تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة! يقول : ألم يخبر قائل هذا القول ، وضامن هذا الضمان ، بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب : أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي : وأنه لا يجازى عامل إلا بعمله ، خيرا : كان أو شرّا. انتهى.

وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات ردّا على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجا وجهلا. ومع ذلك فمفهومها الشموليّ جليّ.

الثاني : قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحيّ والميت. واستدل به الشافعيّ على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات. انتهى.

وقال ابن كثير : ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعيّ رحمه‌الله ومن تبعه ؛ أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما.

وأما الحديث الذي رواه مسلم (١) في صحيحه عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به» ـ فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكدّه وعمله ، كما جاء في الحديث (٢) «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه. والصدقة الجارية ـ كالوقف ونحوه ـ هي من آثار عمله ووقفه» ، وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢]. والعلم الذي نشره في الناس ، فاقتدى به الناس بعده ، هو أيضا من سعيه وعمله.

وثبت في الصحيح (٣) : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. انتهى.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الوصية ، حديث رقم ١٤.

(٢) أخرجه النسائي في : البيوع ، ١ ـ باب الحث على الكسب ، عن عائشة.

(٣) أخرجه مسلم في : العلم ، حديث رقم ١٦.

٨١

الثالث ـ قال الرازيّ : المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة ، أو بيان كل عمل. نقول : المشهور أنها لكل عمل ، فالخير مثاب عليه ، والشر معاقب به ، والظاهر أنه لبيان الخيرات ، يدل عليه اللام في قوله تعالى (لِلْإِنْسانِ) فإن اللام لعود المنافع ، و (على) لعود المضار. تقول : هذا له ، وهذا عليه ، ويشهد له ، ويشهد عليه ، في المنافع والمضار. وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل ، كجموع السلامة تذكّر ، إذا اجتمعت الإناث مع الذكور. وأيضا يدل عليه قوله تعالى (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) و (الْأَوْفى) لا يكون إلا في مقابلة الحسنة ، وأما في السيئة فالمثل أو دونه ، أو العفو بالكلية. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١)

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي يراه ، ويعرض عليه ، ويكشف له. من (أريت الشيء) أو يرى للخلق وللملائكة. ففيه بشارة للمؤمن ، وإفراح له ، ونذارة للكافر ، وإرهاب له ، أو هو من (رأى) المجرد. أي يراه. كقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ١٠٥] ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزى سعيه جزاء وافرا لا يبخس منه شيئا.

قال الشهاب : أصله يجزي الله الإنسان سعيه ، ف (الجزاء) منصوب بنزع الخافض ، و (سعيه) هو المفعول الثاني ، وهو يتعدى له بنفسه. نحو : جزاك الله خيرا. وجزاؤه سعيه بمعنى جزائه بمثله. أو هو مجاز. وقيل : المنصوب بنزع الخافض الضمير ، والتقدير : بسعيه أو على سعيه ـ كما في (الكشاف) ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩)

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي انتهاء الخلق ، ورجوعهم لمجازاتهم. والمخاطب وإما عامّ ، أي أيها السامع أو العاقل ، ففيه وعد ووعيد ؛ أو خاص بالنبيّ صلوات الله عليه ، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم.

٨٢

ثم أشار إلى بعض آياته الدالة على انفراده بالألوهية ، بقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي خلق قوتي الضحك والبكاء ، أو أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار ، أو من شاء من أهل الدنيا ، أو أعمّ.

قال الرازيّ : اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان ، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بهما سببا ، وإذا لم يعلل بأمر ، فلا بد له من موجد ، وهو الله تعالى. وأطال في ذلك وأطاب ، رحمه‌الله تعالى.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي أمات من شاء من خلقه ، وأحيى من شاء قال ابن جرير وعنى بقوله (أَحْيا) نفخ الروح في النطفة الميتة ، فجعلها حية بتصييره الروح فيها (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم. (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي إعادة الخلق بعد مماتهم في نشاة أخرى لا تعلم ، كما قال : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] ، وذلك للحساب والجزاء ، المرتب على أعمال الخير والشر ، بالمصير إلى الجنة أو النار (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي أغنى من شاء بالمال. و (أقناه) أي جعل له قنية ، وهو ما يدخره من أشرف أمواله. (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) وهو نجم مضيء خلف الجوزاء ، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦)

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) يعني قوم هود. وسميت (الْأُولى) لتقدمها في الزمان. (وَثَمُودَ) أي قوم صالح (فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ) أي أشد في كفرهم (وَأَطْغى) أي أشد طغيانا وعصيانا من الذين أهلكوا بعدهم ، لتمردهم على الكفر ، وردّ دعوته ، في طول مدته بينهم ، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم‌السلام. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) أي قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت. (أَهْوى) أي أهواها على أهلها ودمّرها. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي من العذاب السماويّ الذي صب عليها. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ) أي نعمائه. (تَتَمارى) أي ترتاب وتشكّ وتجادل في أنها ليست من عنده ، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال

٨٣

الرسل ، وقهر أعدائهم. (هذا) أي القرآن (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه ، ليس بدعا من الرسل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٥٨)

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت القيامة الموصوفة بالقرب. فاللام في (الْآزِفَةُ) للعهد وقيل : الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا ، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب.

قال الشهاب : وفيه نظر ، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه ، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت).

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس لقيامها غير الله مبيّن لوقتها ، كقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] ، و (كاشِفَةٌ) صفة محذوف ، أي نفس كاشفة ، أو حال كاشفة. أو التاء للمبالغة. أو هو مصدر بني على التأنيث و (مِنْ دُونِ اللهِ) بمعنى غير الله ، أو إلا الله. وقيل : الكشف بمعنى الإزالة. أي ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت ، إلا هو تعالى ، من (كشف الغماء).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن الذي قص ما تقدم ، وأنذر بما أخبر (تَعْجَبُونَ) أي : تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار ، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار ، كما قال (وَتَضْحَكُونَ) أي استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) أي مما فيه من وعيد للعصاة ، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به ، المحدث عنهم في آية (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٩] ، (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاهون عما فيه من العبر ، معرضون عن آياته كبرا.

قال مجاهد : كانوا يمرّون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضابا مبرطمين ، أي : شامخين.

وعن ابن عباس : هو الغناء : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا ، وهي لغة أهل اليمن. يقولون : اسمد لنا : تغنّ لنا. والمآل واحد. وإن اختلفت العبارة عنه. ولا ريب

٨٤

أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين.

قال في (الإكليل) : فيه استحباب البكاء عند القراءة ، وذم الضحك والغناء ، واللهو واللعب والغفلة. كما فسر بالأربعة قوله : (سامِدُونَ) وفسره السدّي بالاستكبار.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي واعبدوه دون من سواه من الأوثان ، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له ، فلا تجعلوا له شريكا في عبادته.

وعن عبد الله بن مسعود قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد من خلفه .. الحديث. وتقدم في أول السورة.

وروى الإمام أحمد (١) عن المطّلب بن وداعة قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة سورة النجم. فسجد وسجد من عنده ، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد ـ ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب ـ فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا قرأها إلا سجد معه ـ ورواه النسائيّ ـ

__________________

(١) أخرجه في المسند ٣ / ٤٢٠.

٨٥

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القمر

وتسمى سورة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وهي مكية. وآيها خمس وخمسون.

قال ابن كثير : ورد في حديث أبي واقد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بقاف وو (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) في الأضحى والفطر. وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار ، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد ، وبدء الخلق وإعادته ، والتوحيد ، وإثبات النبوات ، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١)

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة. كما قال : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] ، وقال : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١].

قال ابن جرير : وهذا من الله تعالى إنذاره لعباده بدنوّ القيامة ، وقرب فناء الدنيا ، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة ، قبل هجومها عليهم ، وهم عنها في غفلة ساهون. (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢)

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال ابن جرير : كان ذلك ، فيما ذكر ، على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة ، قبل هجرته إلى المدينة. وذلك أن كفار

٨٦

أهل مكة سألوه آية ، فأراهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم انشقاق القمر حجة على صدق قوله ، وحقيقة نبوته ، فلما أراهم أعرضوا وكذبوا ، وقالوا هذا سحر مستمر ، سحرنا محمد. ثم روى ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس ، وغير واحد من التابعين.

وقال القاضي عياض في (الشفا) أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، وإعراض الكفرة عن آياته. وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه ، ثم سرد الآثار في ذلك.

وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترة ، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير القرآن ، لم تتواتر. والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة ، والمعجزة إذا عمت أهلك الله من كذّبها ، كما جرت به العادة الإلهية. والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رحمة ، وأمّن الله أمته من عذاب الاستئصال.

ثم قال : وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعض الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد ، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس ، ولم يخف على أحد. والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله ، ولا أغرب من هذا. مع أن الملازمة غير لازمة ، لأنه في الليل ، وزمان الغفلة. ولا يلزم امتداده. ولا أن يرى إذ ذاك في جميع الآفاق ، لاختلاف المطالع. انتهى.

وقد ذكر ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظّام ، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه ، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشريّ والبيضاويّ ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى : وسينشق القمر ، يعني يوم القيامة وإذا انكدرت النجوم وانتثرت. والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه.

ومعنى (مُسْتَمِرٌّ) دائم مطرد ، أو محكم قويّ ، من (مررت الحبل) إذا أحكمت فتله. أو مارّ ذاهب لا يبقى ، تعليلا لأنفسهم بالأماني الفارغة. أو منفور عنه لشدة مرارته مجازا.

وجملة (وإن يروا) مستأنفة أو حالية.

قال الشهاب : ولو كانت هذه الجملة حالية ، والمعنى. أن الساعة اقتربت ، وانشق القمر فيها دنا زمانه ، وظهرت آثاره ، والحال أنهم مصرون على العناد ـ كان منتظما أتم انتظام ، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها ، فتأمل. انتهى.

أقول ولي هاهنا كلمة لا بد من التنبيه عليها ، وهي أن الرمي بالإلحاد لمنكر

٨٧

حديث غير مجمع على تواتره ، جناية كبرى ، وزلة عظمى. فإن باب التفكير والتضليل ، ليس بالأمر القليل. ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه (فيصل التفرقة) ودمغ بحججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة. ولعمر الحق إن هذا مما فرّق الكلمة ، ونفرّ حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء ، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجا ، ومحيطة بعد مده منحسرا ، إذ هجرت كتب الفرق الأخرى بل أحرقت ، وأهين من يتأثلها ، ورمى بالابتداع أو التزندق ، كما يمر كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال ، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية ، وعدت من الشاذ غير المقبول. وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فماذا يكون حالها؟ وهذا ، كما لا يخفاك ، حيف على قواعد العلم ، وغل للأفكار. نعم! تفلت منهم علم الأصول ، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته ، وإن كان مما يغمز كثير منها ، إلا أنها سارت تلج آذانهم ، ويحتج بها عليهم. وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرناه ، وأشاروا له في مواضع ، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة.

وقال العلامة الفناريّ في (فصول البدائع) : ولا يضلل جاحد الآحاد.

وقال الإمام ابن تيمية الصواب أن من رد الخبر الصحيح ، كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا. فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.

وذكر الغزاليّ في (الإحياء) في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة ؛ أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم. قال : فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم ، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحجب الفهم أربعة. إلى أن قال :

وثانيها ـ أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد ، وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه ، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده ، فصار نظره موقوفا على مسموعه ، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه ، حمل عليه شيطان التقليد حملة ، وقال : كيف يخطر هذا ببالك ، وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه ، ويحترز عن مثله. ثم قال :

٨٨

رابعها ـ أن يكون قرأ تفسيرا ظاهر ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار ، فهذا أيضا من الحجب العظيمة. ثم قال :

وسنبين معنى التفسير بالرأي ، وأن ذلك لا يناقض قول عليّ رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول ، لما اختلف الناس فيه.

ثم ذكر بعد ، عليه الرحمة ، أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد وجهين :

أحدهما ـ أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيسا على خصمه ، وكالجاهل المتقحّم يتأول ما شاء هواه.

وثانيهما ـ أن يتسارع إلى التأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل. انتهى.

ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء ، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه. ولا ملام في معترك الأفهام ـ وبالله التوفيق ـ

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣)

(وَكَذَّبُوا) أي بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي ما زين لهم من دفع الحق مما وجدوا عليه آباءهم (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها. تعريض بأن أمر الرسول لا بد أن يستقر إلى غاية ، هي الظهور والنصرة ؛ وأمر مكذبيه إلى الخذلان والشقاوة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥)

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي عن القرون الخالية ، والحقائق الكونية ، مما يستحيل أن يأتي به أميّ غيره صلوات الله عليه (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي مرتدع عما هم مقيمون عليه من التكذيب والغفلة واللهو (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي بلغت غايتها من

٨٩

الإحكام والتنزه عن الخلل ، ومن الاشتمال على البراهين القاطعة والحجج الساطعة. وهو بدل من (ما) أو خبر محذوف ، أي هو حكمة بالغة (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) جمع نذير. و (ما) نافية ، أو استفهامية. أي : أيّ غناء تغنى عن قوم آثروا الضلالة على الهدى ، فأعرضوا عنه ، وكذبوا به. وجوز أن تكون (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) جملة مستأنفة للتعجب من حالهم ، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء. وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير. وعبارته : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي في هدايته تعالى لمن هداه ، وإضلاله لمن أضله (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه. فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل : ٩] ، وكذا قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١].

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي اصفح عن أذاهم ، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد ، كما قال : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي داعي الله إلى موقف القيامة ، وهو ملك. أو الدعاء تمثيل للإعادة كالأمر في قوله (كُنْ فَيَكُونُ) تمثيل للإبداء ، والداعي هو الله تعالى : (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي فظيع تنكره النفوس ، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي من الذل والصغار (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي قبورهم (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي في الكثرة والتموج والانتشار. الجراد مثل في الكثرة (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين مادّي أعناقهم إليه. (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي لشدة أهواله و (يَوْمَ يَدْعُ) ظرف ل (يَقُولُ) وقيل : بمضمر ، وقيل : ب (يَخْرُجُونَ) والأول أظهر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي زجر عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة ، كما يدل عليه صيغة (افتعل).

قال الناصر : وليس قوله (فَكَذَّبُوا) الثاني تكرارا ، لأن الأول مطلق ، والثاني

٩٠

مقيد. وهو كقوله في السورة (فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] ، فإن تعاطيه هو نفس عقره ، ولكن ذكره من جهة عمومه ، ثم من ناحية خصوصه إسهابا ، وهو بمثابة ذكره مرتين. وجواب آخر هنا وهو أن المكذب أولا محذوف ، دل عليه ذكر نوح ، فكأنه قال : كذبت قوم نوح نوحا ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله (عَبْدَنا) فوصف نوحا بخصوص العبودية. وأضافه إليه إضافة تشريف. فالتكذيب المخبر عنه ثانيا ، أبشع عليهم من المذكور أولا ، لتلك اللمحة. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠)

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي غلبني قومي تمردا وعتوّا. فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس منهم ، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم.

ثم أشار إلى استجابته تعالى دعاءه : بالطوفان الذي هلكوا فيه ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٦)

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي مندفق. وفيه استعارة تمثيلية ، بتشبيه تدفع المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء ، وشق لها أديم الخضراء.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر (فَالْتَقَى الْماءُ) أي ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي على حال قدّره الله وقضاه ، وهو هلاك قوم نوح (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) يعني السفينة. أقيمت صفاتها مقامها ، لتأديتها مؤداها. وهو من بديع الكلام ـ كما بسطه في (الكشاف) ـ.

(ودسر) جمع دسار بكسر الدال ، أو دسر كسقف وسقف وهي أضلاعها ، أو حبالها التي تشد فيها أو مساميرها.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا. كناية عن حفظها بحفظه تعالى وعنايته.

٩١

(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي كفر به ، وهو الله تعالى ، أو نوح وما جاء به ، فهو من (الكفر) ضد الإيمان. أو هو نوح عليه‌السلام لأنه نعمة كفروها ، فهو متعد بنفسه ، استعير لنوح النعمة بطريق الكناية ، ونسب الكفران تخييلا أو حقيقة. (وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي قصة نوح (آيَةً) أي جعلناها عبرة يعتبر بها (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ أي معتبر ومتعظ. وأصله (مذتكر). (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي عذابي لهؤلاء الكفرة ، قوم نوح ، وإنذاراتي بما أحللت بهم ، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلناه للادّكار والاتعاظ ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ أي فيعتبر بما فيه ، ويثوب إلى رشده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢)

(كَذَّبَتْ عادٌ) أي نبيّهم هودا عليه‌السلام ، بمثل ما كذّبت به قوم نوح (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي شديد الهبوب ، لها صرير ، أو باردة ، (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) أي شر وشؤم عليهم (مُسْتَمِرٍّ) أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم ، أو شديد المرارة لعظم بلائه ، (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي تقلعهم عن أماكنهم. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي أصول نخل منقلع من مغارسه. وأصل (مّنقعر) ما أخرج من القعر (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كرّره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوّهم. أي فكيف كان عذابي لقومه. وإنذاري لهم على لسانه؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ

٩٢

شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه‌السلام. (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي جنون ، أو عناء. فهو اسم مفرد. وقيل : جمع سعير ، كأنهم عكسوا عليه ، فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على اتباعهم له.

قال الزمخشريّ قالوا : (أَبَشَراً) إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة. وقالوا (مِنَّا) لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى. وقالوا (واحِداً) إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا ، أو أرادوا واحدا من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم. ويدل عليه قولهم (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) يعنون : الوحي والنبوة. أي وفينا من هو أحق بها على زعمهم ، لكونه أعز مالا ونفرا (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي متكبر ، حمله كبره على استتباعنا له. (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أي عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أي المتكبر عن الحق ، البطر له (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي آية وحجة لصالح على قومه امتحانا لهم وابتلاء (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها (وَاصْطَبِرْ) أي على دعوتهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ) أي الذي يردونه لشرب مواشيهم (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي مقسوم بينهم ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي يحضره صاحبه في نوبته و (الشرب) النصيب من الماء.

ثم أشار تعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى) فتناول الناقة بيده (فَعَقَرَ) أي فعقرها وقتلها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي كالشجر اليابس المتكسّر ، الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء ، اسم مكان. أي كهشيم الحظيرة ، أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم ، وأنهم بادوا عن آخرهم ، لم تبق منهم باقية ، وخمدوا وهمدوا ، كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه ، وحسن نباته.

قال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حظارا على الإبل والمواشي من يبس الشوك.

وعن سفيان : الهشيم ، إذا ضربت الحظيرة بالعصا ، تهشم ذاك الورق فيسقط ،

٩٣

والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس ، هشيما (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤٠)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي ملكا يرميهم بالحصباء والحجارة. أو ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي ترميهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي في سحر. أو (الباء) للملابسة ، أو المصاحبة. وذلك أنه تعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل ، فنجوا مما أصاب قومهم. ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ، ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته ، وقد أصابها ما أصابهم. وخرج نبيّ الله لوط عليه‌السلام وبنات له ، من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي إنعاما منها ، وهو علة ل (نجينا) (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي فأطاع ربه ، وانتهى إلى أمره ونهيه. و (الشكر) صرف العبد جميع ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) أي لوط (بَطْشَتَنا) أي أخذتنا بالعذاب (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي بإنذاراته ، تكذيبا له (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طالبوه بإتيان الفاحشة معهم ، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان ، محنة من الله بهم ، فأضافهم لوط عليه‌السلام ، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه‌السلام ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فتلقاهم يناشدهم الله أن لا يخزوه في ضيفه ، فأبوا عليه ، وجاءوا ليدخلوا عليه ، فأعمى الله أبصارهم ، فلم يروهم ، كما قال (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي يدوم بهم إلى النار. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ...) إلخ؟ قلت : فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا ، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا ، إذا سمعوا الحث على ذلك ، والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ، ويقعقع لهم الشن تارات ، لئلا يغلبهم السهو ، ولا تستولي عليهم الغفلة. وهكذا حكم التكرير كقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣] ، عند كل نعمة عدها في سورة

٩٤

(الرحمن). وقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥] ، عند كل آية أوردها في سورة (والمرسلات). وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها ، لتكون العبر حاضرة للقلوب ، مصورة للأذهان ، مذكورة غير منسية في كل أوان. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٤٢)

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني موسى وهارون ، وجمعها للتعظيم ، أو هو جمع نذير بمعنى الإنذار (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) يعني الآيات التسع ، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تعالى. (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) أي عاقبناهم عقوبة شديد لا يغالب (مُقْتَدِرٍ) أي عظيم القدرة لا يعجزه شيء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٤٤)

(أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر قريش (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي الكفار المعدودين الذين حلت النقمة حتى يأمنوا جانبها (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي براءة من عقابه تعالى ، وأمان منه ، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي ممتنع لا يرام. أو منتصر ممن أراد حربنا ، وتفريق كلمتنا. أو متناصر ، ينصر بعضنا بعضا. فالافتعال. بمعنى التفاعل ، كالاختصام بمعنى التخاصم. وإفراد (مُنْتَصِرٌ) مراعاة للفظ (جَمِيعٌ) لخفة الإفراد ، ولرعاية الفاصلة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤٦)

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) يعني جمع كفار قريش (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي يولّون أدبارهم المؤمنين بالله ، عند انهزامهم. وإفراد (الدُّبُرَ) لإرادة الجنس ، أو رعاية الفواصل ، ومشاكلة قرائنه. وقد وقع ذلك يوم بدر. وهو من دلائل النبوّة ، لأن الآية مكية ، ففيها إخبار عن الغيب ، وهو من معجزات القرآن. (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) قال ابن جرير : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم ، بل الساعة موعدهم للبعث والعقاب. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي أعظم داهية ، وهي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه. وأمرّ مذاقا ، أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها ، إذا التقوا مع المؤمنين للقتال.

٩٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (٤٨)

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) أي عن الحق في الدنيا (وَسُعُرٍ) أي نيران في الآخرة.

وقال القاشانيّ : أي في ضلال عن طريق الحق ، لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم. و (سُعُرٍ) أي جنون ووله ، لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم ، وحيرتها في الباطل.

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي يجرّون عليها. (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي حرّها وألمها. والاستعارة في المس تحقيقية. أو في (سَقَرَ) مكنية ، وفي (المسّ) تخييلية. أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم. واستعارة الذوق مشهورة ، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة. و (سَقَرَ) من أسماء جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩)

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة ، وترتب الأسباب على مسبّباتها. ومنه خلق دار العذاب ، لما كسبت الأيدي ، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى. وهذه الآية كآية (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] وآية ، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ١ ـ ٣] ، أي قدّر قدرا ، وهدى الخلائق إليه. ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتا لعظمته تعالى ، وكبير قدرته ، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده ، ويرهب بأسه ، ويتّقى بطشه ، لا سيما وقد صدع الداعي بإنذاره ، ومن أنذر فقد أعذر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠)

(وَما أَمْرُنا) أي الذي به الإيجاد (إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي كلمة واحدة يكون بها كل شيء ، بمقتضى استعداده ، كلمح بالبصر في السرعة.

٩٦

قال القاشاني : (إِلَّا واحِدَةٌ) أي تعلّق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن ، على وجه معلوم ، ثابت في لوح القدرة ، المسمّى في الشرع ب كن ، فيجب وجوده في ذلك الزمان ، على ذلك الوجه دفعة. انتهى.

وقيل : معنى الآية ، معنى قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) [النحل : ٧٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥١)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة.

قال الشهاب : أصل معنى (الأشياع) جمع شيعة ، وهم من يتقوّى بهم المرء من الأتباع. ولما كانوا في الغالب من جنس واحد ، أريد به ما ذكر ، إما باستعماله في لازمه ، أو بطريق الاستعارة.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي متّعظ بذلك ينزجر به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢)

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي الكتب التي أحصتها الحفظة عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣)

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) أي من الأعمال (مُسْتَطَرٌ) أي مسطور لا يمحى ولا ينسى ، كما قال تعالى : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، وقوله سبحانه (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٣ ـ ١٤].

وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : يا عائشة! إيّاك ومحقّرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا. (١)

__________________

(١) أخرجه في المسند ٦ / ٧٠.

٩٧

قال ابن كثير : ورواه النسائيّ وابن ماجة من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا ، من وجه آخر. ثم قال سعيد : فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره ، فأتاه آت في منامه ، فقال له : يا سليمان!

لا تحقرنّ من الذّنوب صغيرا

إنّ الصغير غدا يعود كبيرا

إنّ الصغير ، ولو تقادم عهده ،

عند الإله مسطّر تسطيرا

فازجر هواك عن البطالة ، لا تكن

صعب القياد وشمّرن تشميرا

إنّ المحبّ إذا أحبّ إلهه

طار الفؤاد وألهم التفكيرا

فأسأل هدايتك الإله ، فتتّئد

فكفى بربّك هاديا ونصيرا

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا عقاب الله بطاعته ، وأداء فرائضه ، واجتناب نواهيه ، (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) أي أنهار. واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل. وقرئ بسكون الهاء ، وضم النون ، وقرئ بضمهما. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) قال ابن جرير : أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم.

وقال الزمخشريّ : في مكان مرضىّ. قال شراحه : فالصدق مجاز مرسل في لازمه ، أو استعارة. وقيل : المراد صدق المبشّر به ، وهو الله ورسوله. أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل ، فالإضافة لأدنى ملابسة.

(عِنْدَ مَلِيكٍ) بمعنى ملك. قال الشهاب : وليس إشباعا ، بل هي صيغة مبالغة. كالمقتدر (مُقْتَدِرٍ) قال القاشانيّ : أي يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته ، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.

وقال الشهاب : في تنكير الأسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما ، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة ، بحيث لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، مما يجل عن البيان ، وتكلّ دونه الأذهان.

٩٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرحمن

قال المهايميّ : سميت به لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة ، وهي راجعة إلى هذا الاسم.

وهي مكية ، على قول ابن عباس. وآيها ثمان وسبعون.

وقد روى الإمام أحمد أن أول مفصل ابن مسعود ، كان الرحمن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢)

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي بصّر به ما فيه رضاه ، وما فيه سخطه ، برحمته ليطاع باتباع ما يرضيه ، وعمل ما أمر به ، وباجتناب ما نهى عنه ، وأوعد عليه ، فينال جزيل ثوابه ، وينجى من أليم عقابه.

قال القاضي : لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية ، صدّرها ب (الرَّحْمنُ) وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها ، وهو إنعامه بالقرآن ، وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ، ومنشأ الشرع ، وأعظم الوحي ، وأعز الكتب ، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها ، مصدق لنفسه ، ومصداق لها.

ثم أتبعه بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤)

(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) إيماء بأن خلق البشر ، وما تميز به عن سائر الحيوان من البيان ـ وهو التعبير عما في الضمير ، وإفهام الغير ـ لما أدركه لتلقى الوحي ،

٩٩

وتعرف الحق ، وتعلم الشرع. أي فإذا كان خلقهم إنما هو في الحقيقة لذلك ، اقتضى اتصاله بالقرآن ، وتنزيله الذي هو منبعه ، وأساس بنيانه.

قال الزمخشريّ : وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟ وهذا ـ كما قال الشهاب ـ مصحح. والمرجح الإشارة إلى أن كلّا منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر. ففيه إيماء إلى تقصيرهم في أدائه. ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ، ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة.

وقال الأصفهانيّ في (الذريعة) : لما كان للنطق أشرق ما خص به الإنسان ، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان. قال عزوجل (خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ولم يقل (وعلمه) إذ جعل قوله (عَلَّمَهُ) تفسيرا لقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تنبيها أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لكانت الإنسانية مرقفعة ، ولذلك قيل : ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. وقيل : المرء مخبوء تحت لسانه.

قال الشاعر :

لسان الفتى نصف ، ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدّم

أي إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان ، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد ، لم يبق إلا صورة اللحم والدم. فإذا كان الإنسان هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظّا كان أكثر منه إنسانية. والصمت من حيث ما هو صمت مذموم ، فذلك من صفات الجمادات ، فضلا عن الحيوانات. وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت ، وجعل لبعضها صوتا بلا تركيب. ومن مدح الصمت ، فاعتبارا بمن يسيء في الكلام ، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا. فإذا ما اعتبرا بأنفسهما ، فمحال أن يقال في الصمت فضل ، فضلا أن يخاير بينه وبين النطق. وسئل حكيم عن فضلهما فقال : الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر عن فضلهما فقال : الصمت عن الخنا ، أفضل من الكلام بالخطا. وعنه أخذ الشاعر :

الصّمت أليق بالفتى

من منطق في غير حينه

انتهى. وقد جوّز ـ كما حكاه الشهاب ـ أن يكون (الرَّحْمنُ) خبر محذوف ، أي الله الرحمن ، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه. ثم قال : و (عَلَّمَ) من التعليم ، ومفعوله مقدر. أي علّم الإنسان ، لا جبريل أو محمدا عليهما الصلاة والسلام. وليس (من العلامة من غير تقدير) كما قيل. أي جعله علامة وآية لمن اعتبر ـ لبعده.

١٠٠