤمنين الذين كانوا يصفونهم بأنهم من الأشرار فقال : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا ، أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ).

أى : إنهم بعد أن دخلوا النار أخذوا يدورون بأعينهم فيها فلم يروا المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا ، فقالوا فيما بينهم : ما بالنا لا نرى الرجال الذين كنا نسخر منهم في الدنيا ، ألم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها ولكن أبصارنا لا تراهم وزاغت عنهم؟.

فهم يتحسرون على أحوالهم البائسة بعد أن وجدوا أنفسهم في النار ، وليس معهم من كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم فقراء المؤمنين.

قال صاحب الكشاف : قوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لقوله (رِجالاً) مثل قوله (كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ). وقرئ بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم.

وقوله : (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) له وجهان من الاتصال : أحدهما : أن يتصل بقوله : (ما لَنا). أى : ما لنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها ، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها؟ قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنهم خفى عليهم مكانهم.

الوجه الثاني : أن يتصل بقوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا ...) على معنى أى الفعلين فعلنا بهم : الاستسخار منهم ، أم الازدراء بهم والتحقير ، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم ، على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم ...» (٢).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) يعود إلى التخاصم الذي حكى عنهم.

وقوله : (لَحَقٌ) خبر إن. وقوله : (تَخاصُمُ) خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة بيان لاسم الإشارة ، وفي الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٢٤.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٠٢.

١٧٧

أى : إن ذلك الذي قصصناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من تخاصم أهل النار فيما بينهم وتلاعنهم .. حق لا شك فيه ، وثابت ثبوتا لا يختلف عليه عاقلان.

وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت بأبلغ بيان ما أعده الله ـ تعالى ـ للمتقين من ثواب ، وما أعده للطاغين من عقاب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بتلقين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرد الذي يرد به على المشركين المعترضين على دعوته ، وببيان موقف إبليس من أمر الله ـ تعالى ـ له بالسجود لآدم ، وببيان ما أعده ـ سبحانه ـ لإبليس وجنده من عذاب. فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)

١٧٨

قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين : إنما وظيفتي الإنذار والتخويف لكم من عذاب شديد ، إذا بقيتم على كفركم ، وأعرضتم عن دعوتي.

واقتصر على الإنذار مع أنه مبشر ـ أيضا ـ لأنه المناسب لردهم عن شركهم ، وعن وصفهم له تارة بأنه ساحر ، وأخرى بأنه كاهن .. إلخ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) نفى لكل شريك مع الله ـ تعالى ـ في ذاته ، أو صفاته ، أو في خلقه لهذا الكون. أى : ليس هناك من إله سوى الله ـ تعالى ـ في هذا الكون ، وهو ـ سبحانه ـ الواحد الأحد ، القاهر فوق عباده ، الموجد للسموات والأرض وما بينهما ، الغالب لكل شيء ، الكثير المغفرة لمن يشاء من عباده.

فأنت ترى أنه ـ سبحانه ـ قد وصف ذاته في هاتين الآيتين بخمس صفات ؛ تليق بذاته وببيان أن الشرك به ـ سبحانه ـ في العبادة أو الطاعة ظلم عظيم وجهل فاضح.

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين لهم أن ما جاءهم به من عند ربه أمر عظيم ، لا يليق بعاقل أن يعرض عنه فقال : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ).

أى : قل ـ يا محمد ـ لهؤلاء المشركين : إن ما جئتكم به من عند ربي من قرآن كريم ، ومن هدايات بها تسعدون في دنياكم وآخرتكم ، هو خبر عظيم ، يجب أن تلقوا إليه أسماعكم ، وأن تهيئوا نفوسكم لقبوله .. ولكنكم قابلتموه بالإعراض والصدود ، لفرط غفلتكم ، وشدة جهالتكم ، وتماديكم في كفركم.

فالآية الأولى دعوة هامة لهم لكي يقلعوا عن شركهم ، والآية الثانية توبيخ لهم على عنادهم حيث تركوا ما ينفعهم ، وعكفوا على ما يضرهم.

ثم نفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه أن يكون عنده علم بشيء من أخبار الملأ الأعلى ، إلا عن طريق الوحى فقال ـ كما حكى القرآن عنه : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ

١٧٩

يَخْتَصِمُونَ). والمراد بالملإ الأعلى : عالم السموات وما فيه من ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.

قال القرطبي : الملأ الأعلى هم الملائكة في قول ابن عباس والسدى. اختصموا في أمر آدم حين خلق ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ..) وقال إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

وفي هذا بيان أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن قصة آدم وغيره وذلك لا يتصور إلا بتأييد إلهى ...» (١).

وقال ابن كثير : وقوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أى : لو لا الوحى من أين كنت أدرى باختلاف الملأ الأعلى. يعنى في شأن آدم ، وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه ..؟» (٢). فالآية تنفى عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم شيء من أخبار الملأ الأعلى إلا عن طريق الوحى.

وجملة «إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين» معترضة بين إيراد اختصامهم على سبيل الإجمال ، ثم إيراده في الآيات الآتية بعد ذلك على سبيل التفصيل.

و «إن» نافية. ونائب فاعل «يوحى» ضمير تقديره هو يعود على المفهوم مما سبق. وهو شأن الملأ الأعلى ، و «أنما» بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل.

أى : ليس لي من علم بما يدور في الملأ الأعلى إلا عن طريق الوحى ، وهذا الوحى لا ينزل على إلا من أجل أنى رسول من عند الله ـ تعالى ـ أنذركم بما يكلفني به إنذارا واضحا بينا.

ثم فصل ـ سبحانه ـ هذا التخاصم الذي أشار إليه ـ سبحانه ـ قبل ذلك في قوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، فقال : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

و «إذ» في قوله (إِذْ قالَ رَبُّكَ ...) بدل من قوله (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، لاشتمال ما في حيزها على تفصيل تلك الخصومة. وقيل : هي منصوبة بتقدير اذكر.

قالوا : والمراد بالملائكة هنا ، ما يشمل إبليس ، بدليل أن الأمر بالسجود لآدم كان للجميع ، وأنهم جميعا امتثلوا لأمر الله ـ تعالى ـ ما عدا إبليس.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٢٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٧٠.

١٨٠