تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

القراء. ولغتان صحيحتان. والعرب تجمع العمود عمدا وعمدا ، بضم الحرفين وفتحهما ، كما تفعل في جمع إهاب تجمعه أهبا وأهبا.

تنبيه :

قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة ، ما مثاله : الهمز أي الكسر من أعراض الناس واللمز أي الطعن فيهم ، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر. لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس. وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها. فينسب العيب والرذيلة إليهم ، ليظهر فضله عليهم. ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة. فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية.

ثم قال : وفي قوله تعالى : (وَعَدَّدَهُ) إشارة أيضا إلى الجهل. لأن الذي جعل المال عدة للنوائب ، لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب. لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات ، فكيف يدفعها؟ وكذا في قوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي لا يشعر أن المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية ، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل ، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل. والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية ، أصل جميع الرذائل ، ومستلزم لها. فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها ، العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره.

٥٤١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفيل

مكية ، وآيها خمس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (٥)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة ، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم. كما سيأتي.

قال أبو السعود : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنكار عدمها. والرؤية علمية. أي ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان ، باستماع الأخبار المتواترة ، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عزوجل لا بنفسه ، بأن يقال ألم تر ما فعل ربك إلخ ـ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن ذلك من الإرهاصات. لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما سنأثره. وقوله تعالى : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) بيان إجمالي لما فعل بهم. أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا ، وتدميرهم أشد تدمير.

قال الرازي : اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية (إن قيل) لم سماه كيدا وأمره كان ظاهرا ، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت؟ (قلنا) نعم لكن الذي

٥٤٢

كان في قلبه شر مما أظهر. لأنه كان يضمر الحسد للعرب ، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة ، منهم ومن بلدهم ، إلى نفسه وإلى بلدته (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أي طوائف متفرقة ، يتبع بعضها بعضا من نواح شتى و (أبابيل) جمع لا واحد له ، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء. وزعم أبو جعفر الرؤاسي ـ وكان ثقة ـ أنه سمع واحدها إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة. وهي حزمة الحطب. استعير لجماعة الطير. وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها (أبول) وعن آخرين (أبيل) سماعا كما أثره ابن جرير. والتنكير في (طيرا) إما للتحقير ، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر. أو للتفخيم ، كأنه يقول وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل. أفاده الرازي.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين متحجر. وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعنيّ بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل.

قال ابن جرير : وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ولا لغة. وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال ابن جرير : كزرع أكلته الدواب فراثته ، فيبس وتفرقت أجزاؤه. شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم ، وتفرق آراب أبدانهم بها ، بتفرق أجزاء الروث ، الذي حدث عن أكل الزرع.

قال الشهاب : ولم يذكر الروث لهجتنه. فجاء على الآداب القرآنية. وفيه إظهار تشويه حالهم.

وقال أبو مسلم : (العصف) التين ، لقوله : (ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ ..) [الرحمن : ١٢] ، لأنه تعصف به الريح عند الذرّ ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه. انتهى.

ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى : كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه ، والتقدير كعصف مأكول الحب. كما يقال فلان حسن أي حسن الوجه. فأجرى (مأكول) على (العصف) من أجل أنه أكل حبه. لأن هذا المعنى معلوم. ومنها أيضا أن معنى (مأكول) مما يؤكل ، يعني تأكله الدواب. يقال لكل ما يصلح للأكل (هو مأكول) والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك. أشار له الرازي.

تنبيهات :

الأول : كان السبب الذي من أجله حلت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل ،

٥٤٣

مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل إلى بيت الله الحرام لتخريبه ، وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية. حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث. فيقولون : ولد عام الفيل وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ونحو ذلك. وتفصيل نبئها على ما أثره ابن هشام : أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي. وكان ذا دين في النصرانية. فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها. ثم كتب للنجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك. ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها (أي أحدث فيها) ثم خرج فلحق بأرضه. فأخبر بذلك أبرهة فقال : من صنع هذا؟ فقيل صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة ، لما سمع قولك (أصرف إليها حج العرب) غضب فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثم سار وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر. فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتى به أسيرا. فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي. فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق. وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له. حتى إذا كان بأرض خثعم عرض نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب. فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا. فأتى به. فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب. وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم : شهران وناهس ، بالسماع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله. حتى إذا مر بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجاله ثقيف. فقالوا له : أيها الملك! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد ـ يعنون اللات ـ إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم ـ واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة ـ فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة.

٥٤٤

فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمّس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنا لك : فرجمت قبره العرب. فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة. فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم. وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها. فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به. فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم. إنما جئت لهدم هذا البيت. فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب ، فلا حاجة لي في دمائكم.

فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها. فقيل له عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب : والله! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه‌السلام (أو كما قال) فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه. وأن يخل بينه وبينه ، فو الله! ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر. فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في محبسه. فقال له : يا ذا نفر! هل عندك من غناء فيما نزل ثبا؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوّا أو عشيا. ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير ، إن قدر على ذلك. فقال : حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة. يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال. وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. فقال : أفعل. فكلم أنيس أبرهة فقال له : أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة ، وهو يطعم الناس في السهل ، والوحوش في رؤوس الجبال. فأذن له عليك فليكلمك في حاجته. قال فأذن له أبرهة. قال : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته. وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال : حاجتي

٥٤٥

أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي ، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني. أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك. وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال : وما كان ليمتنع مني. قال : أنت وذاك ، وكان ، فيما يزعم أهل العلم ، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة ـ يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل. فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت ، فأبى عليهم. والله أعلم ، أكان ذلك أم لا.

فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له. فلما انصرفوا عنه ، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة. وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

لا همّ إن العبد يم

نع رحله ، فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم ، عدوا محالك

إن كنت تاركهم وقب

لتنا فأمر ما بدا لك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة. وهيأ فيله وعبّأ جيشه ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه. فقال له : ابرك أو ارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل : وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم. فضربوا رأسه ليقوم فأبى. فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها ـ أي أدموه ـ ليقوم فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله تعالى طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. وليس كلّهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق

٥٤٦

الذي منه جاءوا. ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :

أين المفرّ والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب

فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك. على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده. وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة. كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمثّ ـ أي تسيل ـ قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر. فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون.

قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة. أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ، ذلك العام.

قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ. بِأَصْحابِ الْفِيلِ) السورة.

ثم قال ابن إسحاق : فلما ردّ الله الحبشة عن مكة ، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة ، أعظمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله ؛ قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم. فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة ، وما ردّ عن قريش من كيدهم. ثم ساق القصائد في ذلك.

وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق. لأنه أحسن اقتصاصا وأبلغ سبكا ، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها ، فرحمه‌الله ورضي عنه.

التنبيه الثاني : إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل ، واشتهرت به ، لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب ، فإنه لو تم لقائديه كيدهم ، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ. وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام. فإذا غضبوا على محارب وأسروه ، أو وزير وأوثقوه ، أو بلد ونازلوا حصنه ـ أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل ، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه. وقواعد البنيان فيهدمها. فيكون أمضى من معاول وفؤوس. وأعظم رعبا ورهبة في النفوس. وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه ، فأعمل فيه نابه ، ولف عليه خرطومه وشاله ، ومثل به تمثيلا ، كان أشد بطشا وتنكيلا. وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام.

الثالث : قال القاشاني : قصة أصحاب الفيل مشهورة ، وواقعتهم قريبة من عهد

٥٤٧

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إحدى آيات قدرة الله ، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه. وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة. وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ، ليس بمستنكر. ومن اطلع على عالم القدرة ، وكشف له حجاب الحكمة ، عرف لمية أمثال هذه.

قال : وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون ، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر.

الرابع : قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة) : آيات الملك باهرة ، وشواهد النبوات قاهرة. تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق. ولا منتحل بمحق. وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته. فكان من أعظمها شأنا ، وأظهرها برهانا. وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل. أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها وسبي ذرارّيها وهدم الكعبة. وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملا في بطن أمه بمكة. لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل. فكانت آيته في ذلك من وجهين : أحدهما أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا. فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا. والثاني أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم. وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة. ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة ، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.

فإن قيل. فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكا ، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟

قيل : فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين ، فاستغنى عن آيات تأسيسه ، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة. على أن الرسول قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم.

ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل ، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم

٥٤٨

كيد عدوهم ، فزادوهم تشريفا وتعظيما ، فصاروا أئمة ديانين ، وقادة متبوعين. وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين. وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لك طاغ. وقد عاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته ، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل. منهم حكيم بن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية. لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام ، انتهى.

الخامس : ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل. روى البخاري (١) أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا : خلأت القصواء ـ أي حرنت ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل ، قال ابن الأثير في (النهاية) : هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة ، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم. ورد رأسه راجعا من حيث جاء. يعني أن الله حبس ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وصل إلى الحديبية. فلم تتقدم ولم تدخل الحرم. لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين. وفي الصحيحين (٢) أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم فتح مكة : إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين. وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

__________________

(١) أخرجه في : الشروط ، ١٥ ـ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ، حديث ٨٨١ ، ٨٨٢ عن المسور بن مخرمة ومروان.

(٢) أخرجه البخاري في : العلم ، ٣٩ ـ باب كتابة العلم ، حديث رقم ٩٦ عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم في : الحج ، حديث رقم ٤٤٧ و ٤٤٨.

٥٤٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة قريش

مكية ، وآيها أربع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) قال ابن هشام : إيلاف قريش إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم. وكانت لهم خرجتان : خرجة في الشتاء وخرجة في الصيف. قال : أخبرني أبو زيد الأنصاري أن العرب تقول : ألفت الشيء إلفا ، وآلفته إيلافا ، في معنى واحد وأنشدني لذي الرمة :

من المؤلفات الرمل إدماء حرة

شعاع الضّحى في لونها يتوضّح

والإيلاف أيضا أن يكون للإنسان ألف من الإبل أو البقر أو الغنم أو غير ذلك ، ويقال آلف فلان إيلافا ، قال الكميت بن زيد :

بعام يقول له المؤلفو

ن هذا المعيم لنا المرجل

والمعيم العام الذي قل فيه اللبن. والإيلاف أيضا أن يصير القوم ألفا يقال آلف القوم إيلافا. قال الكميت :

وآل مزيقياء غداة لاقوا

بني سعد بن ضبّة مؤلفينا

والإيلاف أيضا أن يؤلف الشيء ، فيألفه ويلزمه. يقال : آلفته إياه إيلافا. والإيلاف أيضا أن تصيّر ما دون الألف ألفا. يقال : آلفته إيلافا. انتهى. ولورود الإيلاف بهذه المعاني ، ظهر سر إبداله بالمقيد منه بعد إطلاقه. مع ما في الإبهام ، ثم التفسير من التفخيم والتقرير. روى ابن جرير عن عكرمة قال : كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن ، يختلفون إلى هذه في الشتاء وإلى تلك في الصيف. وعن ابن زيد

٥٥٠

قال : كانت لهم رحلتان : الصيف إلى الشام والشتاء إلى اليمن في التجارة. إذا كان الشتاء امتنع الشام منهم لمكان البرد. وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن. وعن ابن عباس قال : كانوا يشتون بمكة ويصيّفون بالطائف. والأكثرون على الأول. واللام في قوله (لإيلاف) متعلق بقوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فليعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين. ودخلت الفاء ، لما في الكلام من معنى الشرط. إذ المعنى ، أن نعم الله تعالى عليهم غير محصورة. فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. والبيت هو الكعبة المشرفة (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي جوع شديد كانوا فيه قبل الرحلتين ف (من) تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم أو بدلية (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض. قال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضا. فأمنوا من ذلك لمكان الحرم وقرأ (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] ، ونظيره أيضا قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

تنبيه :

زعم بعض الناس أن اللام في (لإيلاف) متعلق بما قبله أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. قال الشهاب : وعلى هذا لا بد من تأويله. والمعنى : أهلكهم ولم يسلط على أهل حرمه ليبقوا على ما كانوا عليه. أو أهلك من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد ، فيتم لهم الأمن في الإقامة والسفر. أو هي لام العاقبة. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التكلف. ولذا قال ابن جرير في رده : وأما القول الذي قاله من حكينا قوله أنه من صلة قوله : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) فإن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون (لإيلاف) بعض (ألم تر) وأن لا تكون سورة منفصلة من (ألم تر) وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان ، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك. ولو كان قوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) من صلة قوله : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) لم تكن (أَلَمْ تَرَ) تامة حتى توصل بقوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر. انتهى.

٥٥١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الماعون

مدنية ، وآيها سبع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي بثواب الله وعقابه ، فلا يطيعه في أمره ونهيه قال أبو السعود : استفهام أريد به تشويق السامع إلى معرفة من سيق له الكلام والتعجيب منه. والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو لكل عاقل. والرؤية بمعنى العلم. والفاء في قوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) جواب شرط محذوف ، على أن (ذلك) مبتدأ والموصول خبره. والمعنى : هل عرفت الذي يكذّب بالجزاء أو بالإسلام ، إن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه فهو الذي يدفع اليتيم دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا. يقال : دفعت فلانا عن حقه : دفعت عنه وظلمته (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لا يحث غيره من ذوي اليسار على إطعام المحتاج وسدّ خلته. بل يبخل بسعيه عند الأغنياء لإغاثة البؤساء.

قال الشهاب : إن كان الطعام بمعنى الإطعام ، كما قاله الراغب ، فهو ظاهر. وإلا ففيه مضاف مقدر. أي بذل طعام المسكين. واختياره على الإطعام للإشعار بأنه كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله : (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج : ٢٤ ـ ٢٥] ، فهو بيان لشدة الاستحقاق. وفيه إشارة للنهي عن الامتنان.

٥٥٢

قال أبو السعود : وإذا كان حال من ترك حث غيره على ما ذكر ، فما ظنك بحال من ترك ذلك مع القدرة؟.

قال الزمخشري : جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد ، لخشي الله تعالى وعقابه ، ولم يقدم على ذلك. فحين أقدم عليه علم أنه مكذب ، فما أشده من كلام! وما أخوفه من مقام! وما أبلغه في التحذير من المعصية وإنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين ، وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال ابن جرير : أي لاهون يتغافلون عنها وذلك باللهو عنها والتشاغل بغيرها. وتضييعها أحيانا وتضييع وقتها أخرى. وقال القاشاني : أي فويل لهم ، أي للموصوفين بهذه الصفات ، من دعّ اليتيم وعدم الحث على طعام المسكين. الذي إن صلّوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم. و (المصلين) من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب ، لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص ، وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي يراءون الناس بصلاتهم إذا صلوا لأنهم لا يصلّون رغبة في ثواب ، ولا رهبة من عقاب. وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنوهم منهم فيكفوا عنهم. وأصل المراءاة أن ترى غيرك ويراك. أريد به العمل عند الناس ليثنوا عليهم. أوضحه الشهاب.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به ، لكون الجهل حاكما عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي وعدم اعتقادهم بالجزاء. فلا محبة لهم للحق للركون إلى العالم الفاني ، ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل ، فلا يعاونون أحدا فلن يفلحوا أبدا. قاله القاشاني

تنبيه :

المعني بهذه الآيات أولا وبالذات المنافقون في عهد النبوة. ويدخل فيها ثانيا وبالعرض ، كل من وجد فيهم تلك الخلال الذميمة اعتبارا بالعموم. فالسورة مدنية. ونظيرها في المنافقين قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] ، ولذا قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير : هم المنافقون ، كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا ، ويتركونها إذا غابوا ، ويمنعونهم العارية بغضا لهم ، وهو الماعون.

٥٥٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الكوثر

مكية ، ويقال مدنية ، وآيها ثلاث.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣)

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي الخير الكثير من القرآن والحكمة والنبوة والدين الحقّ والهدى وما فيه سعادة الدارين. روى ابن جرير عن أبي بشر قال : سألت سعيد ابن جبير عن الكوثر ، فقال : هو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه. فقلت لسعيد : إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة. فقال : هو من الخير الذي أعطاه الله إياه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال الإمام : أي فاجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك مما هو نسك لك لله وحده ، فإنه هو مربيك ومسبغ نعمه عليك دون سواه ، كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣] ، (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) قال ابن جرير : أي مبغضك يا محمد ، وعدوك ، هو الأبتر. يعني الأقل الأذل المنقطع دابره الذي لا عقب له.

روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له. فإذا هلك انقطع ذكره) فأنزل الله هذه السورة. وعن عطاء قال : نزلت في أبي لهب. وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال : بتر محمد الليلة. فأنزل الله ، في ذلك ، السورة. وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط. قال ابن كثير : والآية تعم جميع من اتصف بذلك ، ممن ذكر وغيرهم.

وقال الإمام : كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط

٥٥٤

وأبي لهب وأمثالهم ، إذا رأوا أبناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يموتون ، ويقولون : بتر محمد ، أي لم يبق له ذكر في أولاده من بعده ، ويعدون ذلك عيبا يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم ، ويعدّون ذلك مغمزا في الدين ، ويأخذون القلة والضعف دليلا على أن الدين ليس بحق ، ولو كان حقّا لنشأ مع الغنى والقوة ، شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل. وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين. وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال. وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين ، تمرّ بنفوسهم خواطر السوء عند ما تشتد عليهم حلقات الضيق. فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء ، ويبكّت الآخرين ، فأكد الخبر لنبيه ، أن ما يخيله النظر القصير قليلا ، هو الكثير البالغ الغاية في الكثرة ، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر ، وإن عدوه هو الخائب ، الأبتر الذي يمحى ذكره ويعفى أثره.

تنبيه :

لما روي من سبب نزول هذه السورة مما رويناه ، ذهب إمام اللغة ابن جنّي إلى تأويل الكوثر بالذرية الكثيرة. وهو معنى بديع فيه مناسبة لسبب النزول.

قال ابن جنّي في (شرح ديوان المتنبي) في قوله يمدح طاهر بن الحسين العلوّي :

وأبهر آيات التهامي أنه

أبوك وأجدى ما لكم من مناقب

في جملة ما أملاه عليّ أبو الفضل العروضي : أن قريشا وأعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : إن محمدا أبتر لا عقب له. فإذا مات استرحنا منه فأنزل الله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي العدد الكثير ، ولست بالأبتر الذي قالوه. ومراده بالعدد الكثير الذرية وهم أولاد فاطمة. قال العروضي : فإن قيل : الإنسان بالأبناء والآباء والأمهات. قلنا : هذا خلاف حكم الله تعالى فإنه قد قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ، إلى قوله (وَيَحْيى وَعِيسى) [الأنعام : ٨٤] ، فجعل عيسى من أولاد إبراهيم ومن ذريته. ولا خلاف في أنه لم يكن لعيسى أب. انتهى.

وقد بسطنا أدلة انتساب الأسباط إلى أجدادهم في كتاب (شرف الأسباط) بما لا مزيد عليه. فراجعه.

٥٥٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الكافرون

مكية ، وآيها ست. قال ابن كثير : ثبت في صحيح مسلم : عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهذه السورة وب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ركعتي الطواف. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وروى الإمام أحمد (١) عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وروى الإمام أحمد (٢) عن الحارث بن جبلة قال : قلت : يا رسول الله! علمني شيئا أقوله عند منامي. قال : إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ : قل يا أيها الكافرون ، فإنها براءة من الشرك وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن. قال في (اللباب) : ووجه ذلك أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي ، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح ، فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى ، وهي من الاعتقاد ، وذلك من أفعال القلوب. فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم. وسيأتي في تفسير الإخلاص سر آخر.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٢ / ٥٨. والحديث رقم ٥٢١٥.

(٢) أخرجه عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه ، ٥ / ٤٥٦.

٥٥٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) أي المشركون الجاحدون للحق ، الذي وضحت حجته واتضحت محجته (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي من الآلهة والأوثان الآن (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي الآن (وَلا أَنا عابِدٌ) أي فيما أستقبل (ما عَبَدْتُّمْ) أي فيما مضى (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) أي فيما تستقبلون أبدا (ما أَعْبُدُ) أي فيما أستقبل (ما عَبَدْتُّمْ) أي الآن وفيما أستقبل ـ هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه‌الله. ثم قال : وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدثوا به أنفسهم. وإن ذلك الغير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات. وآيس نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبدا فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا. إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعض قبل ذلك كافرا. ثم روى رحمه‌الله عن ابن إسحاق عن سعيد ابن مينا قال : لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد! هلم ، فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، ونشركك في أمرنا كله. فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا ، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذ منه بحظك. فأنزل الله (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) السورة وفي رواية : وأنزل الله في ذلك هذه السورة ، وقوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤ ـ ٦٦] ، (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) انتهى.

٥٥٧

وقيل : الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالا كما أن الأوليين لنفسها استقبالا قال أبو السعود : وإنما لم يقل (ما عبدت) ليوافق (ما عبدتم) لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه‌السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى. وإيثار (ما) في (ما أَعْبُدُ) على (من) لأن المراد هو الوصف كأنه قيل : (ما أَعْبُدُ) من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته. وقيل : إن (ما) مصدرية. أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقيل : الأوليان بمعنى (الذي) والأخريان مصدريتان. وقيل : قوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) تأكيد لقوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ثانيا تأكيدا لمثله المذكور أولا. انتهى.

ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية ؛ أن المراد بقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفي الفعل ، لأنها جملة فعلية (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) نفي قبوله لذلك بالكلية ، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك. ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا وهو قول حسن.

واختار الإمام كون (ما) في الأوليين موصولة وفيما بعدهما مصدرية ، قال : فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود. ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة. فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة ، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع ، المتعالي عن الظهور في شخص معين ، الباسط فضله لكل من أخلص له ، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه. والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلصة لله وحده ، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ، فلا تسمى على الحقيقة عبادة. فأين هي من عبادتي؟ وقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ) تقرير لقوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وقوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) كما أن قوله تعالى : (وَلِيَ دِينِ) تقرير لقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) والمعنى أن دينكم ، الذي هو الإشراك ، مقصور على الحصول لكم ، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضا ، كما تطمعون فيه. فإن ذلك من المحالات. وأن ديني الذي هو التوحيد ، مقصور على الحصول لي ، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم ، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.

تنبيه :

قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ

٥٥٨

دِينِ) على أن الكفر كله ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس ، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به. لأن الأديان ، ما عدا الإسلام ، كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود ، وبالعكس. لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا يتوارث أهل ملّتين شتّى).

٥٥٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النصر

مدنية ، وآيها ثلاث.

وهي آخر سورة نزلت في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما. وروى البيهقي عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ، لما نزلت هذه السورة : إنه قد نعيت إليّ نفسي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣)

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أي لدينه الحق على الباطل (وَالْفَتْحُ) أي فتح مكة الذي فتح الله به بينه وبين قومه صلوات الله عليه ، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله ، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه ، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجا طوائف وجماعات لا آحادا ، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة. إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي فنزه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله. وعن أن يخلف وعده في تأييده. وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين ، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المرائين (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن ، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله ، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر ، ولكن الله علم أن نفس

٥٦٠