التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

ونسب ـ سبحانه ـ القول إليهم جميعا مع أن القائل هو النضر بن الحارث ، أو أبو جهل .. لأنهم قد رضوا بهذا القول ، ولم يعترضوا على قائله.

وقيل المراد بقوله ـ تعالى ـ : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ..) أى : صحائف أعمالنا لننظر فيها قبل يوم الحساب.

وقيل المراد به : نصيبهم من الجنة أى : عجل لنا نصيبنا من الجنة التي وعد رسولك بها أتباعه ، وأعطنا هذا النصيب في الدنيا قبل يوم الحساب لأننا لا نؤمن بوقوعه.

وعلى جميع الأقوال ، فالمراد بيان أنهم قوم قد بلغ بهم التطاول والغرور منتهاه ، حيث استهزءوا بيوم الحساب ، وطلبوا تعجيل نزول العذاب بهم في الدنيا ، بعد أن سمعوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عقوبتهم مؤجلة إلى الآخرة ..

قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢).

ثم واصلت السورة الكريمة تسليتها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أمرته بالصبر ، وذكرت له ـ بشيء من التفصيل ـ قصص بعض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وبدأت بقصة داود ـ عليه‌السلام ـ الذي آتاه الله الملك والنبوة قال ـ تعالى ـ :

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٢٣.

(٢) سورة الحج الآية ٤٧.

١٤١

خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : اصبر ـ أيها الرسول الكريم ـ على ما قاله أعداؤك فيك وفي دعوتك لقد قالوا عنك إنك ساحر ومجنون وكاهن وشاعر .. وقالوا عن القرآن الكريم : إنه أساطير الأولين .. وقالوا في شأن دعوتك إياهم إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ..

وقالوا غير ذلك مما يدل على جهلهم وجحودهم للحق ، وعليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تصبر على ما صدر منهم من أباطيل ، فإن الصبر مفتاح الفرج ، وهو الطريق الذي سلكه كل نبي من قبلك ..

وقال ـ سبحانه ـ : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) بصيغة المضارع ، لاستحضار الصورة الماضية. وللإشعار بأن ما قالوه في الماضي سيجددونه في الحاضر وفي المستقبل فعليه أن بعد

١٤٢

نفسه لاستقبال هذه الأقوال الباطلة بصبر وسعة صدر حتى يحكم الله ـ تعالى ـ بحكمه العادل ، بينه وبينهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) معطوف على جملة «اصبر» ..

وداود ـ عليه‌السلام ـ : هو ابن يسى من سبط «يهوذا» بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وكانت ولادة داود في حوالى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وقد منحه الله ـ تعالى ـ النبوة والملك.

وقوله ـ تعالى ـ : (ذَا الْأَيْدِ) صفة لداود ، والأيد : القوة. يقال : آد الرجل يئيد أيدا وإيادا ، إذا قوى واشتد عوده ، فهو أيّد. ومنه قولهم في الدعاء : أيدك الله. أى : قواك و (أَوَّابٌ) صيغة مبالغة من آب إذا رجع.

أى : اصبر ـ أيها الرسول الكريم ـ على أذى قومك حتى يحكم الله بينك وبينهم واذكر ـ لتزداد ثباتا وثقة ـ قصة وحال عبدنا داود ، صاحب القوة الشديدة في عبادتنا وطاعتنا وفي دحر أعدائنا .. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أى : كثير الرجوع إلى ما يرضينا.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله ونعمه على عبده داود ـ عليه‌السلام ـ فقال : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ...).

والعشى : الوقت الذي يكون من الزوال إلى الغروب أو إلى الصباح. والإشراق : وقت إشراق الشمس ، أى : سطوعها وصفاء ضوئها ، قالوا : وهو وقت الضحى ..

فالإشراق غير الشروق ، لأن الشروق هو وقت طلوع الشمس. وهو يسبق الإشراق أى : إن من مظاهر فضلنا على عبدنا داود ، أننا سخرنا وذللنا الجبال معه ، بأن جعلناها بقدرتنا تقتدى به فتسبح بتسبيحه في أوقات العشى والإشراق.

وقال ـ سبحانه ـ (مَعَهُ) للإشعار بأن تسبيحها كان سبيل الاقتداء به في ذلك.

أى : أنها إذا سمعته يسبح الله ـ تعالى ـ ويقدسه وينزهه ، رددت معه ما يقوله.

وهذا التسبيح من الجبال لله ـ تعالى ـ إنما هو على سبيل الحقيقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو ـ عزوجل ـ بدليل قوله ـ سبحانه ـ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١).

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٤٤.

١٤٣

والقول بأن تسبيح الجبال كان بلسان الحال ضعيف لأمور منها : المخالفة لظاهر ما تدل عليه الآية من أن هناك تسبيحا حقيقيا بلسان المقال ، ومنها : أن تقييد التسبيح بكونه بالعشي والإشراق. وبكونه مع داود ، يدل على أنه تسبيح بلسان المقال ، إذ التسبيح بلسان الحال موجود منها في كل وقت ، ولا يختص بكونه في هذين الوقتين أو مع داود.

وخص ـ سبحانه ـ وقتى العشى والإشراق بالذكر. للإشارة إلى مزيد شرفهما ، وسمو درجة العبادة فيهما.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ...) معطوف على الجبال وكلمة محشورة : بمعنى مجموعة. وهي حال من الطير. والعامل قوله (سَخَّرْنَا).

أى : إنا سخرنا الجبال لتسبح مع داود عند تسبيحه لنا ، كما سخرنا الطير وجمعناها لتردد معه التسبيح والتقديس لنا.

والتعبير بقوله (مَحْشُورَةً) يشير إلى أن الطير قد حبست وجمعت لغرض التسبيح معه ، حتى لكأنها تحلق فوقه ولا تكاد تفارقه من شدة حرصها على تسبيح الله ـ تعالى ـ وتقديسه.

وجملة «كل له أواب» مقررة لمضمون ما قبلها من تسبيح الجبال والطير.

واللام في «له» للتعليل ، والضمير يعود إلى داود ـ عليه‌السلام ـ.

أى : كل من الجبال والطير. من أجل تسبيح داود ، كان كثير الرجوع إلى التسبيح. ويصح أن يكون الضمير يعود إلى الله ـ تعالى ـ فيكون المعنى : كل من داود والجبال والطير ، كان كثير التسبيح والتقديس والرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بما يرضيه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أى : قوينا ملك داود ، عن طريق كثرة الجند التابعين له ، وعن طريق ما منحناه من هيبة ونصرة وقوة ..

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أى : النبوة ، وسعة العلم ، وصالح العمل ، وحسن المنطق.

(وَفَصْلَ الْخِطابِ) أى : وآتيناه أيضا الكلام البليغ الفاصل بين الحق والباطل ، وبين الصواب والخطأ ، ووفقناه للحكم بين الناس بطريقة مصحوبة بالعدل ، وبالحزم الذي لا يشوبه تردد أو تراجع.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يشهد لعبده داود بذلك فقال : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ).

والاستفهام للتعجيب والتشويق لما يقال بعده ، لكونه أمرا غريبا تتطلع إلى معرفته النفس.

والنبأ : الخبر الذي له أهمية في النفوس ..

١٤٤

والخصم : أى المتخاصمين أو الخصماء. وهو في الأصل مصدر خصمه أى : غلبه في المخاصمة والمجادلة والمنازعة ، ولكونه في الأصل مصدرا صح إطلاقه على المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث .. قالوا : وهو مأخوذ من تعلق كل واحد من المتنازعين بخصم الآخر.

أى : بجانبه ..

والظرف في قوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) متعلق بمحذوف. والتسور : اعتلاء السور ، والصعود فوقه ، إذ صيغة التفعل تفيد العلو والتصعد. كما يقال تسنم فلان الجمل ، إذ علا فوق سنامه.

والمحراب : المكان الذي كان يجلس فيه داود ـ عليه‌السلام ـ للتعبد وذكر الله ـ تعالى ـ.

والمعنى : وهل وصل إلى علمك ـ أيها الرسول الكريم ـ ذلك النبأ العجيب ، ألا وهو نبأ أولئك الخصوم ، الذين تسلقوا على داود غرفته ، وقت أن كان جالسا فيها لعبادة ربه ، دون إذن منه ، ودون علم منه بقدومهم ..

إن كان هذا النبأ العجيب لم يصل إلى علمك ، فها نحن نقصه عليك.

وقوله : (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ...) بدل مما قبله. والفزع : انقباض في النفس يحدث للإنسان عند توقع مكروه.

أى : أن هؤلاء الخصوم بعد أن تسوروا المحراب ، دخلوا على داود ، فخاف منهم ، لأنهم أتوه من غير الطريق المعتاد للإتيان وهو الباب ، ولأنهم أتوه في غير الوقت الذي حدده للقاء الناس وللحكم بينهم ، وإنما أتوه في وقت عبادته.

ومن شأن النفس البشرية أن تفزع عند ما تفاجأ بحالة كهذه الحالة.

قال القرطبي : فإن قيل : لم فزع داود وهو نبي ، وقد قويت نفسه بالنبوة واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟

قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ، ومنهما كان يخاف.

ألا ترى إلى موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ كيف قالا : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ـ أى : فرعون ـ ، فقال الله لهما : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى ..) (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٧٠.

١٤٥

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله أولئك الخصوم لداود عند ما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع ، فقال : (قالُوا لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) ..

والبغي : الجور والظلم ... وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد.

والشطط : مجاوزة الحد في كل شيء. يقال : شط فلان على فلان في الحكم واشتط .. إذا ظلم وتجاوز الحق إلى الباطل.

وقوله : (خَصْمانِ) خبر لمبتدأ محذوف أى : نحن خصمان. والجملة استئناف معلل للنهى في قولهم : «لا تخف». أى : قالوا لداود : لا تخف ، نحن خصمان بغى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالحكم الحق ، ولا تتجاوزه إلى غيره ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أى : وأرشدنا إلى الطريق الوسط ، وهو طريق الحق والعدل.

وإضافة سواء الصراط ، من إضافة الصفة الى الموصوف.

ثم أخذا في شرح قضيتهما فقال أحدهما : «إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب».

والمراد بالأخوة هنا : الأخوة في الدين أو في النسب ، أو فيهما وفي غيرهما كالصحبة والشركة.

والنعجة : الأنثى من الضأن. وتطلق على أنثى البقر.

وقوله : (أَكْفِلْنِيها) أى : ملكني إياها ، وتنازل لي عنها ، بحيث تكون تحت كفالتى وملكيتى كبقية النعاج التي عندي ، ليتم عددها مائة.

وقوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أى : غلبني في المحاجة والمخاطبة لأنه أفصح وأقوى منى .. يقال : فلان عز فلانا في الخطاب ، إذا غلبه. ومنه قولهم في المثل : من عزّ بزّ. أى : من غلب غيره سلبه حقه. أى : قال أحدهما لداود ـ عليه‌السلام ـ : إن هذا الذي يجلس معى للتحاكم أمامك أخى. وهذا الأخ له تسع وتسعون نعجة ، أما أنا فليس لي سوى نعجة واحدة ، فطمع في نعجتى وقال لي : «أكفلنيها» أى : ملكنيها وتنازل عنها «وعزنى في الخطاب».

أى : وغلبني في مخاطبته لي ، لأنه أقوى وأفصح منى.

وأمام هذه القضية الواضحة المعالم ، وأمام سكوت الأخ المدعى عليه أمام أخيه المدعى ،

١٤٦

وعدم اعتراضه على قوله .. أمام كل ذلك. لم يلبث أن قال داود في حكمه : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ..).

واللام في قوله : (لَقَدْ ...) جواب لقسم محذوف.

وإضافة «سؤال» إلى «نعجتك» من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والفاعل محذوف.

أى : بسؤاله ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أى : من دعائه.

وقوله (نِعاجِهِ) متعلق بسؤال على تضمينه معنى الضم.

أى : قال داود ـ عليه‌السلام ـ بعد فراغ المدعى من كلامه ، وبعد إقرار المدعى عليه بصدق أخيه فيما ادعاه ـ والله إن كان ما تقوله حقا ـ أيها المدعى ـ فإن أخاك في هذه الحالة يكون قد ظلمك بسبب طلبه منك أن تتنازل له عن نعجتك لكي يضمها إلى نعاجه الكثيرة.

وإنما قلنا إن داود ـ عليه‌السلام ـ قد قال ذلك بعد إقرار المدعى عليه بصحة كلام المدعى ، لأنه من المعروف أن القاضي لا يحكم إلا بعد سماع حجة الخصوم أو الخصمين حتى يتمكن من الحكم بالعدل.

ولم يصرح القرآن بأن داود ـ عليه‌السلام ـ قد قال حكمه بعد سماع كلام المدعى عليه ، لأنه مقرر ومعروف في كل الشرائع ، وحذف ما هو مقرر ومعلوم جائز عند كل ذي عقل سليم.

ثم أراد داود ـ عليه‌السلام ـ وهو الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ـ أراد أن يهون المسألة عن نفس المشتكى ، وأن يخفف من وقع ما قاله أخوه الغنى له ، وما فعله معه ، فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ...).

أى : قال داود للمشتكى ـ على سبيل التسلية له ـ : وإن كثيرا من الخلطاء ، أى الشركاء ـ جمع خليط ، وهو من يخلط ماله بمال غيره.

(لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أى : ليعتدى بعضهم على بعض ، ويطمع بعضهم في مال الآخر (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم لا يفعلون ذلك لقوة إيمانهم ، ولبعدهم عن كل ما لا يرضى خالقهم. فالجملة الكريمة منصوبة المحل على الاستثناء ، لأن الكلام قبلها تام موجب.

وقوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) بيان لقلة عدد المؤمنين الصادقين الذين يعدلون في أحكامهم.

١٤٧

ولفظ «قليل» خبر مقدم و «ما» مزيدة للإبهام وللتعجب من قلتهم. و «هم» مبتدأ مؤخر.

فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : ما أقل هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويحرصون على إعطاء كل ذي حق حقه ، والجملة الكريمة اعتراض تذييلى.

وبهذا نرى أن داود ـ عليه‌السلام ـ قد قضى بين الخصمين ، بما يحق الحق ويبطل الباطل.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حاك بنفس داود ـ عليه‌السلام ـ بعد أن دخل عليه الخصمان ، وبعد أن حكم بينهما بالحكم السابق فقال : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).

والظن معناه : ترجيح أحد الأمرين على الآخر.

وفتناه : بمعنى امتحناه واختبرناه وابتليناه ، مأخوذ من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار.

أى : وظن داود ـ عليه‌السلام ـ أن دخول الخصمين عليه بهذه الطريقة ، إنما هو لأجل الاعتداء عليه. وأن ذلك لون من ابتلاء الله ـ تعالى ـ له ، وامتحانه لقوة إيمانه ، ولكن لما لم يتحقق هذا الظن ، وإنما الذي تحقق هو القضاء بينهما بالعدل ، استغفر ربه من ذلك الظن ، «وخر راكعا» أى : ساجدا لله ـ تعالى ـ وعبر عنه بالركوع لأنه في كل منهما انحناء وخضوع لله ـ عزوجل ـ «وأناب» أى : ورجع داود إلى الله ـ تعالى ـ بالتوبة وبالمداومة على العبادة والطاعة.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ...) يعود إلى الظن الذي استغفر منه ربه ، وهو ظنه بأن حضور الخصمين إليه بهذه الطريقة غير المألوفة ، القصد منها الاعتداء عليه ، فلما ظهر له أنهما حضرا إليه في خصومة بينهما ليحكم فيها ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق ، فغفر الله ـ تعالى ـ له.

فقوله : ـ تعالى ـ : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أى : فغفرنا له ذلك الظن الذي استغفر منه .. (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أى : لقربة منا ومكانة سامية (وَحُسْنَ مَآبٍ) أى : وحسن مرجع في الآخرة وهو الجنة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ، بتلك التوجيهات الحكيمة ، والآداب القويمة ، التي وجهها ـ سبحانه ـ إلى كل حاكم في شخص داود ـ عليه‌السلام ـ فقال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ..). والخليفة : هو من يخلف غيره وينوب منابه. فهو فعيل بمعنى

١٤٨

فاعل. والتاء فيه للمبالغة. أى : يا داود إنا جعلناك ـ بفضلنا ومنتنا ـ خليفة ونائبا عنا في الأرض ، لتتولى سياسة الناس ، ولترشدهم إلى الصراط المستقيم.

والجملة الكريمة مقولة لقول محذوف معطوفة على ما سبقتها. أى : فغفرنا له ذلك وقلنا له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض. ويصح أن تكون مستأنفة لبيان مظاهر الزلفى والمكانة الحسنة التي وهبها ـ سبحانه ـ لداود؟ حيث جعله خليفة في الأرض.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ...) للتفريع ، أو هي جواب لشرط مقدر. والهوى : ميل النفس إلى رغباتها بدون تحر للعدل والصواب.

أى : إذا كان الأمر كما أخبرناك فاحكم ـ يا داود ـ بين الناس بالحكم الحق الذي أرشدك الله ـ تعالى ـ إليه ، وواظب على ذلك في جميع الأزمان والأحوال : ولا تتبع هوى النفس وشهواتها ، فإن النفس أمارة بالسوء.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) بيان للمصير السيئ الذي يؤدى إليه اتباع الهوى في الأقوال والأحكام.

وقوله (فَيُضِلَّكَ) منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية ، على أنه جواب للنهى السابق. أى : ولا تتبع الهوى ، فإن اتباعك له ، يؤدى بك إلى الضلال عن طريق الحق ، وعن مخالفة شرع الله ـ تعالى ـ ودينه.

ثم بين ـ سبحانه ـ عاقبة الذين يضلون عن سبيله فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ).

أى : إن الذين يضلون عن دين الله وعن طريقه وشريعته ، بسبب اتباعهم للهوى ، لهم عذاب شديد لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ لأنهم تركوا الاستعداد ليوم الحساب ، وما فيه من ثواب وعقاب.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ سمو منزلة داود ـ عليه‌السلام ـ عند ربه ، فقد افتتحت هذه الآيات ، بأن أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتذكر ما حدث لأخيه داود. ليكون هذا التذكير تسلية له عما أصابه من المشركين وعونا له على الثبات والصبر.

ثم وصف ـ سبحانه ـ عبده داود بأنه كان قويا في دينه ، ورجاعا إلى ما يرضى ربه ، وأنه ـ سبحانه ـ قد وهبه نعما عظيمة ، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب.

ثم ختمت هذه الآيات ـ أيضا ـ بالثناء على داود ـ عليه‌السلام ـ حيث قال

١٤٩

ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). وببيان أنه ـ تعالى ـ قد جعله خليفة في الأرض.

ومن الأحاديث التي وردت في فضله ـ عليه‌السلام ـ ما أخرجه البخاري في تاريخه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ذكر داود ، وحدث عنه قال : «كان أعبد البشر».

وأخرجه الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ينبغي لأحد أن يقول إنى أعبد من داود».

٢ ـ أن قصة الخصمين اللذين تسورا على داود المحراب ، قصة حقيقية ، وأن الخصومة كانت بين اثنين من الناس في شأن غنم لهما ، وأنهما حين دخلا عليه بتلك الطريقة الغريبة التي حكاها القرآن الكريم ، فزع منها داود ـ عليه‌السلام ـ وظن أنهما يريدان الاعتداء عليه ، وأن الله ـ تعالى ـ يريد امتحانه وثباته أمام أمثال هذه الأحداث.

فلما تبين لداود بعد ذلك أن الخصمين لا يريدان الاعتداء عليه ، وإنما يريدان التحاكم إليه في مسألة معينة ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق ـ أى ظن الاعتداء عليه فغفر الله ـ تعالى ـ له ..

والذي يتدبر الآيات الكريمة يراها واضحة وضوحا جليا في تأييد هذا المعنى.

قال أبو حيان ما ملخصه ـ بعد أن ذكر جملة من الآراء ـ : والذي أذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانوا من الإنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه ، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومته ، وبرز منهم اثنان للتحاكم ... وأن ما ظنه غير واقع ، استغفر من ذلك الظن ، حيث اختلف ولم يقع مظنونه ، وخر ساجدا منيبا إلى الله ـ تعالى ـ فغفر الله له ذلك الظن ، ولذلك أشار بقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) ولم يتقدم سوى قوله ـ تعالى ـ : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ويعلم قطعا أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، ولا يمكن وقوعهم في شيء منها ، ضرورة أننا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك لبطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله ـ تعالى ـ في كتابه. يمر على ما أراده ـ تعالى ـ ، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة ، طرحناه .. (١).

٢ ـ ومع أن ما ذكرناه سابقا ، وما نقلناه عن الإمام أبى حيان ، هو المعنى الظاهر من الآيات ، وهو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه يتناسب مع مكانة داود ـ عليه‌السلام ـ ، ومع ثناء الله ـ تعالى ـ عليه وتكريمه له.

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٧ ص ٣٩٣.

١٥٠

أقول مع كل ذلك ، إلا أننا وجدنا كثيرا من المفسرين عند حديثهم عن قصة الخصوم الذين تسوروا على داود المحراب ، يذكرون قصصا في نهاية النكارة ، وأقوالا في غاية البطلان والفساد.

فمثلا نرى ابن جرير وغيره يذكرون قصة مكذوبة ملخصها : «أن داود ـ عليه‌السلام ـ كان يصلى في محرابه .. ثم تطلع من نافذة المكان الذي كان يصلى فيه ، فرأى امرأة جميلة فأرسل إليها فجاءته ، فسألها عن زوجها فأخبرته بأن زوجها ، اسمه «أوريا» وأنه خرج مع الجيش الذي يحارب الأعداء .. فأمر داود ـ عليه‌السلام ـ قائد الجيش أن يجعله في المقدمة لكي يكون عرضة للقتل .. وبعد قتله تزوج داود بتلك المرأة .. (١).

ونرى صاحب الكشاف بعد أن يذكر هذه القصة ، ثم يعلق عليها بقوله : «فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدّث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين ، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء ..» نراه يذكر معها قصصا أخرى ملخصها : أن داود ـ عليه‌السلام ـ لم يعمل على قتل «أوريا» وإنما سأله أن يتنازل له عن امرأته ، فانصاع لأمره وتنازل له عنها .. أو أنه خطبها بعد أن خطبها «أوريا». فآثر أهلها داود على «أوريا».

قال صاحب الكشاف : كان أهل زمان داود ـ عليه‌السلام ـ يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها .. فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له «أوريا». فأحبها ، فسأله النزول عنها ، فاستحيا أن يرده ، ففعل ، فتزوجها ، وهي أم سليمان ـ عليه‌السلام ـ .. وقيل : خطبها «أوريا» ثم خطبها داود فآثر أهلها داود على أوريا .. (٢).

والذي نراه أن هذه الأقوال وما يشبهها عارية عن الصحة ، وينكرها النقل والعقل ، ولا يليق بمؤمن أن يقبل شيئا منها ..

ينكرها النقل : لأنها لم تثبت من طريق يعتد به ، بل الثابت أنها مكذوبة.

قال ابن كثير : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة ، أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبى حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشي ، عن أنس ـ ويزيد وإن كان من الصالحين ـ لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة .. (٣).

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٣ ص ٩٣ ، وتفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٦١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٨٠.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥١.

١٥١

وقال السيوطي : القصة التي يحكونها في شأن المرأة وأنها أعجبته ، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبى حاتم من حديث أنس مرفوعا ، وفي إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف ـ عن ابن صخر ، عن زيد الرقاشي ، وهو ضعيف ..

وقال البقاعي : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود ـ وقد أخبرنى بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود ـ عليه‌السلام ـ لأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه (١).

إذا فهذه القصص وتلك الأقوال غير صحيحة من ناحية النقل ، لأن رواتها معروفون بالضعف. وبالنقل عن الإسرائيليات.

ويروى أن الإمام عليا ـ رضى الله عنه ـ قال : «من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة ، وهو حد الفرية على الأنبياء» (٢).

وهي غير صحيحة من ناحية العقل ، لأنه ليس من المعقول أن يمدح الله ـ تعالى ـ نبيه داود هذا المدح في أول الآيات وفي آخرها كما سبق أن أشرنا ، ثم نرى بعد ذلك من يتهمه بأنه أعجب بامرأة ، ثم تزوجها بعد أن احتال لقتل زوجها ، بغير حق. أو طلب منه التنازل له عنها ، أو خطبها على خطبته.

إن هذه الأفعال يتنزه عنها كثير من الناس الذين ليسوا بأنبياء ، فكيف يفعلها واحد من أعلام الأنبياء. هو داود ـ عليه‌السلام ـ. الذي مدحه الله ـ تعالى ـ بالقوة في دينه.

وبكثرة الرجوع إلى ما يرضى الله ـ تعالى ـ ، وبأنه ـ سبحانه ـ آتاه الحكمة وفصل الخطاب. وبأن له عند ربه «زلفى وحسن مآب».

والخلاصة : أن كل ما قيل عند تفسير هذه الآيات ، مما يتصل بزواج داود بتلك المرأة أو بزوجها لا أساس له من الصحة. لأنه لم يقم عليه دليل أو ما يشبه الدليل. بل قام الدليل على عدم صحته إطلاقا. لأنه يتنافى مع عصمة الأنبياء. الذين صانهم الله ـ تعالى ـ من ارتكاب ما يخدش الشرف والمروءة قبل النبوة وبعدها.

قال الإمام ابن حزم ما ملخصه : «ما حكاه الله ـ تعالى ـ عن داود قول صادق صحيح. لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود.

وإنما كان ذلك الخصم قوما من بنى آدم بلا شك. مختصمين في نعاج من الغنم.

__________________

(١) راجع تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٥٠٨٨.

(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٨١.

١٥٢

ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء. فقد كذب على الله ـ تعالى ـ ما لم يقل ، وزاد في القرآن ما ليس فيه .. لأن الله ـ تعالى ـ يقول : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) فقال هو : لم يكونوا خصمين. ولا بغى بعضهم على بعض. ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة. ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له : (أَكْفِلْنِيها ...) (١).

٤ ـ هذا : وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات. منها : أن استغفار داود ـ عليه‌السلام ـ إنما كان سببه أنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الزلة التي جعلت داود يستغفر ربه ـ إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر ، فإنه لما قال له : «لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ..» فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الخصم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأولى والأفضل (٢).

والذي نراه أن هذا القول بعيد عن الصواب ، ولا يتناسب مع منزلة داود ـ عليه‌السلام ـ الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وذلك لأن من أصول القضاء وأولياته ، أن لا يحكم القاضي بين الخصمين أو الخصوم إلا بعد سماع حججهم جميعا ، فكيف يقال بعد ذلك أن داود قضى لأحد الخصمين قبل أن يستمع إلى كلام الآخر.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف سارع داود إلى تصديق أحد الخصمين ، حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟.

قلت : ما قال داود ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه ، ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم. ويروى أنه قال : أريد أخذها منه وأكمل نعاجى مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا. وأشار إلى طرف الأنف والجبهة .. (٣).

ومنهم من يرى ، أن استغفار داود ـ عليه‌السلام ـ كان سببه : أن قوما من الأعداء أرادوا قتله ، فتسوروا عليه المحراب ، فلما دخلوا عليه لقصد قتله وجدوا عنده أقواما. فلم يستطيعوا تنفيذ ما قصدوه ، وتصنعوا هذه الخصومة فعلم داود قصدهم ، وعزم على الانتقام

__________________

(١) راجع تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٥٠٨٩.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٨٢.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٨٧.

١٥٣

منهم ، ثم عفا عنهم ، واستغفر ربه مما كان قد عزم عليه ، لأنه كان يرى أن الأليق به العفو لا الانتقام (١).

وهذا القول ـ وإن كان لا بأس به من حيث المعنى ـ إلا أن الرأى الذي سقناه سابقا ، والذي ذهب إليه الإمام أبو حيان ، أرجح وأقرب إلى ما هو ظاهر من معنى الآيات.

وملخصه : أن الخصومة حقيقية بين اثنين من البشر ، واستغفار داود ـ عليه‌السلام ـ سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإيذائه ، وأن هذا ابتلاء من الله ـ تعالى ـ ابتلاه به ، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم في خصومة ، فاستغفر ربه من ذلك الظن. فغفر الله ـ تعالى ـ له.

ولعلنا بهذا البيان نكون قد وفقنا للصواب ، في تفسير هذه الآيات الكريمة ، التي ذكر بعض المفسرين عند تفسيرها أقوالا وقصصا لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولا يليق بمسلم أن يصدقها ، لأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الذين اختارهم الله ـ تعالى ـ لتبليغ دعوته ، وحمل رسالته. وإرشاد الناس إلى إخلاص العبادة له ـ سبحانه ـ وإلى مكارم الأخلاق ، وحميد الخصال.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لم يخلق السموات والأرض عبثا ، وأن حكمته اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار ، وأن هذا القرآن قد أنزله ـ سبحانه ـ لتدبير آياته ، والعمل بتوجيهاته فقال ـ تعالى ـ :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٨٦.

١٥٤

والمراد بالباطل في قوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ...) العبث واللهو واللعب وما يخالف الحق ، والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير أن يوم القيامة حق ، وأن كفر الكافرين به ضلال وجهل. وقوله (باطِلاً) صفة لمصدر محذوف ، أو مفعول لأجله. أى : وما خلقنا ـ بقدرتنا التي لا يعجزها شيء ـ السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله ـ تعالى ـ ... ما خلقنا ذلك خلقا باطلا لا حكمة فيه ، أو ما خلقناه من أجل متابعة الهوى وترك العدل والصواب.

وإنما خلقنا هذا الكون خلقا مشتملا على الحكم الباهرة ، وعلى المصالح الجمة والأسرار البليغة ، والمنافع التي لا يحصيها العد ، والهيئات والكيفيات التي تهدى من يتفكر فيها إلى اتباع الحق والرشاد.

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) يعود إلى ما نفاه ـ سبحانه ـ من خلقه للسموات والأرض وما بينهما على سبيل اللهو والعبث.

أى : نحن ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا خلقا مشتملا على الحكم الباهرة .. ولكن الذين كفروا هم الذين يظنون ويعتقدون أننا خلقنا هذه الكائنات من أجل الباطل واللهو واللعب .. وسبب هذا الظن والاعتقاد الفاسد منهم ، كفرهم بالحق ، وجحودهم ليوم القيامة وما فيه من حساب وثواب وعقاب ، وإعراضهم عما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدايات وإرشادات.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) بيان للعاقبة السيئة التي حلت بهم بسبب هذا الظن الفاسد .. فالفاء : للتفريع على ظنهم الباطل والويل : الهلاك والدمار.

و (مِنَ) ابتدائية أو بيانية أو تعليلية.

أى : القول بأن خلق هذا الكون خال من الحكمة ، هو ظن واعتقاد الذين كفروا وحدهم ، ومادام هذا مظنونهم ومعتقدهم فهلاك لهم كائن من النار التي نسلطها عليهم فتحرق أجسادهم ، وتجعلهم يذوقون العذاب المهين.

وقال ـ سبحانه ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...) بالإظهار في مقام الإضمار ، للإشعار بعلية صلة الموصول للحكم أى : أن هذا الويل والهلاك كائن لهم بسبب كفرهم.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يقل للذين ظنوا للإشارة إلى أن ظنهم القبيح هذا ، ما هو إلا نتيجة كفرهم وجحودهم للحق.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن حكمته قد اقتضت استحالة المساواة بين الأخيار والفجار ، فقال

١٥٥

ـ تعالى ـ : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).

و «أم» في الآية الكريمة منقطعة بمعنى بل الإضرابية ، والهمزة للاستفهام الإنكارى.

والإضراب هنا انتقالي من تقرير أن هذا الكون لم يخلقه الله ـ تعالى ـ عبثا إلى تقرير استحالة المساواة بين المؤمنين والكافرين.

والمعنى : وكما أننا لم نخلق هذا الكون عبثا ، كذلك اقتضت حكمتنا وعدالتنا .. استحالة المساواة ـ أيضا ـ بين المتقين والفجار.

وذلك لأن المؤمنين المتقين ، قد قدموا لنا في دنياهم ما يرضينا ، فكافأناهم على ذلك بما يرضيهم ، ويسعدهم ويشرح صدورهم ، ويجعلهم يوم القيامة خالدين في جنات النعيم.

أما المفسدون الفجار ، فقد قدموا في دنياهم ما يغضبنا ويسخطنا عليهم ، فجازيناهم على ذلك بما يستحقون من عذاب السعير.

وربك ـ أيها العاقل ـ «لا يضيع أجر من أحسن عملا» «ولا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون».

فالمقصود بالآية الكريمة إعلان استحالة التسوية في الآخرة بين المؤمنين والكافرين ، لأن التسوية بينهما ظلم ، وهو محال عليه ـ تعالى ـ ، وما كان البعث والجزاء والثواب والعقاب يوم القيامة إلا ليجزي ـ سبحانه ـ الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

ومن الآيات التي تشبه في معناها هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١).

ثم مدح ـ سبحانه ـ القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين حكمة إنزاله ، فقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

وقوله : (كِتابٌ) خبر لمبتدأ محذوف. والمقصود به القرآن الكريم.

أى : هذا كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) بقدرتنا ورحمتنا ـ أيها الرسول الكريم ، ومن صفاته أنه (مُبارَكٌ) أى : كثير الخيرات والبركات ..

وجعلناه كذلك (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أى ليتفكروا فيما اشتملت عليه آياته من أحكام

__________________

(١) سورة الجاثية الآية ٢١.

١٥٦

حكيمة ، وآداب قويمة ، وتوجيهات جامعة لما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم ..

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أى : وليتعظ أصحاب العقول السليمة بما جاء فيه من قصص وعبر عن السابقين ، كما قال ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من قصة سليمان ـ عليه‌السلام ـ فمدحه لكثرة رجوعه إلى الله ، وذكر بعض النعم التي منحها إياه ، كما ذكر اختباره له. وكيف أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ طلب من ربه المغفرة والملك ، فأعطاه ـ سبحانه ـ ما طلبه. قال ـ تعالى ـ :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠)

في هذه الآيات الكريمة مسألتان ذكر بعض المفسرين فيهما كلاما غير مقبول.

أما المسألة الأولى فهي مسألة : عرض الخيل على سيدنا سليمان والمقصود به.

__________________

(١) سورة يوسف آية ١١١.

١٥٧

وأما المسألة الثانية فهي مسألة المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ..)

وسنسير في تفسير هذه الآيات على الرأى الذي تطمئن إلى صحته نفوسنا ، ثم نذكر بعده بعض الأقوال التي قيلت في هذا الشأن ، ونرد على ما يستحق الرد منه ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ :

المخصوص بالمدح في قوله ـ تعالى ـ : (نِعْمَ الْعَبْدُ) محذوف ، والمقصود به سليمان ـ عليه‌السلام ـ. أى : ووهبنا ـ بفضلنا وإحساننا ـ لعبدنا داود ابنه سليمان ـ عليهما‌السلام ـ ونعم العبد سليمان في دينه وفي خلقه وفي شكره لخالقه ـ تعالى ـ.

وجملة «إنه أواب» تعليل لهذا المدح من الله ـ تعالى ـ لسليمان ـ عليه‌السلام ـ أى : إنه رجاع إلى ما يرضى الله ـ تعالى ـ مأخوذ من آب الرجل إلى داره ، إذا رجع إليها.

و «إذ» في قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) منصوب بفعل تقديره : اذكر ، و «عليه» متعلق بعرض و «العشى» يطلق على الزمان الكائن من زوال الشمس إلى آخر النهار. وقيل إلى مطلع الفجر.

والصافنات : جمع صافن ، والصافن من الخيل : الذي يقف على ثلاثة أرجل ويرفع الرابعة فيقف على مقدم حافرها.

والجياد : جمع جواد ، وهو الفرس السريع العدو ، الجيد الركض ، سواء أكان ذكرا أم أنثى ، يقال : جاد الفرس يجود جودة فهو جواد ، إذا كان سريع الجري ، فاره المظهر ..

أى : اذكر ـ أيها العاقل ـ ما كان من سليمان ـ عليه‌السلام ـ وقت أن عرض عليه بالعشي الخيول الجميلة الشكل. السريعة العدو ..

قال صاحب الكشاف : فإن قلت. ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت : الصفون لا يكاد يوجد في الهجن ، وإنما هو في ـ الخيل ـ العراب الخلص وقيل : وصفها بالصفون والجودة ، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين : واقفة وجارية ، يعنى إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها .. (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله سليمان ـ عليه‌السلام ـ خلال استعراضه للخيول الصافنات الجياد على سبيل الشكر لربه ، فقال ـ تعالى ـ : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٩١.

١٥٨

والخير : يطلق كثيرا على المال الوفير ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). والمراد به هنا : الخيل الصافنة الجيدة ، والعرب تسمى الخيل خيرا ، لتعلق الخير بها ، روى البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

و (عَنْ) هنا تعليلية. والمراد ب (ذِكْرِ رَبِّي) طاعته وعبادته والضمير في قوله (حَتَّى تَوارَتْ) يعود إلى الخيل الصافنات الجياد ، والمراد بالحجاب : ظلام الليل الذي يحجب الرؤية.

والمعنى : فقال سليمان وهو يستعرض الخيل أو بعد استعراضه لها : إنى أحببت استعراض الصافنات الجياد ، وأحببت تدريبها وإعدادها للجهاد ، من أجل ذكر ربي وطاعته وإعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، وقد بقيت حريصا على استعراضها وإعدادها للقتال في سبيل الله ، حتى توارت واختفت عن نظري بسبب حلول الظلام الذي يحجب الرؤية (رُدُّوها عَلَيَ) أى : قال سليمان لجنده ردوا الصافنات الجياد علىّ مرة أخرى ، لأزداد معرفة بها ، وفهما لأحوالها ..

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) فصيحة تدل على كلام محذوف يفهم من السياق. و «طفق» فعل من أفعال الشروع يرفع الاسم وينصب الخبر ، واسمه ضمير يعود على سليمان. و «مسحا» مفعول مطلق لفعل محذوف. والسوق والأعناق : جمع ساق وعنق.

أى : قال سليمان لجنده : ردوا الصافنات الجياد علىّ ، فردوها عليه ، فأخذ في مسح سيقانها وأعناقها إعجابا بها ، وسرورا بما هي عليه من قوة هو في حاجة إليها للجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ.

هذا هو التفسير الذي تطمئن إليه نفوسنا لهذه الآيات ، لخلوه من كل ما يتنافى مع سمو منزلة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

ولكن كثيرا من المفسرين نهجوا نهجا آخر ، معتمدين على قصة ملخصها : أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ جلس يوما يستعرض خيلا له ، حتى غابت الشمس دون أن يصلى العصر ، فحزن لذلك وأمر بإحضار الخيل التي شغله استعراضها عن الصلاة ، فأخذ في ضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، قربة لله ـ تعالى ـ.

فهم يرون أن الضمير في قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) يعود إلى الشمس. أى : حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار.

وأن المراد بقوله ـ تعالى ـ (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) الشروع في ضرب

١٥٩

سوق الخيل وأعناقها بالسيف لأنها شغلته عن صلاة العصر.

قال الجمل : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أى : جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف. هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين (١).

ولم يرتض الإمام الرازي ـ رحمه‌الله ـ هذا التفسير الذي عليه أكثر المفسرين ، وإنما ارتضى أن الضمير في (تَوارَتْ) يعود إلى الصافنات الجياد وأن المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) الإعجاب بها والمسح عليها بيده حبّا لها ..

فقد قال ما ملخصه : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم ، كما أنه كذلك في دين الإسلام ، ثم إن سليمان ـ عليه‌السلام ـ احتاج إلى الغزو. فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أنى لا أحبها لأجل الدنيا وإنما أحبها لأمر الله ، وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي). ثم إنه ـ عليه‌السلام ـ أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أى : غابت عن بصره.

ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها.

والغرض من ذلك : التشريف لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو ... وإظهار أنه خبير بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض .. (٢).

وقال بعض العلماء نقلا عن ابن حزم : تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة ، خرافة موضوعة .. قد جمعت أفانين من القول ؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها. وإتلاف مال منتفع به بلا معنى. ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل. ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها ..

وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير ، من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها.

ثم أمر بردها. فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برابها ، وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل ، وتعطيل الصلاة .. (٣).

__________________

(١) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٧٣ وغيرها من كتب التفسير.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٩٢ فقد أفاض وأجاد في تفسيره للآيات.

(٣) راجع تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٥١٠١.

١٦٠