التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

وقوله (رَبِّ الْعِزَّةِ) بدل من ربك : أى هو صاحب العزة والغلبة والقوة التي لا يقف أمام قوتها شيء والتي لا يملكها أحد سواه.

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أى : وسلام وأمان وتحية منا على المرسلين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : والثناء الكامل لله ـ تعالى ـ رب العالمين جميعا وخالقهم ورازقهم ، ومحييهم ومميتهم.

وبعد فهذا تفسير لسورة الصافات ، نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؟

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

الأربعاء : ٢٠ من ذي القعدة ١٤٠٥ ه‍

٧ / ٨ / ١٩٨٥ م

١٢١
١٢٢

تفسير

سورة ص

١٢٣
١٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

١ ـ سورة «ص» هي السورة الثامنة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة «القمر» وهي من السور المكية الخالصة. ويقال لها سورة «داود».

قال الآلوسى : هي مكية ـ كما روى عن ابن عباس وغيره ـ وهي ثمان وثمانون آية في المصحف الكوفي. وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي ... وهي كالمتممة لسورة الصافات التي قبلها ، من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء ، كداود وسليمان ...» (١).

٢ ـ وقد افتتحت سورة «ص» بقسم من الله ـ تعالى ـ بالقرآن الكريم ، على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما يبلغه عن ربه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله المشركون فيما بينهم ، لإنكار نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولإنكار يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب ، ورد عليهم بما يثبت جهلهم وغفلتهم واستكبارهم عن قبول الحق ..

قال ـ تعالى ـ : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ).

٣ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه منهم من أذى وكيد ، فحكت له أن أقوام الرسل السابقين قد قابلوا رسلهم بالتكذيب ، وأمرته بالصبر على جهالاتهم ، وساقت جانبا من قصة داود ـ عليه‌السلام فذكرت بعض النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها عليه ، كما ذكرت ما دار بينه وبين الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب.

قال ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ.) وثمود وقوم لوط

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٦٠.

١٢٥

وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب. وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق. وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) ...

٤ ـ وبعد هذا الحديث الذي فيه شيء من التفصيل عن وجوه النعم التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عبده داود ، وعن لون من ألوان الامتحانات التي امتحنه ـ تعالى ـ بها ، وعن الإرشادات الحكيمة التي أرشده الله ـ عزوجل ـ إليها ...

بعد كل ذلك ساق ـ سبحانه ـ أنواعا من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، وبين أن حكمته قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والفجار.

قال ـ تعالى ـ : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

٥ ـ ثم أثنى ـ سبحانه ـ بعد ذلك على نبيه سليمان ـ عليه‌السلام ـ وبين بعض النعم التي منحها له ، كما بين موقفه مما اختبره ـ تعالى ـ به ...

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ).

٦ ـ ثم مدح ـ سبحانه ـ نبيه أيوب ـ عليه‌السلام ـ على صبره ، وعلى كثرة تضرعه إلى ربه ، وكيف أنه ـ تعالى ـ قد كافأه على ذلك بما يستحقه.

قال ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ ، إِنَّهُ أَوَّابٌ).

٧ ـ ثم أثنى ـ سبحانه ـ على أنبيائه : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإسماعيل واليسع وذا الكفل ، وبين ما أعده لهم ولأمثالهم من عباده الأخيار ، كما بين ما توعد به الفجار من عذاب أليم ..

قال ـ تعالى ـ : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ. مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ. هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ. هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).

١٢٦

٨ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالحديث عن قصة آدم وإبليس وكيف أن الملائكة جميعا سجدوا لآدم إلا إبليس فإنه أبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فكانت عاقبته الطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ.

٩ ـ ومن هذا العرض المجمل لسورة «ص» نرى أنها قد اهتمت اهتماما واضحا ، بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته. وعلى صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق ، كما اهتمت بحكاية شبهات المشركين ثم الرد عليها ، كما ذكرت جانبا من قصص بعض الأنبياء ليعتبر بقصصهم كل ذي عقل سليم ، كما أنها قد اهتمت ببيان حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

الخميس ٢١ من ذي القعدة سنة ١٤٠٥ ه‍

الموافق ٨ / ٨ / ١٩٨٥ م

١٢٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١)

سورة «ص» من السور القرآنية التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن بينا بشيء من التفصيل آراء العلماء في هذه المسألة ، عند تفسيرنا لسورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف. ويونس ..

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في بعض السور القرآنية على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.

١٢٨

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم.

فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ، أو في الإتيان بعشر سور من مثله ، أو بسورة واحدة من مثله.

فعجزوا وانقلبوا خاسرين. وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

والواو في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) للقسم. والمقسم به القرآن الكريم. وجواب القسم محذوف ، لدلالة ما بعده عليه.

والذكر ، يطلق على الشرف ونباهة الشأن ، يقال فلان مذكور ، أى : صاحب شرف ونباهة. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).

ويطلق وبراد به التذكير على أنه مصدر ، لأن القرآن مشتمل على المواعظ والأحكام وقصص الأنبياء. وغير ذلك مما يسعد الناس في دينهم ودنياهم.

وهذان الإطلاقان ينطبقان على القرآن الكريم ، فيكون المعنى : وحق القرآن الكريم ذي الشرف العظيم ، وذي التذكير الحكيم المشتمل على ما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم ..

إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ لصادق في كل ما تبلغه عن ربك ولم يصدر منك إطلاقا ما يخالف الحق الذي أمرناك بتبليغه للناس.

قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أنهم اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله ـ تعالى ـ عليه في قوله : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).

فقال بعضهم إن المقسم عليه مذكور ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أو قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أو قوله ـ تعالى ـ : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) ..

والحق أن القول بأن المقسم عليه مذكور ظاهر السقوط.

وقال آخرون إن المقسم عليه محذوف ، واختلفوا في تقديره ، فقال صاحب الكشاف : التقدير : «والقرآن ذي الذكر» إنه لمعجز. وقدره ابن عطية فقال : والتقدير : والقرآن ذي الذكر ليس الأمر كما يقول الكفار .. (١).

__________________

(١) راجع تفسير أضواء البيان ج ٧ ص ٨ الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

١٢٩

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) انتقال من القسم والمقسم به ، إلى بيان حال الكفار وما هم عليه من غرور وعناد.

والمراد بالعزة هنا : الحمية والاستكبار عن اتباع الحق ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (١).

وليس المراد بها القهر والغلبة كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

وأصل الشقاق : المخالفة والمنازعة بين الخصمين حتى لكأن كل واحد منهما في شق غير الذي فيه الآخر. والمراد به هنا : مخالفة المشركين لما جاءهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : وحق القرآن الكريم ذي الشرف وسمو القدر. إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ لصادق فيما تبلغه عن ربك ، ولست كما يقول أعداؤك في شأنك. بل الحق أن هؤلاء الكافرين في حمية واستكبار عن قبول الهداية التي جئتهم بها من عند ربك ، وفي مخالفة ومعارضة لكل ما لا يتفق مع ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة للأصنام ، ومن عكوف على عاداتهم الباطلة.

والتعبير بفي في قوله (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) للإشعار بأن ما هم عليه من عناد ومن مخالفته للحق ، قد أحاط بهم من كل جوانبهم ، كما يحيط الظرف بالمظروف.

ثم خوفهم ـ سبحانه ـ بما أصاب الأمم من قبلهم ، وحذرهم من أن يكون مصيرهم كمصير المكذبين السابقين فقال : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

«وكم» هنا خبرية. ومعناها : الإخبار عن عدد كثير. وهي في محل نصب على أنها مفعول به لأهلكنا.

وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم. و «من» في قوله (مِنْ قَبْلِهِمْ) لابتداء الغاية ، وفي قوله : (مِنْ قَرْنٍ) مميزة لكم. والقرن : يطلق على الزمان الذي يعيش فيه جيل من الناس ، ومدته ـ على الراجح ـ مائة سنة والمراد به هنا أهل الزمان.

والمراد بالنداء في قوله ـ تعالى ـ : (فَنادَوْا) الاستغاثة والضراعة إلى الله أن يكشف عنهم العذاب.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٠٦.

(٢) سورة المنافقون الآية ٨.

١٣٠

و (لاتَ) هي لا المشبهة بليس ـ وهذا رأى سيبويه ـ فهي حرف نفى زيدت فيه التاء لتأكيد هذا النفي.

وأشهر أقوال النحويين فيها أنها تعمل عمل ليس ، وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة ، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ، كالساعة والأوان ، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها ، والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب.

والحين : ظرف مبهم يتخصص بالإضافة.

وقوله : (مَناصٍ) مصدر ميمى بمعنى الفرار والخلاص. يقال : ناص فلان من عدوه ـ من باب قال ـ فهو ينوص نوصا ومناصا ، إذا فر منه ، وهرب من لقائه.

أو بمعنى النجاة والفوت. يقال : ناصه ينوصه إذا فاته ونجا منه.

والمراد بقوله ـ تعالى ـ : (أَهْلَكْنا) الشروع في الإهلاك بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (فَنادَوْا) إذ من المعروف أن من هلك بالفعل لا يستغيث ولا ينادى.

والمعنى : إن هؤلاء الكافرين المستكبرين عن طاعتنا وعبادتنا ، قد علموا أننا أهلكنا كثيرا من السابقين أمثالهم ، وأن هؤلاء السابقين عند ما رأوا أمارات العذاب ومقدماته ، جأروا إلينا بالدعاء أن نكشفه عنهم ، واستغاثوا استغاثة جاءت في غير وقتها ، ولقد قلنا لهم عند ما استغاثوا بنا عند فوات الأوان : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

أى : ليس الوقت الذي استغثتم بنا فيه وقت نجاة وفرار من العقاب ، بل هو وقت تنفيذ العقوبة فيكم ، بعد أن تماديتم في كفركم ، وأعرضتم عن دعوة الحق بدون إنابة أو ندم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من أكاذيب المشركين الناتجة عن استكبارهم وشقاقهم فقال : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ..

__________________

(١) سورة غافر الآيتان ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) سورة المؤمنون الآيتان ٦٤ ـ ٦٥.

١٣١

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : أن جماعة من قريش اجتمعوا في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبى طالب ، لنكلمه في شأن ابن أخيه ... فلما دخلوا على أبى طالب قالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا ، فأنصفنا من ابن أخيك ، فمره فليكف عن شتم آلهتنا ، وندعه وإلهه.

فقال أبو طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا ابن أخى هؤلاء مشيخة قريش ، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم ، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال : وإلام تدعوهم؟ قال : أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ، ويملكون بها العجم».

فقال أبو جهل من بين القوم : ما هي وأبيك؟ لنعطينها لك وعشرة أمثالها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقولون : لا إله إلا الله».

فنفر أبو جهل وقال : سلنا غير هذا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها في يدي ، ما سألتكم غيرها».

فقاموا غضابا. وقالوا : والله لنشتمنك وإلهك الذي أرسلك بهذا. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَعَجِبُوا ...) مأخوذ من العجب ، وهو تغير في النفس من أمر لا ترتاح إليه ، وتخفى لديها أسبابه.

أى : وعجب هؤلاء الكافرون من مجيء منذر منهم ينذرهم بسوء عاقبة الشرك. ويأمرهم بعبادة الله ـ تعالى ـ وحده.

(وَقالَ) هؤلاء (الْكافِرُونَ) عند ما دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الدين الحق.

(هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أى : قالوا : هذا الرسول ساحر لأنه يأتينا بخوارق لم نألفها ، وكذاب فيما يسنده إلى الله ـ تعالى ـ من أنه ـ سبحانه ـ أرسله إلينا.

وقال ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الْكافِرُونَ) بالإظهار دون الإضمار ، لتسجيل الكفر والجحود عليهم. وللإيذان بأن كفرهم هو الباعث لهم على وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هو منزه عنه من السحر والكذب.

ثم أضافوا إلى هذا القول الباطل ، أقوالا أخرى لا تقل عن غيرها في البطلان والفساد. فقالوا ـ كما حكى القرآن ـ : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٦.

١٣٢

والاستفهام للإنكار. أى : أجعل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآلهة المتعددة ، إلها واحدا. وطلب منا أن ندين له بالعبادة والطاعة؟.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أى : إن هذا الذي طلبه منا ، ودعانا إليه ، لشيء قد بلغ النهاية في العجب والغرابة ومجاوزة ما يقبله العقل.

و (عُجابٌ) أبلغ من عجيب. لأنك تقول في الرجل الذي فيه طول : هذا رجل طويل ، بينما تقول في الرجل الذي تجاوز الحد المعقول في الطول : هذا رجل طوال.

فلفظ (عُجابٌ) صيغة مبالغة سماعية ، وقد حكاها ـ سبحانه ـ عنهم للإشعار بأنهم كانوا يرون ـ لجهلهم وعنادهم ـ أن ما جاءهم به الرسول ـ ؛ ـ هو شيء قد تجاوز الحد في العجب والغرابة.

واسم الإشارة يعود إلى جعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآلهة إلها واحدا ، لأنهم يرون ـ لانطماس بصائرهم ـ أن ذلك مخالف مخالفة تامة لما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من عبادة للأصنام.

وما كان مخالفا لما ورثوه عن آبائهم فهو ـ في زعمهم ـ متجاوز الحد في العجب.

ثم صور ـ سبحانه ـ حرصهم على صرف الناس عن دعوة الحق. تصويرا بديعا ، فقال : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ).

أى : وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبى طالب ، بعد أن سمعوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أغضبهم وخيب آمالهم.

انطلقوا يقولون : أن امشوا في طريقكم التي كان عليها آباؤكم واصبروا على عبادة آلهتكم مهما هوّن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شأنها ، ومهما نهى عن عبادتها.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أى : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عبادة الله ـ تعالى ـ وحده وترك عبادة آلهتنا لشيء يراد من جهته هو ، وهو مصمم عليه كل التصميم ، ونحن من جانبنا يجب أن نقابل تصميمه على دعوته ، بتصميم منا على عبادة آلهتنا.

وعلى هذا المعنى تكون الإشارة هنا عائدة إلى ما يدعوهم إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عبادة الله وحده.

ويصح أن تكون الإشارة إلى دينهم هم ، فيكون المعنى : إن هذا الدين الذي نحن عليه لشيء يراد لنا ، وقد وجدنا عليه آباءنا ، ومادام الأمر كذلك فلن نتركه مهما كرّهنا فيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الآلوسى : قوله : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) تعليل للأمر بالصبر ، والإشارة إلى

١٣٣

ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ، ونفى ألوهية آلهتهم ..

أى : إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمضاؤه وتنفيذه. فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم ، واصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ، فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر.

وقيل : إن هذا ـ أى : دينكم ـ يطلب لينتزع منكم ويطرح ويراد إبطاله .. (١).

ثم يضيفون إلى ذلك قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ...) أى : ما سمعنا بهذا الدين الذي يدعونا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ملة العرب التي أدركنا عليها آباءنا ، أو ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الملّة الآخرة ، وهي ملة عيسى ـ عليه‌السلام ـ فإن أتباعه يقولون بالتثليث ، ويقولون بأنه الدين الذي جاء به عيسى.

وعلى هذين القولين يكون قوله (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) متعلق بسمعنا.

ويصح أن يكون المعنى : ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كائنا في الملة التي تكون في آخر الزمان ، والتي حدثنا. عنها الكهان وأهل الكتاب.

وعلى هذا الرأى يكون قوله (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) حالا من اسم الإشارة وليس متعلقا بسمعنا.

ثم أكدوا نفيهم لعدم سماعهم لما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). أى : ما سمعنا شيئا مما يقوله ، وما يقوله ما هو إلا كذب وتخرص اختلقه من عند نفسه ، دون أن يسبقه إليه أحد.

يقال : اختلق فلان هذا القول ، إذا افتراه واصطنعه واخترعه من عند نفسه ، دون أن يكون له أصل من الواقع.

ثم صرحوا في نهاية المطاف بالسبب الحقيقي الذي حال بينهم وبين الإيمان ، ألا وهو الحقد والحسد ، وإنكار أن يختص الله تعالى رسوله من بينهم بالرسالة ، فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ ...).

والاستفهام للإنكار والنفي. أى : كيف يدعى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد أنزل عليه القرآن من بيننا ، ونحن السادة الأغنياء العظماء ، وهو دوننا في ذلك؟ إننا ننكر وننفى دعواه النبوة من بيننا.

قال صاحب الكشاف : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٦٧.

١٣٤

الكتاب من بينهم ، كما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوة من بينهم. (١).

ولقد حكى القرآن أحقادهم هذه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آيات كثيرة ورد عليها بما يبطلها ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ...) (٢).

ولقد صرح أبو جهل بهذا الحسد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعند ما سأله سائل ، أتظن محمدا على حق أم على باطل؟ كان جوابه : إن محمدا لعلى حق ولكن متى كنا لبنى هاشم تبعا. أى : متى كانت أسرتنا تابعة لبنى هاشم!!.

وفي رواية أنه قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) إضراب عن كلام يفهم من السياق. وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم من أذى.

أى : هؤلاء الجاحدون الحاقدون لم يقطعوا برأى في شأنك ـ أيها الرسول الكريم ـ وفي شأن ما جئتهم به ، ولم يستندوا في أقوالهم إلى دليل أو ما يشبه الدليل ، وإنما هم في شك من هذا القرآن الذي أيدناك به ، بدليل أنك تراهم يصفونك تارة بالسحر ، وتارة بالكهانة ، وتارة بالشعر ، ولو عقلوا وأنصفوا لآمنوا بك وصدقوك.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) إضراب عن مجموع الكلامين السابقين المشتملين على الحسد والشك.

أى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ من مسالكهم الخبيثة ، وأقوالهم الفاسدة. فإنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم لم يذوقوا عذابي بعد ، فإذا ذا قوة زال حسدهم وشكهم ، وتيقنوا بأنك على الحق المبين ، وهم على الباطل الذي لا يحوم حوله حق.

وفي التعبير بقوله (لَمَّا) إشارة إلى أن نزول العذاب بهم وتذوقهم له ، قريب الحصول.

ثم أنكر عليهم ـ سبحانه ـ بعد ذلك اعتراضهم على اختيار نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرسالة ، وساق هذا الإنكار بأسلوب توبيخي تهكمى فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٤.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٢٤.

١٣٥

الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ). أى : أنهم لم يملكوا خزائن رحمة ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ حتى يعطوا منها من يشاءون ويمنعوها عمن يشاءون ، ويتخيروا للنبوة صناديدهم ويترفعوا بها عنك .. وإنما المالك لكل ذلك هو الله ـ تعالى ـ العزيز الذي لا يغلبه غالب ـ الوهاب ، أى : الكثير العطاء لعباده.

والمراد بالعندية في قوله (عِنْدَهُمْ) : الملك والتصرف. وتقديم الظرف «عند» لأنه محل الإنكار. وفي إضافة الرب ـ عزوجل ـ إلى الضمير العائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريف وتكريم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجيء بصفة «العزيز» للرد على ما كانوا يزعمونه لأنفسهم وآلهتهم من ترفع وتكبر.

كما جيء بصفة «الوهاب» للإشارة إلى أن النبوة هبة من الله ـ تعالى ـ لمن يختاره من عباده ، وهو ـ سبحانه ـ أعلم حيث يجعل رسالته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ...) تأكيد لما أفادته الآية السابقة من عدم ملكيتهم لشيء من خزائن الله ـ تعالى ـ. أى : أن هؤلاء الكافرين ليست عندهم خزائن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ وليسوا بمالكين شيئا ـ أى شيء ـ من هذه العوالم العلوية أو السفلية ، وإنما هم خلق صغير من خلقنا العظيم الكبير.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) تعجيز لهم ، وتهكم بهم ، واستخفاف بأقوالهم ومزاعمهم ، والأسباب : جمع سبب وهو كل ما يتوصل به إلى غيره من حبل أو نحوه.

والفاء جواب لشرط محذوف. والتقدير : إن كان عندهم خزائن رحمتنا ، ولهم شيء من ملك السموات والأرض وما بينهما ، فليصعدوا في الطرق التي توصلهم إلى ما نملكه حتى يستولوا عليه ، ويدبروا أمره ، وينزلوا الوحى على من يختارونه للنبوة من أشرافهم وصناديدهم.

فالجملة الكريمة قد اشتملت على نهاية التعجيز لهم ، والتهكم بهم وبأقوالهم ، حيث بين ـ سبحانه ـ أنهم أدعياء فيما يزعمون ، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون ..

ثم بشر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر عليهم فقال : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ).

ولفظ «جند» خبر لمبتدأ محذوف. و «ما» مزيدة للتقليل والتحقير ، نحو قولك : أكلت شيئا ما. أى : شيئا قليلا ، وقيل : هي للتكثير والتهويل كقولهم : لأمر ما جدع قصير أنفه.

١٣٦

أى : لأمر عظيم .. وعلى كلا المعنيين فالمقصود أنهم لا وزن لهم بجانب قدرة الله ـ تعالى ـ.

و «هنالك» صفة لجند ، أو ظرف لمهزوم. وهو إشارة إلى المكان البعيد.

و «مهزوم» خبر ثان للمبتدأ المقدر ، وأصل الهزم : غمز الشيء اليابس حتى يتحطّم ويكسر.

يقال : تهزّمت القربة ، بمعنى يبست. وتكسرت. وهزم الجيش بمعنى غلب وكسر.

والمعنى : هؤلاء المشركون ـ أيها الرسول الكريم ـ لا تهتم بأمرهم ، ولا تكترث بجموعهم ، فهم سواء أكانوا قليلين أم كثيرين ، لا قيمة لهم بجانب قوتنا التي لا يقف أمامها شيء ، ومهما تحزبوا عليك فهم جند مهزومون ومغلوبون أمام قوة المؤمنين في مواطن متعددة.

فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم كما قال ـ تعالى ـ : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

قال صاحب الكشاف : قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) يريد ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب ، فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث لما به يهذون ، و «ما» مزيدة ، وفيها معنى الاستعظام ... إلا أنه على سبيل الاستهزاء بهم. و (هُنالِكَ) إشارة حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله : لست هنالك (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوال المشركين ، وردت عليها ردا يكبتهم ويزهق باطلهم ، وختمت بما يبشر المؤمنين بالنصر عليهم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا مما أصاب السابقين من دمار حين كذبوا رسلهم لكي يعتبر المشركون المعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكي يقلعوا عن شركهم حتى لا يصيبهم ما أصاب أمثالهم من المتقدمين عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٥.

١٣٧

فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦)

فقوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) استئناف مقرر لوعيد قريش بالهزيمة. ولوعد المؤمنين بالنصر. وتأنيث قوم باعتبار المعنى ، وهو أنهم أمة وطائفة.

أى : ليس قومك ـ يا محمد ـ هم أول المكذبين لرسلهم ، فقد سبقهم إلى هذا التكذيب قوم نوح ، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان.

وسبقهم ـ أيضا ـ إلى هذا التكذيب قوم عاد ، فقد كذبوا نبيهم هودا ، فكانت عاقبتهم الإهلاك بالريح العقيم. التي ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم.

وقوله : (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) معطوف على ما قبله أى : وكذب ـ أيضا ـ فرعون رسولنا موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله : (ذُو الْأَوْتادِ) صفة لفرعون. والأوتاد : جمع وتد ، وهو ما يدق في الأرض لتثبيت الشيء وتقويته.

والمراد بها هنا : المبانى الضخمة العظيمة ، أو الجنود الذين يثبتون ملكه كما تثبت الأوتاد البيت ، أو الملك الثابت ثبوت الأوتاد.

قال الآلوسى ما ملخصه : والأصل إطلاق ذي الأوتاد على البيت المشدود والمثبت بها ، فشبه هنا فرعون في ثبات ملكه .. ببيت ثابت ذي عماد وأوتاد ..

أو المراد بالأوتاد الجنود : لأنهم يقوون ملكه كما يقوى الوتد الشيء. أو المراد بها المبانى العظيمة الثابتة.

ويصح أن تكون الأوتاد على حقيقتها فقد قيل إنه كان يربط من يريد قتله بين أوتاد متعددة ، ويتركه مشدودا فيها حتى يموت .. (١).

أى : وفرعون صاحب المبانى العظيمة ، والجنود الأقوياء ، والملك الوطيد ... كذب رسولنا موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فكانت عاقبة هذا التكذيب أن أغرقناه ومن معه جميعا من جنوده الكافرين.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٧٠.

١٣٨

وكذب ـ أيضا ـ قوم ثمود نبيهم صالحا ، وقوم لوط نبيهم لوطا ، وأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب. كذبوه كذلك ـ فكانت نتيجة هذا التكذيب الإهلاك لهؤلاء المكذبين ـ كما قال ـ تعالى ـ : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١).

والإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) تعود إلى هؤلاء الأقوام المكذبين لرسلهم وسموا بالأحزاب ، لأنهم تحزبوا ضد رسلهم ، وانضم بعضهم إلى بعض في تكذيبهم ، ووقفوا جميعا موقف المحارب لهؤلاء الرسل الكرام.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) استئناف مقرر لما قبله من تكذيب هؤلاء الأقوام لرسلهم ، وبيان للأسباب التي أدت إلى عقاب المكذبين.

و «إن» هنا نافية ، ولا عمل لها لانتقاض النفي بإلا. و «إلا» أداة استثناء مفرغ من أعم الصفات أو الأحكام : وجملة «كذب الرسل» في محل رفع خبر «كل».

أى : ليس لهؤلاء الأقوام من صفات سوى تكذيب الرسل ، فكانت نتيجة هذا التكذيب أن حل بهم عقابي وثبت عليهم عذابي. الذي دمرهم تدميرا.

والإخبار عن كل حزب من هذه الأحزاب بأنه كذب الرسل ، إما لأن تكذيب كل حزب لرسوله يعتبر من باب التكذيب لجميع الرسل لأن دعوتهم واحدة ، وإما من قبيل مقابلة الجمع بالجمع ، والمقصود تكذيب كل حزب لرسوله.

وقد جاء تكذيبهم في الآية السابقة بالجملة الفعلية «كذبت قبلهم ...» وجاء في هذه الآية بالجملة الاسمية : لبيان إصرارهم على هذا التكذيب ، ومداومتهم عليه ، وإعراضهم عن دعوة الرسل لهم إعراضا تاما.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ). بيان للعذاب المعد للمشركين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بيان العقاب الذي حل بالسابقين.

والمراد بالصيحة هنا : النفخة الثانية التي ينفخها إسرافيل في الصور ، فيقوم الخلائق من قبورهم للحساب والجزاء.

وقيل المراد بها النفخة الأولى ، وضعف هذا القول بأنهم لن يكونوا موجودين وقتها حتى يصعقوا بها ..

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٤٠.

١٣٩

وينظرون هنا بمعنى ينتظرون. وجعلهم ـ سبحانه ـ منتظرين للعقاب مع أنهم لم ينتظروه على سبيل الحقيقة للإشعار بتحقق وقوعه ، وأنهم بصدد لقائه ، فهم لذلك في حكم المنتظرين له.

أى : وما ينتظر هؤلاء المشركون الذين هم أمثال المهلكين من قبلهم ، (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أى : نفخة واحدة ينفخها إسرافيل (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ، وهذه النفخة (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أى : ليس لها من توقف وانتظار حتى ولو بمقدار فواق ناقة وهو الزمن الذي يكون بين الحلبتين ، أو الزمن الذي يكون فيه رجوع اللبن في الضرع بعد الحلب.

والمقصود بيان أن هذه الصيحة سريعة الوقوع ، وأنها لن تتأخر عن وقتها ، وأنها صيحة واحدة فقط يتم بعدها كل شيء يتعلق بالبعث والجزاء.

قال الجمل في حاشيته ما ملخصه : قوله : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) يجوز أن يكون قوله (لَها) رافعا لقوله : (مِنْ فَواقٍ) على الفاعلية لاعتماده على النفي.

وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر ، وعلى التقديرين فالجملة المنفية صفة لصيحة ، ومن مزيدة ..

والفواق ـ بفتح الفاء وضمها ـ الزمان الذي بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع ـ والمعنى : ما لها من توقف قدر فواق ناقة. وفي الحديث : «العيادة قدر فواق ناقة» .. (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة ، ببيان ما جبل عليه هؤلاء المشركون من جهالات وسفاهات ، حيث تعجلوا العقاب قبل وقوعه بهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ).

والقطّ : النصيب والقطعة من الشيء. مأخوذ من قط الشيء إذا قطعه وفصله عن غيره. فهم قد أطلقوا القطعة من العذاب على عذابهم ، باعتبار أنها مقتطعة من العذاب الكلى المعد لهم ولغيرهم.

أى : وقال هؤلاء المشركون الجاهلون يا ربنا (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أى عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به ، ولا تؤخره إلى يوم الحساب.

وتصدير دعائهم بنداء الله ـ تعالى ـ بصفة الربوبية ، يشعر بشدة استهزائهم بهذا العذاب الذي توعدهم الله ـ تعالى ـ به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٦٤.

١٤٠