التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

تفسير

سورة الصّافّات

٦١
٦٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة الصافات هي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها كما ذكر صاحب الإتقان ـ بعد سورة «الأنعام» (١).

ومعنى ذلك أن نزولها كان في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ، لأننا قد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لسورة الأنعام ، أنه يغلب على الظن أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة (٢).

٢ ـ قال الآلوسى : هي مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا. وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ، ومائة واثنتان وثمانون آية عند غيرهم (٣).

وتعتبر هذه السورة ـ من حيث عدد الآيات ـ السورة الثالثة من بين السور المكية ، ولا يفوقها في ذلك سوى سورتي الأعراف والشعراء.

٣ ـ وسميت بهذا الاسم لافتتاحها بقوله ـ تعالى ـ : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا). وقد سماها بعض العلماء بسورة «الذبيح» ، وذلك لأن قصة الذبيح لم تأت في سور أخرى سواها.

٤ ـ وقد افتتحت سورة «الصافات» بقسم من الله ـ تعالى ـ بجماعات من خلقه على أن الألوهية والربوبية الحقة إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده ، ثم أقام ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من الأدلة على صدق هذه القضية ، منها خلقه للسموات والأرض وما بينهما ، ومنها تزيينه لسماء الدنيا بالكواكب.

قال ـ تعالى ـ : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ).

٥ ـ ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون في إنكارهم للبعث

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧.

(٢) راجع مقدمة تفسير سورة الانعام للمؤلف.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٦٤.

٦٣

والحساب ، ورد عليها بما يمحقها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ).

٦ ـ وبعد أن بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة هؤلاء المشركين ، وتوبيخ الملائكة لهم ، وإقبال بعضهم على بعض للتساؤل والتخاصم .. بعد كل ذلك بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين ، فقال ـ تعالى ـ. (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ).

٧ ـ ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من المحاورات التي تدور بين أهل الجنة وأهل النار ، وكيف أن أهل الجنة يتوجهون بالحمد والشكر لخالقهم ، حيث أنعم عليهم بنعمة الإيمان ، ولم يجعلهم من أهل النار الذين يأكلون من شجرة الزقوم.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ. إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

٨ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة إبراهيم مع قومه. ومع ابنه إسماعيل ـ عليهما‌السلام.

ومن قصة موسى وهارون وإلياس ولوط ويونس ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

٩ ـ ثم أخذت السورة الكريمة ـ في أواخرها ـ في توبيخ المشركين الذين جعلوا بين الله ـ سبحانه ـ وبين الملائكة نسبا ، ونزه ـ سبحانه ـ ذاته عن ذلك. وهدد أولئك الكافرين بأشد ألوان العذاب بسبب كفرهم وأقوالهم الباطلة.

وبين بأن عباده المؤمنين هم المنصورون ، وختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

١٠ ـ والمتأمل في هذه السورة الكريمة ـ بعد هذا العرض المجمل لآياتها ـ يراها بأنها قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى أن البعث حق ، وعلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، وذلك لكي تغرس العقيدة السليمة في النفوس .. كما يراها تهتم بحكاية أقوال المشركين وشبهاتهم .. ثم ترد على تلك الأقوال والشبهات بما يزهقها ويبطلها.

٦٤

كما يراها ـ كذلك ـ تسوق ألوانا من المحاورات التي تدور بين المشركين فيما بينهم عند ما يحيط بهم العذاب يوم القيامة ، وألوانا من المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل الجنة الذين نجاهم الله ـ تعالى ـ من النار وسعيرها.

كما يراها ـ أيضا ـ تسوق لنا نماذج من قصص الأنبياء مع أقوامهم ، تارة بشيء من التفصيل كما في قصة إبراهيم مع قومه ، وتارة بشيء من التركيز والإجمال كما في بقية قصص الأنبياء الذين ورد الحديث عنهم فيها.

وتمتاز بعرضها للمعاني والأحداث بأسلوب مؤثر. ترى فيه قصر الفواصل وكثرة المشاهد ، والمواقف. مما يجعل القارئ لآياتها في شوق إلى ما تسوقه من نتائج.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وأنس نفوسنا.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

مساء الجمعة ٨ من ذي القعدة سنة ١٤٠٥ ه‍

٢٦ / ٧ / ١٩٨٥

٦٥

«تفسير»

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥)

والواو في قوله ـ تعالى ـ : (وَالصَّافَّاتِ) للقسم. وجوابه قوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ).

و «الصافات» من الصف ، وهو أن تجعل الشيء على خط مستقيم. تقول : صففت القوم فاصطفوا ، إذا أقمتهم على خط مستقيم. سواء أكانوا في الصلاة ، أم في الحرب ، أم في غير ذلك.

و «الزاجرات» : من الزجر ، وهو الدفع بقوة. تقول : زجرت الإبل زجرا ـ من باب قتل ـ إذا منعتها من الدخول في شيء ودفعتها إلى غيره.

و «التاليات» : من التلاوة ، بمعنى القراءة في تدبر وتأمل.

وأكثر المفسرين على أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات : جماعة من الملائكة. موصوفة بهذه الصفات.

فيكون المعنى : وحق الملائكة الذين يصفون أنفسهم صفا لعبادة الله ـ تعالى ـ وطاعته ، أو الذين يصفون أجنحتهم في السماء انتظارا لأمر الله ، والذين يزجرون غيرهم عن ارتكاب المعاصي ، أو يزجرون السحاب إلى الجهات التي كلفهم الله ـ تعالى ـ بدفعه إليها ، والذين يتلون آيات الله المنزلة على أنبيائه تقربا إليه ـ تعالى ـ وطاعة له.

وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون في قوله ـ تعالى ـ في السورة نفسها : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ).

٦٦

كما جاء وصفهم بذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا. وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» (١).

وفي حديث آخر رواه مسلم وغيره عن جابر بن سمره قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم»؟ قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال : «يتمون الصفوف المتقدمة ، ويتراصون في الصف» (٢).

وجاء وصفهم بما يدل على أنهم يلقون الذكر على غيرهم من الأنبياء ، لأجل الإعذار والإنذار به. كما في قوله ـ تعالى ـ في أوائل المرسلات : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً).

قال الإمام ابن كثير : قوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس ، وهذه الآية كقوله ـ تعالى ـ : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٣) ومنهم من يرى أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات هنا : العلماء الذين يصفون أقدامهم عند الصلاة وغيرها من الطاعات ، ويزجرون غيرهم عن المعاصي ، ويتلون كلام الله ـ تعالى ـ.

ومنهم من يرى أن المراد بالصافات : الطيور التي تصف أجنحتها في الهواء وبالزاجرات وبالتاليات : جماعات الغزاة في سبيل الله ، الذين يزجرون أعداء الله ـ تعالى ـ : ويكثرون من ذكره.

ويبدو لنا أن القول الأول هو الأظهر والأرجح ، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي سقناها قبل ذلك تؤيده ، ويؤيده ـ أيضا ـ ما يجيء بعد ذلك من أوصاف للملائكة كما في قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) والمراد بالملإ الأعلى هنا. الملائكة.

ولأن هذا القول هو المأثور عن جماعة من الصحابة والتابعين ، كابن مسعود وابن عباس ، ومسروق ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ومجاهد.

وإنما أقسم الله ـ تعالى ـ هنا بالملائكة ، لشرفهم ، وسمو منزلتهم وامتثالهم لأوامره ـ

__________________

(١) صحيح مسلم : في كتاب المساجد ج ٢ ص ٦٣.

(٢) صحيح مسلم كتاب الصلاة ج ٢ ص ٢٩.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣.

٦٧

سبحانه ـ امتثالا تاما وله ـ تعالى ـ أن يقسم بما شاء من خلقه ، تنويها بشأن المقسم ، ولفتا لأنظار الناس إلى ما فيه من منافع.

ولفظ «الصافات» مفعوله محذوف. والتقدير ، وحق الملائكة الصافات نفوسها أو أجنحتها طاعة وامتثالا لأمر الله ـ تعالى ـ.

والترتيب بالفاء في هذه الصفات ، على سبيل الترقي ، إذ الأولى كمال ، والثانية أكمل ، لتعدى منفعتها إلى الغير ، والثالثة أكمل وأكمل ، لتضمنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتخلي عن الرذائل ، والتحلي بالفضائل.

وقوله «صفا ، وزجرا ، وذكرا» مصادر مؤكدة لما قبلها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب للقسم ، وهو المقسم عليه. أى : وحق الملائكة الذين تلك صفاتهم ، إن ربكم ـ أيها الناس ـ لواحد لا شريك له في ذاته ، ولا في صفاته ولا في أفعاله ، ولا في خلقه.

وقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) بدل من قوله (لَواحِدٌ) أو خبر بعد خبر لمبتدأ محذوف.

أى : إن إلهكم ـ أيها الناس ـ لواحد : هو ـ سبحانه ـ رب السموات والأرض ، ورب ما بينهما من مخلوقات كالهواء وغيره ، ورب المشارق التي تشرق منها الشمس في كل يوم على مدار العام ، إذ لها في كل يوم مشرق معين تشرق منه. ولها في كل يوم ـ أيضا مغرب تغرب فيه.

واكتفى هنا بذكر المشارق عن المغارب ، لأن كل واحد منهما يستلزم الآخر ، ولأن الشروق أدل على القدرة ، وأبلغ في النعمة ، ولأن الشروق سابق على الغروب ، وقد قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (١).

والمراد بهما هنا جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون مشرقا ـ كما يقول العلماء ـ وعلى كل مغرب من مغاربها التي هي كذلك.

وقال في سورة الرحمن : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أى : مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما ، أو مشرق الشمس والقمر ومغربهما.

وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجيء هذه الألفاظ تارة مفردة ، وتارة على سبيل التثنية ،

__________________

(١) سورة المزمل الآية ٩.

٦٨

وتارة على سبيل الجمع.

قال بعض العلماء : قوله (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أى : ولكل نجم مشرق ، ولكل كوكب مشرق فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السموات الفسيحة.

وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك. فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة ـ كما تتوالى المغارب ، فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس ، كان هناك مشرق على هذا القطاع. وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية .. وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم ، أخبرهم الله ـ تعالى ـ بها في ذلك الزمان القديم .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض مظاهر قدرته في خلقه لهذه السموات وكيف أنه ـ تعالى ـ قد زين السماء الدنيا بالكواكب. وحفظها من تسلل أى شيطان إليها فقال تعالى :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠)

وقوله ـ تعالى ـ : (زَيَّنَّا) من التزيين بمعنى التحسين والتجميل. والمراد بالسماء الدنيا : السماء التي هي أقرب سماء إلى الأرض. فالدنيا مؤنث أدنى بمعنى أقرب.

والكواكب : جمع كوكب وهو النجم الذي يرى في السماء.

وقوله : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) فيه ثلاث قراءات سبعية ، فقد قرأ الجمهور بإضافة زينة إلى الكواكب. أى : بلا تنوين في لفظ «بزينة». وقرأ بعضهم بتنوين لفظ «زينة» وخفض لفظ الكواكب على أنه بدل منه. وقرأ بعضهم بتنوين لفظ (بِزِينَةٍ) ونصب لفظ الكواكب ، على أنه مفعول لفعل محذوف أى : أعنى الكواكب.

والمعنى : إنا بقدرتنا وفضلنا زينا السماء الدنيا التي ترونها بأعينكم ـ أيها الناس ـ بالكواكب ، فجعلناها مضيئة بحيث تهتدون بها في سيركم من مكان إلى مكان.

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ٢٣ ص ٤٦.

٦٩

كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (١).

ومما لا شك أن منظر السماء وهي مليئة بالنجوم ، يشرح الصدور ، ويؤنس النفوس ، وخصوصا للسائرين في فجاج الأرض ، أو ظلمات البحر.

قوله ـ سبحانه ـ : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) بيان لما أحاط به ـ سبحانه ـ السماء الدنيا من حفظ ورعاية.

ولفظ «حفظا» منصوب على المصدرية بإضمار فعل قبله. أى وحفظناها حفظا ، أو معطوف على محل «بزينة».

والشيطان : كل متمرد من الجن والإنس والدواب. والمراد به هنا : المتمرد من الجن.

والمارد : الشديد العتو والخروج عن طاعة الله ـ تعالى ـ المتعرى من كل خير.

أى : إنا جعلنا السماء الدنيا مزينة بالكواكب وضيائها ، وجعلناها كذلك محفوظة من كل شيطان متجرد من الخير ، خارج عن طاعتنا ورحمتنا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) جملة مستأنفة لبيان حالهم عند حفظ السماء ، وبيان كيفية الحفظ ، وما يصيبهم من عذاب وهلاك إذا ما حاولوا استراق السمع منها.

ولفظ «يسّمّعون» بتشديد السين ـ وأصله يتسمعون. فأدغمت التاء في السين والضمير للشياطين ، وقرأ الجمهور (لا يَسَّمَّعُونَ) بإسكان السين.

قال صاحب الكشاف : الضمير في «لا يسمعون» لكل شيطان ، لأنه في معنى الشياطين ، وقرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله «يتسمعون». والتسمع : تطلب السماع. يقال : تسمع فسمع. أو فلم يسمع.

فإن قلت : أى فرق بين سمعت فلانا يتحدث ، وسمعت إليه يتحدث. وسمعت حديثه ، وإلى حديثه؟

قلت : المعدى بنفسه يفيد الإدراك ، والمعد بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك (٢).

والملأ في الأصل : الجماعة يجتمعون على أمر فيملئون النفوس هيبة ، والمراد بالملإ الأعلى هنا : الملائكة الذين يسكنون السماء.

__________________

(١) سورة الملك آية ٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٥.

٧٠

وسموا بذلك لشرفهم ، ولأنهم في جهة العلو ، بخلاف غيرهم فإنهم يسكنون الأرض.

وقوله : (وَيُقْذَفُونَ) من القذف بمعنى الرجم والرمي ، و (دُحُوراً) مفعولا لأجله ، أى : يقذفون لأجل الدّحور ، وهو الطرد والإبعاد ، مصدر دحره يدحره دحرا ودحورا : إذا طرده وأبعده.

والواصب : الدائم ، من الوصوب بمعنى الدوام ، يقال : وصب الشيء يصب وصوبا ، إذا دام وثبت ، ومنه قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أى : دائما ثابتا.

والمعنى : إنا زينا السماء الدنيا بنور الكواكب ، وحفظناها ـ بقدرتنا ورعايتنا ـ من كل شيطان متجرد من الخير ، فإن هذا الشيطان وأمثاله كلما حاولوا الاستماع إلى الملائكة في السماء ، لم نمكنهم من ذلك ، بل قذفناهم ورجمناهم بالشهب والنيران من كل جانب من جوانب السماء ، من أجل أن ندمرهم ونطردهم ونبعدهم عنها ، ولهم منا ـ فوق كل ذلك ـ عذاب دائم ثابت لا نهاية له.

وقوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من الواو في «يسمعون» و «من» في محل بدل من الواو.

والخطف : الأخذ للشيء بسرعة وخفية واختلاس وغفلة من المأخوذ منه.

أى : لا يسمع الشياطين إلى الملأ الأعلى ، إلا الشيطان الذي خطف الخطفة من كلام الملائكة بسرعة وخفة ، فيما يتفاوضون فيه من أحوال البشر ـ دون ما يتعلق بالوحي ـ فإنه في هذه الحالة يتبع هذا الشيطان ويلحقه (شِهابٌ ثاقِبٌ) أى : شعلة من النار تثقب الجو بضوئها فتهلكه وتحرقه وتثقبه وتمزقه.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (١).

ومما يدل على أن استراقهم للسمع ، واختطافهم للخطفة ، إنما يكون في غير الوحى ، قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : كانت للشياطين مقاعد في السماء فكانوا يستمعون الوحى قال : وكانت النجوم لا تجرى ، وكانت الشياطين لا ترمى. قال : فإذا سمعوا الوحى نزلوا إلى الأرض ، فزادوا في الكلمة تسعا. قال : فلما بعث رسول

__________________

(١) سورة الجن الآيتان ٨ ، ٩.

(٢) سورة الشعراء الآية ٢١٢.

٧١

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل الشيطان إذا قعد مقعده ، جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه (١).

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخ المنكرين للبعث والحساب ، وحكى جانبا من أقوالهم الباطلة حول هذه القضية ، ورد عليهم ردا يزهق باطلهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢١)

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاسْتَفْتِهِمْ ..) هي الفصيحة ، والاستفتاء : الاستخبار عن الشيء ومعرفة وجه الصواب فيه.

والمراد من الاستفهام في الآية : توبيخ المشركين على إصرارهم على شركهم وجهلهم. وتعجيب العقلاء من أحوالهم.

واللازب : أى : الملتصق بعضه ببعض. يقال : لزب الشيء يلزب لزبا ولزوبا ، إذا تداخل بعضه في بعض ، والتصق بعضه ببعض. والطين اللازب : هو الذي يلزق باليد ـ مثلا ـ إذا ما التقت به قال النابغة الذبياني :

فلا تحسبون الخير لا شر بعده

ولا تحسبون الشر ضربة لازب

أى : ضربة ملازمة لا مفارقة لها.

والمعنى : إذا كان الأمر كما أخبرناك أيها الرسول الكريم ـ من أن كل شيء في هذا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥.

٧٢

الكون يشهد بوحدانيتنا وقدرتنا ، فاسأل هؤلاء المشركين «أهم أشد خلقا» أى : أهم أقوى خلقة وأمتن بنية ، وأضخم أجسادا .. «أم من خلقنا» من ملائكة غلاظ شداد ، ومن سماوات طباق ، ومن أرض ذات فجاج.

لا شك أنهم لن يجدوا جوابا يردون به عليك ، سوى قولهم : إن خلق الملائكة والسموات والأرض. أشد من خلقنا.

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إشارة إلى المادة الأولى التي خلقوا منها في ضمن خلق أبيهم آدم ـ عليه‌السلام ـ.

أى : إنا خلقناهم من طين ملتصق بعضه ببعض ، ومتداخل بعضه في بعض.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ساقت دليلين واضحين على صحة البعث الذي أنكره المشركون.

أما الدليل الأول فهو ما يعترفون به من أن خلق السموات والأرض والملائكة .. أعظم وأكبر منهم ... ومن كان قادرا على خلق الأعظم والأكبر كان من باب أولى قادرا على خلق الأقل والأصغر.

وقد ذكر ـ سبحانه ـ هذه الحقيقة في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١).

وأما الدليل الثاني فهو قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) وذلك لأن من خلقهم أولا من طين لازب ، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما.

إذ من المعروف لدى كل عاقل أن الإعادة أيسر من الابتداء. وقد قرر ـ سبحانه ـ هذه الحقيقة في آيات منها قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن حال هؤلاء المشركين تدعو إلى العجب فقال : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ).

قال الجمل : وقوله : (بَلْ عَجِبْتَ) إضراب إما عن مقدر دل عليه قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أى : هم لا يقرون بل عجبت ، وإما عن الأمر بالاستفتاء ، أى :

__________________

(١) سورة غافر الآية ٥٧.

(٢) سورة الروم الآية ٢٧.

٧٣

لا تستفتهم فإنهم معاندون ، بل انظر إلى تفاوت حالك وحالهم (١).

أى : بل عجبت ـ أيها الرسول الكريم ـ ومن حقك أن تعجب ، من إنكار هؤلاء الجاحدين لإمكانية البعث ، مع هذه الأدلة الساطعة التي سقناها لهم على أن البعث حق.

وجملة «يسخرون» حالية. أى : والحال أنهم يسخرون من تعجبك ومن إنكارك عليهم ذلك ، ومن إيمانك العميق بهذه الحقيقة ، حتى إنك لترددها على مسامعهم صباح مساء.

قال الآلوسى : وقرأ حمزة والكسائي : (بَلْ عَجِبْتَ) ـ بضم التاء ـ .. وأولت هذه القراءة بأن ذلك من باب الفرض ، أى : لو كان العجب مما يجوز علىّ لعجبت من هذه الحال.

ثم قال : والذي يقتضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل للسبب ، ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب ، وهو في الله ـ تعالى ـ بمعنى يليق لذاته ـ تعالى ـ وهو ـ سبحانه ـ أعلم به ، فلا يعينون معناه (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) بيان لشدة تماديهم في الباطل ، وإصرارهم عليه.

أى : أن هؤلاء القوم من دأبهم ومن صفاتهم الملازمة لهم ، أنهم إذا وعظوا بما ينفعهم لا يتعظون ، وإذا رأوا آية واضحة في دلالتها على الحق (يَسْتَسْخِرُونَ) أى : يبالغون في السخرية وفي الاستهزاء بها ، يقال : استسخر القوم من الشيء ، إذا استدعى بعضهم بعضا للاستهزاء به.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم لا يكتفون بالسخرية ، بل قالوا أقوالا تدل على جحودهم وجهلهم ، فقال ـ تعالى ـ (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

أى : وقالوا ـ على سبيل الجحود والعناد ـ ما هذا الذي أتانا به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا سحر واضح بين ، ولا يشك أحد منا في كونه كذلك.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ).

أى : أنهم لم يكتفوا بقولهم : إن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر واضح ، بل أضافوا إلى ذلك على سبيل المبالغة في الإنكار لما جاءهم به قولهم : أإذا متنا وانتهت حياتنا ووضعنا في قبورنا ، وصرنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون أيضا؟.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٣٢.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٧٧.

٧٤

ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله ـ تعالى ـ التي لا يعجزها شيء. والتي من آثارها إيجادهم من العدم.

ولذا لقن الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يخرس ألسنتهم فقال : (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ).

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ ستبعثون أنتم وآباؤكم الأقدمون ، وأنتم جميعا (داخِرُونَ) أى : صاغرون مستسلمون ، لا تستطيعون التأخر أو التردد .. يقال : دخر الشخص يدخر ـ بفتح الخاء ـ دخورا ، إذا ذل وصغر وهان.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن بعثهم من قبورهم إنما يقع بصيحة واحدة فقال : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ).

والزجرة واحدة من الزجر ، يقال : زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها ، ومنعها من شيء معين. والضمير راجع إلى البعثة المدلول عليها بسياق الكلام ، والفاء : هي الفصيحة.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا. فإنما بعثهم من مرقدهم يكون بصيحة واحدة يصيحها إسرافيل فيهم بأمرنا ، فإذا هم قيام من قبورهم ينظرون إلى ما حولهم في ذهول ، وينتظرون في استسلام وذلة حكم الله ـ تعالى ـ فيهم.

والمراد بهذه الزجرة : النفخة الثانية التي يقوم بها إسرافيل بأمر الله ـ تعالى ـ كما قال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

والتعبير عن الصيحة بالزجرة للدلالة على شدتها وعنفها على هؤلاء المشركين ، وأنها قد أتتهم ممن لا يستطيعون معصية أمره.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوالهم بعد هذه الزجرة فقال : (وَقالُوا يا وَيْلَنا) أى : وقالوا بعد أن خرجوا من قبورهم في ذهول : (يا وَيْلَنا) أى : يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.

وقوله : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) يصح أن يكون من كلام بعضهم مع بعض بعد أن رأوا أن ما كانوا ينكرونه ، قد أصبح حقيقة واقعة أمام أعينهم.

أى : قال بعضهم لبعضهم في ذعر وفزع : يا ويلنا هذا يوم الجزاء على الأعمال. الذي كنا ننكره في الدنيا ، قد أصبح حقيقة ماثلة أمام أعيننا.

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٨.

٧٥

ويصح أن يكون هو وما بعده ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من كلام الملائكة على سبيل التأنيب لهم.

أى : تقول لهم الملائكة : اطلبوا ما شئتم من الويل والهلاك ، فهذا اليوم هو يوم الجزاء على الأعمال ، وهو يوم الفصل والقضاء الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، وتستهزءون ممن يأمركم بحسن الاستعداد له ، وينذركم بسوء المصير إذا ما سرتم في طريق الكفر به ، والإنكار له.

ثم بين ـ سبحانه ـ حكمه العادل فيهم ، وصور أحوالهم البائسة تصويرا تقشعر من هوله الجلود ، وحكى جانبا من حسراتهم خلال تساؤلهم فيما بينهم فقال ـ تعالى ـ :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٩)

وقوله ـ تعالى ـ : (احْشُرُوا) من الحشر بمعنى الجمع مع السوق يقال : حشر القائد جنده حشرا ـ من باب قتل ـ إذا جمعهم. والمحشر : المكان الذي يجتمع فيه الخلائق.

٧٦

والمراد بالذين ظلموا : المشركون الذين أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة ، ومن الآيات التي وردت وأطلق فيها الظلم على الشرك والكفر ، قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وقوله ـ سبحانه ـ (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر الظلم بالشرك في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (١).

والمراد بأزواجهم : أشباههم ، ونظراؤهم وأمثالهم في الشرك والكفر ، وهذا التفسير مأثور عن عدد من الصحابة والتابعين ، منهم عمر بن الخطاب ، والنعمان بن بشير ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ومجاهد ، وأبو العالية.

وقيل المراد بأزواجهم. قرناؤهم من الشياطين ، بأن يحشر كل كافر مع شيطانه.

وقيل المراد بهم : نساؤهم اللائي كن على دينهم ، بأن كن مشركات في الدنيا كأزواجهن ، ويبدو لنا أن جميع من ذكروا محشور. والعياذ بالله. إلى جهنم ، إلا أن تفسير الأزواج هنا : بالأشباه والنظائر والأصناف أولى ، خصوصا وأن إطلاق الأزواج على الأصناف والأشباه جاء كثيرا في القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

والمراد بما كانوا يعبدونه : الآلهة الباطلة التي كانوا في الدنيا يعبدونها من دون الله ، كالأصنام والأوثان.

والأمر من الله ـ تعالى ـ للملائكة في هذا اليوم الشديد ، وهو يوم القيامة.

أى : احشروا واجمعوا الذين كانوا مشركين في الدنيا ، واجمعوا معهم كل من كان على شاكلتهم في الكفر والضلال ، ثم اجمعوا معهم ـ أيضا ـ آلهتهم الباطلة التي عبدوها من دون الله ـ تعالى ـ ثم ألقوا بها جميعا في جهنم ، ليذوقوا سعيرها وحرها.

وفي حشر الآلهة الباطلة مع عابديها ، زيادة تحسير وتخجيل لهؤلاء العابدين لأنهم رأوا بأعينهم بطلان وخسران ما كانوا يفعلونه في الدنيا.

والضمير في قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) يعود إلى المشركين وأشباههم وآلهتهم. وقوله : (فَاهْدُوهُمْ) من الهداية بمعنى الدلالة على الشيء والإرشاد إليه.

أى : احشروهم جميعا إلى جهنم ، وعرفوهم طريقها إن كانوا لا يعرفونه ، وأروهم إياه إن كانوا لا يرونه.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٨٢.

٧٧

والتعبير بالهداية والصراط فيه ما فيه من التهكم بهم ، والتأنيب لهم فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : بما أنهم لم يهتدوا في الدنيا إلى الخير وإلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، فليهتدوا في الآخرة إلى صراط الجحيم.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) زيادة في توبيخهم وإذلالهم ، والوقف هنا : بمعنى الحبس.

قال القرطبي : يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا .. أى : احبسوهم ، وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم ، وفيه تقديم وتأخير أى : قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار .. (١) أى : واحبسوهم في موقف الحساب ، لأنهم مسئولون عما كانوا يقترفونه في الدنيا من عقائد زائفة ، وأفعال منكرة ، وأقوال باطلة.

ولا تعارض بين هذه الآية وأمثالها من الآيات التي صرحت بأن المجرمين يسألون يوم القيامة ، وبين آيات أخرى صرحت بأنهم لا يسألون كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ).

أقول لا تعارض بين هذه الآيات ، لأن في يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون في موقف ولا يسألون في آخر .. أو أن السؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع والسؤال المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار.

قوله ـ تعالى ـ : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) تقريع آخر لهم ، أى : ما الذي جعلكم في هذا اليوم عاجزين عن التناصر فيما بينكم ـ أيها الكافرون ـ مع أنكم في الدنيا كنتم تزعمون أنكم جميع منتصر؟

ثم أضرب ـ سبحانه ـ عما تقدم إلى بيان حالهم يوم القيامة فقال : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ).

والاستسلام : أصله طلب السلامة ، والمراد به هنا : الانقياد التام ، والخضوع المطلق. يقال : استسلم العدو لعدوه ، إذا انقاد له وخضع لأمره.

أى : ليسوا في هذا اليوم بقادرين على التناصر ، بل هم اليوم خاضعون ومستسلمون ، لعجزهم عن أى حيلة تنقذهم مما هم فيه من بلاء.

ثم يحكى ـ سبحانه ـ ما يدور بينهم من مجادلات يوم القيامة فيقول : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٧٤.

٧٨

ويبدو أن التساؤل والتجادل هنا ، يكون بين الأتباع والمتبوعين ، أو بين العامة والزعماء.

كما تدل عليه آيات منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله الضعفاء للزعماء فقال : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) وللمفسرين في تأويل معنى اليمين هنا اتجاهات منها :

أن المراد باليمين هنا : الجهة التي هي جهة الخير واليمن : أى : قال الضعفاء للرؤساء : إنكم كنتم في الدنيا توهموننا وتخدعوننا بالبقاء على ما نحن عليه من عبادة الأصنام والأوثان ، لأن بقاءنا على ذلك فيه الخير واليمن والسلامة. فأين مصداق ما قلتموه لنا وقد نزل بنا ما نزل من أهوال وآلام؟

فالمقصود بالآية الكريمة بيان ما يقوله الأتباع للمتبوعين على سبيل الحسرة والندامة ، لأنهم خدعوا بوسوستهم ، وأصيبوا بالخيبة بسبب اتباعهم لهم.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما ، وكانوا يتيمنون بها ، فبها يصافحون ، ويماسحون ، ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور.

لما كانت كذلك استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أى من الخير وناحيته .. (٢).

ومنهم من يرى أن المراد باليمين هنا : اليمين الشرعية التي هي القسم ، وعن بمعنى الباء.

أى : قالوا لهم : إنكم كنتم في الدنيا تأتوننا بالأيمان المغلظة على أننا وأنتم على الحق فصدقناكم ، فأين نحن وأنتم الآن من هذه الأيمان المغلظة؟ لقد ظهر كذبها وبطلانها ، وأنتم اليوم مسئولون عما نحن فيه من كرب.

ومنهم من يرى أن المراد باليمين هنا : القوة والغلبة. أى : أنكم كنتم في الدنيا تجبروننا وتقسروننا على اتباعكم لأننا كنا ضعفاء وكنتم أقوياء.

والذي نراه أن الآية الكريمة تسع كل هذه الأقوال ، لأن الرؤساء أوهموا الضعفاء بأنهم على

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٣١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٩.

٧٩

الحق ، وأقسموا لهم على ذلك ، وهددوهم بالقتل أو الطرد إن هم اتبعوا ما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومقصود الضعفاء من هذا القول ، إلقاء المسئولية كاملة على الرؤساء ، توهما منهم أن هذا الإلقاء سيخفف عنهم شيئا من العذاب.

ثم يحكى القرآن بعد ذلك : أن الرؤساء قد ردوا عليهم بخمسة أجوبة.

أولها : (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أى : قال الرؤساء للأتباع : نحن لم نتسبب في كفركم في الدنيا ، بل أنتم الذين أبيتم الإيمان باختياركم ، وآثرتم عليه الكفر باختياركم ـ أيضا ـ فكفركم نابع من ذواتكم ، وليس من شيء خارج عنكم ، ولم يدخل الإيمان قلوبكم في وقت من الأوقات.

فالجملة الكريمة إضراب إبطالى من المتبوعين ، عما ادعاه التابعون.

وثانيها : يتجلى في قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أى : وما كان لنا عليكم من قوة أو غلبة تجبركم على البقاء في الكفر والضلال ، ولكنكم أنتم الذين رضيتم بالكفر عن اختيار واقتناع منكم به.

وثالثها قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أى : نحن لم يكن لنا سلطان عليكم ، بل أنتم الذين كنتم في الدنيا قوما طاغين وضالين مثلنا. والطغيان مجاوزة الحد في كل شيء.

ورابعها : نراه في قوله ـ سبحانه ـ : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) والفاء للتفريع على ما تقدم ، من كون الرؤساء لم يجبروا الضعفاء على البقاء في الكفر. أى : نحن وأنتم لم تكونوا مؤمنين أصلا. فكانت نتيجتنا جميعا ، أن استحققنا العذاب ، وأن لزمنا ما توعدنا به خالقنا من ذوق العذاب ، جزاء كفرنا وشركنا به ـ تعالى ـ.

وخامس هذه الأجوبة : بينه ـ سبحانه ـ في قوله ـ حكاية عنهم ـ : (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).

أى : فدعوناكم للغواية والضلالة دعوة غير ملجئة ، فاستجبتم لنا باختياركم الغي على الرشد (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) مثلكم ، فلا تلومونا ولوموا أنفسكم فنحن ما أجبرناكم على اتباعنا ولكن أنتم الذين اتبعتمونا باختياركم.

وهكذا رد الرؤساء على الضعفاء فيما اتهموهم به من أنهم السبب فيما حل بهم من عذاب أليم يوم القيامة.

٨٠