تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

وقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨ و ١٢٣] ، وقال : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ، إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [لقمان : ٣٣] ، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة ؛ أن من تعلقوا به من دون الله ، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة ، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الذي بعث الله جميع رسله ، وأنزل جميع كتبه ، بإبطاله ، ومحاربة أهله ومعاداتهم.

وأما المثلان اللذان للمؤمنين. فأحدهما امرأة فرعون ، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله ، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة ، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله ، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به ، وهو أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، وهما رسولا رب العالمين.

المثل الثاني للمؤمنين : مريم ، التي لا زوج لها ، لا مؤمن ولا كافر.

فذكر ثلاثة أصناف النساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح ، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد. فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها ، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.

ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتحذير من تظاهرهن عليه ، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ، ويردن الدار الآخرة ، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.

قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة. ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر : وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا ، قذف أعداء الله اليهود لها ، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه ، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين ، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه. وفي هذه تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك ، وتوطين نفسها على

٢٨١

ما قال فيها الكاذبون ، إن كانت قبلها. كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن ، والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه. وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. انتهى.

الثالث ـ قال القاشانيّ : بيّن تعالى أن الوصل الطبيعية ، والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية. بل المحبة الحقيقية ، والاتصالات الروحانية ، هي المؤثرة فحسب. والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت ، ولا تكون إلا في الدنيا ، بالتمثيلين المذكورين. وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح ، والاعتقاد الحق ، كإحصان مريم ، وتصديقها بكلمات ربها ، وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها. وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بالطاعة ، ولا تحفظ الأسرار ، وتبيح المخالفة ، داخلة في نار الحرمان ، وجحيم الهجران مع المحجوبين ، ولا تغني هداية الروح عنها شيئا من الإغناء في باب العذاب. وأن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية ، الطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت فيه قوة محبة الله لصفائه ، وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه ، لا يبقى في العذاب مخلدا ويخلص إلى النجاة ، ويبقى في النعيم سرمدا ، وإن تعذب بمجاورتها حينا ، وتألم بأفعالها برهة. وأن النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج ، هي القابلة لفيض روح القدس المتنورة بنور الروح المصدقة بكلمات الرب ، من العقائد الحكمية ، والشرائع الإلهية ، المطيعة لله مطلقا ، علما وعملا ، سرّا وجهرا. انتهى ملخصا.

الرابع ـ في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) على صحة أنكحة الكفار. أقول : ويستدل بقوله تعالى (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) إلى قوله : (فَخانَتاهُما) على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية ، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع. وهو جليّ. ويستدل بذلك أيضا على أن نكاح المشركات كان جائزا في شرع من قبلنا ، وقد حظره الإسلام أشد الحظر ، كما مرّ في آيات عديدة.

الخامس : قال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون (رَبِّ ابْنِ لِي

٢٨٢

عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار ، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع.

السادس ـ قال الزمخشريّ : في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله ، والالتجاء إليه ، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين ، وسنن الأنبياء. والمرسلين (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٨] ، (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [يونس : ٨٥ ـ ٨٦].

٢٨٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الملك

قال المهايميّ : سميت به لاشتمالها على كثير مما ينبغي أن يكون عليه الملك من كثرة الخيرات ، وعموم القدرة ، والإحياء والإماتة ، واختبار أعمال الناس ، والغلبة والغفران ، ورفع الأبنية لخدامه وعدم التفاوت في رعاياه ، وتزيين بلاده ، والقهر على الأعداء ، والترحم على الأولياء ، والأمن ورخص الأسعار ، وأن لا يقدر أحد على نصر من عاداه ، ولا على رزق من منعه. انتهى.

وتسمى سورة (تبارك). وهي مكية. وآيها ثلاثون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال ابن جرير : أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة ، وسلطانهما ، نافذ فيهما أمره وقضاؤه ، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة ، لا يمنعه مانع ، ولا يحول بينه وبينه عجز.

وقال القاشانيّ : الملك ، عالم الأجسام ، كما أن الملكوت عالم النفوس. ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك ، بحسب مشيئته بالتبارك ، الذي هو غاية العظمة ، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة. وباعتبار تسخيره عالم الملكوت ، بمقتضى إرادته بالتسبيح ، الذي هو التنزيه ، كقوله (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [يس : ٨٣] ، كلّا بما يناسبه ، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام ، والتنزه يناسب المجردات عن المادة. فمعنى (تبارك) تعالى وتعاظم ، الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته ، لا يتصرف فيه غيره فبيده كل ما وجد من الأجسام ، لا بيد غيره ، يصرفها كما يشاء ، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات ، يوجدها على ما يشاء.

٢٨٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (٢)

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : قدر الموت والحياة فأمات من شاء وما شاء ، وأحيى من أراد وما أراد ، إلى أجل معلوم. أو أجد الحياة ، وأزالها حسبما قدّره.

قال القاشانيّ : الموت والحياة من باب العدم والملكة. فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس. والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون له. وعدم الملكة ليس عدما محضا ، بل فيه شائبة الوجود. والألم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجوديّ ، فلذلك صح تعلق الخلق به ، كتعلقه بالحياة ، وجعل الغرض من خلقهما ، بلاء الإنسان في حسن العمل وقبحه ، أي العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء ، وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الإنسانية بعد وقوع المعلوم ، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب ، الظاهر بظهور المعلوم ، لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال ، والموت هو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه ، وبه يظهر آثار الأعمال ، كما أن الحياة يظهر بها أصولها ، وبهما تتفاضل النفوس في الدرجات ، وتتفاوت في الهلاك والنجاة. وقدم الموت على الحياة ، لأن الموت في عالم الملك ذاتيّ ، والحياة عرضية. وقيل : إن أريد به العدم السابق ، فتقدمه ظاهر ، لسبقه على الوجود. أو العدم اللاحق ، فتقديمه لأن فيه عظة وتذكرة ، وردعا عن ارتكاب المعاصي.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي : الغالب الذي يقهر من أساء العمل (الْغَفُورُ) أي لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣)

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) قال ابن جرير : طبقا فوق طبق ، بعضها فوق بعض.

وقال المهايميّ : أي يوافق بعضها بعضا بلا تضاد ، ليتم أمر الحكمة في الكوائن والفواسد.

٢٨٥

وقال بعض علماء الفلك : اعلم أن لفظ (السماء) يطلق لغة على كل ما علا الإنسان ، فإنه من السموّ ، وهو العلو ، فسقف البيت سماء. ومنه قوله تعالى (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥] ، أي فليمدد بحبل إلى سقف بيته. وهذا الفضاء اللانهائيّ سماء. ومنه قوله تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤]. والسحاب سماء ، ومنه قوله تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [البقرة : ٢٢] ، والكواكب سماوات. فالسماوات السبع المذكورة كثيرا في القرآن الشريف ، هي هذه السيارات السبع ، وهي طباق ، أي : أن بعضها فوق بعض ، لأن فلك كل منها فوق فلك غيره.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي : تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكم ، بل راعاها في كل خلقه.

(فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي إن شككت ، فكرر النظر (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟) أي : خلل. وأصل (الفطور) الصدوع والشقوق. أريد به لازمه. كذا قالوه ، والصحيح أنه على حقيقته أي : هل ترى من انشقاق وانقطاع بين السموات ، بحيث تذهب باتصالات الكواكب فتفرقها ، وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها؟ كلا! بل هي متجاذبة ، مرتبط بعضها ببعض من كل جهة ، كما تقدم في سورة (ق) في آية : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦].

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤)

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ) أي كرره (كَرَّتَيْنِ) أي : رجعتين أخريين ، ابتغاء الخلل والفساد والعبث. والمراد بالتثنية التكرير. (يَنْقَلِبْ) أي : يرجع (إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) أي : مطرودا عن إصابة المطلوب. (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي : معيي كالّ.

تنبيهات :

الأول ـ ذهب الزمخشريّ إلى أن قوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) صفة ثانية لقوله : (سَبْعَ سَماواتٍ) وضع فيها ـ خلق الرحمن ـ موضع الضمير للتعظيم ، والأصل (فيهنّ) وتابعة القاضي والقاشانيّ ، وعبارته :

نهاية كمال عالم الملك في خلق السموات ، لا ترى أحكم خلقا ، وأحسن نظاما وطباقا منها. وأضاف خلقها إلى الرحمن ، لأنها من أصول النعم الظاهرة ،

٢٨٦

ومبادئ سائر النعم الدنيوية ، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضا ، وحسن انتظامها وتناسبها. وإنما قال (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) لأن تكرار النظر ، وتجوال الفكر ، مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق ، لا يفيد إلا الخسوء والحسور ، تحقق الامتناع ، وما أتعب من طلب وجود الممتنع. انتهى.

ولو جعل قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) مستأنفا ، مقررا بعمومه لتناسب خلقه وإتقانه ، وتناهي حسنه ، فيشمل ما قبله ـ لكان أولى من تخصيصه بوصفية ما قبله ، ويكون كآية : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] ، وآية : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨] ، وتلطف بعضهم فقال : في الآية إشارة إلى قياس تقديره : ما ترى فيها من تفاوت لأنها من خلقه تعالى. وما ترى في خلقه من تفاوت.

الثاني ـ للإمام ابن حزم رحمه‌الله كلام في هذه الآية في كتاب (الفصل) ساقه في مباحثه مع المعتزلة ، نأثره هنا لنفاسته ، قال رحمه‌الله :

التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس ، أو خرج عن المعهود ، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه ، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس تفاوتا ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت ، لكذب قول الله عزوجل (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ولا يكذب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت ، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عزوجل ، مرئيّ فيه ، مشاهد بالعيان فيه ، فبطل احتجاجهم.

فإن قال قائل : فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عزوجل أنه لا يرى في خلقه؟

قيل لهم : هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلا ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم ، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى. والله تعالى قد أكذب هذا ، وأخبر أنه لا يرى في خلقه.

ثم نقول ، وبالله تعالى التوفيق : إن العالم كله ما دون الله تعالى ، وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئا منها. ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه ، وأنواع أجسامه ، جرت القسمة جريا مستويا في تفضيل أجناسه وأنواعه ، بحدودها المميزة لها ، وفصولها المفرقة بينها ، على رتبة واحدة ،

٢٨٧

وهيئة واحدة ، إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع ، الأنواع ؛ لا تفاوت في شيء من ذلك البتة ، بوجه من الوجوه ، ولا تخالف في شيء منه أصلا. ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا ، والصورة المستحسنة عندنا. واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم العرض ، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ، ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم.

وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت فعل النفس ، ثم تحت الكيفية والعرض ، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ، ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم. وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية ، وتحت اسم العرض ، وقوعا حقا مستويا لا تفاوت فيه ولا اختلاف.

وهكذا القول في الظلم والإنصاف ، وفي العدل والجور ، وفي الصدق والكذب ، وفي الزنا والوطء الحلال. وكذلك كل ما في العالم ، حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى. وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة. فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى ، وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ، ضرورة لا منفك لهم عنها ، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتا كما زعموا ، لكان التفاوت موجودا في خلق الرحمن. وقد كذب الله تعالى ذلك ، وهي أن يرى في خلقه تفاوت. انتهى كلامه.

الثالث ـ قال الناصر : في قوله تعالى (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) وضع للظاهر موضع المضمر. وفيه من الفائدة التنبيه على أن الذي يرجع خاسئا حسيرا غير مدرك الفطور ، هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن ، فإذا لم يدرك شيء ، دل على أنه لا شيء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (٥)

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) قال ابن جرير : وهي النجوم. وجعلها (بِمَصابِيحَ) لإضاءتها. وكذلك الصبح ، إنما قيل له صبح ، للضوء الذي يضيء للناس من النهار. (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) قال ابن كثير : عاد الضمير في قوله تعالى

٢٨٨

(وَجَعَلْناها) على جنس المصابيح ، لا على عينها ، لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها ـ والله أعلم ـ.

وقال القاضي : أي وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المسببة عنها. وقيل : معناه وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس ـ وهم المنجمون ـ.

قال الشهاب : مرّضه لأنه خلاف الظاهر المأثور. و (الرجم) يكون بمعنى الظن ، مجازا معروفا. والآية بمعنى آية الصافات (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ٦ ـ ١٠] ، (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي في الآخرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١)

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع ذلك العذاب المحرق.

قال الناصر : هذا من الاستطراد. لما ذكر وعيد الشياطين ، استطرد ذلك وعيد الكافرين عموما.

(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ، الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسيّ ، أو لأنفسهم. فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة الصوت ، كقوله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود : ١٠٦] ، أولها نفسها ، تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق ، وهو الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة ، كصوت الحمار.

(وَهِيَ تَفُورُ) أي : تغلي بهم وتعلو.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تتفرق أجزاؤها من الغيظ على الذين أغضبوا الله

٢٨٩

ورسوله. شبهت في شدة غليانها ، وقوة تأثيرها في أهلها ، بإنسان شديد الغيظ على غيره ، مبالغ في إيصال الضرر إليه ، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية ، وهي الغضب الباعث على ذلك. واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ ـ كما في شرح المفتاح الشريفي ـ وأما ثبوت الغيظ الحقيقيّ لها ، بخلق الله فيها إدراكا ، فبحث آخر. لكنه قد قيل هنا : إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه ، لأن (تكاد) تأباه ، كما في قوله : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور : ٣٥] ، وقد صرح به علماء المعاني في بحث المبالغة والغلوّ. وجوز أن يراد غيظ الزبانية. فالإسناد مجازيّ ، أو على تقدير مضاف ـ كما في (العناية) ـ.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي : جماعة من الكفرة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي : في الدنيا ينذركم هذا العذاب.

قال في (الإكليل) : استدل به على أنه لا تكليف قبل البعثة.

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي : فكذبنا الرسل ، وأفرطنا في التكذيب ، حتى نفينا الإنزال والإرسال رأسا ، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال.

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) أي : من النّذر ما جاءت به ، سماع طالب الحق ، وعقل من نبذ الهوى (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي : في عداد أهل النار.

تنبيهان :

الأول ـ قال الناصر : لو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلا على تفضيل السمع على البصر ، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها.

الثاني ـ قال ابن السمعانيّ في (القواطع) : استدل به من قال بتحكيم العقل.

وقال الزمخشريّ : قيل إنما جمع بين السمع والعقل ، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي : فأقروا بجحدهم الحق ، وتكذيبهم الرسل ، فبعدا لهم ، اعترفوا أو أنكروا ، فإن ذلك لا ينفعهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١٢)

٢٩٠

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي يخافونه أو يخافون عذابه ، وهم لم يروه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٣)

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بضمائرها ، فكيف بما نطق به؟ والمعنى : فاتقوه واخشوه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤)

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : ألا يعلم السر والجهر ، من خلق الأشياء ، والخلق يستلزم العلم كما قال : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي اللطيف بعباده ، الخبير بأعمالهم. وقيل : معنى الآية : ألا يعلم الله من خلقه ، وهو بهذه المثابة ف (من) مفعول ، والعائد مقدر.

قال الغزاليّ : إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها ، وما لطف منها ، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق ، دون العنف. و (الخبير) هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة ، فلا تتحرك في الملك والملكوت ذرة ، ولا تسكن أو تضطرب نفس ، إلا وعنده خبرها. وهو بمعنى العليم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) أي لينة سهلة المسالك. (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي : في نواحيها وجوانبها على التشبيه.

قال ابن جرير : لأن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.

(وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي التمسوا من نعمه تعالى.

قال الشهاب : فالأكل والرزق ، أريد به طلب النعم مطلقا ، وتحصيلها أكلا وغيره. فهو اقتصار على الأهم الأعم ، على طريق المجاز أو الحقيقة.

قال : وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا ، وما فيها ، لم تجد شيئا منها على المرء غير ما أكله ، وما سواه متمم له ، أو دافع للضرر عنه.

٢٩١

(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي نشوركم من قبوركم للجزاء.

تنبيه :

قال في (الإكليل) : في قوله تعالى (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الأمر بالتسبب والكسب.

وقال ابن كثير : في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض ، وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأ فيها من المنافع ، ومواضع الزرع والثمار. والمعنى : سافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها ، في أنواع المكاسب والتجارات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) (١٧)

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) خطاب للكافرين. أي أأمنتم العليّ الأعلى أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم إلى أسفل سافلين. (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي : تضطرب وتهتز هزا شديدا بكم ، وترتفع فوقكم ، وتنقلب عليكم.

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهو التراب ، فيه الحصباء الصغار ، (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) قال ابن جرير : أي عاقبة نذيري لكم ، إذا كذّبتم به ، ورددتموه على رسولي.

وقد بيّن تعالى نذيره لهم في غير ما آية ، وهو زهوق باطلهم إذا أصرّوا ، ونصر رسوله ، وغلبة جنده ، كما قال تعالى (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨].

قال الشهاب : (النذير) مصدر ، والياء محذوفة ، والقرّاء مختلفون فيها : فمنهم من حذفها وصلا ، وأثبتها وقفا ، ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة وكذلك الحال في (نكير).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١٩)

٢٩٢

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مع كونهم أشد منهم عددا وعددا (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي نكيري تكذيبهم. وذلك بإنزال العذاب بهم ، ودحر باطلهم.

قال القاضي : هو تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد لقومه المشركين.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهن في الجوّ عند طيرانها ، (وَيَقْبِضْنَ) أي ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن ، وقت ، للاستظهار. ولتجدده عبر عنه بالفعل ، إشارة إلى أنه أمر طارئ على الصف. يفعل في بعض الأحيان للتقوّي بالتحريك. كما يفعله السابح في الماء ، يقيم بدنه أحيانا ، بخلاف البسط والصف ، فإنه الأصل الثابت في حالة الطيران ، ولذا اختير له الاسم.

(ما يُمْسِكُهُنَ) أي في الجو (إِلَّا الرَّحْمنُ) أي المفيض لكلّ ما قدّر له ، حسب استعداده بسعة رحمته. ومنه ما دبر للطيور من بنية يتأتى منها الجري في الجوّ.

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) قال القاشاني : أي فيعطيه ما يليق به ، ويسوّيه بحسب مشيئته ، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته ، ثم يهديه إليه بتوفيقه.

ثم بكّت تعالى المشركين ، بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ) (٢٠)

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) أي معشر المشركين (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أي إن أراد بكم سوءا ، فيدفع عنكم بأسه. (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضرّ. أو أنها تقرّبهم إلى الله زلفى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١)

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) يعني المطر ونحوها (بَلْ لَجُّوا) أي تمادوا (فِي عُتُوٍّ) أي عناد وطغيان (وَنُفُورٍ) أي شراد عن الحق واستكبار ، مع وضوح براهينه ، فأصرّوا على اعتقاد أنهم يحفظون من النوائب ، ويرزقون ببركة آلهتهم ، وأنهم الجند الناصر الرازق ، مكابرة وعنادا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢)

٢٩٣

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تمثيل للضالين والمهتدين. و (المكب) هو المتعثر الذي يخرّ على وجهه لو عورة طريقه ، واختلاف سطحه ارتفاعا وانخفاضا. والذي يمشي سويّا هو القائم السالم من العثار ، لاستواء طريقه ، واستقامة سطحه.

قال القاضي : والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين ، والدينين بالمسلكين. ولعل الاكتفاء بما في الكبّ من الدلالة على حال المسلك ، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقا. أي : فلذلك ذكر المسلك في الثاني دون الأول.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٦)

(قُلْ هُوَ) أي المستحق للعبادة وحده ، وسلوك صراطه (الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي العقول والإدراكات (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي باستعمالها فيما خلقت له (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلقكم فيها لتعبدوه ، وتقوموا بالقسط الذي أمر به (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي للجزاء (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الحشر أو الفتح على رسوله وظهور دينه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في الإنذار به ، والترهيب منه (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي بيّن الحجة على ما أنذركم به ، من زهوق باطلكم إذا جاء أجله. وأما تعيين وقته ، فليس إليّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧)

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي : ما وعدوا به من العذاب ، وزهوق باطلهم (زُلْفَةً) أي : قريبا ، أو ذا زلفة ، أي قرب (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن (وَقِيلَ) أي لهم تبكيتا (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي تطلبون وتستعجلون به ، من الدعاء ، أو تدّعون أن لا بعث ، من (الدعوى).

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٨)

٢٩٤

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) كان كفار مكة يتربصون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ريب المنون ، تخلصا من دعوته وانتشارها ، فأمر أن يقول لهم ذلك. أي أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين ، أو رحمنا بتأجيل آجالنا وانتصارنا ، فمن يجيركم من عذاب أليم قضى الله وقوعه بكم لكفركم؟.

قال ابن كثير : أي خلصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم. والمعني بالعذاب : إما الدنيوي ، وهو خزيهم بالانتصار عليهم ، ودحور ضلالهم. أو الأخروي ، وهو أشد وأبقى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٩)

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي اعتمدنا في أمورنا ، لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم. (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في ذهاب عن الحق ، وانحراف عن طريقه منا ومنكم ، إذا جاء نصر الله والفتح في الدنيا ، ونشأته الثانية في الأخرى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا لا تناله الدلاء ، أو ذاهبا في الأرض (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟) أي جار ظاهر سهل التناول.

قال الرازي : المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي : أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض ، فمن يأتيكم بماء معين؟ فلا بد وأن يقولوا : هو الله. فيقال لهم حينئذ : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا ، شريكا له في العبودية. وهو كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)؟ [الواقعة : ٦٨] ، أي بل هو الذي أنزله وسلكه ينابيع ، رحمة بالعباد ، فله الحمد.

٢٩٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة القلم

وتسمى سورة القلم. وهي مكية. وآيها اثنتان وخمسون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤)

(ن) بالسكون على الوقف : اسم للحرف المعروف ، قصد به التحدي. أو اسم للسورة ، منصوب ب (اذكر) أو مرفوع خبرا لمحذوف (وَالْقَلَمِ) أي الذي يخطّ به (وَما يَسْطُرُونَ) أي يكتبون. و (ما) مصدرية أو موصولة. وقوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جواب القسم ، قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦].

قال الزجاج : (أنت) هو اسم (ما) ، و (بمجنون) الخبر. وقوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في البين. والمعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، وأنت بحمد الله فهم. ومعناه : أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت ، والصفة المذمومة إنما زالت ، بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه. فالباء في (بِنِعْمَةِ) متعلقة بمعنى النفي المدلول عليه ب (ما) والباء في (بِمَجْنُونٍ) زائدة.

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) أي ثوابا على أذى المشركين ، واحتمال هذا الطعن ، والصبر عليه (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير منقوص ولا مقطوع.

قال ابن جرير : من قولهم (حبل منين) إذا كان ضعيفا ، وقد ضعفت منته ، أي : قوته. أو غير ممنون به عليك ، زيادة في العناية به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتنويه بمقامه.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال ابن جرير : أي أدب عظيم. وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به ، وهو الإسلام وشرائعه.

٢٩٦

قالت عائشة (١) : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. أي كما هو في القرآن.

قال الرازي : وهذا كالتفسير لقوله (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) والدلالة القاطعة على براءته مما رمى به ، لأن الأخلاق الحميدة ، والأفعال المرضية ، والفصاحة التامة ، والعقل الكامل ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة ، كانت ظاهرة منه. وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون. فكذب من أضافه إليه وضل ، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧)

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أي أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة.

(بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي المجنون. والباء مزيدة. أو الفتنة والفتون ذهابا ، إلى أن المصدر يجيء على زنة المفعول والباء أصلية بمعنى (في). أي : من كوشف بأسرار العلوم ، وأوتي جوامع الكلم ، أم من حجب عما في نفسه من آيات الله والعبر ، وفتن بعبادة الصنم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : عن طريق الحق الذي أمر به ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بمن اتبع الحق ، وسلك سبيله ، فسيجزي الفريقين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦)

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي بآيات الله ، وما جاءهم من الحق.

قال الزمخشري : تهييج وإلهاب على معاصاتهم.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي : ودوا لو تركن إلى آلهتهم ، وتترك ما أنت عليه من الحق ، فيمالئونك ـ رواه ابن جرير عن مجاهد ـ ثم قال : أي : لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم ، فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال جل ثناؤه :

__________________

(١) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين ، حديث رقم ١٣٩.

٢٩٧

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥] ، وإنما هو مأخوذ من الدهن ، شبه التليين في القول بتليين الدهن.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي : كثير الحلف. قال الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ، ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤]. (مَهِينٍ) أي : حقير الرأي والتمييز.

(هَمَّازٍ) أي : عيّاب طعان. قال ابن جرير : والهمز أصله الغمز. فقيل للمغتاب : هماز ، لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون ، وذلك غمز عليهم. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقّال لحديث الناس بعضهم في بعض ، للإفساد بينهم.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال ، ضنين به. والخير المال. أو صادّ عن الإسلام. (مُعْتَدٍ) أي : على الناس ، متجاوز في ظلمهم (أَثِيمٍ) كثير الآثام.

(عُتُلٍ) أي جاف غليظ. دعيّ (بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) أي : دعيّ ملصق في النسب ، ليس منهم. أو مريب يعرف بالشر. قال ابن جرير : ومعنى (بعد) في هذا الموضع معنى (مع).

وقال الشهاب : الإشارة لجميع ما قبله من النقائص ، لا للأخير فقط. وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القباحة. ف (بعد) هنا ك (ثم) الدلة على التفاوت الرتبيّ ، كما مر في قوله : (بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤].

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) قال الزمخشري : متعلق بقوله (وَلا تُطِعْ) يعني : ولا تطعه مع هذا المثالب ، لأن كان ذا مال. أي : ليساره وحظه من الدنيا. ويجوز أن يتعلق بما بعده ، على معنى لكونه متمولا مستظهرا بالبنين ، كذب بآياتنا.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي : تقرأ عليه آيات كتابنا (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : هذا مما كتبه الأولون ، استهزاء به ، وإنكارا منه أن يكون ذلك من عند الله.

وقوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) عدة منه تعالى بغاية إذلاله ، بعد تناهي كبره وعجبه وزهوه وعتوه. تقول العرب : وسمته بميسم السوء : يريدون أنه ألصق به من العار ما لا يفارقه. قال جرير :

لما وضعت على الفرزدق ميسمي

وعلى البعيث ، جدعت أنف الأخطل

قال الزمخشري : الوجه أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه ،

٢٩٨

لتقدمه له ، ولذلك جعلوه مكان العز والحميّة ، واشتقوا منه (الأنفة) وقالوا : الأنف في الأنف ، وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه. فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين وإذالة ، فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أكرموا الوجوه ، فوسمها في جواعرها. وفي لفظ (الخرطوم) استخفاف به واستهانة ، لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل. وقيل : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة ، كما عادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عداوة بان بها عنهم. انتهى.

تنبيه :

قيل : عنى بالآية الأخنس بن شريق. قال ابن جرير : وأصله من ثقيف ، وعداده في بني زهرة. أي : لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية. ولذا سمي زنيما للصوقه بالقوم ، وليس منهم وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، ادعاه أبو بعد ثماني عشرة من مولده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ) (١٨)

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي بلونا مشركي مكة ، فاختبرنا بهذا التنزيل الحكيم ، هل يشكرون نعمته ، فيحيوا حياة طيبة ، أو يصرون على تكذيبه ، فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي ، ثم دمارهم.

وقيل : معناه أصبناهم ببلية ، وهي القحط والجوع ، بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وهم قوم من أهل الكتاب ـ على ما روي عن ابن عباس ـ أو ناس من الحبشة ـ في قول عكرمة ـ أي : كتابيون. فيتفق مع ما قبله ، وليس من ضرورة الاعتبار بالمثل والعظة به ، تعيين أهله ، لو لا محبة المأثور (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي : ليقطعن ثمارها مبكرين بحيث لا يعلم مسكين بذلك (وَلا يَسْتَثْنُونَ) قال المهايمي : أي : ولا يخرجون شيئا من حق المساكين ، واقتصر عليه. وحكاه الرازيّ والقاضي قولا ثانيا. والأول أن معناه : ولا يقولون إن شاء الله ـ واقتصر عليه ابن جرير والأول أظهر ، والاستثناء بمعنى الإخراج الحسي ، والجملة معطوفة على (لَيَصْرِمُنَّها) ومقسم عليها.

٢٩٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠)

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي فطرق جنة هؤلاء القوم ، طارق من أمر الله لتدميرها.

قال ابن جرير : ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلا ، ولا يكون نهارا. وقد يقولون : أطفت بها نهارا. وذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده :

أطفت بها نهارا غير ليل

وألهى ربّها طلب الرّخال

و (الرخال) أولاد الضأن الإناث.

فقوله : (وَهُمْ نائِمُونَ) أي مستغرقون في سباتهم ، غافلون عما يمكر بهم. تأكيد على الأول ، وتأسيس على الثاني (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي كالبستان الذي صرم ثمره ، بحيث لم يبق فيه شيء. أو كالليل الأسود لاحتراقها. وأنشد في ذلك ابن جرير لأبي عمرو بن العلاء :

ألا بكرت وعاذلتي تلوم

تهجّدني وما انكشف الصّريم

وقال أيضا :

تطاول ليلك الجون البهيم

فما ينجاب عن صبح صريم

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧)

(فَتَنادَوْا) أي فنادى بعضهم بعضا (مُصْبِحِينَ) أي وقت الصبح ، ولم يشعروا بما جرى عليهم بالليل (أَنِ اغْدُوا) أي اخرجوا غدوة (عَلى حَرْثِكُمْ) أي زرعكم (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي قاصدين قطع ثمارها ، وقد قطعها البلاء من أصلها (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي يكتمون ذهابهم ويتسارّون فيما بينهم (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فقير. فالجملة مفسرة. أو (أن) مصدرية. أي بأن.

قال الزمخشري : والنهي عن الدخول للمسكين ، نهي لهم عن تمكينه منه. أي

٣٠٠