التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

(وَكانُوا يَتَّقُونَ) أى : يتقون الله ـ تعالى ـ ، ويصونون أنفسهم عن كل ما لا يرضيه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة ، يوم تشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ، يوم يعلمون أن ما جاءهم به رسلهم حق لا ريب فيه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢٤)

والظرف في قوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) متعلق بمحذوف تقديره : اذكر.

وقوله ، (يُوزَعُونَ) من الوزع وأصله الكف ، تقول : وزع فلان فلانا عن الشيء ، أى : كفه ومنعه عنه. ومنه قول الشاعر :

ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى

من الناس ، إلا وافر العقل كامله

والمراد هنا : أن يكف أولهم ويمنع عن التحرك حتى يرد آخرهم فيلحق بأولهم ، بحيث

٣٤١

يجتمعون جميعا للحساب ثم يدعون إلى نار جهنم.

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل ـ يوم يحشر أعداء الله جميعا إلى النار ، بعد أن حوسبوا على أعمالهم السيئة (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أى : فهم يحبسون في هذا اليوم العصيب حتى يلحق آخرهم بأولهم ، ويكفون جميعا عن الحركة حتى يقضى الله ـ تعالى ـ بقضائه العادل فيهم.

والتعبير بقوله : (أَعْداءُ اللهِ) يدل على ذمهم ، وعلى أن ما أبهم من عذاب مهين. إنما هو بسبب عداوتهم لله ـ تعالى ـ ولرسله ـ صلوات الله عليهم ـ ، حيث أعرضوا عن الحق الذي جاءهم به الرسل من عند ربهم.

والتعبير بقوله (يُوزَعُونَ) يشعر بأنهم يحبسون ويمنعون عن الحركة بغلظة وزجر.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوالهم عند ما يعرضون على النار فقال : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

والمراد بشهادة هذه الأعضاء عليهم : أنها تنطق ـ بإذن الله ـ تعالى ـ وتخبر بما اجترحوه من سيئات ، وبما فعلوه من قبائح.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : «فإن قلت «ما» في قوله : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) ما هي؟.

قلت : مزيدة للتأكيد ، ومعنى التأكيد فيها : أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها ...

فإن قلت : كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟.

قلت : الله ـ عزوجل ـ ينطقها ... بأن يخلق فيها كلاما ..

وشهادة الجلود بالملامسة للحرام ، وما أشبه ذلك مما يفضى إليها من المحرمات. وقيل : المراد بالجلود الجوارح ـ وقيل : هو كناية عن الفروج ..» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقوله هؤلاء الكافرون لجوارحهم على سبيل التوبيخ والتعجيب فقال : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ..).

أى : وقال هؤلاء الكافرون لجلودهم التي تشمل جميع جوارحهم بتعجب وذهول : لما ذا شهدتم علينا مع أننا ما دافعنا إلا عنكم. لكي ننقذكم من النار؟.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٩٥.

٣٤٢

وهنا ترد عليهم جوارحهم بقولها ـ كما حكى سبحانه عنها ـ (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ..).

أى : قالوا في الرد عليهم : أنطقنا الله ـ تعالى ـ الذي أنطق كل شيء بقدرته التي لا يعجزها شيء (وَهُوَ) ـ سبحانه ـ الذي (خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ولم تكونوا شيئا مذكورا.

(وَإِلَيْهِ) وحده (تُرْجَعُونَ) فيحاسبكم على أعمالكم ، ويحكم فيكم بحكمه العادل.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث ، منها ما جاء عن أنس ابن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم وتبسم فقال : «ألا تسألون عن أى شيء ضحكت»؟ قالوا : يا رسول الله ، من أى شيء ضحكت؟ قال : «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أى ربي ، أليس قد وعدتني أن لا تظلمني؟ قال : بلى. فيقول : فإنى لا أقبل على شاهدا إلا من نفسي. فيقول الله ـ تعالى ـ : أو ليس كفى بي شهيدا. وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال : فيردد هذا الكلام مرارا قال : فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل. فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أجادل» (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقال لهؤلاء الكافرين يوم القيامة من جهته ـ تعالى ـ أو من جهة جوارحهم التي شهدت عليهم فقال ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ).

وقوله : (تَسْتَتِرُونَ) من الاستتار بمعنى الاستخفاء ، «وما» نافية. وقوله : (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ..) في موضع نصب على نزع الخافض أى : من أن يشهد عليكم .. أو مفعول لأجله.

أى : مخافة أو خشية أن يشهد عليكم سمعكم.

والمعنى : أن جوارحهم تقول لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت : أنتم ـ أيها الكافرون ـ لم تكونوا في الدنيا تخفون أعمالكم السيئة ، خوفا من أن نشهد عليكم ولكنكم كنتم تخفونها

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٥٩.

(٢) سورة يس الآية ٦٥.

٣٤٣

لاعتقادكم أن الله ـ تعالى ـ لا يعلم ما تخفونه من أعمالكم ، ولكنه يعلم ما تظهرونه منها.

وما حملكم على هذا الاعتقاد الباطل إلا جهلكم بصفات الله ـ تعالى ـ وكفركم باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء ، واستبعادكم أننا سنشهد عليكم.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ...) يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم ، ويجوز أن يكون من قول الله ـ تعالى ـ لهم ، أو الملائكة.

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ، قرشيان وثقفى ، ـ أى شخص من قبيلة ثقيف ـ أو ثقفيان وقرشي ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم. فقال أحدهم : أترون الله ـ تعالى ـ يسمع ما نقول : فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.

فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ).

فالآية الكريمة تنعى على المشركين جهالاتهم الفاضحة ، حيث ظنوا أن الله ـ تعالى ـ لا يعلم الكثير من أعمالهم ، وتنبه المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يعلموا أن الله ـ تعالى ـ معهم ، ولا يخفى عليه شيء من أقوالهم أو أفعالهم ، وأنه ـ سبحانه ـ يعلم السر ، وأخفى ورحم الله من قال :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت. ولكن قل : على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما يخفى عليك ، يغيب

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة ظن هؤلاء الكافرين الجاهلين فقال : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ).

و (ذلِكُمْ) اسم إشارة يعود إلى ظنهم السابق ، وهو مبتدأ ، وقوله (أَرْداكُمْ) خبره.

أى : وذلكم الظن الذي ظننتموه بربكم ، وهو أنه ـ سبحانه ـ لا يعلم كثيرا مما تعملونه سرا ، هذا الظن (أَرْداكُمْ) أى : أهلككم ، يقال ردى فلان ـ كصدى ـ إذا هلك (فَأَصْبَحْتُمْ) أيها الكافرون من الخاسرين لكل شيء في دنياكم.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا) عن العذاب (فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أى : فالنار هي المكان المعد لثوائهم فيه ، ولبقائهم به بقاء أبديا. يقال : ثوى فلان بالمكان إذا أقام به إقامة دائمة. (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أى : وإن يطلبوا الرضا عنهم ، فما هم من المرضى عنهم ، وإنما هم من المغضوب عليهم ، أو وإن يطلبوا منا الرجوع إلى ما يرضينا بأن نعيدهم

٣٤٤

إلى الدنيا ، فما هم من المجابين إلى ذلك.

قال القرطبي : وأصل الكلمة من العتب ـ بفتح العين وسكون التاء ـ وهي الموجدة ، يقال : عتب عليه يعتب ـ كضرب يضرب ـ إذا وجد عليه. فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ، قيل : عاتبه ، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب. والاسم العتبى ، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرى العاتب قال الشاعر :

فإن أك مظلوما فعبدا ظلمته

وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب (١)

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد بينت الأحوال السيئة التي يكون عليها الكافرون يوم القيامة ، والمجادلات التي تدور بينهم وبين جوارحهم في هذا اليوم العسير عليهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من الأسباب التي أوقعتهم في هذا المصير الأليم ، ومن الأقوال السيئة التي كانوا يتواصون بها فيما بينهم ، وعن عاقبة هذا التواصي الأثيم فقال ـ تعالى ـ :

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٥٤.

٣٤٥

قال الجمل ما ملخصه : قوله : (وَقَيَّضْنا ...) أى : سببنا وهيأنا وبعثنا لهم قرناء يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض. والقيض قشر البيض ..

والتقييض ـ أيضا ـ التيسير والتهيئة ، تقول قيضت لفلان الشيء ، أى : هيأته ويسرته له .. (١).

والقرناء : جمع قرين ، وهو الصديق الملازم للشخص الذي لا يكاد يفارقه ، وله تأثير عليه والمراد بما بين أيديهم : شهوات الدنيا وسيئاتها. والمراد بما خلفهم : ما يتعلق بالآخرة من بعث وحساب وثواب وعقاب.

والمعنى : إن حكمتنا قد اقتضت أن نهيئ ونسبب لهؤلاء المشركين قرناء سوء ، هؤلاء القرناء يزينون لهم القبيح من أعمال الدنيا التي يعيشون فيها ، كما يزينون لهم إنكار ما يتعلق بما خلفهم من أمور الآخرة ، كتكذيبهم بالبعث والحساب والجزاء.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) بيان لما ترتب على استجابتهم لقرناء السوء ، وانقيادهم لهم انقياد التابع للمتبوع.

أى : وثبت عليهم القول الذي قاله ـ سبحانه ـ لإبليس ، وتحقق مقتضاه وهو قوله ـ تعالى ـ : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣).

وقوله : (فِي أُمَمٍ) في محل نصب على الحال من الضمير في (عَلَيْهِمُ) أى : وثبت عليهم العذاب. حالة كونهم داخلين في جملة أمم كافرة جاحدة ، قد مضت من قبلهم ، وهذه الأمم منها ما هو من الجن ، ومنها ما هو من الإنس.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لكفار قريش ولغيرهم من الأمم السابقة التي هلكت على الكفر.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما تواصى به المشركون فيما بينهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٩.

(٢) سورة الزخرف الآيتان ٣٦ ، ٣٧.

(٣) سورة «ص» آية ٨٥.

٣٤٦

وقوله : (وَالْغَوْا فِيهِ) من اللغو ، وهو الكلام الساقط الذي لا فائدة فيه يقال : لغا فلان في كلامه يلغو ، إذا نطق بكلام ساقط لا خير فيه.

ويبدو أن هذا الكلام قد قاله الزعماء من كفار مكة لأتباعهم ، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال : قال أبو جهل ـ لأتباعه ـ : إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه ، حتى لا يدرى ما يقول.

أى : وقال زعماء الكفر لأتباعهم : لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولا تنصتوا إليه ، بل ابتعدوا عن قارئيه ، والغوا فيه أى : وأظهروا عند قراءته أصواتكم باللغو من القول ، كالتشويش على القارئ ، والتخليط عليه في قراءته بالتصفيق وبرفع الصوت بالخرافات والهذيان ..

(لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أى : لعلكم بعملكم هذا تتغلبون على المسلمين ، وتجعلونهم ينصرفون عن قراءة القرآن.

ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على خوفهم من تأثير القرآن في القلوب ، هذا التأثير الذي حمل كثيرا منهم عند سماعه على الدخول في الإسلام ونبذ الكفر والكافرين.

كما يدل على أنهم لعجزهم عن معارضته ، وعن الإتيان بسورة من مثله ، لجئوا إلى تلك الأساليب السخيفة ، لصرف الناس عن سماع القرآن الكريم.

وقد رد ـ سبحانه ـ على فعلهم هذا بما يناسبه من تهديد فقال : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

أى : فو الله لنجعلن الذين كفروا بهذا القرآن والذين شوشوا على قارئيه بالصياح والاستهزاء ، لنجعلنهم يذوقون العذاب الذي يهينهم ، ويحسون به إحساسا أليما. ولنجزينهم في الآخرة الجزاء المناسب لقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ ، فأفعل للزيادة المطلقة وقيل : إنه ـ سبحانه ـ لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوف ، وصلة الأرحام. وإكرام الضيف ... لأن هذه الأعمال قد حبطت بسبب كفرهم .. (١).

وقال الجمل في حاشيته : وفي هذا تعريض بمن لا يكون عند سماعه لكلام الله خاضعا خاشعا متفكرا متدبرا. وتهديد ووعيد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ١١٩.

٣٤٧

ويخلط عليه القراءة ، فانظر إلى عظمة القرآن المجيد ، وتأمل في هذا التغليظ والتشديد ، واشهد لمن عظمه وأجل قدره ، وألقى إليه السمع وهو شهيد ، بالفوز العظيم .. (١).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ ...) يعود إلى ما تقدم من العذاب الشديد المعد لهؤلاء الكافرين ، وهو مبتدأ ، وجملة (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) خبره.

وقوله (النَّارُ) بدل أو عطف بيان.

أى : ذلك العذاب الشديد الذي نذيقه للكافرين جزاء عادل لأعداء الله ، وهذا العذاب الشديد يتمثل في النار التي أعدها ـ سبحانه ـ لهم.

وجملة : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) مؤكدة لما قبلها. أى : لهم في تلك النار الإقامة الدائمة الباقية المستمرة ، فهي بمثابة الدار المهيأة لسكنهم الدائم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) بيان لحكم الله العادل فيهم.

أى : نجازيهم جزاء أليما بسبب جحودهم لآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق رسلنا.

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوالهم وهم يتقلبون في النار وحكى بعض أقوالهم التي يقولونها وهم في ذلك العذاب الأليم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) على من أضلوهم.

(رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) أى : قالوا يا ربنا أطلعنا على الفريقين اللذين زينوا لنا الكفر والفسوق والعصيان من أفراد الجن والإنس (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أى : أرنا إياهم لننتقم منهم ، بأن ندوسهما بأقدامنا احتقارا لهم ، وغضبا عليهم ، ليكونا بذلك في أسفل مكان من النار ، وفي أحقره وأكثرهم سعيرا. وهكذا تتحول الصداقة التي كانت بين الزعماء والأتباع في الدنيا ، إلى عداوة تجعل كل فريق يحتقر صاحبه ، ويتمنى له أسوأ العذاب.

وكعادة القرآن في المقارنة بين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، بعد الحديث عن سوء مصير الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٤ ص ٤١.

٣٤٨

الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)

والمعنى : إن الذين قالوا بكل صدق وإخلاص ربنا الله ـ تعالى ـ وحده ، لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا) أى : ثم ثبتوا على هذا القول ، وعملوا بما يقتضيه هذا القول من طاعة الله ـ تعالى ـ في المنشط والمكره ، وفي العسر واليسر ، ومن اقتداء برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل أحواله.

قال صاحب الكشاف : و (ثُمَ) لتراخى الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه. لأن الاستقامة لها الشأن كله. ونحوه قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته (١).

ولقد بين لنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الاستقامة على أمر الله جماع الخيرات ، ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله «قل لي في الإسلام قولا لا أسأل

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٩٨.

٣٤٩

عنه أحدا بعدك». قال : «قل آمنت بالله ثم استقم ...» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) بيان للآثار الطيبة التي تترتب على هذا القول المؤيد بالثبات على طاعة الله ـ تعالى ـ :

وتنزل الملائكة عليهم بهذه البشارات يشمل ما يكون في حياتهم عن طريق إلهامهم بما يشرح صدورهم ، ويطمئن نفوسهم ، كما يشمل تبشيرهم بما يسرهم عند موتهم وعند بعثهم.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال مجاهد : عند موتهم. وعن زيد بن أسلم : عند الموت ، وعند القبر ، وعند البعث ، وقيل : معنى (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ) يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغريهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح. (٢) والخوف : غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل.

والحزن : غم يلحقها لفوات نفع في الماضي.

أى : إن الذين قالوا ربنا الله باعتقاد جازم ، ثم استقاموا على طاعته في جميع الأحوال ، تتنزل عليهم من ربهم الملائكة ، لتقول لهم في ساعة احتضارهم وعند مفارقتهم الدنيا ، وفي كل حال من أحوالهم : لا تخافوا ـ أيها المؤمنون الصادقون ـ مما أنتم قادمون عليه في المستقبل ، ولا تحزنوا على ما فارقتموه من أموال أو أولاد.

(وَأَبْشِرُوا) عما قريب ، بالجنة التي كنتم توعدون بها في الدنيا.

ثم يقولون لهم ـ أيضا ـ على سبيل الزيادة في المسرة : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

أى : نحن نصراؤكم على الخير ، وأعوانكم على الطاعة في الحياة الدنيا التي توشكون على مفارقتها ، وفي الآخرة التي هي الدار الباقية ، سنتلقاكم فيها بالتكريم والترحاب.

(وَلَكُمْ فِيها) أى : في الدار الآخرة ، ما تشتهي أنفسكم ، من أنواع الطيبات التي أعدها لكم خالقكم في جناته.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٦٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ١٢١.

٣٥٠

(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أى : ما تتمنوه وتطلبونه ، فقوله (تَدَّعُونَ) افتعال من الدعاء بمعنى الطلب.

قوله ـ تعالى ـ : (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) حال من قوله : (ما تَدَّعُونَ) ، وأصل النزل : ما يقدم للضيف عند نزوله على المضيف من مأكل طيب ، ومشرب حسن ، ومكان فيه راحته.

أى : لكم في الدار الآخرة جميع ما تطلبونه وما تدعونه ، حال كون هذا المعطى لكم رزقا وضيافة مهيأة لكم من ربكم الواسع المغفرة والرحمة.

ثم سمت السورة الكريمة بعد ذلك بمنازل الذين يقومون بالدعوة إلى الحق بحكمة وإخلاص فقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

أى. لا أحد أحسن قولا ، وأعظم منزلة ، ممن دعا غيره إلى طاعة الله ـ تعالى ـ وإلى المحافظة على أداء ما كلفه به.

ولم يكتف بهذه الدعوة لغيره ، بل أتبع ذلك بالعمل الصالح الذي يجعل المدعوين يزدادون استجابة له.

(وَقالَ) : بعد كل ذلك على سبيل السرور والابتهاج والتحدث بنعمة الله (إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

أى : من الذين أسلموا وجوههم لله ـ تعالى ـ وأخلصوا له القول والعمل.

قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية ، أى : وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه لازم ومتعد ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه .. وهذه الآية عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد.

وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء ... والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم» (١).

ثم أرشد ـ سبحانه ـ إلى ما ينمى روح المحبة والمودة .. بين الداعي والمدعوين بصفة خاصة ، وبين المسلم وغيره بصفة عامة ، فقال : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).

أى : ولا تستوي الخصلة الحسنة ولا الخصلة السيئة ، لا في ذواتهما ولا في الآثار التي تترتب

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٦٨.

٣٥١

عليهما ، إذ الخصلة الحسنة جميلة في ذاتها ، وعظيمة في الآثار الطيبة التي تنتج عنها ، أما الخصلة السيئة فهي قبيحة في ذاتها وفي نتائجها.

وقوله ـ تعالى ـ : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إرشاد منه ـ تعالى ـ إلى ما يجب أن يتحلى به عباده المؤمنون.

أى : ما دامت الخصلة الحسنة لا تتساوى مع الخصلة السيئة ، فعليك ـ أيها المسلم ـ أن تدفع السيئة إذا جاءتك من المسيء ، بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، بأن تقابل ذنبه بالعفو ، وغضبه بالصبر ، وقطعه بالصلة وفظاظته بالسماحة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) بيان للآثار الجميلة التي تترتب على دفع السيئة بالحسنة.

والولي : هو الصديق المحب الشفيق عليك ، من الولي بمعنى القرب.

والحميم : يطلق في الأصل على الماء الحار ... والمراد به هنا : الصديق الصدوق معك.

أى : أنت إذا دفعت السيئة بالحسنة ، صار عدوك الذي أساء إليك ، كأنه قريب منك ، لأن من شأن النفوس الكريمة أنها تحب من أحسن إليها ، ومن عفا عنها ، ومن قابل شرها بالخير ، ومنعها بالعطاء.

ولما كانت هذه الأخلاق تحتاج إلى مجاهدة للنفس .. عقب ـ سبحانه ـ على هذه التوجيهات السامية بقوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

والضمير في (يُلَقَّاها) يعود إلى تلك الخصال الكريمة السابقة ، التي على رأسها الدفع بالتي هي أحسن.

أى : وما يستطيع القيام بتلك الأخلاق العظيمة التي على رأسها الدعوة إلى الله ومقابلة السيئة بالحسنة .. إلا الذين صبروا على المكاره وعلى الأذى.

وما يستطيعها ـ أيضا ـ إلا صاحب الحظ الوافر ، والنصيب الكبير ، من توفيق الله ـ تعالى ـ له إلى مكارم الأخلاق.

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها قد رسمت للمسلم أحكم الطرق ، وأفضل الوسائل ، التي ترفع درجته عند ـ خالقه ـ تعالى ـ.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ عباده إلى ما يبعدهم عن كيد الشيطان ، فقال : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

٣٥٢

والنزغ والنخس والغرز بمعنى واحد. وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا في الجلد. المراد به هنا : وسوسة الشيطان وكيده للإنسان.

والمعنى : وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة تثير غضبك ، وتحملك على خلاف ما أمرك الله ـ تعالى ـ به .. فاستعذ بالله ، أى : فالتجئ إلى حماه واستجر به من كيد الشيطان (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ هو السميع لدعائك ، العليم بكل أحوالك ، القادر على دفع كيد الشيطان عنك.

فالآية الكريمة ترشد المؤمن إلى العلاج الذي يحميه من وسوسة الشيطان وكيده ، ألا وهو الاستعاذة بالله السميع لكل شيء ، العليم بكل شيء القادر على كل شيء.

وبعد هذه البشارات الكريمة ، والتوجيهات الحكيمة للمؤمنين .. ساق ـ سبحانه ـ أنواعا من الأدلة الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

والمراد بالآيات في قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ ..) العلامات الدالة دلالة واضحة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته.

أى : ومن آياته على وحدانيته وقدرته ـ تعالى ـ وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وجود

٣٥٣

الليل والنهار والشمس والقمر بتلك الطريقة البديعة ، حيث إن الجميع يسير بنظام محكم ، ويؤدى وظيفته أداء دقيقا. كما قال ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

وقوله ـ تعالى ـ (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ..) نهى عن السجود لغيره ـ تعالى ـ وأمر بالسجود له وحده.

أى : لا تسجدوا ـ أيها الناس ـ للشمس ولا للقمر ، لأنهما ـ كغيرهما ـ من جملة مخلوقات الله ـ تعالى ـ ، واجعلوا طاعتكم وعبادتكم لله الذي خلق كل شيء في هذا الكون ، إن كنتم حقا تريدون أن تكون عبادتكم مقبولة عنده ـ عزوجل ـ.

فالآية الكريمة تقيم الأدلة على وجوب إخلاص العبادة لله ـ عزوجل ـ وتنهى عن عبادة غيره ـ تعالى ـ.

قال الجمل : هذا رد على قوم عبدوا الشمس والقمر ، وإنما تعرض للأربعة مع أنهم لم يعبدوا الليل والنهار ، للإيذان بكمال سقوط الشمس والقمر عن رتبة السجودية لهما ، بنظمهما في المخلوقية في سلك الأعراض التي لا قيام لها بذاتها ، وهذا هو السر في نظم الكل في سلك آياته.

وإنما عبر عن الأربع بضمير الإناث ـ مع أن فيها ثلاثة مذكرة ، والعادة تغليب المذكر على المؤنث ـ لأنه لما قال : ومن آياته ، فنظم الأربعة في سلك الآيات ، صار كل واحد منها آية فعبر عنها بضمير الإناث في قوله (خَلَقَهُنَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن استكبار الجاهلين عن عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، لن ينقص من ملكه شيئا فقال : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ، فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ).

أى : فإن تكبر هؤلاء الكافرون عن إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ فلا تحزن أيها الرسول الكريم ـ فإن الذين عند ربك من الملائكة. ينزهونه ـ تعالى ـ ويعبدونه عبادة دائمة بالليل والنهار وهم لا يسأمون ولا يملون ، لاستلذاذهم لتلك العبادة والطاعة ، وخوفهم من مخالفة أمره ـ عزوجل ـ.

فالآية الكريمة تهون من شأن هؤلاء الكافرين ، وتبين أنه ـ تعالى ـ في غنى عنهم وعن عبادتهم ؛ لأن عنده من مخلوقاته الكرام من يعبده بالليل والنهار بدون سأم أو كلل.

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٤ ص ٤٤.

٣٥٤

والمراد بالعندية في قوله ـ تعالى ـ (عِنْدَ رَبِّكَ) عندية المكانة والتشريف لا عندية المكان.

وقوله (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) تعليل لجواب الشرط المقدر ، أى : فإن استكبروا فدعهم وشأنهم فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ آية أخرى من آياته الدالة على وجوب إخلاص العبادة له فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ..).

و (خاشِعَةً) أى ، يابسة جدبة ، خشعت الأرض ، إذا أجدبت لعدم نزول المطر عليها وقوله : (اهْتَزَّتْ) أى : تحركت بالنبات قبل بروزه منها وبعد ظهوره على سطحها و (رَبَتْ) أى : انتفخت وعلت ، لأن النبات إذا قارب الظهور ترى الأرض ، ارتفعت له ، ثم تشققت عنه. يقال : ربا الشيء إذا زاد وعلا وارتفع ، ومنه الربوة للمكان المرتفع من الأرض.

أى : ومن آياته ـ تعالى ـ الدالة على وجوب العبادة له وحده ، أنك ـ أيها العاقل ـ ترى الأرض يابسة جامدة ، فإذا أنزلنا عليها بقدرتنا المطر ، تحركت بالنبات ، وارتفعت بسببه ، ثم تصدعت عنه.

وعنى ـ سبحانه ـ هنا بقوله (خاشِعَةً) لأن الحديث عن وجوب السجود لله ـ تعالى ـ وحده ، والحديث عن السجود والطاعة يناسبه الخشوع.

وفي سورة الحج قال ـ سبحانه ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ..) لأن الحديث هناك كان عن البعث ، وعن إمكانيته ، فناسب أن يعبر بالهمود الذي يدل على فقدان الحياة.

قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ..) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بيان لمظاهر قدرته ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآيتان ١٩ ، ٢٠.

(٢) سورة الحج الآية ٥.

٣٥٥

أى : إن الذي أحياها بنزول المطر عليها ، ويخرج النبات منها ، لقادر عن أن يحيى الموتى عن طريق البعث والنشور ، إنه ـ سبحانه ـ على كل شيء قدير.

وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة الله في هذا الكون ، جاءت الآيات بعد ذلك لتهديد الذين يلحدون في آياته ـ تعالى ـ ولتمدح القرآن الكريم ، ولتسلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه من أعدائه ، ولتبين أن من عمل صالحا فثمار عمله لنفسه ، ومن عمل سيئا فعلى نفسه وحده يجنى .. قال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦)

٣٥٦

وقوله ـ تعالى ـ (يُلْحِدُونَ) من الإلحاد وهو الميل عن الاستقامة ، والعدول عن الحق.

يقال ألحد فلان في كلامه إذا مال عن الصواب ، ومنه اللحد في القبر ، لأنه أميل إلى ناحية منه دون الأخرى.

والمعنى : إن الذين يميلون عن الحق في شأن آياتنا بأن يؤولوها تأويلا فاسدا ، أو يقابلوها باللغو فيها وعدم التدبر لما اشتملت عليه من توجيهات حكيمة ..

هؤلاء الذين يفعلون ذلك : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أى ليسوا بغائبين عن علمنا ، بل هم تحت بصرنا وقدرتنا ، وسنجازيهم بما يستحقون من عقاب مهما ألحدوا ومالوا عن الحق والصواب.

فالجملة تهديد لهم على تحريفهم الباطل لآيات الله ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ البون الشاسع بين عاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين ، فقال : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟.

والغرض من هذا الاستفهام بيان أن الذين يلحدون في آيات الله سيكون مصيرهم الإلقاء في النار ، وأن الذين استجابوا للحق وساروا على طريقه وهم المؤمنون ، سيأتون آمنين من الفزع يوم القيامة.

قال الآلوسى : «وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة ، لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل ، اعتناء بشأن المؤمنين ، لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ، ولذا عبر عن الأول بالإلقاء الدال على القهر والقسر ، وعبر عن الثاني بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا ، مع الأمن ودخول الجنة ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد آخر لهم على إلحادهم.

أى : اعملوا أيها الملحدون ما شئتم من أعمال قبيحة ، فإنها لا تخفى على خالقكم ـ عزوجل ـ ، لأنه بصير بكم ، ومطلع على أفعالكم ، وسيجازيكم عليها الجزاء العادل الذي تستحقونه.

فالمقصود من الأمر في قوله ـ تعالى ـ (اعْمَلُوا) التهديد والوعيد.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى ما سبق تهديدا ثالثا فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ).

وخبر «إن» هنا محذوف للعلم به مما سبق ، أى : إن الذين كفروا بالقرآن الكريم حين

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٢٧.

٣٥٧

جاءهم على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاسرون أو هالكون أو معذبون عذابا شديدا. (وَإِنَّهُ) أى : هذا القرآن الكريم هو الحق الذي جاءهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعل هذا التدبر يوصلهم إلى الهداية والرشاد (لَكِتابٌ عَزِيزٌ). أى : لكتاب منيع معصوم بعصمة الله ـ تعالى ـ له من كل تحريف أو تبديل.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا المعنى فقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أى : لا يستطيع الباطل أن يتطرق إليه من أى جهة من الجهات ، لا من جهة لفظه ولا من جهة معناه لأن الله ـ تعالى ـ تكفل بحفظه وصيانته ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما طعن فيه الطاعنون وتأوله المبطلون؟

قلت : بلى ، ولكن الله قد تكفل بحمايته عن تعلق الباطل به ، بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم ، وإفساد أقاويلهم. فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا ، ولا قول مبطل إلا مضمحلا. (١).

وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أى : هذا الكتاب منزل من لدن الله الحكيم في أقواله وأفعاله ، المحمود على ما أسدى لعباده من نعم لا تحصى.

ثم سلى ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أعدائه فقال : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ).

أى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ من الأقوال الباطلة التي قالها المشركون في حقك ، فإن ما قالوه في شأنك قد قاله السابقون عليهم في حق رسلهم.

فالآية الكريمة من أبلغ الآيات في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها كأنها تقول له ، إن ما أصابك من أذى قد أصاب إخوانك ، فاصبر كما صبروا.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٢).

ثم علل ـ سبحانه ـ هذه التسلية وهذا التوجيه بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٠٢.

(٢) سورة الذاريات الآيتان ٥٢ ، ٥٣.

٣٥٨

أى : ما يقال لك إلا مثل ما قيل لإخوانك من قبلك ، ومادام الأمر كذلك. فاصبر كما صبروا ، إن ربك الذي تولاك بتربيته ورعايته ، لذو مغفرة عظيمة لعباده المؤمنين وذو عقاب أليم للكفار المكذبين.

ثم رد ـ سبحانه ـ على بعض الشبهات التي أثاروها حول القرآن الكريم ردا يخرس ألسنتهم فقال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ..).

والأعجمي : يطلق على الكلام الذي لا يفهمه العربي ، كما يطلق على من لا يحسن النطق بالعربية. وقوله : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) خبر لمبتدأ محذوف.

أى : ولو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم كما قالوا : هلا أنزل هذا القرآن بلغة العجم.

لو فعلنا ذلك ـ كما أرادوا ـ لقالوا مرة أخرى على سبيل التعجب : هلا فصلت ووضحت آيات هذا الكتاب بلغة نفهمها؟ ثم لأضافوا إلى التعجب والإنكار ، تعجبا آخر فقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربي؟.

ومقصدهم من هذه الشبهة الداحضة ، إنما هو إنكار الإيمان به سواء أنزل بلغة العرب أم بلغة العجم.

فهم عند نزوله عربيا قالوا من بين ما قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، ولو نزل بلسان أعجمى ، لاعترضوا وقالوا : هلا نزل بلسان عربي نفهمه.

ولو جعلنا بعضه أعجميا وبعضه عربيا لقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربي.

وهكذا المعاندون الجاحدون لا يقصدون من وراء جدالهم إلا التعنت والسفاهة.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بالرد الذي يكبتهم فقال : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ..).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاحدين : هذا القرآن هو للذين آمنوا إيمانا حقا هداية إلى الصراط المستقيم ، وشفاء لما في الصدور من أسقام.

كما قال ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ..).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف الكافرين من هذا الكتاب فقال : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أى : بهذا الكتاب ، وبمن نزل عليه الكتاب.

(فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أى : في آذانهم صمم عن سماع ما ينفعهم.

٣٥٩

(وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أى : وهذا القرآن عميت قلوبهم عن تدبره وعن الاهتداء به.

وقوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ذم شنيع لهم على إعراضهم عن هذا القرآن الذي ما أنزله الله ـ تعالى ـ إلا لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

أى : أولئك الكافرون الذين لم ينتفعوا بالقرآن مثلهم في صممهم وانطماس بصائرهم ، كمثل من يناديه مناد من مكان بعيد ، فهو لا يسمع منه شيئا ، ولا يعقل عنه شيئا ، لوجود المسافة الشاسعة بين المنادى ، وبين من وقع عليه النداء.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل.

وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم : أنت تسمع من قريب ، ويقال للذي لا يفهم : أنت تنادى من بعيد أى : كأنه ينادى من موضع بعيد منه ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وقال الضحاك : (يُنادَوْنَ) يوم القيامة بأقبح أسمائهم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فيكون ذلك لتوبيخهم وفضيحتهم .. (١).

ومن يتدبر هذه الآية الكريمة يرى مصداقها في كل زمان ومكان ، فهناك من ينتفع بهذا القرآن قراءة وسماعا وتطبيقا .. وهناك من يستمعون إلى هذا القرآن ، فلا يزيدهم إلا صمما ، ورجسا إلى رجسهم وعمى على عماهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ زيادة في التسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن اختلاف الأمم في شأن ما جاء به الرسل شيء قديم فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ..).

أى : ولقد آتينا نبينا موسى ـ عليه‌السلام ـ كتابه التوراة ليكون هداية ونورا لقومه ، فاختلفوا في شأن هذا الكتاب ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ وهي ألا يعذب المكذبين من أمتك في الدنيا عذابا يستأصلهم ويهلكهم.

لو لا ذلك (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أى : لأهلكهم كما أهلك السابقين من قبلهم.

(وَإِنَّهُمْ) أى : كفار قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أى : لفي شك من هذا القرآن وريبة من أمره ، جعلهم يعيشون في قلق واضطراب.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٧١.

٣٦٠