التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

وقوله : (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) حكاية لما رد به إسماعيل على أبيه إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وهو رد يدل على علو كعبه في الثبات ، وفي احتمال البلاء ، وفي الاستسلام لقضاء الله وقدره.

أى : قال الابن لأبيه : يا أبت افعل ما تؤمر به من قبل الله ـ تعالى ـ ولا تتردد في ذلك وستجدني إن شاء الله من الصابرين على قضائه.

وفي هذا الرد ما فيه من سمو الأدب ، حيث قدم مشيئة الله ـ تعالى ـ ، ونسب الفضل إليه ، واستعان به ـ سبحانه ـ في أن يجعله من الصابرين على البلاء.

وهكذا الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ يلهمهم الله ـ تعالى ـ في جميع مراحل حياتهم ما يجعلهم في أعلى درجات السمو النفسي ، واليقين القلبي ، والكمال الخلقي.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما كان من الابن وأبيه فقال : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وأسلما : بمعنى استسلما وانقادا لأمر الله ، فالفعل لازم ، أو بمعنى : سلّم الذبيح نفسه وسلم الأب ابنه ، فيكون متعديا والمفعول محذوف.

وقوله (وَتَلَّهُ) أى : صرعه وأسقطه ، وأصل التل : الرمي على التّل وهو الرمل الكثيف المرتفع ، ثم عمم في كل رمى ودفع ، يقال : تل فلان فلانا إذا صرعه وألقاه على الأرض.

والجبين : أحد جانبي الجبهة ، وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما.

أى : فلما استسلم الأب والابن لأمر الله ـ تعالى ـ وصرع الأب ابنه على شقه ، وجعل جبينه على الأرض ، واستعد الأب لذبح ابنه .. كان ما كان منا من رحمة بهما. ومن إكرام لهما ، ومن إعلاء لقدرهما.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : هو محذوف تقديره : فلما أسلما وتله للجبين «وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا» كان ما كان مما تنطق به الحال ، ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما ، وحمدهما لله ، وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، وما اكتسبا في تضاعيفه من الثواب ، ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب .. (١).

وقد ذكروا هنا آثارا منها أن إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ لما هم أبوه بذبحه قال له : يا أبت اشدد رباطى حتى لا أضطرب ، واكفف عنى ثيابك حتى لا يتناثر عليها شيء من دمى فتراه أمى فتحزن ، وأسرع مرّ السكين على حلقى ليكون أهون للموت على ، فإذا أتيت أمى فاقرأ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٥.

١٠١

عليها‌السلام منى .. وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أى : وعند ما صرع إبراهيم ابنه ليذبحه ، واستسلما لأمرنا .. نادينا إبراهيم بقولنا (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أى : قد فعلت ما أمرناك به ، ونفذت ما رأيته في رؤياك تنفيذا كاملا ، يدل على صدقك في إيمانك ، وعلى قوة إخلاصك.

قال الجمل : فإن قلت : كيف قال الله ـ تعالى ـ لإبراهيم : قد صدقت الرؤيا وهو إنما رأى أن يذبح ابنه ، وما كان تصديقها إلا لو حصل منه الذبح؟

قلت : جعله الله مصدقا لأنه بذل جهده ووسعه ، وأتى بما أمكنه ، وفعل ما يفعله الذابح ، فأتى بالمطلوب ، وهو انقيادهما لأمر الله (٢).

وجملة «إنا كذلك نجزى المحسنين» تعليل لما قبلها. أى : فعلنا ما فعلنا من تفريج الكرب عن إبراهيم وإسماعيل ، لأن سنتنا قد اقتضت أن نجازي المحسنين الجزاء الذي يرفع درجاتهم ، ويفرج كرباتهم ، ويكشف الهم والغم عنهم.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) يعود إلى ما ابتلى الله ـ تعالى ـ نبيه إبراهيم وإسماعيل.

أى : إن هذا الذي ابتلينا به هذين النبيين الكريمين ، لهو البلاء الواضح ، والاختبار الظاهر ، الذي به يتميز قوى الإيمان من ضعيفه ، والذي لا يحتمله إلا أصحاب العزائم العالية ، والقلوب السليمة ، والنفوس المخلصة لله رب العالمين.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر فضله على هذين النبيين الكريمين فقال : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) والذبح بمعنى المذبوح فهو مصدر بمعنى اسم المفعول كالطحن بمعنى المطحون.

أى : وفدينا إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ بمذبوح عظيم في هيئته ، وفي قدره ، لأنه من عندنا ، وليس من عند غيرنا.

قيل : افتداه الله ـ تعالى ـ بكبش أبيض ، أقرن ، عظيم القدر.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

أى : ومن مظاهر فضلنا وإحساننا وتكريمنا لنبينا إبراهيم ـ أننا أبقينا ذكره الحسن في الأمم التي ستأتى من بعده ، وجعلنا التحية والسلام منا ومن المؤمنين عليه إلى يوم الدين ، ومثل هذا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٣٠.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٤٨.

١٠٢

الجزاء نجزى المحسنين ، إنه ـ عليه‌السلام ـ من عبادنا الصادقين في إيمانهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا آخر من مظاهر فضله على نبيه إبراهيم فقال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ).

أى : ومن مظاهر تكريمنا لإبراهيم ، أننا بشرناه بولد آخر هو إسحاق ، الذي جعلناه نبيا من أنبيائنا الصالحين لحمل رسالتنا ، وأفضنا على إبراهيم وعلى إسحاق الكثير من بركاتنا الدينية والدنيوية ، بأن جعلنا عددا كبيرا من الأنبياء من نسلهما.

ومع ذلك فقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من ذريتهما من هو محسن في قوله وعمله ، ومن هو ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي ظلما واضحا بينا ، وسنجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

هذا ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ أن الرسل جميعا قد جاءوا من عند الله ـ تعالى ـ بدين واحد في أصوله ، وأن كل واحد منهم قد سار على نهج سابقه في الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقد بين ـ سبحانه ـ في مطلع هذه القصة ، أن إبراهيم كان من شيعة نوح ـ عليه‌السلام ـ أى : من أتباعه الذين ساروا على سنته في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده.

وقد أمر ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدى بإخوانه السابقين من الأنبياء ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

٢ ـ أن تعاطى الحيل الشرعية من أجل إزالة المنكر ، أمر مشروع ، فإن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لكي يقضى على الأصنام ، اعتذر لقومه عن الخروج معهم في يوم عيدهم ، وقال لهم : إنى سقيم ـ بعد أن نظر في النجوم.

وكان مقصده من وراء ذلك ، أن يختلى بالأصنام ليحطمها ، ويثبت لقومه أنها لا تصلح للألوهية.

٣ ـ أن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن يراعى ـ بفضله وكرمه ـ عباده المخلصين ، وأن ينصرهم على أعدائهم ، الذين يبيتون لهم الشرور والسوء.

ونرى ذلك جليا في هذه القصة ، فقد أضمر الكافرون لإبراهيم الكيد والإهلاك. فأنجاه الله ـ تعالى ـ من مكرهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

٤ ـ أن على المؤمن إذا لم يتمكن من نشر دعوة الحق في مكان معين أن ينتقل منه إلى مكان

١٠٣

آخر متى كان قادرا على ذلك.

وهذا ما فعله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فقد قال لقومه بعد أن يئس من صلاحهم ، وبعد أن نجاه الله من كيدهم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ).

٥ ـ أن الدعاء متى صدر من نفس عامرة بالإيمان والتقوى ، ومن قلب سليم من الهوى .. كان جديرا بالإجابة.

فلقد تضرع إبراهيم إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، فأجاب الله دعاءه.

كما حكى ـ سبحانه ـ ذلك في قوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

ثم قال ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

٦ ـ أن إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ قد ضربا أروع الأمثال في صدق الإيمان ، وفي الاستسلام لأمر الله ـ تعالى ـ وفي الرضاء بقضائه.

فكافأهما ـ عزوجل ـ على ذلك مكافأة جزيلة ، بأن جعل الذكر الحسن باقيا لإبراهيم إلى يوم القيامة ، وبأن افتدى الذبيح بذبح عظيم.

قال ـ تعالى ـ : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

٧ ـ أن الذبيح الذي ورد ذكره في هذه القصة ، والذي افتداه الله ـ تعالى ـ بذبح عظيم ، هو إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ وعلى ذلك سار جمهور العلماء ، ومن أدلتهم على ما ذهبوا إليه ما يأتى :

(أ) أن سياق القصة يدل دلالة واضحة على أن الذبيح إسماعيل ، لأن الله ـ تعالى ـ حكى عن إبراهيم أنه تضرع إليه ـ تعالى ـ بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فبشره ـ سبحانه ـ (بِغُلامٍ حَلِيمٍ) ، وهذا الغلام عند ما بلغ السن التي يمكنه معها مساعدة أبيه في أعماله. قال له أبوه : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) ثم افتدى الله ـ تعالى ـ هذا الغلام بذبح عظيم.

ثم قال ـ تعالى ـ بعد كل ذلك : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

وهذا يدل على أن المبشر به الأول وهو إسماعيل ، غير المبشر به الثاني وهو إسحاق.

(ب) أن البشارة بمولد إسحاق ـ عليه‌السلام ـ قد جاء الحديث عنها مفصلا في سورة

١٠٤

هود. وظروف هذه البشارة وملابساتها ، تختلف عن الظروف والملابسات التي وردت هنا في سورة الصافات ، وقد أشار إلى ذلك الإمام السيوطي فقال :

وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضى القطع ـ أو ما يقرب منه ـ على أن الذبيح إسماعيل ، وذلك لأن البشارة وقعت مرتين :

مرة في قوله ـ تعالى ـ (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ...).

فهذه الآية قاطعة في أن المبشر به هو الذبيح.

ومرة في قوله ـ في سورة هود ـ : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ).

فقد صرح فيها بأن المبشر به إسحاق ، ولم يكن بسؤال من إبراهيم ، بل قالت امرأته إنها عجوز ، وأنه شيخ ، وكان ذلك في بلاد الشام ، لما جاءت الملائكة إليه ، بسبب قوم لوط ، وكان إبراهيم في آخر عمره.

أما البشارة الأولى فكانت حين انتقل من العراق إلى الشام ، وحين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله ، فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين ، أحدهما بغير سؤال ، وهو إسحاق ، والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره ، فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح (١).

ج ـ أن القول بأن الذبيح إسماعيل قد ورد ـ كما قال الإمام ابن القيم ـ عن كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها.

ثم قال الإمام ابن القيم : وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه‌الله ـ يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه «بكره» وفي لفظ «وحيده» ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاد إبراهيم (٢).

ومن العلماء الذين فصلوا القول في هذه المسألة ، الإمام ابن كثير ، فقد قال رحمه‌الله : «وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكى ذلك عن طائفة من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة ـ أيضا ـ وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تلقّى إلا عن أحبار أهل الكتاب ، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه

__________________

(١) راجع تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٥٠٥٧.

(٢) راجع تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٥٠٥٣.

١٠٥

ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وقال ـ تعالى ـ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أى : يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب ، فيكون من ذريته عقب ونسل.

وقد قدمنا أنه لا يجوز بعد ذلك أن يؤمر بذبحه وهو صغير ، لأن الله قد وعدهما بأنه سيعقب ، ويكون له نسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا ، وإسماعيل وصف هنا بالحلم ، لأنه مناسب لهذا المقام» (١).

قال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ساق أقوال العلماء في ذلك بالتفصيل : «والذي أميل إليه أنه ـ أى الذبيح ـ إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ ، بناء على أن ظاهر الآية يقتضيه ، وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت ، ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضى خلاف ذلك ، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوى الألباب» (٢).

هذه بعض الأحكام والآداب التي يمكن أن نأخذها من هذه القصة ، التي حكاها ـ سبحانه ـ عن نبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في هذه السورة الكريمة ، وهناك أحكام وآداب أخرى يستطيع أن يستخلصها المتدبر في هذه الآيات الكريمة.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من قصة موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ وهما من ذرية إبراهيم وإسحاق ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٣٦.

١٠٦

(١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢)

وموسى : هو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت ولادته في حوالى القرن الثالث عشر ق م.

وهارون : أخو موسى ، قيل كان شقيقا له ، وقيل كان أخا له لأمه ..

والمعنى : لقد أنعمنا على موسى ـ وهارون ـ عليهما‌السلام بنعمة النبوة ، وبغيرها من النعم الأخرى.

والتي من بينها أننا نجيناهما وقومهما المؤمنين ، من استعباد فرعون إياهم ، ومن ظلمه لهم.

(وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أى : ونصرنا موسى وهارون ومن آمن بهما. فكانوا بسبب هذا النصر الذي منحناهم إياه ، هم الغالبين لأعدائهم ، بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم.

(وَآتَيْناهُمَا) بعد كل ذلك (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أى : الكتاب المبين الواضح وهو التوراة.

يقال : استبان الشيء ، إذا ظهر ووضح وضوحا تاما.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، أى : وهديناهما وأرشدناهما ـ بفضلنا وإحساننا ـ إلى الطريق الواضح الذي لا عوج فيه.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أى : وأبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل ، والذكر الحسن.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أى : مثل هذا التكريم نجازي عبادنا المحسنين (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أى الذين صدقوا في إيمانهم ، وفي طاعتهم لنا.

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة إلياس ـ عليه‌السلام ـ وهو أيضا من ذرية إبراهيم وإسحاق ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ

١٠٧

الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٢)

وإلياس ـ عليه‌السلام ـ هو ابن فنحاص بن العيزار بن هارون ـ عليه‌السلام ـ فهو ينتهى نسبه ـ أيضا ـ إلى إبراهيم وإسحاق.

ويعرف إلياس في كتب الإسرائيليين باسم إيليا وقد أرسله الله ـ تعالى ـ إلى قوم كانوا يعبدون صنما يسمونه بعلا.

ويقال : إن رسالته كانت في عهد «آحاب» أحد ملوك بنى إسرائيل في حوالى القرن العاشر ق م.

والمعنى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلناهم إلى الناس ليخرجونهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

وقوله : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) شروع في بيان ما نصح به إلياس قومه ، والظرف مفعول لفعل محذوف ، والتقدير اذكر وقت أن قال لقومه ألا تتقون الله. وتخشون عذابه ونقمته. والاستفهام للحض على تقوى الله ـ تعالى ـ واجتناب ما يغضبه.

ثم أنكر عليهم عبادتهم لغيره ـ سبحانه ـ فقال : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

والبعل : اسم للصنم الذي كان يعبده قومه ، وهو صنم قيل : سميت باسمه مدينة بعلبك بالشام ، وكان قومه يسكنون فيها ، وقيل : البعل : الرب بلغة اليمن.

أى : قال لهم على سبيل التوبيخ والزجر : أتعبدون صنما لا يضر ولا ينفع وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق ، وهو الله ـ عزوجل ـ الذي خلقكم ورزقكم.

ولفظ الجلالة في قوله : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بدل من (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

١٠٨

أى : أتعبدون صنما صنعتموه بأيديكم ، وتذرون عبادة الله ـ تعالى ـ الذي هو ربكم ورب آبائكم الأولين.

وقرأ غير واحد من القراء السبعة (اللهَ) ـ بالرفع ـ على أنه مبتدأ ، و (رَبَّكُمْ) خبره.

والتعرض لذكر ربوبيته ـ تعالى ـ لآبائهم الأولين ، الغرض منه التأكيد على بطلان عبادتهم لغيره ـ سبحانه ـ فكأنه يقول لهم : إن الله ـ تعالى ـ الذي أدعوكم لعبادته وحده ليس هو ربكم وحدكم بل ـ أيضا ـ رب آبائكم الأولين ، الذين من طريقهم أتيتم إلى هذه الحياة.

وقوله ـ تعالى ـ (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) بيان لموقفهم من نبيهم ، ولما حل بهم من عذاب بسبب إعراضهم عن دعوته.

أى : دعا إلياس قومه إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، فكذبوه وأعرضوا عن دعوته ، وسيترتب على تكذيبهم هذا ، إحضارهم إلى جهنم إحضارا فيه ذلهم وهوانهم.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم ناجون من الإحضار الأليم ، لأنهم سيكونون يوم القيامة محل تكريمنا وإحساننا.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أى : وأبقينا على إلياس في الأمم الآخرين (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) أى : أمان وتحية منا ومنهم على إلياس ومن آمن معه.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة لوط مع قومه. فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨)

ولوط ـ عليه‌السلام ـ هو ابن أخ لسيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وكان قد آمن به وهاجر معه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي).

١٠٩

وقد أرسل الله ـ تعالى ـ لوطا إلى قرية سدوم ـ من قرى الشام ـ وكان أهلها يعبدون الأصنام ويرتكبون الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

أى : (وَإِنَّ لُوطاً) ـ عليه‌السلام ـ (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلناهم لهداية الناس ، (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) أى : اذكر ـ أيها العاقل ـ وقت أن نجيناه وجميع المؤمنين معه ، بفضلنا ورحمتنا.

(إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) والمراد بالعجوز : امرأته التي بقيت على كفرها وكانت تفشى أسرار زوجها. أى : نجينا لوطا والمؤمنين معه من أهله ، إلا عجوزا بقيت في العذاب مع القوم الغابرين أى : مع الباقين في العذاب.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أى : ثم دمرنا القوم الآخرين الباقين على كفرهم ، كما دمرنا من بقي على كفره من أهل لوط ، كامرأته التي أعرضت عن دعوة الحق ، وانحازت إلى قومها المفسدين.

ثم وجه ـ سبحانه ـ الخطاب لمشركي قريش فقال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟.

أى : وإنكم يا أهل مكة لتمرون على مساكن قوم لوط المهلكين ، وأنتم سائرون إلى بلاد الشام ، تارة تمرون عليهم وأنتم داخلون في وقت الصباح ، وتارة تمرون عليهم وأنتم داخلون في وقت الليل ، وترون بأعينكم ما حل بهم من دمار.

وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) معطوف على مقدر ، أى : أتشاهدون ذلك فلا تعقلون ، فالاستفهام للتوبيخ والحض على الاعتبار بأحوال الماضين.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصص ، بذكر جانب من قصة يونس ـ عليه‌السلام ـ فقال :

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)

١١٠

فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨)

ويونس ـ عليه‌السلام ـ : هو ابن متى ، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى».

وملخص قصته أن الله ـ تعالى ـ أرسله إلى أهل نينوى بالعراق ، وفي حوالى القرن الثامن قبل الميلاد ، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ فاستعصوا عليه ، فضاق بهم ذرعا ، وأخبرهم أن العذاب سيأتيهم خلال ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الثالث خرج يونس من بلدة قومه ، قبل أن يأذن الله له بالخروج ، فلما افتقده قومه ، آمنوا وتابوا ، وتضرعوا بالدعاء إلى الله قبل أن ينزل بهم العذاب.

فلما لم ير يونس نزول العذاب ، استحى أن يرجع إليهم وقال : لا أرجع إليهم كذابا أبدا ، ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت ولم تتحرك.

فقال صاحبها : ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشئوما ، فاقترعوا ليلقوا في البحر من وقعت عليه القرعة ، فكانت على يونس ثم أعادوها فوقعت عليه ، فلما رأى ذلك ألقى بنفسه في البحر ، فالتقمه الحوت .. (١).

والمعنى : وإن يونس ـ عليه‌السلام ـ لمن المرسلين الذين اصطفيناهم لحمل رسالتنا وتبليغها إلى الناس.

(إِذْ أَبَقَ) أى : هرب من قومه بغير إذن من ربه ـ يقال : أبق العبد ـ كضرب ومنع ـ إذا هرب من سيده فهو آبق.

(إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أى : هرب من قومه إلى الفلك المليء بالناس والأمتعة (فَساهَمَ) أى : فقارع من في السفينة بالسهام ، يقال : استهم القوم إذا اقترعوا (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

أى : من المغلوبين حيث وقعت عليه القرعة دون سواء. يقال : دحضت حجة فلان ، إذا بطلت وخسرت.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٤٣.

١١١

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أى بعد أن وقعت القرعة عليه ، ألقى بنفسه في البحر ، «فالتقمه الحوت» أى : ابتلعه بسرعة : يقال : لقم فلان الطعام ـ كسمع ـ والتقمه ، إذا ابتلعه بسرعة ، وتلقّمه إذا ابتلعه على مهل.

وجملة «وهو مليم» حالية في محل نصب ، أى : فالتقمه الحوت وهو مكتسب من الأفعال ما يلام عليه ، حيث غادر قومه بدون إذن من ربه.

يقال : رجل مليم ، إذا أتى من الأقوال أو الأفعال ما يلام عليه ، وهو اسم فاعل من آلام الرجل ، إذا أتى ما يلام عليه.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أى : فلو لا أن يونس ـ عليه‌السلام ـ كان من المسبحين لله ـ تعالى ـ المداومين على ذكره. لو لا هذا التسبيح للبث يونس في بطن الحوت إلى يوم القيامة.

فهاتان الآيتان تدلان دلالة واضحة على أن الإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ وتسبيحه .. سبب في تفريج الكروب ، وإزالة الهموم ، بإذن الله ورحمته. وفي الحديث الشريف : «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال : «أخبر الله ـ عزوجل ـ أن يونس كان من المسبحين ، وأن تسبيحه كان سبب نجاته ، ولذا قيل : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر.

وفي الحديث الشريف : «من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل» فليجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله ، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويسترها عن خلق الله ، لكي يصل إليه نفعها وهو أحوج ما يكون إليه (١).

فنبذناه بالعراء وهو سقيم ، والنبذ : الطرح ، والعراء : الخلاء.

أى : أن يونس ـ عليه‌السلام ـ بعد أن التقمه الحوت أخذ في الإكثار من تسبيحنا ومن دعائنا ، فاستجبنا له دعاءه ، وأمرنا الحوت بطرحه في الفضاء الواسع من الأرض.

وجملة «وهو سقيم» حالية. أى : ألقيناه بالأرض الفضاء حالة كونه عليلا سقيما ، لشدة ما لحقه من تعب وهو في بطن الحوت.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أى : ومن مظاهر رحمتنا به ، أننا جعلنا فوقه شجرة من يقطين لكي تظلل عليه وتمنع عنه الحر.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٢٧.

١١٢

واليقطين : يطلق على كل شجر لا يقوم على ساق ، كالبطيخ والقثاء والقرع وهو مأخوذ من قطن بالمكان إذا أقام به.

وقد قالوا إن المراد بهذه الشجرة ، هي شجرة القرع ، وقيل غير ذلك.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أى : وبعد أن تداركته رحمتنا ، وأخرجناه من بطن الحوت ، ورعيناه برعايتنا ، أرسلناه إلى مائة ألف من الناس أو يزيدون على ذلك في نظر الناظر إليهم ، فآمنوا جميعا (فَمَتَّعْناهُمْ) بالحياة (إِلى حِينٍ) انتهاء آجالهم.

قال الإمام ابن كثير : ولا مانع من أن يكون الذين أرسل إليهم أولا ، أمر بالعودة إليهم بعد خروجه من بطن الحوت ، فصدقوه كلهم ، وآمنوا به. وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت ، كانوا مائة ألف أو يزيدون (١).

هذا ومن العبر التي نأخذها من هذه القصة ، أن رحمة الله ـ تعالى ـ قريب من المحسنين ، وأن العبد إذا تاب توبة صادقة نصوحا ، وفي الوقت الذي تقبل فيه التوبة ، قبل الله ـ تعالى ـ توبته ، وفرج عنه كربه ، وأن التسبيح يكون سببا في رفع البلاء.

وبعد هذه الجولة مع قصص بعض الأنبياء ، أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل هؤلاء المشركين ، سؤال توبيخ وتأنيب ، عما قالوه في شأن الملائكة من باطل وزور ، وأن يرد على أكاذيبهم ردا يخرص ألسنتهم فقال ـ تعالى ـ :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٥.

١١٣

نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠)

وقوله ـ تعالى ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ ..) معطوف على قوله ـ تعالى ـ في أوائل السورة : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ..) عطف جملة على جملة. والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستفتاء : الاستخبار والاستفهام وطلب الفتيا من المفتي.

أى : أسأل ـ أيها الرسول ـ هؤلاء المشركين سؤال تقريع وتأنيب : (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أى : أسألهم بأى وجه من وجوه القسمة جعلوا لربك البنات وجعلوا لأنفسهم البنين؟ إن قسمتهم هذه لهى قسمة جائرة وفاسدة عند كل عاقل ، لأنه لا يليق في أى عقل أن يجعلوا لله ـ تعالى ـ الجنس الأدنى وهو جنس الإناث ، بينما يجعلون لأنفسهم الجنس الأعلى.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (١).

قال صاحب الكشاف : (فَاسْتَفْتِهِمْ) معطوف على مثله في أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث أولا. ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها ، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، في قولهم الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهن. ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر :

أحدها : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام.

__________________

(١) سورة النجم الآيتان ٢١ ، ٢٢.

١١٤

والثاني : تفضيل أنفسهم على ربهم ، حيث جعلوا أوضع الجنسين له ، وأرفعهما لهم.

والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله ، وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم. ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمور ، ولا تقلبت حماليقه ـ أى : أجفان عينيه. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) ، تقريع آخر لهم على جهالاتهم وسفههم ، حيث أضرب ـ سبحانه ـ عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتأنيب.

أى : إنهم زعموا أن لربك البنات ولهم البنون ، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقنا الملائكة حتى يعرفوا أنهم إناث؟ كلا إنهم لم يكونوا حاضرين وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (٢).

قال صاحب الكشاف فإن قلت : لم قال : (وَهُمْ شاهِدُونَ) فخص علم المشاهدة؟

قلت : ما هو إلا الاستهزاء بهم وتجهيل .. وذلك لأنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق علمه في قلوبهم ، ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر (٣).

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن كذبهم فقال : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) والإفك : أشنع الكذب وأقبحه. يقال : أفك فلان كضرب وعلم ـ إفكا وأفكا ، إذا كذب كذبا فاحشا.

أى : ألا إن هؤلاء الكافرين. من شدة كذبهم ، وشناعة جهلهم ليقولون زورا وبهتانا : (وَلَدَ اللهُ) أى : اتخذ الله ولدا (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ذلك كذبا (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا).

وافتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح «ألا» لتأكيد قولهم ، وأنهم كانوا مصرين على هذا القول الذي لا نهاية لبطلانه.

ثم كرر ـ سبحانه ـ توبيخهم وتقريعهم فقال : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) والاصطفاء : الاختيار والانتقاء. والاستفهام للإنكار والنفي ، أى : هل اختار الله البنات على

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٣.

(٢) سورة الزخرف الآية ١٩.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٣.

١١٥

البنين في زعمهم؟ كلا إن الله ـ تعالى ـ لم : يفعل شيئا من ذلك لأنه ـ سبحانه ـ غنى عن العالمين.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أى : أى شيء حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل.

وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ). معطوف على كلام محذوف والتقدير : أتجهلون هذه الأمور الواضحة ، فلا تعقلون ولا تتذكرون ولا تعتبرون.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إضراب وانتقال من توبيخهم على جهالاتهم ، إلى تحديهم وإثبات كذبهم.

أى : بل ألكم حجة واضحة على صحة هذا القول الذي قلتموه من أن الملائكة بنات الله؟ إن كانت عندكم هذه الحجة فأتوا بها إن كنتم صادقين فيما زعمتم.

فالمقصود بالآيتين الكريمتين تعجيزهم وإثبات المزيد من جهالاتهم وأكاذيبهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ زعما آخر من زعمهم في شأن الملائكة فقال : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ).

والمراد بالجنة هنا : الملائكة. سمو بذلك لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين.

أى : أن المشركين لم يكتفوا بما قالوا في الآيات السابقة ، بل أضافوا إلى ذلك جريمة أخرى ، وهي أنهم جعلوا بين الله ـ تعالى ـ وبين الملائكة نسبا ، ولقد علمت الجنة ، ـ أى الملائكة ـ ، «إنهم» أى القائلون لهذه المقالة الباطلة «لمحضرون» أى : إلى العذاب يوم القيامة. ليذوقوا سوء عاقبة كذبهم.

قال القرطبي : أكثر أهل التفسير أن الجنة هاهنا الملائكة. عن مجاهد قال : قالوا ـ يعنى كفار قريش ـ الملائكة بنات الله ، فقال لهم أبو بكر : فمن أمهاتهن؟ قالوا : مخدرات الجن ... ومعنى «نسبا» : مصاهرة. وقال قتادة : قالت اليهود إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهن.

وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله ، فهو النسب الذي جعلوه (١).

ثم نزه ـ سبحانه ـ ذاته عما افتروه فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أى : تنزه الله ـ تعالى ـ وتقدس عما يقوله هؤلاء الجاهلون.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٣٤.

١١٦

وقوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من قوله (لَمُحْضَرُونَ) وما بينهما جملة معترضة لتنزيه الله ـ تعالى ـ وتقديسه.

أى : والله لقد علمت الملائكة أن المشركين القائلين بهذا القول الفاسد لمحضرون إلى النار ، ويدعّون إليها دعا ، لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ليسوا كذلك ، بل هم ناجون من عذاب جهنم ، لتنزيههم الخالق ـ عزوجل ـ عما لا يليق به.

ثم حقر ـ سبحانه ـ من شأن المشركين ، ومن شأن آلهتهم المزعومة فقال : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ).

وهذا الكلام يجوز أن يكون حكاية لما رد به الملائكة على المشركين الذين قالوا الإفك والزور قبل ذلك ، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا من الله ـ تعالى ـ على سبيل الاستخفاف والتهكم بالمشركين وبآلهتهم.

والفاء في قوله (فَإِنَّكُمْ) واقعة في جواب شرط مقدر. و «الواو» في قوله (وَما تَعْبُدُونَ) للعطف على اسم إن ، أو بمعنى مع. و «ما» موصولة أو مصدرية. و «ما» في قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) نافية والضمير في «عليه» يعود على الله ـ عزوجل ـ والجار والمجرور متعلق «بفاتنين». والمراد بالفتن : هنا الإفساد ، من قولهم : فلان فتن على فلان خادمه. إذا أفسده. وجملة «ما أنتم عليه بفاتنين» خبر إن.

و «صال» ـ بكسر اللام ـ اسم فاعل منقوص ـ كقاض ـ مضاف إلى ما بعده. وحذفت ياؤه لالتقاء الساكنين.

والمعنى : إذا أدركتم ـ أيها المشركون ـ ما قلناه لكم. فثقوا أنكم أنتم وآلهتكم لن تستطيعوا أن تضلوا أحدا هداه الله ـ تعالى ـ لكنكم تستطيعون أن تضلوا من كان من أهل الجحيم مثلكم.

فالمقصود بهذه الآيات الكريمة ، الاستخفاف بالمشركين وبآلهتهم ، وبيان أن من هداه الله ، تعالى ـ لا سلطان لهم عليه في إغوائه أو إضلاله.

قال صاحب الكشاف : والضمير في «عليه» لله ـ تعالى ـ ومعناه : فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله ، إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.

فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم.

١١٧

من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها وخيبها عليه .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الملائكة معترفون اعترافا تاما بطاعتهم لله ـ تعالى ـ وبمداومتهم على عبادته وتسبيحه فقال : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ).

أى : لقد اعترف الملائكة بطاعتهم الكاملة لله ـ تعالى ـ وقالوا : وما منا أحد إلا له مقام معلوم في عبادة الله ـ تعالى ـ وطاعته ، وإنا لنحن الصافون أنفسنا في مواقف العبودية والطاعة لله ـ عزوجل ـ وإنا لنحن المسبحون والمنزهون له ـ تعالى ـ عن كل مالا يليق به.

وقد ذكر الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث منها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لجلسائه : «أطّت السماء وحق لها أن تئط ـ أى سمع لها صوت شديد ـ ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد ، ثم قرأ : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ : وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (٢).

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن حال المشركين قبل أن يأتيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

و «إن» في قوله (وَإِنْ كانُوا ..) هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير محذوف.

والقائلون هم كفار مكة ، والفاء في قوله (فَكَفَرُوا بِهِ) وهي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر.

والمعنى إن حال هؤلاء الكافرين وشأنهم ، أنهم كانوا يقولون قبل مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم «لو أن عندنا ذكرا من الأولين» أى : لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل. لكنا عباد الله المخلصين أى : لكنا بسبب وجود هذا الكتاب من عباد الله الذين يخلصون له العبادة والطاعة.

فجاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتاب المبين كما تمنوا وطلبوا ، فكانت النتيجة أن كفروا به ، فسوف يعلمون سوء عاقبة هذا الكفر ، (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٨.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٥٥.

١١٨

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره ، وبتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أعدائه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

والمراد بكلمتنا في قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا ..) ما وعد الله ـ تعالى ـ به رسله وعباده الصالحين من جعل العاقبة الطيبة لهم.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (١) وقوله ـ سبحانه ـ (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢).

أى : والله لقد سبق وعدنا لعبادنا المرسلين بالنصر والفوز (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ).

على أعدائهم (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) لمن عاداهم وناوأهم.

وهذا الوعد بالنصر لا يتعارض مع هزيمتهم في بعض المواطن ـ كيوم أحد مثلا ـ لأن هذه الهزيمة إنما هي لون من الابتلاء الذي اقتضته حكمة الله ـ تعالى ـ ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه ، أما النصر في النهاية فهو للمؤمنين وهذا ما حكاه لنا التاريخ الصحيح ، فقد تم فتح مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، بعد أن جاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهزموا

__________________

(١) سورة غافر آية ٥١.

(٢) سورة المجادلة آية ٢١.

١١٩

الكافرين ، ولم يفارق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الدنيا إلا بعد أن صارت كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن المشركين ، وبالصبر على أذاهم ، فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أى : فأعرض عنهم إلى الوقت الذي يأذن الله لك فيه بقتالهم (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أى : وانظر إليهم وراقبهم عند ما ينزل بهم عذابنا ، فسوف يبصرون هم ذلك في دنياهم وفي آخرتهم.

والأمر بمشاهدة ذلك : إشعار بأن نصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، آت لا ريب فيه حتى لكأنه واقع بين يديه ، مشاهد أمامه.

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) للتوبيخ والتأنيب.

أى أبلغ الجهل وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين ، أنهم يستعجلون عذابنا.

عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به ، فنزلت هذه الآية.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند ما ينزل بهم هذا العذاب الذي استعجلوا نزوله فقال (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ).

والساحة في الأصل تطلق على الفناء الواسع للدار والمراد بها هنا القوم الذين يكونون فيها والمخصوص بالذم محذوف.

أى : فإذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين. فبئس الصباح صباحهم. ولن ينفعهم حينئذ ندم أو توبة ، وخص الصباح بالذكر ، لأن العذاب كان يأتيهم فيه في الغالب.

أخرج الشيخان عن أنس ، رضى الله عنه. قال : صبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر ، فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا يقولون : محمد والله ، محمد والخميس ـ أى : والجيش فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

ثم كرر ـ سبحانه ـ تهديده ووعيده لهم على سبيل التأكيد لعلهم يعتبرون فقال : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أى : وأعرض عنهم حتى حين ، وأبصر ما توعدناهم به من عذاب أليم ، فسوف يبصرون هم ذلك.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) أى. تنزه وتقدس ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ عما وصفه به الواصفون الجاهلون من صفات لا تليق بذاته.

١٢٠