تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

مشرق كل كوكب ومغربه ، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب. (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي بمغلوبين ، إن أردنا ذلك. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي أخذهم فيه وهلاكهم. (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي يسرعون.

و (النصب) الضم المنصوب للعبادة ، أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك ، أو ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. فهم يسرعون إسراع عبدة الأصنام نحو صنمهم ، أو إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها. أو إسراع الجند إلى راية الأمير. (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي من الخزي والهوان. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم. (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي بأنهم ملاقوه.

٣٢١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة نوح

قال المهايمي : سميت به لاشتمالها على تفاصيل دعوته وأدعيته. وهي مكية. وآيها ثمان وعشرون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني عذاب الطوفان (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يعفو عنها. و (مِنْ) إما مزيدة ، أو تبعيضيه. وهو ما وعدهم العقوبة عليها. وأما ما لم يعدهم العقوبة عليها ، فقد تقدم عفوه لهم عنها. أو هو ما سبق ، فإن الإسلام يجبّ ما قبله (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو أقصى ما قدره بشرط الإيمان. أي فلا يعاجلكم بعذاب غرق أو نحوه. (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الذي كتبه على من كذب وتولى (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من أهل العلم والنظر لأنبتم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤)

٣٢٢

(قالَ) أي نوح بعد أن بذل غاية الجهد ، وضاقت عليه الحيل ، في تلك المدد الطوال ، (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) أي إلى التوحيد والعمل الصالح (لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما بلا فتور ولا توان. (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي من الحق الذي أرسلتني به (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) أي إلى الإيمان (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي بسببه (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدوا مسامعهم من استماع الدعوة (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي تغطوا بها من كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في الدين (وَأَصَرُّوا) أي على الشر والكفر (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي تعاظموا عن الإذعان للحق ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم مرة بعد مرة ، على وجوه متنوعة ، ما بين مجاهرة وإظهار بلا خفاء ، وما بين إعلان وصياح بهم ، وما بين إسرار فيما بيني وبينهم في خفاء. وهذه المراتب أقصى ما يمكن للآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر. (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي سلوه العفو عما سلف بالتوبة النصوح (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) أي لذنوب من تاب وأناب. (يُرْسِلِ السَّماءَ) أي المطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي متتابعا. (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي فيكثرها عندكم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي لسقيا جناتكم ومزارعكم. (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا ترون له عظمة ، إذ تشركون معه ما لا يسمع ولا يبصر. فنفي الرجاء مراد به نفي لازمه ، وهو الاعتقاد ، مبالغة. وجوّز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف ، أي ما لكم لا تخافون عظمة الله. ومنه قوله :

إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

قال الشهاب : وهو أظهر.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي تارات ، ترابا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنّة ، وهكذا طورا بعد طور. أي ومقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه وأخذه ، لعظيم قدرته. هذا في أنفسكم. وهكذا يستدل على باهر عظمته ، وقاهر قدرته من آياته الكونية. كما قال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠)

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ

٣٢٣

سِراجاً) أي يزيل ظلمه الليل ، وينير وجه الأرض. (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي أنشأكم منها. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي للحساب والجزاء. (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي تستقرون عليها وتمتهدونها. (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي طرقا مختلفة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٢٥)

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) أي خالفوا أمري وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد ، (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي رؤساءهم المتبوعين ، أهل المال والجاه ، المعرضين عن الحق ، الذين غرتهم أموالهم وأولادهم ، فهلكوا بسببهما ، وخسروا سعادة الدارين.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي متناهيا كبره ، فإن (الكبّار) أكبر من (الكبير).

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) قال قتادة : كانت آلهة تعبدها قوم نوح ، ثم عبدتها العرب بعد ذلك.

قال : فكان (ود) لكلب بدومة الجندل ، وكانت (سواع) لهزيل ، وكان (يغوث) لبني غطيف من مراد بالجرف ، وكان (يعوق) لهمذان ، وكان (نسر) لذي الكلاع من حمير.

وقال (في رواية) : والله ما عدا ـ أي كلّ منها ـ خشبة أو طينة أو حجرا.

وقال ابن جرير : كان خبرهم ـ فيما بلغنا ـ من محمد بن قيس قال : كانوا قوما صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصورهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم.

وروى البخاري (١) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال. صارت الأوثان التي

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، سورة نوح ، ١ ـ باب (وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ) ، حديث رقم ٢٠٦٦.

٣٢٤

كانت في قوم نوح في العرب ، بعد : أما (ود) ، فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما (سواع) فكانت لهذيل ، وأما (يغوث) فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما (يعوق) فكانت لهمذان ، وأما (نسر) فكانت لحمير لآل ذي الكلاع : أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا. فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ، وتنسّخ العلم ، عبدت.

تنبيهات :

الأول ـ قال الرازي : في انتقالها عن قوم نوح إلى العرب. إشكال ، لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان ، فكيف بقيت تلك الأصنام ، وكيف انتقلت إلى العرب. ولا يمكن أن يقال إن نوحا عليه‌السلام وضعها في السفينة وأمسكها ، لأنه عليه‌السلام إنما جاء لنفيها وكسرها ، فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها؟ انتهى كلامه.

ونحن نقول : إن جوابه بديهي ، وهو أن انتقالها إلى العرب بواسطة نقل أحوال قوم نوح وأبنائهم وعوائدهم ، على ألسنة الرحل والسّمار ، لأن سيرة القرن المتقدم في العصر المتأخر ، وسنة الخالف أن يؤرخ السالف. وجلي أن النفس أميل إلى الجهل منها إلى العلم ، لا سيما إذ زين له المنكر بصفة تميل إليها ، فتكون ألصق به. وهكذا كان بعد انقراض العلم وحملته ، أن حدث ما حدث من عبادتها ، كما أشارت إليه رواية ابن عباس عند البخاري : حتى إذا هلك أولئك ، وتنسّخ العلم ، عبدت. وعجيب من الرازيّ أن لا يجد مخرجا من سؤاله ، وهو على طرف الثّمام.

الثاني ـ قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : حكى الواقدي قال : كان (ود) على صورة رجل ، و (سواع) على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد ، و (يعوق) على صورة فرس ، و (نسر) على صورة طائر. وهذا شاذ ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر ، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. انتهى.

الثالث ـ قال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) أول ما كاد به الشيطان عبّاد الأصنام ، من جهة العكوف على القبور ، وتصاوير أهلها ، ليتذكروهم بها ، كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ..) الآية.

ثم قال : وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة ، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم : فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم

٣٢٥

الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم ، كما تقدم عن قوم نوح عليه‌السلام ، ولهذا لعن (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتخذين على القبور المساجد السرج ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا ، وقال (٢) : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، وأمر بتسوية القبور ، وطمس التماثيل ، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله ، إما جهلا ، وإما عنادا لأهل التوحيد ، ولم يضرهم ذلك شيئا .... إلى آخر ما ذكره رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (وَقَدْ أَضَلُّوا) أي : الرؤساء (كَثِيراً) ، أي خلقا كثيرا ، أو الأصنام كقوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦]. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي خذلانا واستدراجا. وإنما دعا ذلك ليأسه من إيمانهم.

قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع ضميرهم ، للتسجيل عليهم بالظلم المفرط ، وتعليل الدعاء عليهم به (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من أجلها (أُغْرِقُوا) أي بالطوفان (فَأُدْخِلُوا ناراً) أي أذيقوا به عذاب النار (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً).

قال الزمخشري : تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله ، وأنها غير قادرة على نصرهم ، وتهكم بهم ، كأنه قال فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، كقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) [الأنبياء : ٤٣].

وقال الرازي : لما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات ، بطل القول بالوسائط.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً) (٢٨)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجنائز ، ٦٢ ـ باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، حديث رقم ٢٨٥ ، عن عائشة.

وأخرجه في : الجنائز ، ٧١ ـ باب بناء المسجد على القبر ، حديث رقم ٢٨١ ، عن عائشة أيضا ،

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه في : الجنائز ، حديث رقم ٩٢ عن فضالة بن عبيد ، و ٩٣ ، عن علي بن أبي طالب.

٣٢٦

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي أحدا.

قال ابن جرير : يعني ب (الديّار) من يدور في الأرض فيذهب ويجيء فيها ، وهو (فيعال) من الدوران ، ديوارا اجتمعت الياء والواو ، فسبقت الياء الواو وهي ساكنة ، وأدغمت الواو فيها ، وصيرتا ياء مشددة. والعرب تقول : ما بها ديّار ولا عريب ولا دويّ ولا صافر ولا نافخ ضرمة.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) عن طريق الحق. (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) قال أبو السعود : أي إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه ، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه ، من أن الدعاء بالاستئصال ، مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن ، منكر ، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم ، بعد ما جربهم ، واستقرأ أحوالهم قريبا من ألف سنة.

وقال بعضهم : ملّ نوح عليه‌السلام من دعوة قومه وضجر ، واستولى عليه الغضب ، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم ، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله ، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة ، وتتربى بهيئاتها المظلمة ، لا تقبل إلا نفسا مثلها ، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. انتهى.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) قال ابن جرير : أي رب اعف عني ، واستر عليّ ذنوبي وعلى والديّ ، (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) قال ابن جرير : أي ولمن دخل مسجدي ومصلاي ، مصليا مؤمنا بواجب فرضك عليه. وقيل : بيتي منزلي. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي هلاكا وخسارا.

٣٢٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الجن

قال المهايمي : سميت بها لاشتمالها على تفاصيل أقوالهم في تحسين الإيمان ، وتقبيح الكفر ، مع كون أقوالهم أشد تأثيرا في قلوب العامة ، لتعظيمهم إياهم.

وهي مكية. وآيها ثمان وعشرون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (٢)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) أي لهذا القرآن الحكيم. والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط ـ كما في (المجمل) ـ.

قال القاشاني : قد مرّ أن في الوجود نفوسا أرضية قوية ، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها ، وقلة إدراكها ، ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ، ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة ، الغالب عليها الأرضية ، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلويّ ، وتتجرد متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة ، غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية ، على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء الصور المعلقة ، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية ، أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب ، فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء ، فتسترق السمع من كلام الملائكة ، أي النفوس المجردة. ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية ، تأثرت بتأثير تلك القوى ، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها ، وإدراك مداها من العلوم. ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك ، أو تنزجر من

٣٢٨

الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل ، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان ، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان ، الصادقون من الأنبياء والأولياء ، خصوصا أكملهم نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى.

وفي الآية ـ كما قال القاضي ـ دلالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها ، فأخبر الله به رسوله.

(فَقالُوا) أي لما رجعوا إلى قومهم (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) قال المهايمي أي كتابا جامعا للحقائق الإلهية والكونية ، والأحكام والمواعظ ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين. (عَجَباً) أي غريبا ، لا تناسبه عبارة الخلق ، ولا يدخل تحت قدرتهم.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي إلى الحق وسبيل الصواب (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي من خلقه ، في العبادة معه.

تنبيهات :

الأول ـ هذا المقام شبيه بقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] الآية. وقد روى البخاري عن ابن عباس قال. انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب! فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم؟ قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب! قال : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء! قال : فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له ، فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنزل الله عزوجل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) وإنما أوحي إليه قول الجن. ورواه مسلّم أيضا وزاد في أوله : ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم ، انطلق ... إلى آخره.

الثاني ـ قال الماوردي : ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن. قال : والإيمان يقع بأحد أمرين : إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز ، وشروط المعجزة ، فيقع له العلم بصدق الرسول. أو يكون عنده علم من الكتب الأولى ، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشر به ، وكلا الأمرين في الجن محتمل. انتهى.

٣٢٩

الثالث ـ قال الرازي : في الآية فوائد :

إحداها ـ أن يعرفوا بذلك أنه عليه‌السلام كما بعث إلى الإنس ، فقد بعث إلى الجن.

وثانيها ـ أن يعلم قريش أن الجن ، مع تمردهم ، لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه ، فآمنوا بالرسول.

وثالثها ـ أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.

ورابعها ـ أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ، ويفهمون لغاتنا.

وخامسها ـ أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.

وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس. انتهى.

ولما سمعوا القرآن ، ووفّقوا للتوحيد والإيمان ، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه ، واتخاذه صاحبة وولدا ، فاستعظموه ، ونزهوه عنه ، فقالوا :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) (٣)

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي تعالى ملكه وعظمته ، وصدق ربوبيته ، عن اتخاذ الصاحبة والولد.

قال ابن جرير : الجدّ بمعنى الحظ. يقال : فلان ذو جدّ في هذا الأمر إذا كان له حظ فيه ، وهو الذي يقال له بالفارسيّة (البخت). والمعنى : أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة العظيمة عالية ، فلا تكون له صاحبة ولا ولد ، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها ، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد. فقال النفر من الجن : علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه ، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو وقاع شيء يكون منه ولد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٦)

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) يعنون به مضلّهم ومغويهم (عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي قولا ذا شطط. صفة لقول مقدر بتقدير مضاف. أو جعل عين الشطط مبالغة فيه.

٣٣٠

وأصله مجاوزة الحدّ. والمراد منه نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي في نسبة ما ليس بحق ، إليه سبحانه. وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك ، لظنهم أن أحدا لا يكذب على الله ، حتى تبيّن لهم بالقرآن كذب السفيه وافتراؤه. (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي ، فزادهم ذلك إثما. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن وأن رؤساءها تحميهم منهم. وهكذا قال إبراهيم : كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه ، فتقول الجن : ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرّا ولا نفعا.

وقال الربيع بن أنس : كانوا يقولون : فلان من الجن رب هذا الوادي ، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله. قال : فيزيدهم ذلك رهقا ، وهو الفرق.

وقال ابن زيد : كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال : إني أعوذ بكبير هذا الوادي. فلما جاء الإسلام ، عاذوا بالله وتركوهم. انتهى.

أي : لأن ذلك من الشرك ، ولذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله تعالى وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره. وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ، فإنها للإرشاد لذلك.

روى مسلم (١) عن خولة بنت حكيم قالت : من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك.

قال بعضهم : في الحديث تفسير آية الجن ، وأن ما فيها من الشرك ، وأن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر ، أو جلب نفع ، لا يدل على أنه ليس من الشرك.

وفي الآية تأويل غريب نقله الرازي وهو أن المراد كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا ، لكن من شر الجن ، مثل أن يقول الرجل : أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي. وأصحاب هذا التأويل ، إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن. وهذا ضعيف ، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا. انتهى.

__________________

(١) أخرجه في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، ٥٤ و ٥٥.

٣٣١

والضمير المرفوع في (فزادوهم). للجن ، على معنى : فزادوهم باستعاذتهم بهم ، غيّا وإثما وضلالا. أو للإنس على معنى : فزادوا الجن باستعاذتهم كبرا وعتوّا.

و (الرهق) في الأصل غشيان الشيء ، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٩)

(وَأَنَّهُمْ) أي وأوحى إليّ أن الجن (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أي في جاهليتكم.

(أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي رسولا إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم. أو لن ينشر الله أحدا من قبره للحساب والجزاء.

وقيل : الضمير في (وَأَنَّهُمْ) للإنس ، ذهابا إلى أن قوله : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) من كلام الجن ، والخطاب لهم.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) أي حفظة ورواجم. (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث ، وما يكون فيها ، فمن يستمع الآن فيها يجد له شهاب نار قد رصد له.

قال الزمخشريّ : وفي قوله : (مُلِئَتْ) دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة. وكذلك قوله : (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب. والآن ملئت المقاعد كلها. وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمعوا قراءته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠)

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) يعنون أن ما حدث من منعهم السمع من السماء ، ورجم من استمع منهم بالشهب ، كان يقولون هو لأمر

٣٣٢

عظيم أراده الله بأهل الأرض ، إما عذاب أو رحمة. أي : حتى علموا بعد باستماعهم القرآن ، أنه لخير أريد بهم ، وذلك بعثة نبيّ مصلح يرشد إلى الحق.

قال الناصر : ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل. والمراد بالمريد هو الله عزوجل ، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (١٧)

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي المسلمون العاملون بطاعة الله (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي قوم دون ذلك ، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه ، أو الكافرون (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي أهواء مختلفة ، وفرقا شتّى. وهذا بيان للقسمة قبل. أي كنا مثلها أو ذويها. و (الطرائق) : جمع طريقة ، وهي طريقة الرجل ومذهبه. و (القدد) الضروب والأجناس المختلفة ، جمع (قدّة) كالقطعة.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي علمنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي إن أراد بنا سوءا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي إن طلبنا.

قال الزمخشري : هذه صفة أحوال الجن ، وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم ، منهم أخيار وأشرار ، ومقتصدون ، وأنهم يعتقدون أن الله عزوجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ، ولا ينجي عنه مهرب.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) أي القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم (آمَنَّا بِهِ) أي صدّقنا بأنه حق من عند الله ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) أي أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها (وَلا رَهَقاً) أي أن ترهقه ذلّة ، وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد. يعني : أنه يجزى الجزاء الأوفى ، وتكون له في العز العاقبة الحسنى. (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي أذعن وانقاد (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي ترجّوا وتوخوا رشدا عظيما ، وقصدوا صوابا واستقامة.

٣٣٣

وقوله : (فَمَنْ أَسْلَمَ ..) إلخ من كلام الله أو الجن. قال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا ، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم ، وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعدا أن قال (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) فذكر سبب الثواب وموجبه. والله أعدل من أن يعاقب القاسط ، ولا يثيب الراشد. (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي توقد بهم ، كما توقد بكفار الإنس. (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) أي الجن أو الإنس أو كلاهما (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي طريقة الحق والعدل (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي لوسعنا عليهم الرزق. وإنما تجوز بالماء الغدق ، وهو الكثير ، عما ذكر ، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق ، ولعزة وجوده بين العرب. أو لأن غيره يعلم منه بالأولى. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي عبادته أو موعظته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي شديدا شاقّا.

قال الزمخشري : الصعد : مصدر صعد. يقال : صعد صعدا وصعودا. فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب ، أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨)

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي مختصة به (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أي فلا تعبدوا فيها غيره. تعريض بما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى بمسجده الحرام ، ونصبهم في التماثيل والأنصاب ، وبما عليه أهل الكتاب. فإن المساجد لم تشد إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده. ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر ، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩)

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (يَدْعُوهُ) أي يعبد ربه ، (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي جماعات بعضها فوق بعض ، تعجّبا مما رأوه من عبادته ، واقتداء أصحابه به ، وإعجابا بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. فالضمير في (كادوا) للجن. وقد بيّن ذلك حديث البخاريّ كما تقدم. وجوّز رجوعه للمشركين بمكة. والمعنى : لما قام رسولا يعبد الله وحده ، مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه ، كاد المشركون لتظاهرهم عليه ، وتعاونهم على عداوته ، يزدحمون عليه متراكمين ـ حكاه الزمخشري ـ ثم

٣٣٤

قال : (لِبَداً) جمع لبدة ، وهو ما تلبد بعضه على بعض ، ومنها لبدة الأسد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) (٢١)

(قُلْ) وقرئ (قال) (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أي أعبده ، وأبتهل إليه وحده ، (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم ، أو إطباقكم على مقتى. (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لأن ذلك لله تعالى ، وحده ، فلا تستعجلوني بالعذاب.

قال الشهاب في توضيح ما للقاضي هنا : إما أن يراد بالرشد النفع ، تعبيرا باسم السبب عن المسبب ، أو يراد بالضرّ الغيّ ، تعبيرا باسم المسبب عن السبب. ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر. فيكون احتباكا. والتقدير : لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، ولا غيّا ولا رشدا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) (٢٤)

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي إن أراد بي سوءا (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ملتجأ إن أهلكني. وأصله : المدخل من اللحد. وقوله : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) استثناء من قوله : (لا أَمْلِكُ) فإن التبليغ إرشاد ونفع. فهو متصل ، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة. أي لا أملك إلا التبليغ والرسالات ، من معاني الوحي ، وأحكام الحق. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فلم يسمع ما جاء به ، ولم يقبل ما يبلغه (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) أي في الرسالات الإلهية ، من الظهور عليهم والفتح ، أو العذاب الأخرويّ. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي أجند الرحمن أو إخوان الشيطان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٢٧)

٣٣٥

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي غاية تطول مدتها. (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي حرسا من الملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ووساوسهم ، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه.

قال القاشاني : (رصدا) أي حفظة إما من جهة الله التي إليها وجهه ، فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية. وإما من جهة البدن ، فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات ، يحفظونه من تخبيط الجن ، وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات ، بمعارفها اليقينية ، ومعانيها القدسية ، والواردات الغيبية ، والكشوف الحقيقية. انتهى.

تنبيه :

قال الزمخشري : يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى.

قال : وفي هذا إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل ، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. انتهى.

وأجاب أبو السعود بأن معنى الآية : فلا يطلع على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين ، أحدا من خلقه ، إلا من ارتضى من رسول. أي إلا رسولا ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته ، كما يعرب عنه بيان (من ارتضى) بالرسول تعلقا تاما ، إما لكونه من مبادئ رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها ، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون ، وكيفيات أعمالهم ، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة ، وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث ، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. وأما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب ، التي من جملتها قيام الساعة ، فلا يظهر عليه أحدا أبدا. على أن بيان وقته مخلّ بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة. وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف. فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل ، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم

٣٣٦

أصلا ، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم‌السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. انتهى.

وملخصه تقييد الغيب بما هو معجزة أو من وظائف الرسالة. وهكذا نحا النسفي في الجواب ، مع بيان الفارق وعبارته أي إلا رسولا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له ، فإنه يطلعه على غيبه ما شاء : و (من رسول) بيان (من ارتضى). والولي إذا أخبر بشيء فظهر ، فهو غير جازم عليه ، ولكنه أخبر بناء على رؤياه ، أو بالفراسة. على أن كل كرامة للوليّ فهي معجزة للرسول. انتهى.

وقال الرازي : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه ـ يعني الزمخشري ومن تابعه ـ والذي تدل عليه أن قوله (على غيبه) ليس فيه صيغة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه ، فنحمله على وقت وقوع القيامة ، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد ، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد.

قال : والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقب قوله : (إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) يعني : لا أدري وقت وقوع القيامة. ثم قال بعده (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد. وبالجملة فقوله : (على غيبه) لفظ مفرد مضاف ، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد. فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه.

فإن قيل : فإذا حملتم ذلك على القيامة ، فكيف قال : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله؟

قلنا : بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة ، وكيف لا وقد قال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] ، ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة. وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا ، كأنه قال : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص ، وهو يوم القيامة ، أحدا. ثم قال بعده : لكن من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن. لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به ، والاستحقار لدينه ومقالته.

٣٣٧

وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق ، والرسول بالملك.

وناقشه في العناية بأن المرضي حمل الرسول على المتعارف لدلالة الساق والسياق عليه هذا ، ونقل النسفي عن التأويلات ما مثاله :

قال بعضهم : في هذه الآية تكذيب المنجمة ، وليس كذلك ، فإن فيهم من يصدق خبره ، وكذلك المتطببة فإنهم يعرفون طبائع النبات ، وهذا لا يعرف بالتأمل ، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره ، وبقي علمه في الخلق. انتهى.

وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة زعما بأن معرفة مواقيت الكسوف ، وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب. والصواب عدم شموله لمثله ، لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث ، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية. وبالجملة فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء. ولذا قال بعض الحكماء : لو كان من وظيفة النبيّ أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية ، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل ، وينزع الاستقلال من الإنسان ، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من كل شيء بالتسليم ، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم. وإن شئت فقل : لوجب أن لا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه. نعم ، إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم ، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة. وقد أرشدنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال (١)(أنتم أعلم بأمور دنياكم) انتهى. فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨)

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) متعلق ب (يَسْلُكُ) غاية له. والضمير إما

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الفضائل ، حديث ١٤١.

٣٣٨

لـ (الرصد) ، وإما ل (مَنِ ارْتَضى). والجمع باعتبار معنى (من). أي ليبلغوا ، فيظهر متعلق علمه. وإيراد علمه تعالى للعناية بأمر الإبلاغ ، والإشعار بترتيب الجزاء عليه ، والمبالغة في الحث عليه ، والتحذير عن التفريط فيه. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي بما عند الرصد ، أو الرسل عليهم‌السلام. حال من فاعل (يَسْلُكُ) جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي فردا فردا لسعة علمه. تقرير ثان لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه ، ووعد ووعيد كما عرف من نظائره.

٣٣٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المزّمّل

قال المهايمي : سميت به لدلالته على عظم أمر الوحي ، لأن أقوى الخلائق كان يرتعد عنده فيتزمل.

وهي مكية ، قيل : إلا قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) إلى آخر السورة ، وآيها عشرون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي المتزمل. من (تزمل) بثيابه إذا تلفف بها. فأدغم التاء في الزّاي خوطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكاية حاله وقت نزول الوحي ، ملاطفة وتأنيسا وتنشيطا للتشمر لقيام الليل ، وقيل : معناه المتحمل أعباء النبوة ، من تزمل الزّمل ، إذا تحمل الحمل. ففيه استعارة. شبّه إجراء التبليغ بتحمل الحمل الثقيل ، بجامع المشقة.

قال الشهاب : وأورد عليه أنه مع صحة المعنى الحقيقي ، واعتضاده بالأحاديث الصحيحة ، لا وجه لادعاء التجوز فيه.

وقد يجاب بأن الأحاديث رويت في نزول سورة (المدثر) لا في هذه السورة ، كما سيأتي إن شاء الله ، إلا أن يقال : هما بمعنى واحد.

(قُمِ اللَّيْلَ) أي : فيه للصلاة ، ودع التزمل للهجوع (إِلَّا قَلِيلاً) أي بحكم الضرورة للاستراحة ، ومصالح البدن ومهماته التي لا يمكن بقاؤه بدونها.

ثم بيّن تعالى قدر القيام مخيرا له بقوله : (نِصْفَهُ) أي نصف الليل بدل من الليل. (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي من النصف (قَلِيلاً) أي إلى الثلث.

٣٤٠