التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند النفخة الثانية فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ..

والمراد بالنفخ هنا : النفخة الثانية التي يكون معها البعث والحساب.

والصور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، ولا يعلم كيفيته سوى الله ـ تعالى ـ : والأجداث : جمع جدث ـ بفتحتين ـ كفرس وأفراس ـ وهي القبور.

وينسلون : أى : يسرعون بطريق الجبر والقهر لا بطريق الاختيار ، والنّسلان : الإسراع في السير.

أى : ونفخ في الصور النفخة الثانية ، فإذا بهؤلاء الكافرين الذين كانوا يستبعدون البعث وينكرونه ، يخرجون من قبورهم سراعا ـ وبدون اختيار منهم ـ متجهين إلى ربهم ومالك أمرهم ليقضى فيهم بقضائه العادل.

(قالُوا) بعد خروجهم من قبورهم بسرعة وفزع (يا وَيْلَنا) أى : يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.

ثم يقولون بفزع أشد : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) أى من أثارنا من رقادنا ، وكأنهم لهول ما شاهدوا قد اختلطت عقولهم ، وأصيبت بالهول ، فتوهموا أنهم كانوا نياما.

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم قالوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، وهذا لا ينفى عذابهم في قبورهم ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.

وقوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) رد من الملائكة أو من المؤمنين عليهم. أو هو حكاية لكلام الكفرة في رد بعضهم على بعض على سبيل الحسرة واليأس.

و «ما» موصولة والعائد محذوف ، أى : هذا الذي وعده الرحمن والذي صدّقه المرسلون.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : إذا جعلت «ما» مصدرية ، كان المعنى : هذا وعد الرحمن ، وصدق المرسلين ، على تسمية الموعود والمصدق فيه بالوعد والصدق ، فما وجه قوله : (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)؟ إذا جعلتها موصولة؟.

قلت : تقديره : هذا الذي وعده الرحمن ، والذي صدقه المرسلون ، بمعنى : والذي صدق فيه المرسلون ، من قولهم : صدقوهم الحديث والقتال ...

٤١

ثم بين ـ سبحانه ـ سرعة امتثالهم وحضورهم للحساب فقال : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).

أى : ما كانت النفخة التي حكيت عنهم آنفا (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاحها إسرافيل بإذننا وأمرهم فيها بالقيام من قبورهم (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ) دون أن يتخلف أحد منهم لدينا محضرون ومجموعون للحساب والجزاء.

(فَالْيَوْمَ) وهو يوم القيامة (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من الظلم ، وإنما كل نفس توفى حقها.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : ولا تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا ، فالجملة الكريمة تأكيد وتقرير لما قبلها.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١).

وبعد هذا الحديث المتنوع عن أحوال الكافرين يوم القيامة ، جاء الحديث عما أعده الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه للمؤمنين ، وعما يقال للكافرين في هذا اليوم من تبكيت وتأنيب فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٦٤)

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٤٧.

٤٢

فقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) بيان لأحوالهم الطيبة ، بعد بيان أحوال الكافرين السيئة.

والشغل : الشأن الذي يشغل الإنسان عما سواه من الشئون ، لكونه أهم عنده من غيره ، وما فيه من التنكير للتفخيم ، كأنه قيل : في شغل أى شغل.

وفاكهون. أى : متنعمون متلذذون في النعمة التي تحيط بهم ، مأخوذ من الفكاهة ـ بفتح الفاء ـ وهي طيب العيش مع النشاط. يقال : فكه الرجل فكها وفكاهة فهو فكه وفاكه ، إذا طاب عيشه ، وزاد سروره ، وعظم نشاطه وسميت الفاكهة بذلك لتلذذ الإنسان بها.

أى : يقال للكافرين في يوم الحساب والجزاء زيادة في حسرتهم ـ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل عظيم ، يتلذذون فيه بما يشرح صدورهم ، ويرضى نفوسهم ، ويقر عيونهم ، ويجعلهم في أعلى درجات التنعم والغبطة.

وعبر عن حالهم هذه بالجملة الاسمية المؤكدة ، للإشعار بأن هذه الحال ثابتة لهم ثبوتا تاما ، بفضل الله ـ تعالى ـ وكرمه.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من كيفية هذا التمتع بالجنة ونعيمها فقال : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ).

و «هم» مبتدأ ، و «أزواجهم» معطوف عليه. و «متكئون» خبر المبتدأ.

قال الامام الرازي. ولفظ الأزواج هنا يحتمل وجهين :

أحدهما : أشكالهم في الإحسان. وأمثالهم في الإيمان ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ).

وثانيهما : الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ...) (١).

ويبدو أن المراد بالأزواج هنا : حلائلهم اللاتي أحلهن الله لهم ، زيادة في مسرتهم وبهجتهم ، وعلى هذا سار عامة المفسرين.

والظلال : جمع ظل أو ظلة ، وهي ما يظل الإنسان ويقيه من الحر.

والأرائك : جمع أريكة وهي ما يجلس عليه الإنسان من سرير ونحوه للراحة والمتعة.

أى : أن أصحاب الجنة هم وحلائلهم يجلسون على الأرائك متكئين في متعة ولذة.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٠٠.

٤٣

(لَهُمْ فِيها) أى في الجنة (فاكِهَةٌ) كثيرة متنوعة (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أى : ولهم فوق ذلك جميع ما يطلبونه من مطالب وما يتمنونه من أمنيات.

فقوله : (يَدَّعُونَ) يصح أن يكون من الدعاء بمعنى الطلب ، كما يصح أن يكون من الادعاء بمعنى التمني.

يقال : ادع علىّ ما شئت أى : تمن علىّ ما شئت. ويقال : فلان في خير ما يدّعى ، أى : في خير ما يتمنى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذا العطاء الجزيل للمؤمنين بقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).

وللمفسرين في إعراب قوله : (سَلامٌ) أقوال منها : أنه مبتدأ خبره الناصب للفظ (قَوْلاً) أى : سلام يقال لهم قولا ... (١).

وقد أشار صاحب الكشاف إلى بعض هذه الأقوال فقال : وقوله : (سَلامٌ) بدل من قوله (ما يَدَّعُونَ) كأنه قال لهم : سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم.

والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تكريمهم ، وذلك غاية متمناهم .. (٢).

وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث ، منها ما رواه ابن أبى حاتم ـ بسنده ـ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطح لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذا الرب ـ تعالى ـ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه. حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم» (٣).

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ـ كما يقول الإمام الفخر الرازي ـ يراها تشير إلى أن أصحاب الجنة ليسوا في تعب ، كما تشير إلى وحدتهم ، وإلى حسن المكان ، وإلى إعطائهم كل ما يحتاجونه ، وإلى تلذذهم بالنعيم وإلى تلقيهم لأجمل تحية ..» (٤).

هذا هو حال المؤمنين ، وهذا بعض ما يقال لهم من ألفاظ التكريم ، فما ذا يقال للمجرمين.

__________________

(١) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٢١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٢.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٧٠.

(٤) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٠١.

٤٤

لقد بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يقال للمجرمين فقال : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أى : ويقال للمجرمين في هذا اليوم ـ على سبيل الزجر والتأنيب انفردوا ـ أيها المجرمون ـ عن المؤمنين ، واتجهوا إلى ما أعد لكم من عذاب في جهنم ، بسبب كفركم وجحودكم للحق.

يقال : امتاز وتميز القوم بعضهم عن بعض ، إذا انفصل كل فريق عن غيره.

قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) من جملة ما يقال لهم ـ أيضا ـ على سبيل التقريع والتوبيخ.

والعهد بالشيء : الوصية به ، والمراد به هنا : وصية الله ـ تعالى ـ للناس على ألسنة رسله ، أن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يخالفوا : ما يوسوس لهم به الشيطان من شرك ومعصية قال الآلوسى : والمراد بالعهد هنا. ما كان منه ـ تعالى ـ على ألسنة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله ـ تعالى ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ...).

وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر ، إذ قال ـ سبحانه ـ (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى).

وقيل : هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله ـ تعالى ـ الزاجرة عن عبادة غيره ...

والمراد بعبادة الشيطان : طاعته فيما يوسوس به إليهم ، ويزينه لهم ، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها (٢).

والمعنى : لقد عهدت إليكم ـ يا بنى آدم ـ عهدا مؤكدا على ألسنة رسلي ، أن لا تعبدوا الشيطان وأن لا تستمعوا لوسوسته ، وأن لا تتبعوا خطواته ، لأنه لكم عدو ظاهر العداوة ، بحيث لا تخفى عداوته على أحد من العقلاء.

فجملة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل لوجوب الانتهاء عن طاعة الشيطان.

__________________

(١) سورة الروم الآيات من ١٤ ـ ١٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٤٠.

٤٥

وقوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) بيان لما يجب عليهم أن يفعلوه بعد النهى عما يجب عليهم أن يجتنبوه.

و «أن» في قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا) وفي قوله (وَأَنِ اعْبُدُونِي) مفسرة ، والجملة الثانية معطوفة على الأولى.

أى : لقد عهدت إليكم بأن تتركوا عبادة الشيطان ، وعهدت إليكم أن تعبدونى وحدي دون غيرى.

والإشارة في قوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) تعود إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

أى : هذا الذي أمرتكم به من إخلاص العبادة والطاعة لي هو الطريق الواضح المستقيم ، الذي يوصلكم إلى عز الدنيا ، وسعادة الآخرة.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) استئناف مسوق لتأكيد النهى عن طاعة الشيطان. ولتشديد التوبيخ لمن اتبع خطواته.

«وجبلا كثيرا» بمعنى : خلقا كثيرا حتى إنهم لكثرتهم كالجبل العظيم.

ولفظ «جبلّا» قرأه نافع وعاصم ـ بكسر الجيم والباء ، وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي (جِبِلًّا) بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام وجميع القراءات بمعنى واحد. أى : ولقد أغوى الشيطان منكم يا بنى آدم خلقا كثيرا ، فهل عقلتم ذلك ، واتعظتم بما فعله مع كثير من أبناء جنسكم ، وأخلصتم لنا العبادة والطاعة ، واتخذتم الشيطان عدوا لكم كما صرح بعداوتكم. وبالعمل على إغوائكم.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ حكاية عنه. (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

وبعد هذا التوبيخ لمن أطاعوا الشيطان ، يقال لهم في النهاية : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

أى : هذه جهنم ماثلة أمام أعينكم أيها الكافرون ، وهي التي كنتم توعدون بها في الدنيا. وكنتم تقابلون ذلك بالسخرية والتكذيب.

__________________

(١) سورة فاطر آية ٦.

(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

٤٦

(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أى : ذوقوا حرها ولهيبها وسعيرها ، بسبب كفركم في الدنيا ، وموتكم على هذا الكفر.

والأمر في قوله ـ تعالى ـ : (اصْلَوْهَا) للتحقير والإهانة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) والذين يأمرونهم بذك هم خزنة النار ، بأمر من الله ـ تعالى ـ ثم تنتقل السورة الكريمة فتحكى لنا جانبا آخر من أحوال الكافرين في هذا اليوم العصيب ، كما تحكى لنا جانبا من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ فتقول :

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٦٨)

والمراد باليوم في قوله ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ...) يوم القيامة.

وقوله : (نَخْتِمُ) من الختم ، والختم الوسم على الشيء بطابع ونحوه. مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه للاستيثاق ، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخله ما هو خارج عنه.

أى : في يوم القيامة نختم على أفواه الكافرين فنجعلها لا تنطق ، وإنما تكلمنا أيديهم ، وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبونه في الدنيا من أقوال باطلة ، وأفعال قبيحة.

قالوا : وسبب الختم على أفواههم ، أنهم أنكروا أنهم كانوا مشركين في الدنيا ، كما حكى عنهم ـ سبحانه ـ ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١).

__________________

(١) سورة الأنعام آية ٢٣.

٤٧

أو ليكونوا معروفين لأهل الموقف في ذلك اليوم العصيب ، أو لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق ، أو ليعلموا أن أعضاءهم التي ارتكبت المعاصي في الدنيا ، قد صارت شهودا عليهم في الآخرة.

وجعل ـ سبحانه ـ ما تنطق به الأيدى كلاما ، وما تنطق به الأرجل شهادة ، لأن مباشرة المعاصي ـ غالبا ـ تكون بالأيدى ، أما الأرجل فهي حاضرة لما ارتكب بالأيدى من سيئات ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما له ، أما قول الفاعل فهو إقرار ونطق بما فعله.

قال الجمل : وقال الكرخي : أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه ، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدى والأرجل ، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا ، أو قهرا. والإقرار مع الإجبار غير مقبول. فقال : تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ، أى باختيارها بعد إقدار الله لها على الكلام ، ليكون أدل على صدور الذنب منهم (١).

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث. التي صرحت بأن أعضاء الإنسان تشهد عليه يوم القيامة بما ارتكبه في الدنيا من سيئات. ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : «أتدرون مم أضحك؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.

يقول : رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى ، فيقول : لا أجيز علىّ إلا شاهدا من نفسي ، فيقول الله ـ تعالى ـ له : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وبالكرام الكاتبين شهودا.

قال : فيختم على فيه ، ويقال لأركانه ـ أى لأعضائه ـ : انطقى. فتنطق بما عمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا وسحقا فعنكن كنت أناضل». (٢).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣). ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء الكافرين هم في قبضته في كل وقت فقال : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٢٢.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٧٢ ، وتفسير القرطبي ج ١٥ ص ٤٨.

(٣) سورة فصلت الآية ١٩ ، ٢٠.

٤٨

وقوله : (لَطَمَسْنا) الطمس إزالة أثر الشيء عن طريق محوه. يقال : طمست الشيء طمسا ـ من باب ضرب ـ بمعنى محوته وأزلت أثره ، والمطموس والطميس الأعمى. ومفعول المشيئة محذوف. والصراط : الطريق وهو منصوب بنزع الخافض.

أى : ولو نشاء طمس أعينهم بأن نمحو عنها الرؤية والإبصار لفعلنا ، ولكنا لم نفعل بهم ذلك فضلا منا عليهم ، ورحمة بهم ، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوا نعمنا بالشكر لا بالكفر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) معطوف على (لَطَمَسْنا) على سبيل الفرض.

أى : لو نشاء محو أبصارهم لمحوناها ، فلو أرادوا في تلك الحالة المبادرة إلى الطريق ليسيروا فيه ، أو ليعبروه لما استطاعوا ذلك. لأنهم كيف يستطيعون ذلك وهم لا يبصرون شيئا.

فالاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) لاستبعاد اجتيازهم الطريق ، ونفى قدرتهم على التصرف.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ ، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) والمسخ : تبديل الخلقة وتحويلها من حال إلى حال ، ومن هيئة إلى هيئة.

أى : وفي قدرتنا إذا شئنا ، أن نغير صورهم الإنسانية إلى صور أخرى قبيحة ، كأن نحولهم إلى قردة أو حيوانات وهم (عَلى مَكانَتِهِمْ) أى : وهم في مكانهم الذي يقيمون فيه (فَمَا اسْتَطاعُوا) بسبب هذا المسخ (مُضِيًّا) أى : ذهابا إلى مقاصدهم (وَلا يَرْجِعُونَ) أى : ولما استطاعوا ـ أيضا ـ إذا ذهبوا أن يرجعوا.

أى : في إمكاننا أن نمسخهم وهم جالسون في أماكنهم ، فلا يقدرون أن يمضوا إلى الأمام ، أو أن يعودوا إلى الخلف.

فالمقصود بالآيتين الكريمتين تهديدهم على استمرارهم في كفرهم ، وبيان أنهم تحت قدرة الله ـ تعالى ـ وفي قبضته ، وأنه ـ سبحانه ـ قادر على أن يفعل بهم ما يشاء من طمس للأبصار ، ومن مسخ للصور ، ومن غير ذلك مما يريده ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الإنسان عند ما يتقدم به العمر فقال : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ).

وقوله : (نُعَمِّرْهُ) من التعمير ، بمعنى إطالة العمر.

قال القرطبي : وقوله : (نُنَكِّسْهُ) قرأه عاصم وحمزة ـ بضم النون الأولى وتشديد

٤٩

الكاف ـ من التنكيس. وقرأه الباقون : (نُنَكِّسْهُ) ـ بفتح النون الأولى وضم الكاف ـ من نكست الشيء أنكسه نكسا إذا قلبته على رأسه فانتكس.

قال قتادة : المعنى : أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا ... قال الشاعر :

من عاش أخلقت الأيام جدّته

وخانه ثقتاه السمع والبصر

فطول العمر يصير الشباب هرما ، والقوة ضعفا ، والزيادة نقصا .. وقد استعاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر ..» (١).

والمعنى : «ومن نطل عمره ننكسه في الخلق» أى : نرده إلى أرذل العمر ، فنجعله ـ بقدرتنا ـ ضعيفا بعد أن كان قويا ، وشيخا بعد أن كان شابا فتيا ، وناقص العقل بعد أن كان مكتمله ... (أَفَلا يَعْقِلُونَ) ذلك ـ أيها الناس ـ مع أنه من الأمور المشاهدة أمام أبصاركم ، وتعرفون أن من قدر على تحويل الإنسان من ضعف إلى قوة ، ومن قوة إلى ضعف .. قادر ـ أيضا ـ على إعادته إلى الحياة مرة أخرى بعد موته.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) (٣).

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد هددت الكافرين بسوء المصير إذا استمروا في كفرهم ، وبينت جانبا من فضل الله ـ تعالى ـ عليهم ، لعلهم يفيئون إلى رشدهم ، ويشكرونه على نعمه.

ثم رد ـ سبحانه ـ على الكافرين الذين وصفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه شاعر ، كما قالوا عن القرآن أنه شعر ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٥١.

(٢) سورة الروم آية ٥٤.

(٣) سورة النحل الآية ٧٠.

٥٠

أى : وما علّمنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر وإنما الذي علمناه إياه هو القرآن الكريم ، المشتمل على ما يسعد الناس في دنياهم وفي آخرتهم.

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، نفى أن يكون القرآن شعرا بأبلغ وجه لأن الذي علمه الله ـ تعالى ـ لنبيه هو القرآن وليس الشعر ، وما دام الأمر كذلك فالقرآن ليس شعرا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما يَنْبَغِي لَهُ). أى : ما علمناه الشعر ، وإنما علمناه القرآن ، فقد اقتضت حكمتنا أن لا نعجل الشعر في طبعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في سليقته ، فحتى لو حاوله ـ على سبيل الفرض ـ فإنه لا يتأتى له ، ولا يسهل عليه ولا يستقيم مع فطرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) يعود إلى القرآن الكريم :

أى : ما هذا القرآن الكريم إلا ذكر من الأذكار النافعة ، والمواعظ الناجحة ، والتوجيهات الحكيمة ، وهو في الوقت نفسه (قُرْآنٌ مُبِينٌ) أى : كتاب مقروء من الكتب السماوية الواضحة ، التي لا تختلط ولا تلتبس بكلام البشر.

وقد أنزلناه على الرسول الكريم (لِيُنْذِرَ) به (مَنْ كانَ حَيًّا).

أى : من كان مؤمنا عاملا ذا قلب حي ، ونفس نقية ، وأذن واعية ، لأن من كانت هذه صفاته انتفع بالإنذار والتذكير.

(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أى : أن من كان ذا قلب فإنه ينتفع بالإنذار ، أما من كان مصرا على كفره وضلاله ، فإن كلمة العذاب قد حقت عليه ، وصارت نهايته الإلقاء به في جهنم وبئس القرار.

وقد تكلم المفسرون هنا كلاما مفصلا. عن كون القرآن ليس شعرا ، وكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس شاعرا ، وعلى رأسهم صاحب الكشاف فقد قال ما ملخصه : كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه شاعر. فرد عليهم بقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أى : أن القرآن ليس بشعر ، وأين هو من الشعر. والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى ، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟

وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء من معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه ...

(وَما يَنْبَغِي لَهُ) أى : وما يصح له ، ولا يتطلبه إن طلبه ، أى : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ، ولم يتسهل كما جعلناه أميا .. لتكون الحجة أثبت ، والشبهة أدحض ...

٥١

فإن قلت : فقوله :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

قلت : ما هو إلا كلام من جنس كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان يرمى به على السليقة. من غير صنعة ولا تكلف ، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ، ولا التفات منه إذا جاء موزونا ، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ، أشياء موزونة ، ولا يسميها أحد شعرا ، ولا يخطر ببال السامع ولا المتكلم أنها شعر ...» (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ المشركين ببعض النعم التي أسبغها عليهم ، والتي يرونها بأعينهم ، ويعلمونها بعقولهم ، وسلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه منهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٦)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً ...) للإنكار والتعجب من أحوال هؤلاء المشركين ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.

والأنعام : جمع نعم : وهي الإبل والبقر والغنم.

والمعنى : أعمى هؤلاء المشركون عن مظاهر قدرتنا ، ولم يروا بأعينهم ، ولم يعلموا بعقولهم. أنا خلقنا لهم مما عملته أيدينا. وصنعته قدرتنا. أنعاما كثيرة هم لها مالكون يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه.

وأسند ـ سبحانه ـ العمل إلى الأيدى ، للإشارة إلى أن خلق هذه الأنعام كان بقدرته

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٩. وراجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٤٧.

٥٢

ـ تعالى ـ وحده دون أن يشاركه في ذلك مشارك ، أو يعاونه معاون. كما يقول القائل : هذا الشيء فعلته بيدي وحدي ، للدلالة على تفرده بفعله.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (لَهُمْ) للإشعار بأن خلق هذه الأنعام إنما حدث لمنفعتهم ومصلحتهم.

وما في قوله (مِمَّا عَمِلَتْ) موصولة. والعائد محذوف. أى : مما عملته أيدينا.

وقوله : (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) بيان لإحدى المنافع المترتبة على خلق هذه الأنعام لهم.

أما المنافع الأخرى فقد جاءت بعد ذلك في قوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ ...) أى : وجعلنا هذه الأنعام مذللة ومسخرة لهم ، بحيث أصبحت في أيديهم سهلة القيادة ، مطواعة لما يريدونه منها ، يقودونها فتنقاد للصغير والكبير. كما قال القائل :

لقد عظم البعير بغير لبّ

فلم يستغن بالعظم البعير

يصرّفه الصبى بكل وجه

ويحبسه على الخسف الجرير (١)

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير (٢)

ففي هذه الجملة الكريمة تذكير لهم بنعمة تسخير الأنعام لهم ، ولو شاء ـ سبحانه ـ لجعلها وحشية بحيث ينفرون منها.

والفاء في قوله : (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) تفريع على ما تقدم وركوب بمعنى مركوب.

أى : وصيرنا هذه الأنعام مذللة ومسخرة لهم ، فمنها ما يستعملونه في ركوبهم والانتقال عليها من مكان إلى آخر ، ومنها ما يستعملونه في مآكلهم عن طريق ذبحه.

وفضلا عن كل ذلك ، فإنهم «لهم» في تلك الأنعام «منافع» أخرى غير الركوب وغير الأكل كالانتفاع بها في الحراثة وفي نقل الأثقال ... ولهم فيها ـ أيضا ـ «مشارب» حيث يشربون من ألبانها.

والاستفهام في قوله : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) للتخصيص على الشكر ، أى : فهلا يشكرون الله ـ تعالى ـ على هذه النعم ، ويخلصون له العبادة والطاعة.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقفهم الجحودى من هذه النعم فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ).

__________________

(١) الجرير. الحبل الذي يربط به البعير.

(٢) فلا غير لديه ولا نكير : أى فلا غيرة لديه ولا إنكار منه لما ينزل به من خسف.

٥٣

أى : إن هؤلاء الكافرين لم يقابلوا نعمنا عليهم بالشكر ، وإنما قابلوها بالجحود والبطر. فقد تركوا عبادتنا ، واتخذوا من دوننا آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر ، متوهمين أنها تنصرهم عند ما يطلبون نصرها. وراجين أن تدفع عنهم ضرا عند التماس ذلك منها.

وقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ..) دفع لما توهموه من نصرهم ونفى لما توقعوه من نفعهم.

أى : هذه الآلهة المزعومة ، لا يستطيعون نصر هؤلاء الكافرين. لأنهم أعجز من أن ينصروا أنفسهم ، فضلا عن نصرهم لغيرهم.

وقال ـ سبحانه ـ : (لا يَسْتَطِيعُونَ) بالواو والنون على طريقة جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أن هذه الأصنام تنفع أو تضر أو تعقل.

والضمير «هم» في قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) يعود إلى المشركين ، والضمير في قوله (لَهُمْ) يعود إلى الآلهة المزعومة.

أى : وهؤلاء الكفار ـ لجهالتهم وانطماس بصائرهم ـ قد صاروا في الدنيا بمنزلة الجند الذين أعدوا أنفسهم لخدمة هذه الآلهة والدفاع عنها. والحضور عندها لخدمتها ، ورعايتها وحفظها.

ويرى بعضهم أن الضمير «هم» للآلهة ، والضمير في «لهم» للمشركين ، عكس القول الأول ، فيكون المعنى : وهؤلاء الآلهة لا يستطيعون نصر المشركين وهم أى الآلهة ـ «لهم» أى : للمشركين ، «جند محضرون» أى : جند محضرون معهم إلى النار ، ليلقوا فيها كما يلقى الذين عبدوهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) للإفصاح. أى : إذا كان حال هؤلاء المشركين كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم من الجهالة والغفلة ، فأعرض عنهم ، ولا تحزن عليهم ، ولا تبال بأقوالهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) تعليل للنهى عن الحزن بسبب أقوالهم. أى لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ بسبب أقوالهم الباطلة ، فإنا نعلم علما تاما ما يسرونه من حقد عليك ، وما يعلنونه من أعمال قبيحة ، وسنعاقبهم على كل ذلك العقاب الذي يستحقونه.

فالآية الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يلقاه من هؤلاء المشركين.

٥٤

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بإقامة الأدلة الساطعة على أن البعث حق ، وعلى أن قدرته ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣)

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات ، أن أبىّ بن خلف جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده عظم رميم ، وهو يفتته ويذريه في الهواء ويقول : يا محمد ، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم. يميتك الله ـ تعالى ـ ثم يبعثك ، ثم يحشرك إلى النار». ونزلت هذه الآيات إلى آخر السورة ...

والمراد بالإنسان : جنسه. ويدخل فيه المنكرون للبعث دخولا أوليا.

وأصل النطفة : الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة. وجمعها نطف ونطاف. يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلة.

والمراد بها هنا : المنى الذي يخرج من الرجل ، إلى رحم المرأة.

والخصيم : الشديد الخصام والجدال لغيره ، والمراد به هنا : الكافر والمجادل بالباطل.

والمعنى : أبلغ الجهل بهذا الإنسان ، أنه لم يعلم أنا خلقناه بقدرتنا ، من ذلك الماء المهين

٥٥

الذي يخرج من الرجل فيصب في رحم المرأة ، وأن من أوجده من هذا الماء قادر على أن يعيده إلى الحياة بعد الموت.

لقد كان من الواجب عليه أن يدرك ذلك ، ولكنه لغفلته وعناده ، بادر بالمبالغة في الخصومة والجدل الباطل. وجاهر بذلك مجاهرة واضحة ، مع علمه بأصل خلقته.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث ، بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به ... والهمزة للإنكار والتعجب من أحوالهم ، وإيراد الإنسان مورد الضمير ، لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان. والمراد بالإنسان الجنس. والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا.

وقوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) عطف على الجملة المنفية ، داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل : أو لم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ، فأظهر الخصومة في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة ...» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) معطوف على الكلام المتقدم ، وداخل في حيز الإنكار.

أى : أن هذا الإنسان الجاهل المجادل بالباطل ، لم يكتف بذلك ، بل ضرب لنا مثلا هو في غاية الغرابة ، حيث أنكر قدرتنا على إحياء الموتى ، وعلى بعثهم يوم القيامة ، فقال : ـ دون أن يفطن إلى أصل خلقته ـ من يحيى العظام وهي رميم ، أى : وهي بالية أشد البلى. فرميم بزنة فعيل بمعنى فاعل. من رمّ اللازم بمعنى بلى ، أو بمعنى مفعول ، من رم المتعدى بمعنى أبلى. يقال : رمه إذا أبلاه. فيستوى فيه المذكر والمؤنث.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم سمى قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) مثلا؟

قلت : لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى .. مع أن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله ـ تعالى ـ بالقدرة عليه ، بدليل النشأة الأولى .. (٢).

ثم لقن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يخرس ألسنة المنكرين للبعث فقال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ...

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٥٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٠.

٥٦

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين المنكرين لإعادة الحياة إلى الأجساد بعد موتها ، قل لهم : يحيى هذه الأجسام والأجساد البالية ، الله ـ تعالى ـ الذي أوجدها من العدم دون أن تكون شيئا مذكورا ، ومن قدر على إيجاد الشيء من العدم قادر من باب أولى على إعادته بعد هلاكه. وهو ـ سبحانه ـ بكل شيء في هذا الوجود عليم علما تاما ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، سواء أكان هذا الشيء صغيرا أم كبيرا ، مجموعا أم مفرقا.

قال الشوكانى : وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعى بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة ـ أى أنها بعد الموت تكون نجسة.

وقال الشافعى : لا تحله الحياة ، وأن المراد بقوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) من يحيى أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف. ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) دليل آخر على إمكانية البعث وهو بدل من قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ...).

والمراد بالشجر الأخضر : الشجر النّدى الرطب ، كشجر المرخ والعفار وهما نباتان أخضران إذا ضرب أحدهما بالآخر اتقدت منهما شرارة نار بقدرة الله ـ تعالى ـ.

قال ابن كثير ؛ المراد بذلك سرح ـ أى : شجر المرخ والعفار. ينبت بأرض الحجاز فيأتى من أراد قدح نار وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح أحدهما بالآخر ، فتتولد النار من بينهما ، كالزناد سواء سواء.

روى هذا عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ وفي المثل : «لكل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار» (٢).

أى : لكل شجر حظ من النار ، ولكن أكثر الأشجار حظا من النار : المرخ والعفار. فهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين للبعث ، يحيى الأجساد البالية الله ـ تعالى ـ الذي أنشأها أول مرة ، والذي جعل لكم ـ بفضله ورحمته وقدرته ـ من الشجر الأخضر الرطب نارا ، فإذا أنتم من هذا الشجر الأخضر توقدون النار. وتنتفعون بها في كثير

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٣٨٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٨١.

٥٧

من أحوال حياتكم.

وإذا فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر ـ مع ما فيه من المائية المضادة لها ـ كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى توبيخهم على جهلهم وكفرهم توبيخا آخر. فقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).

والاستفهام ـ كسابقه ـ للإنكار والتعجيب من جهالاتهم ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والضمير في «مثلهم» يعود إلى المنكرين للبعث.

والمعنى : إن من قدر على خلق السموات والأرض ـ وهما في غاية العظم ـ قادر من باب أولى على إعادة خلق البشر ، الذي هو صغير الشكل ، ضعيف القوة.

وجملة : (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) جواب من جهته ـ تعالى ـ وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكارى ، من تقرير ما بعد النفي ، وتأكيد قدرته ـ سبحانه ـ على الخلق والإعادة. لأن «بلى» حرف جواب ، يؤتى به لإثبات فعل ورد قبله منفيا.

أى : بلى إنه لقادر ـ سبحانه ـ على أن يخلق مثلهم ، وعلى أن يعيدهم للحياة مرة أخرى ، وهو ـ سبحانه ـ «الخلاق» أى : الكثير المخلوقات «العليم» أى : الكثير العلم بحيث لا يخفى عليه شيء.

ثم أكد ـ سبحانه ـ شمول قدرته لكل شيء فقال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

أى : إنما شأنه ـ سبحانه ـ في إيجاد الشيء ، أنه إذا أراد إحداثه ، أن يقول له كن ، أى : كن موجودا فيكون ، أى : فهذا الشيء يكون ويوجد في الحال ... قال الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له «كن» قولة فيكون

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بتنزيهه ـ تعالى ـ عن كل نقص ، فقال (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

أى : فتنزه الله ـ تعالى ـ الذي له ملك كل شيء ملكا تاما ، والذي إليه المرجع والمآب ، عن كل ما يقوله الكافرون من عدم قدرته على إحياء الموتى.

فهو ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، ولا يخفى على علمه شيء ، ولا يحول دون قدرته شيء (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

٥٨

وبعد : فهذا تفسير محرر لسورة «يس» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى.

القاهرة ـ مدينة نصر : صباح الثلاثاء ٥ من ذي القعدة سنة ١٤٠٥ ه‍ ـ الموافق ٢٣ / ٧ / ١٩٨٥ م

٥٩
٦٠