التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٢

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0692-2
الصفحات: ٣٧٤

وخوله من التخويل بمعنى الإعطاء مرة بعد أخرى ، ومنه الحديث الشريف : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا أى : يتعهدنا بها وقتا بعد وقت.

و (ما) في قوله (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) موصولة مرادا بها الضر ، أو مرادا بها الباري ـ عزوجل ـ.

أى : هذا هو حال ذلك الإنسان عند نزول الضّرّ به ، فإذا ما كشفنا عنه ضره ، وأعطيناه نعما عظيمة على سبيل التفضل منا .. نسى الضر الذي كان يتضرع إلينا من قبل لنزيله عنه ، أو نسى الخالق ـ عزوجل ـ الذي كشف عنه بقدرته ذلك الضر.

ولم يكتف بهذا النسيان ، بل جعل لله ـ تعالى ـ أندادا أى : أمثالا وأشباها ونظائر يعبدها من دونه.

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) للتعليل. أى فعل ما فعل من جعله شركاء لله ـ تعالى ـ في العبادة ، ليضل الناس بذلك الفعل عن سبيل الله وعن دينه الذي ارتضاه لعباده.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (لِيُضِلَ) بفتح الياء. أى : ليزداد ضلالا على ضلاله.

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ، بيان لسوء عاقبة هذا الإنسان المشرك.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهذا الإنسان الذي جعل لله شركاء في العبادة ... قل له تمتع بكفرك تمتعا قليلا ، أو زمانا قليلا إنك من أصحاب النار الملازمين لها ، والخالدين فيها.

ثم نفى ـ سبحانه ـ المساواة بين هذا الإنسان المشرك وبين الإنسان الملازم لطاعة ربه فقال : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ..).

وكلمة «أمّن» أصلها «أم» التي بمعنى بل وهمزة الاستفهام. و «من» التي هي اسم موصول وهي هنا مبتدأ وخبره محذوف. والقانت : من القنوت بمعنى ملازمة الطاعة والمواظبة عليها بخشوع وإخلاص.

وآناء الليل : ساعاته : والاستفهام للإنكار والنفي.

أى : بل أمن هو قائم ساعات الليل لعبادة الله ـ ساجدا وقائما يحذر عذاب الآخرة ، ويرجو رحمة ربه ، كمن هو جاعل لله ـ تعالى ـ شركاء في العبادة؟

مما لا شك أنهما لا يستويان في عرف أى عاقل ، وفي نظر أى ناظر.

٢٠١

ويصح أن تكون «أم» متصلة. وقد حذف معادلها ثقة بدلالة الكلام عليه ، فيكون المعنى :

أهذا الكافر الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله أحسن حالا ، أم الذي هو ملازم للطاعات آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟

ووصف القنوت بأنه في آناء الليل ، لأن العبادة في تلك الأوقات أقرب إلى القبول وقدم السجود على القيام ، لأن السجود أدخل في معنى العبادة.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقد ذكروا أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان ، وقيل في عمار بن ياسر .. والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ، ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت ، وفيها دليل على فضل الخوف والرجاء.

وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل وهو في الموت ، فقال له : كيف تجدك؟

قال : أرجو وأخاف. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو ، وآمنه الذي يخاف» (١).

ثم نفى ـ سبحانه ـ أيضا المساواة بين العالم والجاهل فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أندادا : إنه لا يستوي عند الله ـ تعالى ـ المشرك والمؤمن ، ولا يستوي عنده ـ أيضا ـ الذين يعلمون الحق ، ويعملون بمقتضى علمهم ، والذين لا يعلمونه ويعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم ، ويعرضون عن كل من يدعوهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أى : إنما يعتبر ويتعظ بهذه التوجيهات والإرشادات ، أصحاب العقول السليمة والمدارك القويمة. ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر المؤمنين بأن يواظبوا على إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وأن يهاجروا إلى الأرض التي يتمكنون فيها من نشر دينه وإعلاء كلمته ، وأن ينذر المشركين بسوء المصير إذا ما استمروا في كفرهم وضلالهم .. فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٤٧.

٢٠٢

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦)

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لعبادي المؤمنين الصادقين : داوموا على الخوف من ربكم ، وعلى صيانة أنفسكم من كل ما يغضبه.

وفي التعبير بقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) دون قوله : قل لعبادي الذين آمنوا .. تكريم وتشريف لهم ، لأنه ـ سبحانه ـ أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يناديهم بهذا النداء الذي فيه ما فيه من التكريم لهم ، حيث أضافهم إلى ذاته ـ تعالى ـ وجعل وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هي التبليغ عنه ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة ، إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب ، وفيه إيذان بأنهم هم.

أى : قل لهم قولي هذا بعينه ، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، فإن نقل عين أمر الله ـ تعالى ـ أدخل في إيجاب الامتثال به (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٤٨.

٢٠٣

وجملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) تعليل لوجوب الامتثال لما أمروا به من تقوى الله ـ تعالى ـ والاستجابة لإرشاداته.

وقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وقوله (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بقوله : أحسنوا ، وقوله (حَسَنَةٌ) مبتدأ مؤخر.

أى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا أقوالهم وأعمالهم .. حسنة عظيمة في الآخرة ، ألا وهي جنة عرضها السموات والأرض.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) جملة معترضة لإزاحة ما عسى أن يتعللوا به من أعذار ، إذا ما حملهم البقاء في أوطانهم على التفريط في أداء حقوق الله.

قال صاحب الكشاف : ومعنى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أن لا عذر للمفرطين في الإحسان ألبتة ، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان ، وصرف الهمم إليه قيل لهم : فإن أرض الله واسعة ، وبلاده كثيرة ، فلا تجتمعوا مع العجز ، وتحولوا إلى بلاد أخر ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم ، وطاعة إلى طاعتهم (١).

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة الصابرين فقال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أى : إنما يوفى الصابرون على مفارقة الأوطان ، وعلى تحمل الشدائد والمصائب في سبيل إعلاء كلمة الله ... يوفون أجرهم العظيم على كل ذلك بغير حساب من الحاسبين. لأنهم لا يستطيعون معرفة ما أعده ـ سبحانه ـ لهؤلاء الصابرين من عطاء جزيل ، ومن ثواب عظيم ، وإنما الذي يعرف ذلك هو الله ـ تعالى ـ وحده.

قال الإمام الشوكانى : أى : يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بما لا يقدر على حصره حاصر ، ولا يستطيع حسبانه حاسب.

والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له ، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه ، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه. وهي فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة ، تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير ، أن يتوفر

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١١٧.

٢٠٤

على الصبر ، ويزم نفسه بزمامه ، ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيرا قد سلب ، ولا يدفع مكروها قد وقع .. (١).

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين للناس ما أمره به خالقه فقال : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).

أى : قل لهم يا محمد إنى أمرت من قبل الله ـ عزوجل ـ أن أعبده عبادة خالصة لا مجال معها للشرك أو الرياء ، أو غير ذلك مما يتنافى مع الطاعة التامة لخالقي ـ سبحانه ـ.

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أى : أمرنى ربي بأن أخلص له العبادة إخلاصا تاما وكاملا ، لكي أكون على رأس المسلمين وجوههم له ، حتى يقتدى بي الناس في إخلاصى وطاعتي له ـ عزوجل ـ.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) بيان لسوء عاقبة الشرك والمشركين.

أى : وقل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ إنى أخاف إن عصيت ربي ، فلم أخلص له العبادة والطاعة ، عذاب يوم عظيم الأهوال : شديد الحساب ، وهو يوم القيامة ، ولذلك فأنا لشدة خوفي من عذاب خالقي ، أكثرهم إخلاصا له ـ عزوجل ـ وامتثالا لأمره ، ومحافظة على طاعته.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) أى. وقل لهم ـ أيضا ـ : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي أعبده عبادة لا يحوم حولها شرك ، ولا يخالطها شيء من الرياء أو التكلف.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن للناس بأساليب متنوعة ، أنه لن يتراجع عن طاعته التامة لربه ، وأن عليهم أن يتأسوا به في ذلك.

قال الجمل : أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا : بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فيها. وثانيا : بأن يخبرهم بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم. وثالثا : بأن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان. ورابعا : بأن يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله ـ تعالى ـ وأخلص له الدين على أبلغ وجه وآكده ، إظهارا لتصلبه في

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٤٥٤.

٢٠٥

الدين ، وحسما لأطماعهم الفارغة ، وتمهيدا لتهديدهم بقوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...) (١).

فالأمر في قوله ـ تعالى ـ : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ...) للتهديد والتقريع والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

والمعنى. إذا كان الأمر كما ذكرت لكم ـ أيها المشركون ـ من أنى أول المسلمين وجوههم لله ـ تعالى ـ وحده ، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه ـ عزوجل ـ فسترون عما قريب سوء عاقبة شرككم وجحودكم لنعم الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان لسوء عاقبة من أعرض عن دعوة الحق ، وقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا ..) خبر إن.

أى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ليس الخاسرون هم الذين أخلصوا عبادتهم لله ـ تعالى ـ وحده ـ كما زعمتم ـ وإنما الخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، بسبب إلقائهم في النار ، وحرمانهم من النعيم الذين أعده الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين.

وقال ـ سبحانه ـ خسروا أنفسهم وأهليهم للإشعار بأن هؤلاء المشركين لم يخسروا أنفسهم فقط بسبب دخلوهم النار ، وإنما خسروا فوق ذلك أهليهم لأنهم حيل بينهم وبين أهليهم ، لأن أهليهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.

وجملة : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) مستأنفة لتأكيد ما قبلها ، وتصديرها بحرف التنبيه ، للإشعار بأن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ الغاية والنهاية في بابه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ...) تفصيل لهذا الخسران بعد تهويله عن طريق الإبهام والإجمال.

والظلل : جمع ظلة ، وأصلها السحابة التي تظل ما تحتها ، والمراد بها هنا طبقات النار التي تكون من فوقهم ومن تحتهم. وأطلق عليها هذا الاسم من باب التهكم بهم ، إذ الأصل في الظلل أنها تقى من الحر ، بينما الظلل التي فوق المشركين وتحتهم محرقة.

أى : لهؤلاء المشركين طبقات من النار من فوقهم ، وطبقات أخرى من النار من تحتهم ، فهم محاطون بها من كل جانب ، ولا يستطيعون التفلت منها.

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٣ ص ٥٩٤.

٢٠٦

قال الجمل في حاشيته : «فإن قلت : الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟.

قلت : فيه وجوه : الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. الثاني : أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات. الثالث : أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة الفوقانية في الإيذاء والحرارة ، سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة» (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ ...) يعود إلى العذاب الشديد الذي أعده ـ سبحانه ـ لأولئك المشركين.

أى : ذلك العذاب الشديد يخوف الله ـ تعالى ـ به عباده ، حتى يحذروا ما يوصل إليه ، ويجتنبوا كل قول أو فعل من شأنه أن يفضى إلى النار.

وقوله ـ تعالى ـ : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) نداء منه ـ تعالى ـ للناس يدل على رحمته بهم ، وفضله عليهم ، أى : عليكم يا عبادي أن تلتزموا طاعتي ، وتجتنبوا معصيتي ، لكي تنالوا رضائى وجنتي ، وتبتعدوا عن سخطى وناري.

وإلى هنا نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت الصابرين بالعطاء الذي لا يعلم مقدار فضله إلا الله ـ تعالى ـ ، وأمرت بإخلاص العبادة لله ـ سبحانه ـ بأساليب متنوعة ، وحذرت المشركين من سوء المصير إذا ما استمروا في شركهم وكفرهم.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما أعده للخاسرين من عذاب أليم ، أتبع ذلك ببيان ما أعده للمتقين من نعيم مقيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٩٤.

٢٠٧

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) (٢٠)

الطاغوت : يطلق على كل معبود سوى الله ـ تعالى ـ كالشيطان والأصنام وما يشبههما ، مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في كل شيء. ويستعمل في الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

والاسم الموصول مبتدأ. وجملة «أن يعبدوها» بدل اشتمال من الطاغوت ، وجملة «لهم البشرى» هي الخبر.

والمعنى : والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وكرهوا عبادة غير الله ـ تعالى ـ أيا كان هذا المعبود ، وأقبلوا على الخضوع والخشوع له وحده ـ عزوجل ـ.

أولئك الذين يفعلون ذلك «لهم البشرى» العظيمة في حياتهم ، وعند مماتهم ، وحين يقفون بين يدي الله ـ تعالى ـ : (فَبَشِّرْ عِبادِ) أى : فبشر ـ أيها الرسول الكريم ـ عبادي الذين هذه مناقبهم ، وتلك صفاتهم ....

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بما يدل على صفاء عقولهم ، وطهارة قلوبهم ، فقال : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...).

وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها : أن المراد بالقول الذي يتبعون أحسنه. ما يشمل تعاليم الإسلام كلها النابعة من الكتاب والسنة.

والمراد بالأحسن الواجب والأفضل ، مع جواز الأخذ بالمندوب والحسن.

فهم يتركون العقاب مع أنه جائز ، ويأخذون بالعفو لأنه الأفضل ، كما قال ـ تعالى ـ (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ...).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

فيكون المعنى : الذين يستمعون الأقوال الحسنة والأشد حسنا فيأخذون بما هو أشد حسنا ....

ومنها أن المراد بالقول هنا ما يشمل الأقوال كلها سواء أكانت طيبة أم غير طيبة. فهم يستمعون من الناس إلى أقوال متباينة ، فيتبعون الطيب منها ، وينبذون غيره.

٢٠٨

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.) هم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة ... وأراد أن يكونوا نقادا في الدين ، مميزين بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران : واجب ومندوب ، اختاروا الواجب ... فهم حريصون على فعل ما هو أكثر ثوابا عند الله ..

وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل : يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها. نحو القصاص والعفو ، والانتصار والإغضاء ..

وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ ، فيحدث بأحسن ما سمع ، ويكف عما سواه. (١).

ويبدو لنا أن هذا القول الأخير المأثور عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ هو أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ثناء آخر من الله ـ تعالى ـ على هؤلاء المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وأخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة.

أى : أولئك الذين هداهم الله ـ تعالى ـ إلى دينه الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، وأولئك هم أصحاب العقول السليمة ، والمدارك القويمة ، والقلوب الطاهرة النقية ..

قال الآلوسى : وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ، ولذا قيل :

شمر وكن في أمور الدين مجتهدا

ولا تكن مثل عير قيد فانقادا

واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله ـ تعالى ـ وقبول النفس لها ... (٢). ثم بين ـ سبحانه ـ أن من أحاطت به خطيئته ، لن يستطيع أحد إنقاذه من العذاب. فقال ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ).

والاستفهام للنفي ، والتقدير : أفمن وجب عليه العذاب بسبب إصراره على كفره حتى النهاية ، أفتستطيع أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تنقذه من هذا المصير الأليم؟ لا ـ أيها الرسول الكريم ـ إنك لا تستطيع ذلك. لأن من سبق عليه قضاؤنا بأنه من أهل النار ، بسبب استحبابه الكفر على الإيمان لن تستطيع أنت أو غيرك إنقاذه منها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ٢٥٣.

٢٠٩

وقوله ـ تعالى ـ : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ...) بيان لحسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة من حقت عليهم كلمة العذاب ..

والغرف جمع غرفة ، وتطلق على الحجرة التي تكون مرتفعة عن الأرض.

أى : هذا حال الذين حقت عليهم كلمة العذاب ، أما حال الذين اتقوا ربهم فيختلف اختلافا تاما عن غيرهم ، فإن الله ـ تعالى ـ قد أعد لهم ـ على سبيل التكريم والتشريف ـ غرفا من فوقها غرف أخرى مبنية ..

ووصفت بذلك للإشارة إلى أنها معدة ومهيأة لنزولهم فيها ، قبل أن يقدموا عليها ، زيادة في تكريمهم وحسن لقائهم.

وهذه الغرف جميعها «تجرى من تحتها الأنهار» ليكون ذلك أدعى إلى زيادة سرورهم.

وقوله ـ تعالى ـ (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) تذييل مؤكد لمضمون ما قبله من كون المتقين لهم تلك الغرف المبنية. ولفظ «وعد» مصدر منصوب بفعل مقدر.

أى : وعدهم ـ تعالى ـ بذلك وعدا لا يخلفه ، لأنه ـ سبحانه ـ ليس من شأنه أن يخلف الموعد الذي يعده لعباده.

وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث ، منها ما رواه الإمام أحمد عن أبى مالك الأشعرى ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلّى والناس نيام» (١).

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت المتقين بأحسن البشارات وأكرمها ، وتوعدت المصرين على كفرهم وفجورهم باستحالة إنقاذهم من عذاب النار.

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لسرعة زوال الحياة الدنيا ، وقرب اضمحلال بهجتها. كما بين حال من شرح الله صدره للإسلام فقال ـ تعالى ـ :.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٨١.

٢١٠

يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) للتقرير.

والينابيع : جمع ينبوع ، وهو المنبع أو المجرى الذي يكون في باطن الأرض ، والذي يحمل الكثير من المياه الجارية أو المخزونة في جوف الأرض.

والمعنى : لقد علمت ـ أيها العاقل ـ أن الله ـ تعالى ـ أنزل من السحب المرتفعة في جو السماء ، ماء كثيرا ، فأدخله بقدرته في عيون ومسارب في الأرض ، هذه العيون والمسارب تارة تكون ظاهرة على وجه الأرض ، وتارة تكون في باطنها ، وكل ذلك من أعظم الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا آخر من مظاهر قدرته فقال : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ...).

أى : هذا الماء الذي أنزله ـ سبحانه ـ بقدرته من السماء ، قد سلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج بسبب هذا الماء زرعا مختلفا في ألوانه وفي أشكاله ، فمنه ما هو أخضر ومنه ما هو أصفر ، ومنه ما ليس كذلك مما يدل على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ.

والفعل «يهيج» مأخوذ من الهيج بمعنى اليبس والجفاف. يقال : هاج النبات هيجا وهياجا ، إذا يبس وأصفر. أو مأخوذ من الهيج بمعنى شدة الحركة. يقال : هاج الشيء يهيج ، إذا ثار لمشقة أو ضرر ، ثم يعقب ذلك الهيجان الجفاف واليبس.

أى : ثم يصاب هذا الزرع المختلف الألوان بالجفاف والضمور ، فتراه مصفرا من بعد اخضراره ونضارته ، ثم يجعله ـ سبحانه ـ «حطاما» أى : فتاتا متكسرا. يقال : حطم الشيء حطما ـ من باب تعب ـ إذا تكسر وتفتت وتحطم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه من إنزال الماء من السماء ، ومن سلكه ينابيع في الأرض ، ومن إخراج النبات المختلف الألوان بسببه (لَذِكْرى) عظيمة (لِأُولِي الْأَلْبابِ).

٢١١

أى : لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة.

والمقصود من هذه الآية الكريمة ، التحذير من الانهماك في الحياة الدنيا ومتعها ، حيث شبهها ـ سبحانه ـ في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها ـ بالزرع الذي يبدو مخضرا وناضرا ... ثم يعقب ذلك الجفاف والذبول والاضمحلال.

وفي هذا المعنى وردت آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (١).

ثم نفى ـ سبحانه ـ المساواة بين المؤمن والكافر ، وبين المهتدى والضال فقال : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ..).

أى : أفمن شرح الله ـ تعالى ـ صدره للإسلام ، وجعله مستعدا لقبول الحق فهو بمقتضى هذا الشرح والقبول صار على نور وهداية من ربه ، كمن قسا قلبه وغلظ ، وأصبح أسيرا للظلمات والأوهام ..

لا شك أنهما لا يستويان في عقل أى عاقل.

فالاستفهام للإنكار والنفي ، و «من» اسم موصول مبتدأ ، والخبر محذوف لدلالة قوله ـ تعالى ـ (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) عليه.

أى : فهلاك وخزي لأولئك المشركين الذين قست قلوبهم من أجل ذكر الله ـ تعالى ـ ، الذي من شأنه أن تلين له القلوب ، ولكن هؤلاء الكافرين إذا ما ذكر الله ـ تعالى ـ ، اشمأزت قلوبهم ، وقست نفوسهم ، لانطماس بصائرهم. واستحواذ الشيطان عليهم.

ومنهم من جعل «من» في قوله (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) بمعنى عن. أى : فويل للقاسية قلوبهم عن قبول ذكر الله وطاعته وخشيته.

قال صاحب الكشاف : قوله : (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أى : من أجل ذكره ، أى : إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا ، وازدادت قلوبهم قساوة ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) وقرئ : عن ذكر الله.

فإن قلت : ما الفرق بين من وعن في هذا؟ قلت : إذا قلت قسا قلبه من ذكر الله ، فالمعنى ما ذكرت ، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه. وإذا قلت : عن ذكر الله ، فالمعنى : غلظ

__________________

(١) سورة الكهف آية ٤٥.

٢١٢

عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره : سقاه من العيمة. أى : من أجل عطشه. وسقاه عن العيمة ، إذا أرواه حتى أبعده عن العطش» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان مآل هؤلاء الذين قست قلوبهم فقال : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلال واضح عن الصراط المستقيم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢).

ثم مدح ـ سبحانه ـ كتابه مدحا يليق به ، وبين حال المؤمنين الصادقين عند سماعه ، وسلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أعدائه. فقال ـ تعالى ـ :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٢٦)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٢ «والعيمة ـ بفتح فسكون ـ شدة العطش».

(٢) سورة الأنعام الآية ١٢٢.

٢١٣

وقوله ـ تعالى ـ : «مثاني» جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرار والإعادة ولذا سميت سورة الفاتحة بالسبع المثاني ، لأنها تكرر وتعاد مع كل صلاة.

أى : الله ـ تعالى ـ نزل بفضله ورحمته عليك ـ يا محمد ـ أحسن الحديث «كتابا متشابها» أى : يشبه بعضه بعضا في فصاحته وبلاغته ، وفي نظمه وإعجازه ، وفي صحة معانيه وأحكامه ، وفي صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم ...

«مثاني» أى : تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد ، كما تثنى وتكرر قراءته فلا تمل على كثرة الترداد ، وإنما يزداد المؤمنون حبا وتعلقا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة.

وسمى ـ سبحانه ـ كتابه حديثا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحدث به قومه ، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه. فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم.

ولفظ «كتابا» بدل من قوله (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وقوله : (مُتَشابِهاً مَثانِيَ) صفتان للكتاب.

ووصف بهما وهو مفرد وكلمة «مثاني» جمع ، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام ..

أى : الله ـ تعالى ـ أنزل أحسن الحديث كتابا مشتملا على السور والآيات والمواعظ .. التي يشبه بعضها في الإعجاز ... والتي تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال ما ملخصه : «وإيقاع اسم الله مبتدأ ، وبناء «نزل» عليه ، فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه ، واستشهاد على حسنه ، وتأكيد لاستناده إلى الله ، وأنه من عنده ، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه ، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث.

فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت : إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن سور وآيات ... كما تقول الإنسان عظام وعروق ، فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت : النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ، ولم يعمل عمله ، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات ، ليركزه في قلوبهم ، كي يغرسه في صدورهم ... (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٣.

٢١٤

وقوله ـ تعالى ـ : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ...).

استئناف مسوق لبيان آثار هذا القرآن الكريم في نفوس قارئيه وسامعيه بعد بيان أوصافه في ذاته.

وقوله «تقشعر» من الاقشعرار ، وهو الانقباض الشديد للبدن. يقال : اقشعر جسد فلان ، إذا انقبض جلده واهتز ... وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله ـ تعالى ـ.

أى : أن هذا الكتاب العظيم عند ما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر. ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرءوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة.

قال الجمل : «فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت القلوب بها ثانيا؟.

قلت : ذكر الخشية التي تحملها القلوب مستلزم لذكر القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم في أول الأمر ، فإذا ذكروا الله ـ تعالى ـ وذكروا رحمته وسعتها ، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم ، وبالقشعريرة لينا في جلودهم .. (١).

والخلاصة أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ، أنهم يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء ، الخوف من عذاب الله ـ تعالى ـ والرجاء في رحمته ومغفرته ، إذ أن اقشعرار الجلود كناية عن الخوف الشديد ، ولين الجلود والقلوب كناية عن السرور والارتياح ، وعدى الفعل «تلين» بإلى لتضمينه معنى تسكن وتطمئن.

ومفعول «ذكر الله» محذوف للعلم به ، أى : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته.

قال ابن كثير ما ملخصه : هؤلاء المؤمنون يخالفون غيرهم من وجوه :

أحدها : أن سماع هؤلاء تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نغمات الأبيات.

الثاني : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم ، ولم يكونوا ـ كغيرهم ـ متشاغلين لاهين عنها.

الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ... ولم يكونوا يتصارخون ويتكلفون ما ليس فيهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٩٨.

٢١٥

قال قتادة عند قراءته لهذه الآية : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله بأنهم تقشعر جلودهم وتبكى أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع. وهذا من الشيطان ... (١).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يعود إلى الكتاب الذي مرت أوصافه ، وأوصاف القارئين له والمستمعين إليه.

أى : ذلك الكتاب العظيم المشتمل على أحسن الإرشادات وأحكمها ، هدى الله الذي يهدى بسببه من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم ، ومن يضلله ـ سبحانه ـ عن طريق الحق ، فما له من هاد يهديه إلى هذا الطريق القويم.

ثم نفى ـ سبحانه ـ المساواة بين هؤلاء الذين يخشون ربهم ، وبين غيرهم ممن قست قلوبهم ، وانحرفت نفوسهم عن الحق ، فقال ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

والاستفهام : للنفي والإنكار ، و «من» اسم موصول مبتدأ ، والخبر محذوف أى : أفمن كان يوم القيامة مصيره إلى النار المحرقة التي يتقيها ويحاول درأها عن نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ، كمن يأتى يوم القيامة آمنا مطمئنا بعيدا عن النار وسعيرها؟.

وفي الآية الكريمة ما فيها من تهويل عذاب يوم القيامة ، إذ جرت عادة الإنسان أن يتقى الآلام بيديه وجوارحه ، فإذا ما اتقاها بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ، كان ذلك دليلا على أن ما نزل به في نهاية الفظاعة والشدة.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (سُوءَ الْعَذابِ) مبالغة أخرى ، إذ نفس العذاب سوء ، فإذا ما وصف بعد ذلك بالسوء ، كان أشد في الفظاعة والإهانة والألم.

وجملة : «وقيل للظالمين ...» عطف على «يتقى ...» أى : هذا هو مصير الظالمين ، إنهم يتقون النار بوجوههم التي هي أشرف أعضائهم ، وهذا الاتقاء لن يفيدهم شيئا ، بل ستغشاهم النار بلهبها ، ويقال لهم : ذوقوا العذاب الأليم بسبب ما كنتم تكسبون في الدنيا من أقوال باطلة ، وأفعال قبيحة.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أمم الكفر والضلال (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) المقدر لكل أمة من أمم الكفر.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٨٥.

٢١٦

(مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أى : من الجهة التي لا تخطر لهم على بال ، أن العذاب يأتيهم منها ، فيكون وقعه عليهم أشد وأفظع.

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أى : العذاب الذي يذلهم ويخزيهم في الحياة الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ). المعد لهم (أَكْبَرُ) كيفا وكمّا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أى : لو كانوا من أهل العلم والفهم لما ارتكبوا ما ارتكبوا من كفر وفسوق وعصيان ، أدى بهم إلى العذاب المهين.

ثم كرر ـ سبحانه ـ مدحه للقرآن الكريم ، بأن بين أنه مشتمل على كل مثل نافع للناس ، وأنه لا لبس فيه ولا اختلاف ، وساق مثلا للمشرك الذي يعبد آلهة كثيرة ، وللمؤمن الذي يعبد إلها واحدا ، وبين أن جميع الناس سيعمهم الموت. وأنهم جميعا سيرجعون إلى الله للحساب ، فقال ـ تعالى ـ :.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١)

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ ...) موطئة للقسم.

أى : والله لقد ضربنا وكررنا بأساليب متنوعة في هذا القرآن العظيم ، من كل مثل يحتاج إليه الناس في أمورهم وشئونهم ، وينتفعون به في دنياهم ودينهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) تعليل لضرب المثل. أى فعلنا ذلك في كتابنا الذي هو أحسن الحديث ، كي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرناهم به ، أو نهيناهم عنه.

فلعل هنا بمعنى كي التعليلية ، وهذا التعليل إنما هو بالنسبة إلى غيره ـ تعالى ـ.

٢١٧

وقوله ـ سبحانه ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ...) ثناء آخر منه ـ تعالى ـ على كتابه الكريم.

والجملة الكريمة حال مؤكدة من قوله قبل ذلك : (هذَا الْقُرْآنِ ...).

أى : هذا القرآن قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض.

قال صاحب الكشاف : قوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال مؤكدة كقولك : جاءني زيد رجلا صالحا ، وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أى : مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف.

فإن قلت : فهلا قيل مستقيما ، أو غير معوج؟ قلت : فيه فائدتان :

إحداهما : نفى أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً).

والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ... وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب (١)

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) علة أخرى لاشتمال القرآن على الأمثال المتكررة المتنوعة.

أى : كررنا الأمثال النافعة في هذا القرآن للناس ، كي يتقوا الله ـ تعالى ـ ويخشوا عقابه.

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا للعبد المشرك وللعبد المؤمن ، فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ، رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ ...).

وقوله (مَثَلاً) مفعول ثان لضرب ، و (رَجُلاً) مفعوله الأول. وأخر عن المفعول الثاني للتشويق إليه ، وليتصل به ما هو من تتمته ، وهو التمثيل لحال الكافر والمؤمن.

وقوله (مُتَشاكِسُونَ) من التشاكس بمعنى التنازع والتخاصم وسوء الخلق ، يقال : رجل شكس وشكس ـ بفتح الشين مع إسكان الكاف أو كسرها وفعله من باب كرم ـ إذا كان صعب الطباع ، عسر الخلق.

وقوله سلما» بفتح السين واللام ـ مصدر وصف به على سبيل المبالغة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «سالما» : أى خالصا لسيده دون أن ينازعه فيه منازع. والمعنى : إن مثل المشرك الذي يعبد آلهة متعددة ، كمثل عبد مملوك لجماعة متشاكسين

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٥.

٢١٨

متنازعين لسوء أخلاقهم وطباعهم ، وهذا العبد موزع وممزق بينهم ، لأن أحدهم يطلب منه شيئا معينا ، والثاني يطلب منه شيئا يباين ما طلبه الأول ، والثالث يطلب منه ما يتناقض مع ما طلبه الأول والثاني ... وهو حائر بينهم جميعا ، لا يدرى أيطيع ما أمره به الأول أم الثاني أم الثالث ...؟ لأنه لا يملك أن يطيع أهواءهم المتنازعة التي تمزق أفكاره وقواه.

هذا هو مثل المشرك في حيرته وضلاله وانتكاس حاله.

أما مثل المؤمن فهو كمثل عبد مملوك لسيد واحد ، وخالص لفرد واحد ، وليس لغيره من سبيل إليه ، فهو يخدم سيده بإخلاص وطاعة ، لأنه يعرف ماله وما عليه ، وفي راحة تامة من الحيرة والمتاعب التي انغمس فيها ذلك العبد الذي يملكه الشركاء المتشاكسون.

فالمقصود بهذين المثلين بيان ما عليه العبد المشرك من ضلال وتحير وتمزق ، وما عليه العبد المؤمن من هداية واستقرار واطمئنان.

واختار ـ سبحانه ـ الرجل لضرب المثلين ، لأنه أتم معرفة من غيره لما يتعبه ولما يريحه ولما يسعده ولما يشقيه.

قال صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهذه الآية : واضرب ـ يا محمد ـ لقومك مثلا وقول لهم : ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء ، بينهم اختلاف وتنازع. كل واحد منهم يدعى أنه عبده ، فهم يتجاذبونه ، ويتعاورونه في مهن شتى ، وإذا عنت له حاجة تدافعوه ، فهو متحير في أمره ، قد تشعبت الهموم قلبه ، وتوزعت أفكاره ، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته.

وفي آخر : قد سلم لمالك واحد وخلص له ، فهو معتتق لما لزمه من خدمته ، معتمد عليه فيما يصلحه ، فهمه واحد ، وقلبه مجتمع ، أى هذين العبدين أحسن وأجمل شأنا؟.

والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى .. ويبقى متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد ، وممن يطلب رزقه؟ فهمّه شعاع ـ بفتح الشين أى : متفرق ـ ، وقلبه أوزاع ، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا ، فهو قائم بما كلفه ، عارف بما أرضاه وما أسخطه ، متفضل عليه في عاجله ، مؤمل للثواب في آجله ، (١).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) للإنكار والاستبعاد.

أى : لا يستوي الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، والرجل الذي سلم لرجل آخر ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٦.

٢١٩

في رأى أى ناظر ، وفي عقل أى عاقل ، فالأول في حيرة من أمره ، والثاني على بينة من شأنه.

وساق ـ سبحانه ـ هذا المعنى في صورة الاستفهام ، للإشعار بأن ذلك من الجلاء والوضوح بحيث لا يخفى على كل ذي عقل سليم.

وانتصب لفظ «مثلا» على التمييز المحول عن الفاعل ، لأن الأصل هل يستوي مثلهما وحالهما؟.

وجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تقرير وتأكيد لما قبلها من نفى الاستواء واستبعاده ، وتصريح بأن ما عليه المؤمنون من إخلاص في العبودية لله ـ تعالى ـ يستحق منهم كل شكر وثناء على الله ـ عزوجل ـ حيث وفقهم لذلك.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون هذه الحقيقة مع ظهورها ووضوحها لكل ذي عينين يبصرهما ، وعقل يعقل به.

ثم أخبر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الموت سينزل به كما سينزل بأعدائه الذين يتربصون به ريب المنون ، ولكن في الوقت الذي يشاؤه الله ـ تعالى ـ فقال ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).

أى : إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ سيلحقك الموت ، كما أنه سيلحق هؤلاء المشركين لا محالة ، وما دام الأمر كذلك فأى موجب لتعجل الموت الذي يعم الخلق جميعا.

وجاء الحديث عن حلول الموت به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأعدائه ، بأسلوب التأكيد ، للإيذان بأنه لا معنى لاستبطائهم لموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا للشماتة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ما نزل به الموت ، إذ لا يشمت الفاني في الفاني مثله.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يكون بينه وبينهم يوم القيامة فقال ؛ (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).

أى : ثم إنكم جميعا يوم القيامة عند ربكم وخالقكم تختصمون وتحتكمون ، فتقيم عليهم ـ أيها الرسول الكريم ـ الحجة ، بأنك قد بلغت الرسالة ، وهم يعتذرون بالأباطيل والتعليلات الكاذبة ، والأقوال الفاسدة ، وسينتقم ربك من الظالم للمظلوم ، ومن المبطل للمحق.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث والآثار فقال

٢٢٠