تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المرسلات

وتسمى سورة العرف وهي مكية وآيها خمسون.

روى البخاري (١) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما نحن مع رسول الله في غار بمنى ، إذ أنزلت عليه و (المرسلات) فإنه ليتلوها ، وإني لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ، إذ وثبت علينا حيّة. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقتلوها. فابتدرناها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقيت شركم كما وقيتم شرها. وأخرجه مسلم (٢) أيضا.

وروى الإمام أحمد (٣) عن ابن عباس عن أمّه ؛ أنها سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا. ورواه الشيخان أيضا (٤).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) إقسام بالرياح المرسلة متتابعة كشعر العرف. أو بالملائكة المرسلة بأمر الله ونهيه. وذلك هو العرف. أو بالرسل من بني آدم المبعوثة بذلك (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) أي الرياح الشديدات الهبوب ، السريعات الممرّ (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي الرياح التي تنشر السحاب والمطر ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] ، وقوله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ) [الروم : ٤٨] ، أو الملائكة التي تنشر الشرائع والعلم

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، سورة المرسلات ، ١ ـ باب حدثني محمود ، حدثنا عبيد الله ، حديث رقم ٩٢٧.

(٢) أخرجه في : السلام ، حديث رقم ١٣٧.

(٣) أخرجه في مسنده ٦ / ٣٣٨.

(٤) أخرجه البخاري في : الأذان ، ٩٨ ـ باب القراءة في المغرب ، حديث رقم ٤٦٣ ، عن أم الفضل.

وأخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث رقم ١٧٣.

٣٨١

والحكمة والنبوّة والهداية في الأرض (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال الوحي والتنزيل. أو الآيات القرآنية التي تفرق كذلك. أو السحب التي نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى وبين من يكفر كقوله : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن : ١٦] ، (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) أي الملائكة الملقيات ذكر الله إلى أنبيائه ، المبلغات وحيه (عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي إعذارا من الله لخلقه ، وإنذارا منه لهم. مصدران بمعنى الإعذار والإنذار. أي الملقيات ذكرا للإعذار والإنذار. أي لإزالة إعذارهم ، وإنذارهم عقاب الله تعالى إن عصوا أمره (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم. أي : إن الذي توعدون به من مجيء القيامة والجزاء ، لكائن نازل ، كقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] ، أو من زهوق ما أنتم عليه من الباطل ، وظفر الحق بقرنه ، أو ما هو أعم. والأول أولى. لإردافه بعلاماته ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥)

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي محقت أو ذهب ضياؤها ، كقوله : (انْكَدَرَتْ) [التكوير : ٢] ، و (انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢]. (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي شققت وصدعت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي اقتلعت من أماكنها بسرعة. فكانت هباء منبثا (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي أجلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة للشهادة على أممهم والفوز بما وعدوه من الكرامة. والهمزة من (أُقِّتَتْ) مبدلة من الواو.

قال ابن جرير وقرأه بعض قراء البصرة بالواو وتشديد القاف. وأبو جعفر بالواو وتخفيف القاف. وكل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد. فبأيتها قرأ القارئ فمصيب. غير أن من العرب من يستثقل ضمة الواو ـ كما يستثقل كسرة الياء في أول الحرف. فيهمزها.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب. أي يقال لأي يوم أجلت فالجملة مقول قول مضمر ، هو جواب (إذا) أو حال من مرفوع (أقتت) والمعنى ليوم عظيم أخرت أمور الرسل. وهو تعذيب الكفرة وإهانتهم ، وتعظيم المؤمنين ورعايتهم ، وظهور ما كانت الرسل تذكرة من أحوال الآخرة وأهوالها ، ولذا عظم شأن اليوم ، وهوّل أمره بالاستفهام. وقوله تعالى : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بدل مما قبله ، مبين له. أو متعلق بمقدر. أي أجلت ليوم الفصل بين الخلائق. وقد قيل : لامه بمعنى (إلى) (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي بين السعداء والأشقياء. والاستفهام كناية عن تهويله وتعظيمه.

٣٨٢

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي بيوم الفصل. كما قال في سورة المطففين (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المطففين : ١١] ، والتكذيب به ، إنكار البعث له والحشر إليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩)

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) أي الأمم الماضين المكذبين بالرسل والجاحدين بالآيات ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي من قوم لوط ، وموسى. فنسلك بهم سبل أولئك. وهو وعيد لأهل مكة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الأخذ العظيم. (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي بكل من أجرم وطغى وبغى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال ابن جرير : أي بأخبار الله التي ذكرها في هذه الآية ، الجاحدين قدرته على ما يشاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤)

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي من نطفة ضعيفة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي رحم استقر فيها فتمكّن (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وقت معلوم لخروجه من الرحم (فَقَدَرْنا) قرئ بالتخفيف والتشديد. أي فقدرنا على ذلك أو قدّرناه (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي بقدرته تعالى على ذلك ، أو على الإعادة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦)

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) قال ابن جرير : أي وعاء. تقول هذا كفت هذا وكفيته إذا كان وعاءه. والمعنى ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم ، تكفت أحياءكم في المساكن والمنازل فتضمهم فيها وتجمعهم ، وأمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها؟ وجائز أن يكون عنى بقوله : (كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) تكفت أذاهم في حال حياتهم ، وجيفهم بعد مماتهم. انتهى.

و (الكفات) إما اسم جنس لما يضم ويقبض. يقال : كفته الله إليه أي قبضه. ولذلك سميت المقبرة كفتة وكفاتا. ومنه الضمام والجماع ، لما يضم ويجمع. يقال

٣٨٣

هذا الباب جماع الأبواب. وإما اسم آلة ، لأن فعالا كثر فيه ذلك. أو مصدر كقتال. أوّل بالمشتق ونعت به ، كرجل عدل. أو جمع كافت كصائم وصيام. أو كفت بكسر فسكون كقدح وقداح.

و (كِفاتاً) منصوب على أنه مفعول ثان ل (نَجْعَلِ) لأنها للتصيير ، و (أَحْياءً وَأَمْواتاً) منصوبان على أنهما مفعولان به ل (كِفاتاً).

قال الشهاب : وهذا ظاهر على كون (كفاتا) مصدرا أو جمع كافت. لا على كونه اسم آلة فإنه لا يعمل ، كما صرح به النحاة. وحينئذ فيقدر فعل ينصبه من لفظه ، كما صرح به ابن مالك في كل منصوب بعد اسم غير عامل. وثمة وجوه أخر.

تنبيه :

في (الإكليل) قال إلكيا الهراسي : عنى بالكفات الانضمام. ومراده أنها تضمهم في الحالتين. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت فلا يرى منه شيء. وقال ابن عبد البرّ : احتج ابن القاسم في قطع النباش بهذه الآية. لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ ، فيكون حرزا. انتهى.

ونقله القفّال عن ربيعة. وعندي أن مثل هذا الاحتجاج من الإغراق في الاستنباط وتكلف التماس ما يؤيد المذهب المتبوع كيفما كان ، مما يعد تعسّفا وتعصّبا. وبين فحوى الآية وهذا الاستنباط ما بين المنجد والمتهم. ومثله أخذ بعضهم من الآية السابقة (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تأجيل القضاة الخصوم في الحكومات ، ليقع فصل القضاء عند تمام التأجيل. كما نقله في (الإكليل) عن ابن الفرس. ومآخذ الدين والتشريع ليست من الأحاجي والمعميات. وبالله التوفيق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي جبالا شاهقات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩)

(انْطَلِقُوا) أي يقال لهؤلاء المكذبين بهذه النعم والحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة : انطلقوا (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي من عذاب الله للكفرة الفجرة.

٣٨٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠)

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي فرق. وذلك دخان جهنم المرتفع من وقودها ، إذا تصاعد تفرّق شعبا ثلاثا ، لعظمه.

قال الشهاب : فيه استعارة تهكمية لتشبيه ما يعلو من الدخان بالظل. وفيه إبداع ، لأن الظل لا يعلو ذا الظل. وقوله تعالى : (لا ظَلِيلٍ) تهكم بهم. لأن الظل لا يكون إلا ظليلا أي مظللا. فنفيه عنه للدلالة على أن جعله ظلّا تهكم بهم ، ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم ، فنفي هذا الاحتمال بقوله : (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي لا يردّ عنهم من لهب النار شيئا. والمعنى أنه لا يظلهم من حرّها ولا يكنّهم من لهبها (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي تقذف كل شررة كالقصر في عظمها ، والقصر واحد القصور.

قال ابن جرير : العرب تشبّه الإبل بالقصور المبنية ، كما قال الأخطل في صفة ناقة :

كأنها برج رومي يشيّده

لزّ بجصّ وآجرّ وأحجار

ثم قال : وقيل (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) ولم يقل كالقصور. والشرر جمع. كما قيل : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ولم يقل الأدبار لأن الدبر بمعنى الأدبار. وفعل ذلك توفيقا بين رؤوس الآي ومقاطع الكلام. لأن العرب تفعل ذلك كذلك. وبلسانها نزل القرآن.

(كَأَنَّهُ جِمالَتٌ) وقرئ (جمالات) جمع (جمال) جمع (جمل) أو جمع (جمالة) جمع (جمل) أيضا. ونظيره : رجال ورجالات ، وبيوت وبيوتات ، وحجارة وحجارات. (صُفْرٌ) أي في لونها. فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر. وقيل : صفر أي سود.

قال قتادة وغيره : أي كالنوق السود ، واختاره ابن جرير : زاعما أنه المعروف من

٣٨٥

كلام العرب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي بحجة. أو في وقت من أوقاته. لأنه يوم طويل ذو مواقف ومواقيت. أو جعل نطقهم كلا نطق ، لأنه لا ينفع ولا يسمع فلا ينافي آية (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، و (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] ، و (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر : ٣١] ، (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي لا يمهد لهم الإذن في الاعتذار ، لعدم قبول معذرتهم بقيام الحجة عليهم. وإنما لم يقل (فيعتذروا) محافظة على رؤوس الآي. وقيل : هو معطوف على (يُؤْذَنُ) منخرط معه في سلك النفي. والمعنى ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له ، من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الإذن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي الحق بين العباد (جَمَعْناكُمْ) أي حشرناكم فيه (وَالْأَوَّلِينَ) أي من الأمم الهالكة (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) أي احتيال للتخلص من العذاب (فَكِيدُونِ) أي فاحتالوا له.

قال الزمخشري : تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه ، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي فإنه لا حيلة لهم في دفع العقاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (٤٦)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه (فِي ظِلالٍ) أي كنان من الحرّ والقرّ (وَعُيُونٍ) أي أنهار تجري خلال أشجار (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي يرغبون ، مقولا لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي في طاعتهم وعبادتهم وعملهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي حظكم حظ من أجرم ، وهو الأكل والتمتع أياما قلائل ، ثم البقاء في الهلاك أبدا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

٣٨٦

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) أي اخضعوا لهذا الحق الذي نزل ، وتواضعوا لقبوله ، واخشعوا لذكره (لا يَرْكَعُونَ) أي لا يخضعون ولا ينقادون ولا يقبلون ، تجبرا واستكبارا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي الذين كذبوا رسل الله ، فردوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم ونهيه لهم. وتكرير آية (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) للتأكيد. وهو من المقاصد الشائعة. وقيل : لا تكرار ، لاختلاف متعلق كل منها. وتقدم تمام البحث في سورة (الرحمن) فارجع إليه في خاتمتها (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي بعد هذا القرآن ، إذا كذبوا به ، مع وضوح برهانه وصحة دلائله ، في أنه حق منزل من عنده تعالى. وفيه تنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه ، فضلا عن أن يفوقه ويعلوه ، فلا حديث أحق بالإيمان منه.

٣٨٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّبأ

وتسمى سورة (عَمَّ يَتَساءَلُونَ). وهي مكية ، وآيها أربعون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أي هؤلاء المشركون بالله ورسوله. قال ابن جرير وذلك أن قريشا جعلت ، فيما ذكر عنها ، تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الإقرار بنبوته ، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى ، والإيمان بالبعث. فقال الله تعالى لنبيه : فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟. و (في) و (عن) في هذا الموضع بمعنى واحد. انتهى.

والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت. والتفاعل إما على بابه ، أو هو بمعنى (فعل) والمعنى على الأول يتساءلون فيما بينهم. وعلى الثاني يسألون الرسول صلوات الله عليه وسلامه ، أو المؤمنين. قيل مجيء تفاعل بمعنى فعل إذا كان في الفاعل كثرة ، مراعاة لمعنى التشارك بقدر الإمكان ونوقش بأن (تفاعل) يكون بمعنى (فعل) كثيرا وإن لم يتعدد فاعله. كتواني زيد وتدانى الأمر. بل حيث لا يمكن التعدد نحو (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٦٣] ، وقوله :

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بيان للمفخم شأنه ، أو للمبكت من أجله (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي منقسمون ، بعضهم يجحده وآخر يرتاب فيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) (٥)

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع للمتسائلين ووعيد لهم. والتكرير للمبالغة لحذف مفعول العلم. فإما أن يقدر سيعلمون حقيقة الحال وما عنه السؤال. أو سيعلمون ما يحل بهم العقوبات والنكال. فتكريره مع الإبهام ، يفيد مبالغة. وفي

٣٨٨

(ثُمَ) إشعار بأن الوعيد الثاني أشد. لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ. فكأنه قيل : ردع وزجر لكم شديد ، بل أشد وأشد. وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله. ولذا خص عطفه ب (ثُمَ) غالبا. هذا ملخص ما في (العناية).

ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١)

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي فراشا وموطئا تتمهدونها وتفترشونها (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي للأرض. أي أرسيناها بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد ، حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهادا بسبب ذلك. قال الإمام مفتي مصر : وإنما كانت الجبال أوتادا لأن بروزها في الأرض كبروز الأوتاد المغروزة فيها ، ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من الميدان والاضطراب ، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك. كأن أقطار الأرض قد شدت إليها ولو لا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيشان.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي ذكورا وإناثا. قال الإمام : ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة ودعة ، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها. إطلاقا للملزوم وهو (السبات) بمعنى النوم ، وإرادة لّلازم وهو (الاستراحة). وقيل : السبات هو النوم الممتد الطويل السكون. ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم : إنه مسبوت وبه سبات. ووجه الامتنان بذلك ظاهر ، لما فيه من المنفعة والراحة ، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة. وقد أفاض السيد المرتضى في أماليه في لطائف تأويل هذه الآية.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد ، وستره لهم.

قال الرازي : ووجه النعمة في ذلك ، أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوّ أو بياتا له ، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه. قال المتنبي :

وكم لظلام الليل عندي من يد

تخبّر أن المانوية تكذب

وأيضا ، فكما أن الإنسان ، بسبب اللباس ، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع

٣٨٩

عنه أذى الحر والبرد ، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية ، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وقت معاش. إذ فيه تتقلب الخلق في حوائجهم ومكاسبهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦)

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) قال الرازي : أي سبع سماوات شدادا جمع (شديدة) يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان ، لا فطور فيها ولا فروج.

وقال الإمام : السبع الشداد الطرائق السبع. وهي ما فيه الكواكب السبعة السيارة المشهورة. وخصها بالذكر لظهورها ومعرفة العامة لها. (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) أي متلألئا وقّادا. يعني الشمس (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي السحائب إذا أعصرت ، أي شارفت أن تعصرها الرياح (ماءً ثَجَّاجاً) أي منصبّا متتابعا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) قال ابن جرير : الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد. والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع.

وقال الزمخشري : يريد ما يتقوّت من نحو الحنطة والشعير ، وما يعلف من التبن والحشيش. كما قال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [طه : ٥٤].

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي حدائق ملتفة الشجر ، مجتمعة الأغصان.

قال الرازي : قدم الحب لأنه الأصل في الغذاء. وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه. وأخر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية. ثم قال : وكان الكعبي من القائلين بالطبائع. فاحتج بقوله تعالى : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) إلخ على بطلان قول من قال : إنه تعالى لا يفعل شيئا بواسطة شيء آخر. أي لأن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه ، بحكمته الباهرة ، نظام العمران.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١٨)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء ، باعتبار تفاوت الأعمال ، وهو يوم القيامة (كانَ) أي عند الله وفي علمه وحكمه (مِيقاتاً) أي حدّا معينا ، ووقتا مؤقتا ، ينتهي الخلق إليه ليرى كلّ جزاء عمله (يَوْمَ

٣٩٠

يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) أو عطف بيان. كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد ، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة. كما قال القاشاني والشهاب.

وقال الإمام : النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] ، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي فرقا مختلفة ، كل فرقة مع إمامهم ، على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٢٠)

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) قال ابن جرير : أي وشققت السماء فصدعت ، فكانت طرقا ، وكانت من قبل شدادا لا فطور فيها ولا صدوع.

وقال القاضي فيما نقله الرازيّ : وهذا الفتح هو معنى قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ، إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب ، وهذا ، كما قال ابن جرير ، متين للغاية. وتعقب الرازي له ، وقوف مع الألفاظ لا يفيد. لا سيما والأصل هو التفسير بالنظائر والأشباه.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي رفعت من أماكنها في الهواء. وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء متصاعدة كالهباء. وفي الآية تشبيه بليغ. والجامع أن كلّا منهما يرى على شكل شيء ، وليس به. فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك. والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء ، ترى كأنها جبال وليست بجبال. بل غبار غليظ متراكم ، يرى من بعيد كأنه جبل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً) (٢٦)

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) أي موضع رصد ، يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها وبالمعاد. على أن (مِرْصاداً) اسم مكان. أو مجدّة في ترصدهم وارتقاب مقدمهم. على أنه صيغة مبالغة (لِلطَّاغِينَ مَآباً) أي للذين طغوا في الدنيا ، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم ، منزلا ومرجعا يصيرون إليه (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي دهورا متتابعة إلى غير نهاية. كقوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الأحزاب : ٦٥] ، (لا

٣٩١

يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) أي روحا وراحة (وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً) أي ماء حارّا انتهى غليانه (وَغَسَّاقاً) أي صديدا. وهو ما يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار ، في حياض يجتمع فيها ، فيسقونه (جَزاءً وِفاقاً) أي : جوزوا بذلك جزاء موافقا لما ارتكبوه من الأعمال ، وقدموه من العقائد والأخلاق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) (٢٩)

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) قال القاشاني : أي ذلك العذاب ، لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافاة والتكذيب بالآيات. أي لفساد العمل والعلم. فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء ، ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) قال القاشاني : أي كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم.

وقال الرازيّ : المراد من قوله : (كِتاباً) تأكيد ذلك الإحصاء والعلم. وهذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر. فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال ، لأنه واجب لذاته. انتهى.

وهو بمعنى ما نقله الشهاب ؛ أنه تمثيل لإحاطة علمه بالأشياء لتفهيمنا. وإلا فهو تعالى غني عن الكتابة والضبط. ومذهب السلف الإيمان بهذه الظواهر وتفويض تأويلها إلى الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٣٦)

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي يقال لهم ذاك ، تقريعا وغضبا وتأنيبا لهم من تخفيف العذاب ، وإعلاما بمضاعفته.

ولما ذكر وعيد الكفار ، تأثره بوعد الأبرار ، بقوله سبحانه (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي فوزا بالنعيم. ونجاة من النار ، التي هي مآب الطاغين (حَدائِقَ وَأَعْناباً) الحدائق

٣٩٢

جمع حديقة وهي البستان فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به. والأعناب معروفة. قال ابن جرير : أي وكروم وأعناب ، فاستغنى بالأعناب عنها.

(وَكَواعِبَ) أي بنات فلكت ثديّهن ، أي استدارت مع ارتفاع يسير (أَتْراباً) أي متساويات في السن (وَكَأْساً دِهاقاً) أي ملأى من خمر لذة للشاربين (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي في الجنة (لَغْواً) أي باطلا من القول (وَلا كِذَّاباً) أي مكاذبة. أي لا يكذب بعضهم بعضا.

قال الإمام : اللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين ، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم. فأراد الله إزاحة ذلك عنهم (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً) أي جزاء لهم على صالح أعمالهم ، تفضّلا منه تعالى بذلك الجزاء (حِساباً) أي كافيا ، أو على حسب أعمالهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٣٧)

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)

قال ابن جرير : أي لا يملكون أن يخاطبوا الله. قال : والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه. وقال غيره : أي لا يملكهم الله منه خطابا في شأن الثواب والعقاب. بل هو المتصرّف فيه وحده. وهذا كما تقول (ملكت منه درهما) ف (من) ابتدائية متعلقة ب (يملكون) وعلى ما ذكره ابن جرير من أن المعنى لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب ، ف (منه) صلة (خطابا) كما تقول (خاطبت منك) على معنى خاطبتك. ك (بعت زيدا) أو (بعت من زيد) ف (منه) بيان مقدم على المصدر لا صلة (يملكون) وقد قرئ (رب) و (الرحمن) بالجر وبالرفع. وقرئ بجر الأول ورفع الثاني.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً(٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩)

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) أي جبريل عليه‌السلام وهو المعبّر عنه بروح القدس في آية أخرى وفيه أقوال أخر نقلها ابن جرير. وما ذكرناه أصوبها. والتنزيل يفسر بعضه بعضا.

٣٩٣

ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره ، قال : لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه‌السلام. وثبت أن القيام صحيح من جبريل ، والكلام صحيح منه ، ويصح أن يؤذن له. فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه ، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؟ وقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال القاشاني : أي صافّين في مراتبهم ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤].

وقال الرازي : يحتمل أن يكون المعنى صفّا وحدا. ويحتمل أنه صفان ، ويجوز صفوفا. والصف في الأصل مصدر ، فينبئ عن الواحد والجمع. ورجح بعضهم الأخير لآية (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ، انتهى.

وقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) أي لا يتكلمون في الشفاعة كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، والضمير للملائكة أو أعمّ كقوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥].

قال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلّم منهم مأذونا له في الكلام ، وأن يتكلّم بالصواب ، فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الواقع الذي لا يمكن إنكاره و (الْحَقُ) صفة أو خبر. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) قال ابن جرير : أي فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق ، والاستعداد له والعمل بما فيه ، النجاة له من أهواله ، مرجعا حسنا يؤوب إليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠)

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني عذاب الآخرة وقربه. لأن مبدأه الموت (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي من خير أو شرّ. أي ينظر جزاءه : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي مثله. لم أصب حظّا من الحياة ، لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّ لأمثاله. وقاناه الله بمنه وكرمه.

٣٩٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النازعات

وتسمى سورة الساهرة. والطامّة. وهي مكية. وآيها ست وأربعون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥)

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يعني الغزاة أو أيديهم. يقال للرامي (نزع في قوسه) إذا مدها بالوتر. و (نزع في قوسه فأغرق) و (أغرق النازع في القوس) إذا استوفى مدها. ويضرب مثلا للغلوّ والإفراط. و (غَرْقاً) بمعنى إغراقا كالسلام بمعنى التسليم ، وهو الإغراق بحذف الزوائد. أو (وَالنَّازِعاتِ) الكواكب. من (نزع الفرس سننا) جرى طلقا ، أي الجاريات على السير المقدر ، والحدّ المعين ، مجدّة في السير ، مسرعة للغاية. (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) أي الخيل لأنها تخرج من دار إلى دار. من قولهم (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد. أو هي السهام. يعني خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها. وكل شيء حللته ، فقد نشطته. ومنه (نشاط الرجل) وهو انبساطه وخفته. أو الكواكب تنشط من برج إلى برج. (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) أي الخيل تسبح في عدوها فتسبق إلى العدوّ. وهو مستعار من (سبح في الماء) لكنه ألحق بالحقيقة لشهرته. أو هي الكواكب تسبح في الفلك. لأن مرورها في الجو كالسبح ، كما قال تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). [الأنبياء : ٣٣] ، (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) أي الخيل تسبق إلى العدوّ في حومة الوغى. أو الكواكب السيارة تسبق غيرها في السير ، لكونها أسرع حركة. (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) أي الخيل. أسند إليها أمر تدبير الظفر مجازا لأنها سببه. أو المدبرات مثل المعقبات. أي أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها ، الأمر الذي هو النصر. أو هي الكواكب تدبر أمرا نيط بها. كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات ، مجازا أيضا. لأنها

٣٩٥

سببه. أو هي الملائكة تدبر ما نيط بها من أمر الله تعالى. وقد جوّز فيما قبلها أن تكون الملائكة أيضا. واللفظ الكريم متسع لما ذكر من المعاني بلا تدافع. ولا إمكان للجزم بواحد ، إذ لا قاطع. ولذا قال ابن جرير : الصواب عندي أن يقال إنه تعالى أقسم بالنازعات غرقا ، ولم يخصص نازعة دون نازعة. فكل نازعة غرقا ، فداخلة في قسمه ملكا أو نجما أو قوسا أو غير ذلك. وكذا عم القسم بجميع الناشطات من موضع إلى موضع. فكل ناشط فداخل فيما أقسم به ، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها ، بأن المعنى بالقسم من ذلك ، بعض دون بعض. وهكذا في البقية. وكلامه رحمه‌الله متجه للغاية. إذ فيه إبقاء اللفظ على شموله ، وهو أعم فائدة وعدم التكلف للتخصيص بلا قاطع. وإن كانت القرائن واستعمال موادها في مثلها وشواهدها ، مما قد يخصص الصيغ. إلا أن التنزيل الكريم يتوقّى في التسرّع فيه ما لا يتوقى في غيره.

لطائف :

قال أبو السعود : العطف مع اتحاد الكل ، بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور ، حقيق بأن يكون على حياله ، مناطا لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام ، بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. و (غَرْقاً) مصدر مؤكد بحذف الزوائد. وانتصاب (نَشْطاً) و (سَبْحاً) و (سَبْقاً) أيضا على المصدرية ، وأما (أَمْراً) فمفعول للمدبرات. وتنكيره للتهويل والتفخيم. والمقسم عليه محذوف ، تعويلا على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ، ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه ، وهو (لنبعثن) وبه تعلق قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) (١٠)

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي الواقعة التي ترجف عندها الأجرام الساكنة. أي تتحرك حركة شديدة وتزلزل زلزلة عظيمة. فالإسناد إليها مجازي لأنها سببه. أو التجوز في الطرف يجعل سبب الرجف راجفا. أو الراجفة الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال. فتسميتها راجفة باعتبار الأول. قال الشهاب : ولو فسرت الراجفة بالمحركة جاز ، وكان حقيقة. لأن (رجف) يكون بمعنى حرّك وتحرّك.

٣٩٦

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي السماء وما فيها. تردفها فتنشق وتنتثر كواكبها. ولوقوع ذلك فيها بعد الرجفة الأولى ، جعلت رادفة لها. أو الرادفة النفخة الثانية لبعث يوم القيامة.

قال الحسن : هما النفختان. أما الأولى فتميت الأحياء. وأما الثانية فتحيي الموتى. ثم تلا الحسن : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] ، (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي شديدة الاضطراب ، خوفا من عظيم الهول النازل (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أهلها ذليلة ، مما قد علاها من الكآبة والحزن ، من الخوف والرعب. وقوله تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) قال ابن جرير : أي يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش ، إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت : أإنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات ، فراجعون أحياء كما كنا؟ وقال أبو السعود : حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به ، إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي ، وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار. أي يقولون ، إذا قيل لهم إنكم تبعثون ، منكرين له متعجبين منه : أإنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة؟ أي في الحالة الأولى. يعنون الحياة. من قولهم (رجع فلان في حافرته) أي في طريقته التي جاء فيها فحفرها. أي أثر فيها بمشيه.

وتسميتها (حافرة) مع أنها محفورة كقوله تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ، أي منسوبة إلى الحفر والرضا. أو كقولهم (نهاره صائم) على تشبه القابل بالفاعل. أي شبه القابل للفعل بمن يفعله ، لتنزيله منزلته. فالاستعارة في الضمير المستتر ، وإثبات الحافرية له ، تخييل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤)

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي بالية. وقرئ ناخرة. من (نخر العظم) بلي. فصار يمرّ به الريح فيسمع له نخير ، وقوله تعالى : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي ذات خسر. أو خاسرة أصحابها أي إن صحت فنحن إذا خاسرون. قال ابن زيد : وأي كرة أخسر منها؟ أحيوا ثم صاروا إلى النار ، فكانت كرة سوء.

٣٩٧

وقال أبو السعود : هذا حكاية لكفر آخر لهم ، متفرع على كفرهم السابق. ولعل توسيط (قالُوا) بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار ، مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنها في كافة أوقاتهم. حسبما ينبئ. عنه حكايته بصيغة المضارع. أي قالوا ذلك بطريق الاستهزاء ، مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة. وقوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم لإحياء العظام النخرة التي عبروا عنها بالكرّة. فإن مداره لما كان استصعابهم إياها ، رد عليهم ذلك ، فقيل : لا تستصعبوها فإنما هي صيحة واحدة. أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية. وفيه تهوين لأمر الإعادة. على وجه بليغ لطيف (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي على ظهر الأرض أحياء.

قال ابن جرير : والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة (قال) وأراهم سموا ذلك بها لأن فيه نوم الحيوان وسهرها. فوصف بصفة ما فيه. وقيل لأن السراب يجري فيها. من قولهم : (عين ساهرة) للتي يجري ماؤها ، وفي ضدها نائمة. والسهر على الأول بمعناه المعروف ، والتحوز في الإسناد.

وفي الثاني مجاز على المجاز ، لشهرة لأول التي ألحقته بالحقيقة. ثم ذكّر سبحانه الكفرة ما حل بمن هو أشد منهم قوة ، لما طغوا ، ترهيبا وإنذارا ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٦)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أي خبره حين ناجاه ربه تعالى. قال أبو السعود : ومعنى (هَلْ أَتاكَ) إن اعتبر هذا أول ما أتاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديثه عليه‌السلام ، ترغيب له في استماع حديثه. كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به. وإن اعتبر إتيانه ، قبل هذا ، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص ، حمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يقرّ بأمر يعرفه قبل ذلك. كأنه قيل أليس قد أتاك حديثه؟

وقال الشهاب : المقصود من الاستفهام التذكير لا التقرير ، كما قيل. ولا مجافاة في المعنى على كلّ ، كما لا يخفى (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إلى حين ناداه بالوادي المطهر المبارك. وهو واد في أسفل جبل طور سيناء من برية فلسطين. و (إِذْ) ظرف للحديث لا للإتيان ، لاختلاف وقتيهما و (طُوىً) اسم لذلك الوادي. ومصدر لنادى. أو المقدس. أي ناداه نداءين. أو المقدس مرة بعد أخرى.

٣٩٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩)

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي عتا وتجاوز حدّه في العدوان على بني إسرائيل ، وانتحال صفات الربوبية ، ونسبتها إلى نفسه (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي تتزكى وتتطهر من دنس الشرك والطغيان. و (إِلى) متعلقة بمبتدأ محذوف. أي هل لك سبيل أو رغبة إلى أن تتزكى؟

وقال أبو البقاء : لما كان المعنى أدعوك. جيء ب (إِلى) فجعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي أرشدك إلى علم ما يرضيه عنك. وذلك الدين القيم (فَتَخْشى) أي عقابه من سلب الملك وإذاقة البأس مكان النعم. وذلك بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه. وفيه إشارة إلى أن الخشية مسببة عن العلم. كما في آية : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، أي العلماء به.

قال الزمخشري :

ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر. من خشي الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شر. وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض. كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرفيق. ليستدعيه بالتلطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوّه. كما أمر بذلك في قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] ، انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦)

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي الدلالة الكبرى على أنه لله رسول أرسله إليه. والفاء فصيحة ، تفصح عن جمل قد طويت ، تعويلا على تفصيلها في السور الأخرى. أي فذهب وبلغ ورجع وتحدّى فأراه الآية الكبرى. وهو على ما قاله مجاهد ، عصاه ويده. أي عصاه إذ تحولت ثعبانا مبينا. ويده إذ أخرجها بيضاء للناظرين. وإفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة. أو هي العصا لأنها كانت المقدمة والأصل. والبقية

٣٩٩

كالتبع. وقيل وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل. أو هو للزيادة المطلقة (فَكَذَّبَ وَعَصى) أي فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة ، ودعاها سحرا ، وعصاه فيما أمره به من طاعة ربه وخشيته إياه (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أعرض عما هدي إليه. أو انصرف عن المجلس كبرا (يَسْعى) أي يجدّ في معارضة الآية بالمكايد الشيطانية والحيل النفسانية. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان ، مرعوبا مسرعا في مشيه (فَحَشَرَ) أي جمع السحرة ، أو قومه وأتباعه (فَنادى) أي في المجمع بنفسه أو بمناد (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي على كل من يلي أمركم. وفي (التنوير) : أي أنا ربكم ورب أصنامكم الأعلى فلا تتركوا عبادتها.

قال القاضي : وقد كان الأليق به ، بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ، أن لا يقول هذا القول. لأن ، عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)؟ فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول. انتهى.

وهذا على أنه أراد بالرب الخالق والموجد. والظاهر أن مراده ذو السلطان الأعلى والنفوذ الأقوى. وأنه الذي يستأهل الطاعة دون غيره. ولا يخفى ما فيه من جحود قدرة الله تعالى التي هي فوق قدرته ، والكفر بآية موسى والصد عن دعوته. ولذا أخذ أشد الأخذ. فإنه لم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر ، عند خروجهم من مصر ، فأغرقه الله تعالى في البحر. وهو معنى قوله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي عذبه عذابهما. أي أن أخذه لم يكن مقصورا على الإغراق وحده ، بل نكل به وعذبه عذاب يوم القيامة. و (نَكالَ) مفعول مطلق (أخذ) بتأويل في الأول أو في الثاني ، والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة. وقيل الآخرة هي قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية.

قال القفال : وهذا كأنه هو الأظهر. لأنه تعالى قال : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فذكر المعصيتين ثم قال : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) فظهر أن المراد أنه عاقبة على هذين الأمرين. انتهى.

وما ذكره القفّال كان وقع في قلبي قبل أن أراه. وأراني في إيثار له. ثم ختم تعالى القصة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي في أخذه وما أحل به من العذاب والخزي ، عظة ومعتبرا لمن يخاف الله ويخشى عقابه ، ويعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق ويحاربه. فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين.

٤٠٠