التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧))

٣
٤

تفسير

سورة يس

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

١ ـ سورة «يس» من السور التي يحفظها كثير من الناس ، لاشتهارها فيما بينهم ، وهي السورة السادسة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة «الجن».

قال القرطبي : وهي مكية بإجماع ، وهي ثلاث وثمانون آية. إلا أن فرقة قالت : إن قوله تعالى ـ : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ...) نزلت في بنى سلمة من الأنصار ، حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

٢ ـ وقد ذكروا في فضلها كثيرا من الآثار ، إلا أن معظم هذه الآثار ضعفها المحققون من العلماء ، لذا نكتفي بذكر ما هو مقبول منها.

قال ابن كثير ما ملخصه : أخرج الحافظ أبو يعلى عن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ «يس» في ليلة أصبح مغفورا له» ...

وأخرج ابن حيان في صحيحه ، عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ «يس» في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له».

وأخرج الإمام أحمد في مسنده ، عن معقل بن يسار ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البقرة سام القرآن ، ويس قلب القرآن. لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم» أى : في ساعات الاحتضار وعند خروج الروح.

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان. قال : كان المشيخة يقولون : إذا قرئت ـ يعنى يس ـ عند الميت ، خفف عنه بها (٢).

وقال الآلوسى ما ملخصه : صح من حديث الإمام أحمد ، وأبى داود ، وابن ماجة ، والطبراني ، وغيرهم عن معقل بن يسار ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يس قلب القرآن».

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٤٨.

٧

وذكر أنها تسمى المعمّة ، والمدافعة ، والقاضية ، ومعنى المعمة : التي تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة. ومعنى المدافعة التي تدفع عن صاحبها كل سوء ، ومعنى القاضية : التي تقضى له كل حاجة ـ بإذن الله وفضله (١).

٣ ـ وقد افتتحت سورة «يس» بتأكيد صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وبتكذيب أعدائه الذين أعرضوا عن دعوته ، وبتسليته عما أصابه منهم من أذى.

قال ـ تعالى ـ : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

٤ ـ ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك قصة أصحاب القرية ، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا إليهم لهدايتهم ، وكيف أهلك الله ـ تعالى ـ المكذبين لرسله ...

قال ـ سبحانه ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

٥ ـ ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك ، ألوانا من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، ومن نعمه على عباده ، تلك النعم التي نراها في الأرض التي نعيش عليها ، وفي الخيرات التي تخرج منها ، كما نراها في الليل والنهار. وفي الشمس وفي القمر ، وفي غير ذلك من مظاهر نعمه التي لا تحصى.

قال ـ تعالى ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ، وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

٦ ـ وبعد هذا البيان الحكيم لمظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، وفضله على عباده ، حكت السورة الكريمة جانبا من دعاوى المشركين الباطلة ، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، وصورت أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم مسرعين ، ليقفوا بين يدي الله ـ تعالى للحساب والجزاء ...

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢٠٩.

٨

قال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٧ ـ وبعد أن تحكى السورة الكريمة ما أعده الله تعالى بفضله وكرمه لعباده المؤمنين ، من جنات النعيم ، ومن خير عميم ، تعود فتحكى ما سيكون عليه الكافرون من هم وغم ، وكرب وبلاء ، بسبب كفرهم ، وتكذيبهم للحق الذي جاءهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

٨ ـ ثم تنزه السورة الكريمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما اتهمه به أعداؤه ، من أنه شاعر ، وتسليه عما أصابه منهم ، وتبين للناس أن وظيفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هي الإنذار والبلاغ.

قال ـ تعالى ـ : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

إلى أن يقول ـ سبحانه ـ : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

٩ ـ ثم تختتم السورة الكريمة بحكاية ما قاله أحد الأشقياء منكرا للبعث والحساب ، وردت عليه وعلى أمثاله برد جامع حكيم ، برشد كل عاقل إلى إمكانية البعث ، وأنه حق لا شك فيه ...

قال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

١٠ ـ وبعد. فهذا عرض مجمل لسورة «يس» ومنه نرى ، أن هذه السورة الكريمة ، قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى كمال قدرته كما اهتمت بإبراز الأدلة المتعددة على أن البعث حق ، وعلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ...

كما اهتمت بضرب الأمثال لبيان حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار.

كل ذلك بأسلوب بليغ مؤثر ، يغلب عليه قصر الآيات ، وإيراد الشواهد المتنوعة على قدرة

٩

الله ـ تعالى ـ ، عن طريق مخلوقاته المبثوثة في هذا الكون ، والتي من شأن المتأمل فيها بعقل. سليم ، أن يهتدى إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم.

وصدق الله ـ تعالى ـ في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

صباح الخميس : ٢٣ من شوال سنة ١٤٠٥ ه‍

١١ / ٧ / ١٩٨٥ م

١٠

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢)

قوله ـ تعالى ـ يس من الألفاظ التي اختلف المفسرون في معناها ، فمنهم من يرى أن هذه الكلمة اسم للسورة ، أو للقرآن ، أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنهم من يرى أن معناها : يا رجل ، أو يا إنسان.

ولعل أرجح الأقوال أن هذه الكلمة من الألفاظ المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، للإشارة إلى إعجاز القرآن الكريم ، وللتنبيه إلى أن هذا القرآن المؤلف من جنس الألفاظ التي ينطقون بها ، هو من عند الله ـ تعالى ـ ، وأنهم ليس في إمكانهم أو إمكان غيرهم

١١

أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله ...

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (يس) : الكلام فيه كالكلام في «ألم» ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل بعض السور ، إعرابا ومعنى عند الكثيرين.

وظاهر كلام بعضهم أن «يس» بمجموعه ، اسم من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو ، وقرأ آخرون بسكونها مظهرة ، والقراءتان سبعيتان ... (١).

قوله ـ تعالى ـ : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) قسم منه ـ تعالى ـ بكتابه ذي الحكمة العالية. والهدايات السامية ، والتوجيهات السديدة ، والتشريعات القويمة ، والآداب الحميدة ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) جواب لهذا القسم.

أى : وحق هذا القرآن الحكيم ، إنك أيها الرسول الكريم ـ لمن عبادنا الذين اصطفيناهم لحمل رسالتنا ، وتبليغ دعوتنا إلى الناس ، لكي يخلصوا العبادة لنا ، ولا يشركوا معنا في ذلك غيرنا.

وجاء هذا الجواب مشتملا على أكثر من مؤكد ، للرد على أولئك المشركين الذين استنكروا رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا في شأنه : «لست مرسلا».

قال بعض العلماء : واعلم أن الأقسام الواقعة في القرآن. وإن وردت في صورة تأكيد المحلوف عليه ، إلا أن المقصود الأصلى بها تعظيم المقسم به ؛ لما فيه من الدلالة على اتصافه ـ تعالى ـ بصفات الكمال ، أو على أفعاله العجيبة ، أو على قدرته الباهرة فيكون المقصود من الحلف : الاستدلال به على عظم المحلوف عليه ، وهو هنا عظم شأن الرسالة. كأنه قال : إن من أنزل القرآن ـ وهو من هو في عظم شأنه ـ هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل ذلك يقال له في الأقسام التي في السور الآتية ... (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر ثان لحرف «إن» في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

أى : إنك ـ يا محمد ـ لمن أنبيائنا المرسلين ، على طريق واضح قويم ، لا اعوجاج فيه ولا اضطراب ، ولا ارتفاع فيه ولا انخفاض ، بل هو في نهاية الاعتدال والاستقامة.

قال صاحب الكشاف : قوله : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر بعد خبر ، أو صلة للمرسلين.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢١٠.

(٢) تفسير «صفوة البيان» ج ٢ ص ٢١٥ لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف.

١٢

فإن قلت : أى حاجة إليه خبرا كان أو صلة ، وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟

قلت : ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته. وإنما الغرض وصفه ، ووصف ما جاء به من الشريعة ، فجمع بين الوصفين في نظام واحد ، كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت ، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة ، على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه ـ أى : في التضخيم والتعظيم ـ (١).

ثم مدح ـ سبحانه ـ كتابه بمدائح أخرى فقال : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) وقد قرأ بعض القراء السبعة : (تَنْزِيلَ) بالنصب على المدح ، أو على المصدرية لفعل محذوف. أى : نزل الله ـ تعالى ـ القرآن تنزيل العزيز الرحيم.

وقرأ البعض الآخر : (تَنْزِيلَ) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى : هذا القرآن هو تنزيل العزيز ـ الذي لا يغلبه غالب ـ ، الرحيم أى الواسع الرحمة بعباده.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من إرساله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ).

واللام في قوله : (لِتُنْذِرَ) متعلقة بفعل مضمر يدل عليه قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

والإنذار : إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من الخوف. فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار. وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله ـ تعالى ـ.

والمراد بالقوم : كفار مكة الذين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإنذارهم ، وهذا لا يمنع أن رسالته عامة إلى الناس جميعا ، كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ...) و (ما) نافية. والمراد بآبائهم : آباؤهم الأقربون ، لأن آباءهم الأبعدون قد أرسل الله ـ تعالى ـ إليهم إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ.

أى : أرسلناك ـ يا محمد ـ بهذه الرسالة من لدنا ، لتنذر قوما ، وهم قريش المعاصرون لك ، لم يسبق لهم أو لآبائهم أن جاءهم نذير منا يحذرهم من سوء عاقبة الإشراك بالله ـ تعالى ـ فهم لذلك غافلون عما يجب عليهم نحو خالقهم من إخلاص العبادة له ، وطاعته في السر والعلن.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤.

١٣

قال ابن كثير : قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) يعنى بهم العرب ، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفى من عداهم كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفى العموم ، الذي وردت به الآيات والأحاديث المتواترة ... (١).

وقال الجمل ما ملخصه : قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ...) أى العرب وغيرهم وقوله (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أى الأقربون ، وإلا فآباؤهم الأبعدون قد أنذروا فآباء العرب الأقدمون أنذروا بإسماعيل ، وآباء غيرهم أنذروا بعيسى .. و «ما» نافية ، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالجملة صفة لقوله «قوما» أى : قوما لم تنذروا. وقوله (فَهُمْ غافِلُونَ) مرتب على الإنذار ... (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ مصير هؤلاء الغافلين ، الذين استمروا في غفلتهم وكفرهم بعد أن جاءهم النذير ، فقال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ ، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

والجملة جواب لقسم محذوف. ومعنى (حَقَ) ثبت ووجب.

والمراد بالقول : العذاب الذي أعده الله ـ تعالى ـ لهم بسبب إصرارهم على كفرهم.

أى : والله لقد ثبت وتحقق الحكم أولا بالعذاب على أكثر هؤلاء المنذرين بسبب عدم إيمانهم برسالتك ، وجحودهم الحق الذي جئتهم به ، وإيثارهم باختيارهم الغي على الرشد ، والضلال على الهدى ...

وقال ـ سبحانه ـ (عَلى أَكْثَرِهِمْ) لأن قلة منهم اتبعت الحق ، وآمنت به ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣).

ثم صور ـ سبحانه ـ انكبابهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، تصويرا بليغا فقال : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ).

والأغلال : جمع غل ـ بضم الغين ، وهو القيد الذي تشد به اليد إلى العنق بقصد التعذيب والأذقان : جمع ذقن ـ بفتح الذال ـ وهو أسفل الفم.

ومقمحون. من الإقماح ، وهو رفع الرأس مع غض البصر. يقال : قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. والفاء في قوله (فَهِيَ) وفي قوله (فَهُمْ) : للتقريع.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٤٩.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٠٣.

(٣) سورة يونس الآيتان ٩٦ ، ٩٧.

١٤

أى : إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الجاحدين قيودا عظيمة ، فهي ـ أى هذه القيود ـ واصلة إلى أذقانهم ، فهم بسبب ذلك مرفوعة رءوسهم ، مع غض أبصارهم ، بحيث لا يستطيعون أن يخفضوها ، لأن القيود التي وصلت إلى أذقانهم منعتهم من خفض رءوسهم.

فقد شبه ـ سبحانه ـ في هذه الآية ، حال أولئك الكافرين ، المصرين على جحودهم وعنادهم ، بحال من وضعت الأغلال في عنقه ووصلت إلى ذقنه ، ووجه الشبه أن كليهما لا يستطيع الانفكاك عما هو فيه.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا الإصرار من الكافرين على كفرهم فقال : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). أى : أننا لم نكتف بجعل الأغلال في أعناقهم ، بل أضفنا إلى ذلك أننا جعلنا من أمامهم حاجزا عظيما ، ومن خلفهم كذلك حاجزا عظيما. (فَأَغْشَيْناهُمْ) أى : فجعلنا على أبصارهم غشاوة وأغطية تمنعهم من الرؤية (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) شيئا بسبب احتجاب الرؤية عنهم.

فالآية الكريمة تمثيل آخر لتصميمهم على كفرهم ، حيث شبههم ـ سبحانه ـ بحال من أحاطت بهم الحواجز من كل جانب ، فمنعتهم من الرؤية والإبصار.

ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهاتين الآيتين : ثم مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل الى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رءوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله» (١).

وقد ذكروا في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة ، أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ...) فكانوا يقولون لأبى جهل : هذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : أين هو؟ ولا يبصره (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بيان لما وصل إليه هؤلاء الجاحدون من عناد وانصراف عن الحق.

وقوله (سَواءٌ) اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمراد به اسم الفاعل. أى : مستو.

أى : أن هؤلاء الذين جعلنا في أعناقهم أغلالا ... وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥.

(٢) لباب النقول في أسباب النزول ج ١٨٧ للسيوطي.

١٥

سدا ، مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه ، فهم ـ لسوء استعدادهم وفساد فطرهم ـ لا يؤمنون بالحق الذي جئتهم به سواء دعوتهم إليه أم لم تدعهم إليه ، وسواء خوفتهم بالعذاب أم لم تخوفهم به ، لأنهم ماتت قلوبهم ، وصارت لا تتأثر بشيء مما تدعوهم إليه ..

ثم بين ـ سبحانه ـ من هم أهل للتذكير فقال : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ).

أى : إنما تنذر ـ أيها الرسول الكريم ـ إنذارا نافعا ، أولئك الذين اتبعوا إرشادات القرآن الكريم وأوامره ونواهيه ...

وينفع إنذارك ـ أيضا ـ مع من (خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أى : مع من خاف عقاب الرحمن دون أن يرى هذا العقاب ، ودون أن يرى الله ـ تعالى ـ الذي له الخلق والأمر.

هؤلاء هم الذين ينفع معهم الإنذار والتذكير والإرشاد ، لأنهم فتحوا قلوبهم للحق ، واستجابوا له.

والفاء في قوله : (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) لترتيب البشارة أو الأمر بها ، على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية.

أى : فبشر ـ أيها الرسول الكريم ـ هذا النوع من الناس ، بمغفرة عظيمة منا لذنوبهم ، وبأجر كريم لا يعلم مقداره أحد سوانا.

ثم أكد ـ سبحانه ـ أن البعث حق ، وأن الجزاء حق ، لكي لا يغفل عنهما الناس ، ولكي يستعدوا لهما بالإيمان والعمل الصالح فقال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ...).

أى : إنا نحن بقدرتنا وحدها نحيى الموتى بعد موتهم ، ونعيدهم إلى الحياة مرة أخرى لكي نحاسبهم على أعمالهم.

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أى : وإنا نحن الذين نسجل عليهم أعمالهم التي عملوها في الدنيا سواء أكانت هذه الأعمال صالحة أم غير صالحة.

ونسجل لهم ـ أيضا ـ آثارهم التي تركوها بعد موتهم سواء أكانت صالحة كعلم نافع ، أو صدقة جارية ... أم غير صالحة كدار للهو واللعب ، وكرأى من الآراء الباطلة التي اتبعها من جاء بعدهم ، وسنجازيهم على ذلك بما يستحقون من ثواب أو عقاب (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أى : وكل شيء أثبتناه وبيناه في أصل عظيم ، وفي كتاب واضح عندنا. ألا وهو اللوح المحفوظ ، أو علمنا الذي لا يعزب عنه شيء.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وفي قوله : (آثارَهُمْ) قولان :

أحدهما : ونكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التي أثروها ـ أى تركوها ـ من

١٦

بعدهم ، فنجزيهم على ذلك ـ أيضا ـ ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ..

والثاني : أن المراد بقوله (وَآثارَهُمْ) أى : آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية. فقد روى مسلم والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى المسجد؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قد أردنا ذلك ، فقال : يا بنى سلمة ، دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم».

ثم قال ابن كثير : ولا تنافى بين هذا القول والذي قبله ، بل في القول الثاني تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى ، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب ، فلأن تكتب التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى (١).

هذا ، وتلك الرواية الصحيحة تشير إلى أن هذه الآية ليست مدنية ـ كما قيل ـ ، لأن هذه الرواية تصرح بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال لبنى سلمة ، «دياركم تكتب آثاركم» أى : ألزموا دياركم تكتب آثاركم .. دون إشارة إلى سبب النزول.

قال الآلوسى ما ملخصه : والأحاديث التي فيها أن الله ـ تعالى ـ أنزل هذه الآية ، حين أراد بنو سلمة أن ينتقلوا من ديارهم. معارضة بما في الصحيحين من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ لهم هذه الآية ، ولم يذكر أنها نزلت فيهم ، وقراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنافى تقدم النزول. أى : أن الآية مكية كبقية السورة (٢).

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد أثبتت صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وبينت الحكمة من رسالته ، كما بينت أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ على الناس ـ ليعتبروا ويتعظوا ـ قصة أصحاب القرية ، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم فقال ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٥١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢١٨.

١٧

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) وهذه القرية هي «أنطاكية» في قول جميع المفسرين ... والمرسلون : قيل : هم رسل من الله على الابتداء. وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله ـ تعالى ـ (١).

ولم يرتض ابن كثير ما ذهب إليه القرطبي والمفسرون من أن المراد بالقرية «أنطاكية» كما أنه لم يرتض الرأى القائل بأن الرسل الثلاثة كانوا من عند عيسى ـ عليه‌السلام ـ فقد قال ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : وقد تقدم عن كثير من السلف ، أن هذه القرية هي أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عيسى ـ عليه‌السلام ـ وفي ذلك نظر من وجوه :

أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله ـ عزوجل ـ لا من جهة عيسى ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ...)

الثاني : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل عيسى إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح عليه‌السلام ، ولهذا كانت عند النصارى ، إحدى المدن الأربعة التي فيها بتاركة ـ أى ، علماء بالدين المسيحي ..

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٤.

١٨

الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب عيسى ، كانت بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغيره ، أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ...

فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة. قرية أخرى غير أنطاكية .. فإن هذه القرية المشهورة بهذا الاسم لم يعرف أنها أهلكت ، لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك (١).

والذي يبدو لنا أن ما ذهب إليه الإمام ابن كثير هو الأقرب إلى الصواب وأن القرآن الكريم لم يذكر من هم أصحاب القرية ، لأن اهتمامه في هذه القصة وأمثالها ، بالعبر والعظات التي تؤخذ منها.

وضرب المثل في القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل في تطبيق حالة غريبة ، بأخرى تشبهها ، كما في قوله ـ تعالى ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً. وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

فيكون المعنى : واجعل ـ أيها الرسول الكريم ـ حال أصحاب القرية ، مثلا لمشركي مكة في الإصرار على الكفر والعناد ، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء السابقين ، الذين كانت عاقبتهم أن أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون ، لأنهم كذبوا المرسلين.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل اشتمال من (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ).

والمراد بالمرسلين : الذين أرسلهم الله إلى أهل تلك القرية ، لهدايتهم إلى الحق.

وقوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما ...) بيان لكيفية الإرسال ولموقف أهل القرية ممن جاءوا لإرشادهم إلى الدين الحق.

أى : إن موقف المشركين منك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، يشبه موقف أصحاب القرية من الرسل الذين أرسلناهم لهدايتهم ، إذ أرسلنا إلى أصحاب هذه القرية اثنين من رسلنا ، فكذبوهما. وأعرضوا عن دعوتهما.

والفاء في قوله (فَكَذَّبُوهُما) للإفصاح ، أى : أرسلنا إليهم اثنين لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لنا فذهبا إليهم فكذبوهما.

وقوله : فعززنا بثالث أى : فقو بنا الرسالة برسول ثالث ، من التعزيز بمعنى التقوية ، ومنه

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٥٩.

١٩

قولهم : تعزز لحم الناقة ، إذا اشتد وقوى. وعزز المطر الأرض ، إذا قواها وشدها. وأرض عزاز ، إذا كانت صلبة قوية.

ومفعول (فَعَزَّزْنا) محذوف لدلالة ما قبله عليه أى : فعززناهما برسول ثالث (فَقالُوا) أى الرسل الثلاثة لأصحاب القرية : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) لا إلى غيركم ، فأطيعونا فيما ندعوكم إليه من إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، ونبذ عبادة الأصنام.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما دار بين الرسل وأصحاب القرية من محاورات فقال : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ).

أى : قال أصحاب القرية للرسل على سبيل الاستنكار والتطاول : أنتم لستم إلا بشرا مثلنا في البشرية ، ولا مزية لكم علينا ، وكأن البشرية في زعمهم تتنافى مع الرسالة ، ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : وما أنزل الرحمن من شيء مما تدعوننا إليه.

ثم وصفوهم بالكذب فقالوا لهم : ما أنتم إلا كاذبون ، فيما تدعونه من أنكم رسل إلينا.

وهكذا قابل أهل القرية رسل الله ، بالإعراض عن دعوتهم وبالتطاول عليهم ، وبالإنكار لما جاءوا به ، وبوصفهم بالكذب فيم يقولونه.

ولكن الرسل قابلوا كل ذلك بالأناة والصبر ، شأن الواثق من صدقه ، فقالوا لأهل القرية : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

أى : قالوا لهم بثقة وأدب : ربنا ـ وحده ـ يعلم إنا إليكم لمرسلون ، وكفى بعلمه علما ، وبحكمه حكما ، وما علينا بعد ذلك بالنسبة لكم إلا أن نبلغكم ما كلفنا بتبليغه إليكم تبليغا واضحا ، لا غموض فيه ولا التباس.

فأنت ترى أن الرسل لم يقابلوا سفاهة أهل القرية بمثلها ، وإنما قابلوا تكذيبهم لهم. بالمنطق الرصين ، وبتأكيد أنهم رسل الله ، وأنهم صادقون في رسالتهم ، لأن قولهم (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) جار مجرى القسم في التوكيد.

وقولهم : (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تحديد للوظيفة التي أرسلهم الله ـ تعالى ـ من أجلها.

ولكن أهل القرية لم يقتنعوا بهذا المنطق السليم ، بل ردوا على الرسل ردا قبيحا ، فقالوا لهم : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) والتطير : التشاؤم. أى قالوا في الرد عليهم : إنا تشاءمنا من وجودكم بيننا ، وكرهنا النظر إلى

٢٠