تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

يفنى سريعا ، وتجردوا عن الأموال بإنفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها ، ليكون فضيلة في أنفسكم ، وهيئة نورية لها ، فإن الإنفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء ، وهيئة التجرد في النفس. فأما عند حضور الموت ، فالمال للوارث لا له ، فلا ينفعه إنفاقه ، وليس إلا التحسر والتندم ، وتمني التأخير في الأجل بالجهل ، فإنه لو كان صادقا في دعوى الإيمان ، وموقنا بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري ، وأنه مقدر في وقت معين قدره الله فيه بحكمته ، فلا يمكن تأخره.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : بأعمالكم ونياتكم. فلا ينفع الإنفاق في ذلك الوقت ولا تمني التأخير في الأجل ، ووعد التصدق والصلاح ، لعلمه بأنه ليس عن ملكة السخاء ، ولا عن التجرد والزكاء ، بل من غاية البخل وحب المال ، كأنه يحسب أنه يذهب به معه ، وبأن ذلك التمني والوعد محض الكذب ، ومحبة العاجلة ، لوجود الهيئة المنافية للتصدق والصلاح في النفس ، والميل إلى الدنيا ، كما قال الله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] والله أعلم.

تنبيه :

قال الإمام إلكيا الهرّاسي : يدلّ قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...) الآية. على وجوب إخراج الزكاة على الفور ، ومنع تأخيرها.

وأخرج الترمذي (١) عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاة ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت ، فقيل له : إنما يسأل الرجعة الكفار ، فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآنا. ثم قرأ هذه الآية.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، سورة المنافقين ، ٥ ـ حدثنا عبد بن حميد.

٢٤١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التّغابن

مكية ، على ما يظهر من أمثالها لمن سبر. وقيل : مدنية. وآيها ثمان عشرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ) أي ملك السماوات والأرض ، ونفوذ الأمر فيهما (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الثناء الجميل ، لأنه مولى النعم وموجدها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم ، قابل للكلمات العلمية والعملية ، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر ، جاحد للحق ، كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته. ومنكم مختار للإيمان ، كاسب له ، حسبما تقتضيه خلقته ، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان ، شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد ، وما يتفرع عليها من سائر النعم. فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه ، بل تشعبتم شعبا ، وتفرقتم فرقا. وتقديم الكفر ، لأن الأغلب فيما بينهم ، والأنسب بمقام التوبيخ ـ أفاده أبو السعود ـ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فيجازيكم به ، فآثروا ما يجديكم ، وجانبوا ما يرديكم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي حيث برأكم في أحسن تقويم. وذلك أنه تعالى جعل الإنسان معتدل القامة على أعدل الأمزجة. وآتاه العقل وقوة النطق ، والتصرف في المخلوقات ، والقدرة على أنواع الصناعات (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي مرجعكم للجزاء.

٢٤٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤)

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بخفاياها ، وما تنطوي عليه ، وفيه تقرير لما قبله ، كالدليل عليه ، لأنه إذا علم السرائر ، وخفيات الضمائر ، لم يخف عليه خافية من جميع الكائنات.

قال الزمخشري : نبه بعلمه ما في السموات والأرض ، ثم بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور ، أن شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ، ولا عازب عنه فحقه أن ينقى ويحذر ، ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه ، وتكرير العلم ، في معنى تكرير الوعيد. وكل ما ذكره بعد قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كما ترى ، في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصي الخالق ، ولا تشكر نعمته. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦)

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أي معشر الكفرة الفجرة (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) من عذاب الاستئصال. و (الوبال) الثقل ، والشدة المترتبة على أمر من الأمور ، و (أَمْرِهِمْ) كفرهم ، عبر عنه بذلك ، للإيذان بأنه أمر هائل ، وجناية عظيمة (وَلَهُمْ) أي في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا ، وما أعد لهم من عذاب الأخرى ، بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة والأعلام ، على حقيقة ما يدعونهم إليه ، فنبذوها ، واتبعوا أهواءهم ، واستهزءوا برسلهم ، وقالوا : أبشر يهدوننا؟

قال ابن جرير : استكبارا منهم أن تكون رسل الله إليهم بشرا مثلهم ، واستكبارا عن اتباع الحق من أجل أن بشرا مثلهم دعاهم إليه. وجمع الخبر عن البشر فقيل (يَهْدُونَنا) ، ولم يقل (يهدينا) ، لأن (البشر) وإن كان في لفظ الواحد ، فإنه بمعنى الجميع. انتهى.

٢٤٣

وقال القاشاني : لما حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس ، ولم يجدوا منه إلا البشرية ، أنكروا هدايته ، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه ، فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري ، ولا يعرف الكمال إلا الكامل ، ولهذا قيل : لا يعرف الله إلا الله ، وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالّا لما أمكن به التوجه نحوه ، وكذا كل مصدق بشيء ، فإنه واجد للمعنى المصدق به ، بما في نفسه من ذلك المعنى. فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلا ، لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه ، ولم يعرفوا من الحق شيئا ، فيحدث فيهم طلب ، فيحتاجوا إلى الهداية ، فأنكروا الهداية.

(فَكَفَرُوا) أي : بالحق والدين والرسول (وَتَوَلَّوْا) أي عن التدبر في الآيات البينات ، (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي : أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم ، حيث أهلكهم وقطع دابرهم ، ولو لا غناه تعالى عنهم لما فعل ذلك. ف (استغنى) معطوف على ما قبله ، وجوز جعله حالا بتقدير (قد). أي : وقد استغنى بكماله ، عرفوا أو لم يعرفوا.

(وَاللهُ غَنِيٌ) أي : بذاته عن العالمين ، فضلا عن إيمانهم ، لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم ، ولا على معرفتهم له. (حَمِيدٌ) أي : يحمده كل مخلوق ، أو مستحق للحمد بنفسه ، وإن لم يحمده حامد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧)

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) أي من قبوركم (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي في الدنيا (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي هين لقبول المادة ، وثبوت القدرة الكاملة.

قال ابن كثير : وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم بربه عزوجل ، على وقوع المعاد ووجوده. فالأولى في يونس : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ، قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) [يونس : ٥٣] ، والثانية في سبأ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣]. والثالثة هذه الآية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٨)

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي إذا كان الأمر كذلك ، فآمنوا بالله وحده وبرسوله

٢٤٤

فيما يخبركم به من البعث والجزاء وغيره (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) يعني القرآن الحكيم. والالتفات إلى نور العظمة ، لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) ظرف ل (لَتُنَبَّؤُنَ) أو ل (خَبِيرٌ) لما فيه من معنى الوعيد. كأنه قيل : والله مجازيكم يوم يجمعكم ، أو مفعول ل (اذكر) (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون. أي لأجل ما فيه من الحساب والجزاء (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) قال الزمخشري : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضا ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، وفيه تهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن ، انتهى.

ومما حسن إطلاق التغابن على ما ذكر ، ورود البيع والاشتراء في حق الفريقين. فذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ، فكأنهم غبنوا أنفسهم. ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ..) [الصف : ١٠] الآية. وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة. فخسرت صفقة الكفار ، وربحت صفقة المؤمنين.

وقال القاشاني : أي ليس التغابن في الأمور الدنيوية ، فإنها أمور فانية سريعة الزوال ، ضرورية الفناء ، لا يبقى شيء منها لأحد ، فإن فات شيء من ذلك ، أو أفاته أحد ، ولو كان حياته ، فإنما فات أو أفيت ما لزم فواته ضرورة ، فلا غبن ولا حيف حقيقة ، وإنما الغبن والتغابن في إفاتة شيء لو لم يفته لبقي دائما ، وانتفع به صاحبه سرمدا ، وهو النور الكمالي والاستعدادي ، فتظهر الحسرة والتغابن هناك ، في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة ، كما قال : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة : ١٦] ، فمن أضاع استعداده ونور فطرته ، كان مغبونا مطلقا ، كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة. ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده ، أو اكتسب منه شيئا ، ولم يبلغ غايته ، كان مغبونا بالنسبة

٢٤٥

إلى الكامل التام ، فكأنما ظفر بذلك الكامل بمقامه ومرامه ، وبقي هذا متحيرا في نقصانه ، انتهى. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

أي بقدره ومشيئته ، كقوله تعالى في آية الحديد (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢]. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) أي إلى العمل بمقتضى إيمانه ، ويشرحه للازدياد من الطاعة والخبر. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فيعلم مراتب إيمانكم ، وسرائر قلوبكم. وأحوال أعمالكم وآفاتها ، وخلوصها من الآفات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي لما أرسل به ، والله سبحانه ولي الانتقام ممن عصاه ، وخالف أمره (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) قال ابن كثير : الأول خبر عن التوحيد ، ومعناه طلب. أي وحدوا الإلهية له ، وأخلصوها لديه ، وتوكلوا عليه ، كما قال (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩].

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤)

٢٤٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) خطاب لمن آمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان له من أزواجهم وأولادهم من يعاديهم لإيمانهم ، ويؤذيهم بسببه ، فكان ذلك يغيظهم ، وربما يحملهم على البطش بهم. فأمروا بالحذر من فتنتهم. وشركهم فحسب ، وأن يظهروا فيهم بمظهر أولي الفضل. كما قال : (وَإِنْ تَعْفُوا) أي : عن ذنوبهم (وَتَصْفَحُوا) أي : بترك التثريب والتعيير (وَتَغْفِرُوا) أي جناياتهم بالرحمة لهم ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يعاملكم بمثل ما عملتم.

روى ابن جرير عن إسماعيل بن أبي خالد قال : كان الرجل يسلم فيلومه أهله وبنوه ، فنزلت الآية.

وعن ابن عباس قال : كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده ، ولم يألوا يثبطونه عن ذلك ، فقال الله : إنهم عدوّ لكم فاحذروهم واسمعوا وأطيعوا ، وامضوا لشأنكم ، فكان الرجل بعد ذلك إذا منع وثبط ، مرّ بأهله وأقسم ليفعلن وليعاقبن أهله في ذلك ، فقال الله جلّ ثناؤه : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) الآية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥)

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي : تفتتن بهما النفس ، ويجري عليها البلاء بهما ، إذا أوثرا على محبة الحق.

(وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما.

روى ابن جرير عن الضحاك قال هذا في أناس من قبائل العرب. كان يسلم الرجل أو النفر من الحيّ. فيخرجون من عشائرهم ، ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم عامدين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله أن لا يفارقوهم ، ولا يؤثروا عليهم غيرهم ، فمنهم من يرقّ ويرجع إليهم ، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن مجاهد : يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم ، أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه به ، فلذلك وعد في إيثار طاعة الله ، وأداء حق الله في الأموال الأجر العظيم ، وهو الجنة.

٢٤٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦)

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي جهدكم ووسعكم ، أي ابذلوا فيها استطاعتكم ، (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي افهموا هذه الأوامر واعملوا بها (وَأَنْفِقُوا) أي أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وائتوا خيرا لأنفسكم. أي اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم. ف (خيرا) مفعول بمقدر ، وهذا قول سيبويه ، كقوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] ، وقيل : تقديره يكن الإنفاق خيرا ، فهو خبر (يكن) مضمرا ، وهو قول أبي عبيد. وقيل : مفعول ل (أَنْفِقُوا) وهو رأي ابن جرير. قال : أي وأنفقوا مالا من أموالكم لأنفسكم ستنقذوها من عذاب الله ، والخير في هذا الموضع ، المال (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي بالعصمة منه (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي بالإنفاق في سبيله ، ما تحبون من غير منّ ولا أذى. قال الزمخشري : ذكر (القرض) تلطف في الاستدعاء (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي يضاعف جزاءه وخلفه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي ذنوبكم بالصفح عنها (وَاللهُ شَكُورٌ) أي ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله ، بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا (حَلِيمٌ) أي عن أهل معاصيه ، بترك معاجلتهم بعقوبته. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه (الْعَزِيزُ) أي الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه (الْحَكِيمُ) أي في تدبيره خلقه ، وصرفه إياهم فيما يصلحهم.

٢٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الطلاق

قال المهايمي : سميت به لبيانها كيفية الطلاق السني ، وما يترتب على الطلاق من العدة والنفقة والسكنى.

وتسمّى سورة النساء القصرى. مدنية. وآيها اثنتا عشرة :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في وقتها. وهو الطّهر. فاللام للتأقيت.

قال الناصر : جعلت العدة ، وإن كان في الأصل مصدرا. ظرفا للطلاق المأمور به. وكثيرا ما تستعمل العرب المصارد ظرفا ، مثل خفوق النجم ، ومقدم الحاج. وإذا كانت العدة ظرفا للطلاق المأمور به ، وزمانه هو الطهر ، فلطهر عدة إذا.

قال ابن جرير : أي إذا طلقتم نساءكم فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن طاهرا من غير جماع. ولا تطلقوهن بحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن. ثم روي عن قتادة قال : العدة أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، تطليقة واحدة.

قال ابن كثير : ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنّة ، وطلاق بدعة. فطلاق السّنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع ، أو حاملا قد استبان حملها. والبدعي هو أن يطلقها في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، ولا

٢٤٩

يدري أحملت أم لا. وطلاق ثالث لا سنّة فيه ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة ، وغير المدخول بها ، وسيأتي في التنبيهات زيادة على هذا.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي : اتقوه في تعدي حدوده في المطلقات ، فلا تخرجوهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق ، غضبا عليهن ، وكراهة لمساكنتهن ، لأن لهن حق السكنى ، حتى تنقضي عدتهن.

(وَلا يَخْرُجْنَ) أي : باستبدادهن من تلقاء أنفسهن.

قال الناصر : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) توطئة لقوله (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) حتى كأنه نهي عن الإخراج مرتين : مندرجا في العموم ، ومفردا بالخصوص. وقد تقدمت أمثاله.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي : فإنهن يخرجن. و (الفاحشة) الزنا ، أو أن تبذو المطلقة على أهلها ، أو هي كل أمر قبيح تعدّي فيه حده ، فيدخل فيه الزنا والسرقة والبذاء على الأحماء ونحوها ، والأخير مختار ابن جرير ، وقوفا مع عموم اللفظ الكريم.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي : بتعريضها للعقاب بما أكسبها من الوزر. أو أضرّ بها بما اكتسب من قوة النفار ، وشدة البغضة التي قد تتفاقم فتعسر الرجعة ، مع أن الأولى تخفيف الشنآن ، وتلافي الهجران ـ وهو الأظهر ـ ولذا قال سبحانه : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية.

قال أبو السعود : وقد قالوا إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى ، أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه ، فلا بد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوى يلحقه بسبب تعديه ، ولا يمكن تداركه. أو عن مطلق الضرر الشامل الدنيوي والأخروي. ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد ، واهتمامهم بدفعه أقوى.

وقوله تعالى : (لا تَدْرِي) خطاب للمتعدي بطريق الالتفات ، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي ، لا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما توهم فالمعنى : ومن يتعد حدود الله فقد أضرّ بنفسه ، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر ، لعل الله يحدث في قلبك ، بعد ذلك الذي فعلت من التعدي ، أمرا يقتضي خلاف ما فعلته ، فيبدل ببغضها محبة ، وبالإعراض عنها إقبالا إليها ، ويتسنى تلافيه رجعة ، أو استئناف نكاح. انتهى.

تنبيهات :

الأول ـ قال في (الإكليل): فسر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (لِعِدَّتِهِنَ) بأن تطلق

٢٥٠

في طهر لم يجامع فيه ـ أخرجه البخاري ومسلم (١) ـ وفي لفظ مسلم (٢) أنه قرأ (فطلّقوهنّ في قبل عدتهن) فاستدل الفقهاء بذلك على أن طلاق السنة ما ذكر ، وأن الطلاق في الحيض أو طهر جومعت فيه بدعي حرام. واستدل قوم بالآية على عدم وقوعه في الحيض

الثاني ـ في (الإكليل) : في قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) وجوب السكنى لها مادامت في العدة ، وتحريم إخراجها او خروجها (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كسوء الخلق ، والبذاءة على أحمائها. فتنتقل.

الثالث ـ في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) من لم يوجب السكنى بغير الرجعة. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن وعكرمة قال : المطلقة ثلاثا ، والمتوفى عنها ، لا سكنى لها ولا نفقة ، لقوله : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فما يحدث بعد الثلاث.

الرابع ـ قال ابن المنذر : أباح الله الطلاق بطليعة هذه السورة : انتهى.

وذلك ـ كما قال بعض الحكماء ـ إذا استحال الوفاق بين الزوجين ، ولم يبق في الإمكان إصلاح ، وصمم الزوج عليه ، لأن وجود شخصين متنافري الطباع ، متباغضين ، لا ينظر أحدهما إلى الآخر إلا ويحسّ في نفسه بالنفور ، وفي قلبه بالعداوة ، يسعى كل منهما في أذى صاحبه ـ شرّ وفساد يجب محوه وقطعه. انتهى.

وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : إن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق ، لما فيه من كسر الزوجة ، وموافقة رضا عدوّه إبليس ، حيث يفرح بمفارقة طاعة الله بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب ، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية ، وغير ذلك من مفاسد الطلاق ؛ وكان مع ذلك يحتاج إليه الزوج أو الزوجة ، وتكون المصلحة فيه شرعه على وجه يحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة ، وحرمه على غير ذلك الوجه ، فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة ، فشرع له أن يطلقها طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. فإن زال الشر بينهما ، وحصلت الموافقة ، كان له سبيل إلى لمّ الشعث ، وإعادة الفراش كما كان ، وإلا تركها حتى انقضت عدتها. فإن تبعتها نفسه

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الطلاق ، ١ ـ باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، حديث رقم ٢٠٦٠ ، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه مسلم في : الطلاق ، حديث ١ ـ ١٤.

(٢) أخرجه مسلم في : الطلاق ، حديث رقم ١٤.

٢٥١

كان له سبيل إلى خطبتها ، وتجديد العقد عليها برضاها. وإن لم تتبعها نفسه ، تركها فنكحت من شاءت.

وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار ، فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه ، ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء. فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة. فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه ، عقوبة له ، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره ، ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره ، فيحظى به دونه ، أمسك عن الطلاق. انتهى.

ومباحث الطلاق وفروعه تجدر مراجعتها من (إغاثة اللهفان) و (زاد المعاد) لابن القيم ، و (فتاوي ابن تيمية) شيخه. ومن لم يقف على ما حرراه وجاهدا في الصدع به ، فاته علم غزير ، وفرقان منير ، وبالله التوفيق.

الخامس ـ استدل بهذه الآيات من قال : إن جمع الطلاق في دفعة واحدة غير مشروع. قال الإمام ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) : ووجه الاستدلال بالآية من وجوه :

أحدها ـ أنه تعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها ، أي لاستقبال عدتها ، فيطلق طلاقا يتعقبه شروعها في العدة ، ولهذا أمر عليه‌السلام عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، لما طلق امرأته ، أن يراجعها ، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها ، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة. وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر ، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث : أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر لأنه غير مطلق للعدة ، فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى ، فلا تكون الثانية للعدة ، فلا يكون مأذونا فيها ، فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى ، لأنها طلاق للعدة بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا قال : هو الطلاق لتمام العدة ، والطلاق لتمام العدة ، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها ، وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون : المراد بالطلاق للعدة ، الطلاق لاستقبالها ، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة (فطلقوهن في قبل عدتهن) قالوا فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق ، قبل الرجعة ، أو العقد ، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى. فإرداف الطلاق أسهل من جمعه ، ولهذا شرع الإرداف في الأطهار من لا يجوّز الجمع في الطهر الواحد.

وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا ، فسكت حتى ظننت أنه رادّها. ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس!

٢٥٢

وإن الله عزوجل قال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، فما أجد لك مخرجا. عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، وإن الله عزوجل قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) في قبل عدتهن. وهذا حديث صحيح (١) ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم ، وهذا فهم من دعا له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفقّهه الله في الدين ، ويعلمه التأويل ، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر.

الوجه الثاني : من الاستدلال بالآية قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وهذا إنما هو في الطلاق الرجعيّ ، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة ، لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيحة التي لا يطعن في صحتها ، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها ، فدل على أن هذا حكم كلّ طلاق شرعه الله تعالى ، ما لم تسبقه طلقتان قبله. ولهذا قال الجمهور : إنه لا يشرع له ، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال : يملك ذلك ، لأن الرجعة حقه ، وقد أسقطها. والجمهور يقولون : ثبوت الرجعة ، وإن كان حقا له ، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة ، أو باستيفاء العدد ، كما دل عليه القرآن.

الوجه الثالث : أنه قال : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة ، فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.

الوجه الرابع : أنه سبحانه قال : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن ، وهم الصحابة ، أن الأمر هنا هو الرجعة. قالوا : وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟

الوجه الخامس ـ قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فهذا حكم كل طلاق شرعه ، إلا أن يسبق بطلقتين قبله. وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) في قبل عدتهن كما تقدم ـ وهذا حق ، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طهر أو أطهار ، قبل رجعة أو عقد ـ كما تقدم ـ لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة ـ فلأن تدل على تحريم الجمع ، أولى وأحرى.

قالوا : والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة ، لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبه ، وقد وقّت للعدة أجلا لاستدراك ألفاظه بالرجعة ، فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها ، لأنه وقت نفرته عنها ، وعدم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الطلاق ، ١٠ ـ باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ، حديث رقم ٢١٩٧.

٢٥٣

قدرته على استمتاعه بها ، ولا عقيب جماعها ، لأنه قد قضى غرضه منها ، وربما فترت رغبته فيها ، ويزهد في إمساكها لقضاء وطره ، فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا ، مع ما في الطلاق من تطويل العدة ، وعقيب الجماع من بعلها ، لأنه ربما قد اشتمل رحمها على ولد منه ، فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت ، ثم طهرت ، فنفسه تتوق إليها ، لطول عهده بجماعة ، فلا يقدم على طلاقها في هذه الحالة إلا لحاجة إليه. فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال ، أو في حال استبانة حملها ، لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق وقد أكد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيه ، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، إن بدا له أن يطلقها فيطلقها. وفي ذلك عدة حكم :

منها ـ أن الطهر المتصل بالحيضة ، هو وهي حكم القرء الواحد ، فإذا طلقها في ذلك الطهر ، فكأنه طلقها في الحيضة ، لاتصاله بها ، وكونه معها ، كالشيء الواحد.

الثانية ـ أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر ، فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق ، وهذا ضد مقصود الرجعة. فإن الله تعالى إنما شرعها للإمساك ولمنفعة النكاح ، وعود الفراش ، فلا يكون لأجل الطلاق ، فيكون كأنه راجع ليطلق. وإنما شرعت الرجعة ليمسك. وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل ، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة ، والمحلل تزوج ليطلق ، فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه.

الثالثة ـ أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق ، وربما صلحت الحال بينهما ، وأقلعت عما يدعوه إلى الطلاق ، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج ، وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم ، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا ، بحيث لا يكون له سبيل إليها. وكيف يجتمع في حكمة الشارع ، وحكمة هذا وهذا؟ فهذه الوجوه ونحوها مما بيّن بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع ، هي بعينها تعيّن عدم الوقوع ، وأنه إنما يقع المشروع وحده ، وهي الواحدة.

٢٥٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢)

(فَإِذا بَلَغْنَ) أي : المطلقات اللواتي في عدة (أَجَلَهُنَ) يعني آخر العدة. أي : إذا قرب انقضاؤه وشارفنه (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي. فراجعوهن بما أمركم الله به من الحقوق التي أوجبها الله لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : اتركوهن حتى تنقضي عددهن فتبين منكم بمعروف ، وهو إيفاؤهن ما لهن من حق ، كالصداق والمتعة ، على ما أوجب عليه لهن.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : أشهدوا عند الرجعة والفرقة من يرضي دينهما وأمانتهما.

قال ابن عباس : فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين. وإن لم يراجعها ، فإذا انقضت عدتها ، فقد بانت منه بواحدة ، وهي أملك بنفسها ، ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره.

وهذا الإشهاد على المراجعة والطلاق مندوب ، ومنهم من ذهب إلى وجوبه عليهما ، ومنهم من فرق بين المراجعة فأوجبه فيها ، وبين الطلاق فاستحبه. وظاهر الأمر في الآية الوجوب فيهما ، والترجيح يجب أن يكون بدليل مرجح. ومما يؤيد الوجوب أن الأوامر في الآية كلها ، قبل وبعد ، للوجوب إجماعا ، ولا دليل يصرف الأمر بالإشهاد عن ظاهره ، فبقي كسابقه ولا حقه ، وإن كان القران لا يفيد المشاركة في الحكم ، إلا أنه عاضد ومؤيد ، إذا لم يوجد صارف. ثم الأمر بالإشهاد عند الطلاق ، يدل على أن الحلف بالطلاق ، أو تعليق وقوعه بأمر ، كله مما لا يعدّ طلاقا في الشرع ، لأن ما طلب فيه الإشهاد ، لا بد أن ينوي فيه إيقاعه ويعزم عليه ويتهيأ له. وجدير بعصمة ينوي حلها ، وكانت معقودة أوثق عقد ، أن يشهد عليه ، بعد أن يسبقها مراجعة من حكمين من قبل الزوجين ، كما أشارت إليه آية الحكم. فليتدبر الطلاق المشروع ، والطلاق المبتدع ، وبالله التوفيق.

قال الزمخشريّ : قيل فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.

٢٥٥

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي : لوجهه خالصا ، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ، ولا للمشهود عليه ، ولا لغرض من الأغراض ، سوى إقامة الحق ، ودفع الظلم ، كقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النساء : ١٣٥]. انتهى.

وتدل الآية على حظر أخذ الأجرة على أداء الشهادة ، ويؤيده قوله تعالى : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن المشار إليه هو الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ، ولأجل القيام بالقسط ، ويحتمل عوده على جميع ما في الآية.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣)

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال الزمخشريّ : يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن ، والأبعد من الندم. ويكون المعنى : ومن يتق الله فطلّق للسنّة ، ولم يضارّ المعتدة ، ولم يخرجها من مسكنها ، واحتاط فأشهد ، يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم ، والوقوع في المضايق ، ويفرج عنه وينفس ، ويعطه الخلاص ، ويرزقه من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه ، إن أوفى المهر وأدّى الحقوق والنفقات ، وقلّ ماله. ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) يعني : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة. انتهى.

تنبيه :

قال ابن الفرس : قال أكثر المفسرين : معنى الآية في الطلاق أي : من لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث يجعل له مخرجا إن ندم في الرجعة. قال : وهذا يستدل به على تحريم جمع الثلاث ؛ وأنها إذا جمعت وقعت ـ نقله في (الإكليل).

وقال ابن القيم في (الإغاثة) : اعلم أنه من اتقى الله في طلاقه ، فطلّق كما أمره الله ورسوله وشرعه له ، أغناه عن الحيل كلها. ولهذا قال تعالى ، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال ، والمكر والاحتيال ، فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه : أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، ويطلقها واحدة ، ثم يدعها حتى تنقضي

٢٥٦

عدتها ، فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها. وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها ، أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر. وإن لم يكن له غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره ، فمن فعل هذا لم يندم ، ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل. ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال : عصيت ربك ، وفارقت امرأتك ، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا.

وقال سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني طلّقت امرأتي ألفا. فقال : أما ثلاث ، فتحرم عليك امرأتك ، وبقيّتهن وزر ، اتخذت آيات الله هزؤا.

قال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فسكت حتى ظننت أنه رادّها إليه ، ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس! يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا ، عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ـ ذكره أبو داود (١) ـ والبحث طويل الذيل لا يستغنى عن مراجعته.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي من يتوكل على ما شرعه ، ويفوّض أمره إلى ما جعله المخرج ، لأنه لا دواء أنجع منه (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قرئ بالإضافة ، أي يبلغ ما أراد من أمره ، فمن تيقن فوض أمره إليه ، وعول عليه. وقرئ (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) أي تام وكامل أمره وحكمه وشرعه ، لما فيه من الحكم والرحمة (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي حدّا وتقديرا ، حسبما تقتضيه الحكمة. ومنه تقديره ما قدر في أمر الطلاق ، مما بينه في شأنه وتوقيته ، معرفة المخرج منه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤)

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي أشكل عليكم حكمهن ، أو شككتم في الدم الذي يظهر منهن لكبرهن ، أمن الحيض أو هو من الاستحاضة؟ (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي من الجواري لصغرهن إذا طلقهن أزواجهن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الطلاق ، ١٠ ـ باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ، حديث رقم ٢١٩٧.

٢٥٧

بعد الدخول ، فعدتهن ثلاثة أشهر. فحذف لدلالة المذكور عليه (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) في انقضاء عددهن (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي ما في بطنهن. والآية عامة في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن.

ويروى عن عليّ وابن عباس رضي الله عنهما أن الآية خاصة في المطلقات. وأما المتوفى عنها فعدتها آخر الأجلين.

قال ابن جرير : والصواب أنه عام في جميع أولات الأحمال ، لأنه تعالى عمّ القول بذلك ، ولم يخصص الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها.

فإن قيل : إن سياق الخبر في أحكام المطلقات. يجاب : بأن نظمها خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال ، المطلقات وغير المطلقات.

وفي الصحيحين (١) عن أم سلمة أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطبت ، فأنكحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي فلم يخالف إذنه في طلاق امرأته (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) وهو تسهيل الرجعة ما دامت في عدتها ، والقدرة على خطبتها ، إن انقضت ودعته نفسه إليها بسبب التقوى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٥)

(ذلِكَ) أي ما ذكر من حكم الطلاق والرجعة والعدة (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي لتأتمروا له وتعملوا به. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي بالمضاعفة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦)

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي من سعتكم التي تجدون ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الطلاق ، ٣٩ ـ باب (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، حديث رقم ٢٠٦١. وأخرجه مسلم في : الطلاق ، حديث رقم ٥٧.

٢٥٨

وطاقتكم ومقدرتكم (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي لا تستعملوا معهن الضرار (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) أي في المسكن ببعض الأسباب ، من إنزال من لا يوافقهن ، أو بشغل مكانهن ، أو غير ذلك ، حتى تضطروهن إلى الخروج أو الافتداء.

تنبيه :

قال في (الإكليل) : في الآية وجوب السكنى للمطلقات كلهن ، وللبوائن ، لتقدم سكنى الرجعيات ، ولقوله بعده (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) فإنه خاص بالبوائن. وفيه أن الإسكان يعتبر بحال الزوج ، وتحريم المضارة بها ، وإلجائها إلى الخروج. (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال ابن جرير أي وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل ، وكن بائنات منكم ، فأنفقوا عليهن في عدتهن منكم حتى يضعن حملهن.

فعن ابن عباس في الآية قال : هذه المرأة يطلقها زوجها ، فيبتّ طلاقها وهي حامل ، فيأمره الله أن يسكنها ، وينفق عليها حتى تضع ، وإن أرضعت فحتى تفطم ، وإن أبان طلاقها ، وليس بها حبل ، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ، ولا نفقة. وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث ، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها ، كما قال الله عزوجل : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) [البقرة : ٢٣٣]. فإن لم تكن حاملا فإن نفقتها كانت من مالها.

ثم قال ابن جرير : وقال آخرون عنى بقوله : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) كل مطلقة ، ملك زوجها رجعتها أو لم يملك. وممن قال ذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

فعن إبراهيم قال : كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثا ، السكنى والنفقة والمتعة. وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرها أن تعتد في غير بيت زوجها. قال : ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة.

ثم قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوتة إلا أن تكون حاملا ، لأن الله جل ثناؤه جعل النفقة بقوله : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) للحوامل دون غيرهن من البائنات من أزواجهن ، ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب لهن من النفقة على أزواجهن سواء ، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم ، إذ هن وغيرهن في ذلك سواء.

٢٥٩

وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهن أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن ، إلا أن تكون حاملا ، وبالذي قلنا صح الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس. أن أبا عمرو المخزوميّ طلقها ثلاثا ، فأمر لها بنفقة فاستقلتها. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إلى اليمن. فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عند ميمونة ، فقال : يا رسول الله! إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثا ، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس لها نفقة ، فأرسل إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن انتقلي إلى بيت أم شريك ، وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك. ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون ، فانتقلي إلى ابن مكتوم ، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة بن زيد. انتهى.

وقال الناصر في (الانتصاف) : لا يخفى على المتأمل لهذه الآي أن المبتوتة غير الحامل ، لا نفقة لها ، لأن الآي سيقت لبيان الواجب ، فأوجب السكنى لكل معتدة تقدم ذكرها ، ولم يوجب سواها. ثم استثنى الحوامل فخصهن بإيجاب النفقة لهن حتى يضعن حملهن ، وليس بعد هذا البيان بيان. والقول بعد ذلك بوجوب النفقة لكل معتدة مبتوتة ، حاملا أو غير حامل ، لا يخفى منافرته لنظم الآية. والزمخشريّ نصر مذهب أبي حنيفة فقال : فائدة تخصيص الحوامل بالذكر أن الحمل ربما طال أمده ، فيتوهم متوهم أن النفقة لا تجب بطوله فحصت بالذكر تنبيها على قطع هذا الوهم. وغرض الزمخشريّ بذلك أن يحمل التخصيص على هذه الفائدة كيلا يكون له مفهوم في إسقاط النفقة لغير الحوامل ، لأن أبا حنيفة يسوي بين الجميع في وجوب النفقة. انتهى.

وفي (الإكليل) : في الآية وجوب الإنفاق على البائن الحامل حتى تنقضي عدتها. ومفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها. واستدل بعموم الآية من أوجبها للحامل المتوفى عنها. انتهى.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) يعني : نساءكم البوائن منكم (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : على رضاعهن (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي ليقبل بعضكم من بعض ما أمر به من معروف ، يعني : المجاملة والمسامحة في الإرضاع والأجر. والخطاب للآباء والأمهات.

٢٦٠